قال: ومن الشعراء من يدخل فى المدائح محاكاة أشياء يقصد بها التعجب فقط من غير أن تكون مخيفة ولا محزنة. — وأنت تجد مثل هذه الأشياء كلها كثيرا فى المكتوبات الشرعية، إذ كانت مدائح الفضائل ليس توجد فى أشعار العرب، وإنما توجد فى زماننا هذا فى السنن المكتوبة.
قال: وهذا الفعل ليس فيه مشاركة لصناعة المديح بوجه من الوجوه. وذلك أنه ليس يقصد من صناعة الشعر أى لذة اتفقت، لكن إنما يقصد بها حصول الالتذاذ بتخييل الفضائل، وهى اللذة المناسبة لصناعة المديح.
قال: وهو معلوم: ما هى الأشياء التى تفعل اللذات بمحاكاتها من غير أن يلحق عن ذلك حزن ولا خوف. وأما الأشياء التى تلحق مع الالتذاذ بمحاكاتها الرحمة والخوف، فانما يقدر الإنسان على ذلك إذا التمس أى الأشياء هى الصعبة من النوائب التى تنوب، وأى الأشياء هى اليسيرة الهيئة التى ليس يلحق عنها كبير حزن ولا خوف. وأمثال هذه الأشياء هى ما ينزل بالأصدقاء بعضهم من بعض من قبل الإرادة من الرزايا والمصائب، لا ما ينزل بالأعداء بعضهم من بعض. فان الإنسان ليس يحزن ولا يشفق لما ينزل من السوء بالعدو من عدوه، كما يحزن ويخاف من السوء النازل بالصديق من صديقه. وإن كان قد يلحق عن ذلك ألم، فليس يلحق مثل الألم الذى يلحق من السوء الذى ينزل من المحبين بعضهم ببعض، مثل قتل الإخوة بعضهم بعضا أو قتل الآباء الأبناء أو الأبناء الآباء.
ولهذا الذى ذكره كان قصص ابراهيم — عليه السلام — فيما أمر به فى ابنه فى غاية الأقاويل الموجبة للحزن والخوف.
قال: والمدح إنما ينبغى أن يكون بالأفعال الفاضلة التى تصدر عن إرادة وعلم. ومنها ما يفعل عن علم لا عن إرادة ، أو عن إرادة ولا علم. وكذلك الأفعال منها ما يكون لمن يعرف ولمن لا يعرف. فالفعل إذا صدر من غير معرفة ولا إرادة، فليس يدخل فى باب المديح. وكذلك إذا كان صادرا من غير معروف لأنه يكون حينئذ فى الأكذوبات أدخل منه فى الشعر ولا يجب أن يحاكى.
مخ ۲۲۰