والجدل بمعناه الاصطلاحي لم يكن فنًّا متميزًا عن غيره بقواعد وضوابط تجمعها كتب خاصة، بل كان فنًّا يستعمله العلماءُ ويَدْرُونَه، كما يعرفون بعض العلوم الأخرى كالأصول واللغة. ومع مرور الزمن وتناقص المعرفة، وضعف المَلَكة، واتساع رقعة المملكة الإسلامية، وإقبال الناس على الدين وتعلمه والتفقه فيه= دُوّنت كثير من العلوم الآلية والمقاصدية، وتطورت حركة التأليف في فنون العلم، حتى إن الفن الواحد قسم إلى فنون، مثل فن الجدل كان داخلًا في فن الخلاف إلا أنه بعد حين صار علمًا مستقلًا، صُنفت فيه الكتب والرسائل، واختلفت فيه المناهج والطرائق، ثم طرأ عليه ما طرأ على أكثر الفنون من قوة وضعف، بل وانحراف في مناهجه وقضاياه، خاصة تلك التي تأثرت بالعلوم العقلية والرسوم المنطقية التي ذهبت بفائدة الفن الحقيقية، وهي: تحرير الاستدلال الصحيح القائم على أساس الحجة القوية، والاستدلال المعتبر، والنظر الصحيح. بل أصبحت حقيقته مجرد شبهةٍ غامضة، وأساسٍ واه، وشَغَبٍ زائف.
ويمكننا أن نقول: إن المراحل التي مر بها علم الجدل ثلاث:
المرحلة الأولى: وهي طريقة السلف من الصحابة والتابعين ومَن سار على طريقتهم، طريقة القرآن والسنة، وتمتاز هذه الطريقة بما عبّر عنه شيخ الإسلام ابن تيمية إذ يقول: «وكانوا ــ أي السلف من الصحابة فمَن بعدهم ــ يتناظرون في الأحكام، ومسائل الحلال والحرام بالأدلة المرضيَّة والحجج القويَّة، حتى كان قلَّ مجلس يجتمعون عليه إلا ظهر الصواب، ورجع راجعون إليه؛ لاستدلالِ المستدل بالصحيح من الدلائل، وعِلم المنازع أن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل. كمجادلة الصدِّيق لمَن نازعه
المقدمة / 35