[chapter 1]
بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد وآله
كتاب الشعر
الغرض فى هذا القول تلخيص ما فى كتاب أرسطوطاليس فى الشعر من القوانين الكلية المشتركة لجميع الأمم، أو للأكثر؛ إذ كثير مما فيه هى قوانين خاصة بأشعارهم. وعادتهم فيها إما أن تكون نسبا موجودة فى كلام العرب، أو موجودة فى غيره من الألسنة.
قال: إن قصدنا الآن التكلم فى صناعة الشعر، وفى أنواع الأشعار. وقد يجب، على من يريد أن تكون القوانين التى تعطى فيها تجرى مجرى الجودة، أن يقول أولا: ما فعل كل واحد من الأنواع الشعرية؟ ومماذا تتقوم الأقاويل الشعرية؟ ومن كم من شىء تتقوم؟ وأيما هى أجزاؤها التى تتقوم بها؟ وكم أصناف الأغراض التى تقصد بالأقاويل الشعرية؟ — وأن يجعل كلامه فى هذا كله من الأوائل التى لنا بالطبع فى هذا المعنى.
قال: فكل شعر، وكل قول شعرى فهو إما هجاء، وإما مديح. وذلك بين باستقراء الأشعار، وبخاصة أشعارهم التى كانت فى الأمور الإرادية: أعنى الحسنة والقبيحة. وكذلك الحال فى الصنائع المحاكية لصناعة الشعر، التى هى: الضرب بالعيدان، والزمر، والرقص — أعنى أنها معدة بالطبع لهذين الغرضين.
مخ ۲۰۱
والأقاويل الشعرية هى الأقاويل المخيلة. وأصناف التخييل والتشبيه ثلاثة: اثنان بسيطان، وثالث مركب منهما. اما الاثنان البسيطان فأحدهما تشبيه شىء بشىء وتمثيله به؛ وذلك يكون فى لسان لسان بألفاظ خاصة عندهم، مثل: كأن، وإخال، وما أشبه ذلك فى لسان العرب، وهى التى تسمى عندهم حروف التشبيه. وإما أخذ الشبيه بعينه بدل الشبيه، وهو الذى يسمى الإبدال فى هذه الصناعة، وذلك مثل قوله تعالى: « وأزواجه أمهاتهم»، ومثل قول الشاعر:
هو البحر من أى المواضع أتيته
وينبغى أن تعلم أن فى هذا القسم تدخل الأنواع التى يسميها أهل زماننا استعارة وكناية، مثل قول الشاعر:
وعرى أفراس الصبا ورواحله
ومثل قوله تعالى: « أو جاء أحد منكم من الغائط». إلا أن الكنايات — أكثر ذلك — هى إبدالات من لواحق الشىء؛ والاستعارة هى إبدال من مناسبه، أعنى إذا كان شىء نسبته إلى الثانى نسبة الثالث إلى الرابع فابدال اسم الثالث إلى الأول وبالعكس.
وقد تقدم فى كتاب «الخطابة» من كم شىء تكون الإبدالات.
مخ ۲۰۲
وأما القسم الثانى فهو أن يبدل التشبيه، مثل أن تقول: الشمس كأنها فلانة، أو الشمس هو فلانة، لا: فلانة كالشمس، ولا: هى الشمس. وبالعكس قول ذى الرمة:
قال: وكما أن الناس بالطبع قد يخيلون ويحاكون بعضهم بعضا بالأفعال، مثل محاكاة بعضهم بعضا بالألوان والأشكال والأصوات — وذلك إما بصناعة وملكة توجد للمحاكين، وإما من قبل عادة تقدمت لهم فى ذلك — كذلك توجد لهم المحاكاة بالأقاويل بالطبع والتخييل. والمحاكاة فى الأقاويل الشعرية تكون من قبل ثلاثة أشياء: من قبل النغم المتفقة، ومن قبل الوزن، ومن قبل التشبيه نفسه. وهذه قد يوجد كل واحد منها مفردا عن صاحبه مثل وجود النغم فى المزامير، والوزن فى الرقص، والمحاكاة فى اللفظ، أعنى الأقاويل المخيلة الغير موزونة. وقد تجتمع هذه الثلاثة بأسرها، مثلما يوجد عندنا فى النوع الذى يسمى الموشحات والأزجال، وهى الأشعار التى استنبطها فى هذا اللسان أهل هذه الجزيرة. إذ كانت الأشعار الطبيعية هى ما جمعت الأمرين جميعا، والأمور الطبيعية إنما توجد للأمم الطبيعيين، فان أشعار العرب ليس فيها لحن، وإنما هى: إما الوزن فقط، وإما الوزن والمحاكاة معا فيها.
وإذا كان هذا هكذا، فالصناعة المخيلة، أو التى تفعل فعل التخييل، ثلاثة: صناعة اللحن، وصناعة الوزن، وصناعة عمل الأقاويل المحاكية — وهذه الصناعة المنطقية التى ننظر فيها فى هذا الكتاب.
مخ ۲۰۳
قال: وكثيرا ما يوجد من الأقاويل التى تسمى «أشعارا» ما ليس فيها من معنى الشعرية إلا الوزن فقط كأقاويل سقراط الموزونة وأقاويل أنبادقليس فى الطبيعيات، بخلاف الأمر فى أشعار أوميروش؛ فانه يوجد فيها الأمران جميعا.
قال: ولذلك ليس ينبغى أن يسمى «شعرا» بالحقيقة إلا ما جمع هذين. وأما تلك فهى أن تسمى «أقاويل» أحرى منها أن تسمى «شعرا»؛ وكذلك الفاعل أقاويل موزونة فى الطبيعيات هو أحرى أن يسمى «متكلما» من أن يسمى «شاعرا». وكذلك الأقاويل المخيلة التى تكون من أوزان مختلطة ليست أشعارا. — وحكى أن كانت توجد عندهم، ‘أعنى من أوزان مختلطة. وهذا غير موجود عندنا.
فقد تبين من هذا القول: كم أصناف المحاكاة، ومن أى الصنائع تلتئم المحاكاة بالقول حتى تكون تامة الفعل.
[chapter 2] فصل
مخ ۲۰۴
قال: ولما كان المحاكون والمشبهون إنما يقصدون بذلك أن يحثوا على عمل بعض الأفعال الإرادية، وأن يكفوا عن عمل بعضها، فقد يجب ضرورة أن تكون الأمور التى تقصد محاكاتها: إما فضائل، وإما رذائل. وذلك أن كل فعل وكل خلق إنما هو تابع لأحد هذين: أعنى الفضيلة والرذيلة؛ فقد يجب ضرورة أن تكون الفضائل إنما تحاكى بالفضائل والفاضلين، وأن تكون الرذائل تحاكى بالرذائل والأرذلين. وإذا كان كل تشبيه وحكاية إنما تكون بالحسن والقبيح، فظاهر أن كل تشبيه وحكاية إنما يقصد بها التحسين والتقبيح. وقد يجب مع هذا ضرورة أن يكون المحاكون للفضائل، أعنى المسائلين بالطبع إلى محاكاتها، أفاضل، والمحاكون للرذائل أنقص طبعا من هؤلاء وأقرب إلى الرذيلة. وعن هذين الصنفين من الناس وجد المديح والهجو، أعنى مدح الفضائل وهجو الرذائل. ولهذا كان بعض الشعراء يجيد المدح ولا يجيد الهجو، وبعضهم بالعكس. أعنى يجيد الهجو ولا يجيد المدح. فاذن بالواجب ما كان يوجد لكل تشبيه وحكاية هذان الفصلان: أعنى التحسين والتقبيح. وهذان الفصلان إنما يوجدان للتشبيه والمحاكاة التى تكون بالقول، لا المحاكاة التى تكون بالوزن، ولا التى تكون باللحن.
وقد يوجد للتشبيه بالقول فصل ثالث، وهو التشبيه الذى يقصد به مطابقة المشبه به من غير أن يقصد فى ذلك تحسين أو تقبيح، لكن نفس المطابقة. وهذا النوع من التشبيه هو كالمادة المعدة لأن تستحيل إلى الطرفين: أعنى أنها تستحيل تارة إلى التحسين بزيادة عليها، وتارة إلى التقبيح بزيادة أيضا عليها.
قال: وهذه كانت طريقة أوميروش، أعنى أنه كان يأتى فى تشبيهاته بالمطابقة والزيادة المحسنة والمقبحة.
مخ ۲۰۵
ومن الشعراء من إجادته إنما هى فى المطابقة فقط، ومنهم من إجادته فى التحسين والتقبيح، ومنهم من جمع الأمرين مثل أوميروش. وتمثل فى كل صنف من هؤلاء بأصناف من الشعراء كانوا مشهورين فى مدنهم وسياستهم باستعمال صنف صنف من أصناف هذه التشبيهات الثلاثة. — وأنت، فليس يعسر عليك وجود مثالات ذلك فى أشعار العرب، وإن كانت أكثر أشعار العرب إنما هى — كما يقول أبو نصر — فى النهم والكريه. وذلك أن النوع الذى يسمونه: «النسيب» إنما هو حث على الفسوق. ولذلك ينبغى أن يتجنبه الولدان؛ ويؤدبون من أشعارهم بما يحث فيه على الشجاعة والكرم، فانه ليس تحث العرب فى أشعارها من الفضائل على سوى هاتين الفضيلتين — وإن كانت ليس تتكلم فيهما على طريق الحث عليهما، وإنما تتكلم فيهما على طريق الفخر. وأما الصنف من الأشعار الذى المقصود به المطابقة فقط فهو موجود كثيرا فى أشعارهم، ولذلك يصفون الجمادات كثيرا والحيوانات والنبات. وأما اليونانيون فلم يكونوا يقولون أكثر ذلك شعرا إلا وهو موجه نحو الفضيلة، أو الكف عن الرذيلة، أو ما يفيد أدبا من الآداب، أو معرفة من المعارف.
فقد تبين من هذا القول أن أصناف التشبيهات ثلاثة أصول، وأن فصولها ثلاثة. وتبين ما هى هذه الفصول الثلاثة والأصناف الثلاثة. ويشبه — إذا استقريت الأشعار — أن يقع اليقين بأنه ليس هاهنا صنف رابع من أصناف التشبيهات ولا فصل رابع من فصول تلك الأصناف.
[chapter 3] فصل
قال: ويشبه أن تكون العلل المولدة للشعر بالطبع فى الناس علتين: أما العلة الأولى فوجود التشبيه والمحاكاة للإنسان بالطبع من أول ما ينشأ، أعنى أن هذا الفعل يوجد للناس وهم أطفال. وهذا شىء يختص به الإنسان من دون سائر الحيوانات. والعلة فى ذلك أن الإنسان، من بين سائر الحيوان، هو الذى يلتذ بالتشبيه للأشياء التى قد أحسها وبالمحاكاة لها. والدليل على أن الإنسان يسر بالتشبيه بالطبع ويفرح هو أنا نلتذ ونسر بمحاكاة الأشياء التى لا نلتذ باحساسها؛ وبخاصة إذا كانت المحاكاة شديدة الاستقصاء، مثلما يعرض فى تصاوير كثير من الحيوانات التى يعملها المهرة من المصورين. ولهذه العلة استعمل فى التعليم عند الإفهام والتخاطب الإشارات: فإنها أداة معينة على فهم الأمر الذى يقصد تفهيمه، لمكان ما فيها من الإلذاذ الذى هو موجود فى الإشارات من قبل ما فيها من التخييل، فتكون النفس بحسب التذاذها به أتم قبولا له. فان التعليم ليس إنما يوجد للفيلسوف فقط، بل وللناس فى ذلك مشاركة يسيرة مع الفيلسوف. وذلك أنه يوجد التعليم بالطبع يصدر من إنسان إلى إنسان بحسب قياس ذلك الإنسان المعلم من الإنسان المنعلم. والإشارات، لما كانت إنما هى تشبيهات لأمور قد أحست، فبين أنها إنما تستعمل لموضع المسارعة إلى الفهم والقبول له، وأنه إنما يفهم بما فيها من الإلذاذ لموضع التخييل الذى فيها. فهذه هى العلة الأولى المولدة للشعر.
مخ ۲۰۶
وأما العلة الثانية فالتذاذ الإنسان أيضا بالطبع بالوزن والألحان. فان الألحان يظهر من أمرها أنها مناسبة للوزن عند الذين فى طباعهم أن يدركوا الأوزان والألحان. فالتذاذ النفس بالطبع بالمحاكاة والألحان والأوزان هو السبب فى وجود الصناعات الشعرية، وبخاصة عند الفطر الفائقة فى ذلك. فاذا نشأت الأمة تولدت فيهم صناعة الشعر من حيث إن الأول يأتى منها أولا بجزء يسير، ثم يأتى من بعده بجزء آخر، وهكذا إلى أن تكمل الصناعات الشعرية وتكمل أيضا أصنافها بحسب استعداد صنف صنف من الناس للالتذاذ أكثر بصنف صنف من أصناف الشعر — مثال ذلك أن النفوس التى هى فاضلة وشريفة بالطبع هى التى تنشئ أولا صناعة المديح، أعنى مديح الأفعال الجميلة؛ والنفوس التى هى أخس من هذه هى التى تنشىء صناعة الهجاء، أعنى هجاء الأفعال القبيحة؛ وإن كان قد يضطر الذى مقصده الهجاء للشرار والشرور أن ممدح الأخيار والأفعال الفاضلة ليكون ظهور قبح الشرور أكثر، أعنى إذا ذكرها ثم ذكر بازائها الأفعال القبيحة.
فهذا ما فى هذا الفصل من الأمور المشتركة لجميع الأمم أو للأكثر. وسائر ما يذكر فيه فكله أو جله مما يخص أشعارهم وعادتهم فيها. وذلك أنه يذكر أصناف الصناعات الشعرية التى كانت تستعمل عندهم، وكيف كان منشأ واحدة واحدة منها بالطبع، وأى جزء هو المتقدم منها فى الكون على أى جزء، وبخاصة فى صناعة المديح وصناعة الهجاء المشهورتين عندهم. ويذكر، مع هذا، أول من ابتدأ صناعة صناعة من تلك الصنائع الشعرية المعتادة عندهم و من زاد فيها ومن كملها بعد. وهو فى هذا الباب يثنى على أوميروش ثناءا كثيرا، ويعرف أنه الذى أعطى مبادئ هذه الصنائع، وأنه لم يكن لأحد قبله فى صناعة المديح عمل له قدر يعتد به، ولا فى صناعة الهجاء، ولا فى غير ذلك من الصنائع المشهورة عندهم.
قال: والأنقص من الأشعار والأقصر هى المتقدمة بالزمان، لأن الطباع أسهل وقوعا عليها أولا. والأقصر هى التى تكون من مقاطع أقل، والأنقص هى التى تكون من نغمات أقل أيضا.
مخ ۲۰۷
قال: والدليل على أن هذه الأنواع أسبق إلى النفوس أن الناس عند المنازعات قد يرتجلون مصاريع من هذه فى مجادلتهم، وذلك عند الحرج — يريد، فيما أحسب، مثل قول القائل: لا — لا — لا، يمد بها صوته، ومثل قوله: ليس — هذا — كذا، مادا بها صوته. فان أمثال هذه المراجعات هى مصاريع موزونة ذات لحن. وأما التى هى أطول وأتم فانما ظهرت بأخرة، كالحال فى سائر الصنائع.
قال: وصناعة الهجاء ليس إنما يقصد بها المحاكاة بكل ما هو شر وقبيح فقط، بل وبكل ما هو شر مستهزأ به، أى مرذول قبيح غير مهتم به.
قال: والدليل على أن الاستهزاء يجب أن يجمع هذه الثلاثة الأوصاف أنه يوجد فى وجه المستهزئ هذه الأحوال الثلاثة: أعنى قباحة الوجه، وهيئة الاستصغار، وقلة الاكتراث بالمستهزأ به، وذلك بخلاف وجه الغاضب، أعنى أن فيه قبحا واهتماما. وتلك هى حالة نفس الغاضب على الشىء الذى يغضب عليه.
[chapter 4] فصل
قال: وإيجاد صناعة المديح يكون تعلمها فى الأعاريض الطويلة، لا فى القصيرة. ولذلك رفض المتأخرون الأعاريض القصار التى كانت تستعمل فيها وفى غيرها من صنائع الشعر.
مخ ۲۰۸
وأخص الأوزان بها هو الوزن البسيط الغير مركب. ولكن ينبغى ألا يبلغ فيها من الطول إلى حد يستكره. والحد المفهم جوهر صناعة المديح هو أنها تشبيه ومحاكاة للعمل الإرادى الفاضل الكامل الذى له قوة كلية فى الأمور الفاضلة، لا قوة جزئية فى واحد واحد من الأمور الفاضلة — محاكاة تنفعل لها النفوس انفعالا معتدلا بما يولد فيها من الرحمة والخوف، وذلك بما يخيل فى الفاضلين من النقاء والنظافة، فان المحاكاة إنما هى للهيئات التى تلزم الفضائل، لا للملكات إذ ليس يمكن فيها أن يتخيل. وهذه المحاكاة بالقول تكمل إذا قرن بها اللحن والوزن. وقد توجد من المنشدين أحوال أخر خارجة عن الوزن واللحن تجعل القول أتم محاكاة، وهى الإشارات والأخذ بالوجوه الذى قيل فى كتاب «الخطابة».
فأول أجزاء صناعة المديح الشعرى فى العمل هو أن تحصى المعانى الشريفة التى بها يكون التخييل، ثم تكسى تلك المعانى اللحن والوزن الملائمين للشىء المقول فيه.
وعمل اللحن فى الشعر هو أنه يعد النفس لقبول خيال الشىء الذى يقصد تخييله. فكأن اللحن هو الذى يفيد النفس الاستعداد الذى به تقبل التشبيه والمحاكاة للشىء المقصود تشبيهه. وإنما يفيد النفس هذه الهيئة فى نوع نوع من أنواع الشعر اللحن الملائم لذلك النوع من الشعر بنغماته وتأليفه. فانه، كما أنا نجد النغم الحادة تلائم نوعا من القول غير الذى تلائمه النغمات الثقال، كذلك ينبغى أن نعتقد فى تركيب الألحان وهيئات المحدثين والقصاص التى تكمل التخييل الموجود فى الأقاويل الشعرية أنفسها من قبل هذه الثلاثة، أعنى التشبيه والوزن واللحن، التى هى اسطقسات المحاكاة، هى بالجملة هيئتان: إحداهما هيئة تدل على خلق وعادة، كمن يتكلم كلام عاقل أو كلام غضوب؛ والثانية هيئة تدل على اعتقاد. فانه ليس هيئة من يتكلم، وهو متحقق بالشىء، هيئة من يتكلم فيه وهو شاك. فالقاص والمحدث فى المديح ينبغى أن تكون هيئة قوله وشكله هيئة محق لا شاك، وهيئة جاد لا هازل، مثل قول القائل أى أناس يكونون فى غاياتهم واعتقاداتهم. والقصص والحديث الذى ينبغى أن يعبر عنه القاص والمحدث — وهو بهاتين الحالتين — هو الخرافة التى تكون بالتشبيه والمحاكاة. وأعنى بالخرافة: تركيب الأمور التى تقصد محاكاتها إما بحسب ما هى عليه فى أنفسها، أعنى فى الوجود؛ وإما بحسب ما اعتيد فى الشعر من ذلك وإن كان كذبا. ولهذا قيل للأقاويل الشعرية خرافات. فالقصاص والمحدثون بالجملة هم الذين لهم قدرة على محاكاة العادات والاعتقادات.
مخ ۲۰۹
قال: وقد يجب أن تكون أجزاء صناعة المديح ستة: الأقاويل الخرافية، والعادات، والوزن، والاعتقادات، والنظر، واللحن. — والدليل على ذلك أن كل قول شعرى قد ينقسم إلى مشبه ومشبه به؛ والذى به يشبه ثلاثة: المحاكاة والوزن، واللحن. والذى يشبه فى المدح ثلاثة أيضا: العادات والاعتقادات، والنظر، أعنى الاستدلال لصواب الاعتقاد. فتكون أجزاء صناعة المديح ضرورة: ستة. وإنما كانت العادات والاعتقادات أعظم أجزاء المديح لأن صناعة المديح ليست هى صناعة تحاكى الناس أنفسهم من جهة ما هم أشخاص ناس محسوسون، بل إنما تحاكيهم من قبل عاداتهم الجميلة وأفعالهم الحسنة. واعتقاداتهم السعيدة تشمل الأفعال والخلق، ولذلك جعلت العادة أحد أجزاء الستة، واستغنى بذكرها فى التقسيم عن ذكر الأفعال والخلق. وأما النظر فهو إبانة صواب الاعتقاد وكأنه كان عندهم ضربا من الاحتجاج لصواب الاعتقاد الممدوح به. وهذا كله ليس يوجد فى أشعار العرب. وإنما يوجد فى الأقاويل الشرعية المديحية. وكانوا يحاكون هذه الثلاثة الأشياء، أعنى العادات والاعتقادات والاستدلال، بالثلاثة الأصناف من الأشياء التى بها يحاكى، أعنى: القول المخيل، والوزن، واللحن.
قال: وأجزاء القول الخرافى، من جهة ما هو محاك، جزءان — وذلك أن كل محاكاة فاما أن نوطىء لمحاكاته بمحاكاة ضده، ثم ننتقل منه إلى محاكاته وهو الذى كان يعرف عندهم بالإدارة. وإما أن نحاكى الشىء نفسه دون أن نعرض لمحاكاة ضده، وهو الذى كان يسمونه بالاستدلال.
والذى يتنزل من هذه الأجزاء منزلة المبدأ والأس هو القول الخرافى المحاكى. — والجزء الثانى: العادات، وهو الذى تستعمل أولا فيه المحاكاة، أعنى أنه الذى يحاكى. وإنما كانت الحكاية هى العمود والأس فى هذه الصناعة لأن الالتذاذ ليس يكون بذكر الشىء المقصود ذكره دون أن يحاكى، بل إنما يكون الالتذاذ به والقبول له إذا حوكى. ولذلك لا يلتذ إنسان بالنظر إلى صور الأشياء الموجودة أنفسها، ويلتذ بمحاكاتها وتصويرها بالأصباغ والألوان. ولذلك استعمل الناس صناعة الزواقة والتصوير.
مخ ۲۱۰
والجزء الثالث لصناعة المديح، أعنى التالى للثانى، هو: الاعتقاد. وهذا هو القدرة على محاكاة ما هو موجود كذا، أو ليس بموجود كذا. وذلك مثل ما تتكلفه الخطابة من تبيين أن شيئا موجود أو غير موجود. إلا أن الخطابة تتكلف ذلك بقول مقنع، والشعر بقول محاك. وهذه المحاكاة هى أيضا موجودة فى الأقاويل الشعرية.
قال: وقد كان الأقدمون من واضعى السياسات يقتصرون على تمكين الاعتقادات فى النفوس بالأقاويل الشعرية حتى شعر المتأخرون بالطرق الخطبية. — والفرف بين القول الشعرى الذى يحث على الاعتقاد، والذى يحث على العادة، أن الذى يحث على العادة يحث على عمل شىء أو على الهرب من شىء. والقول الذى يحث على الاعتقاد إنما يحث على أن شيئا موجود أو غير موجود، لا على شىء يطلب أو يهرب عنه.
والجزء الرابع لهذه الأجزاء، أعنى التالى للثالث، هو: الوزن. ومن تمامه أن يكون مناسبا للغرض. فرب وزن يناسب غرضا ولا يناسب غرضا آخر.
والجزء الخامس فى المرتبة هو: اللحن. وهو أعظم هذه الأجزاء تأثيرا وأفعلها فى النفوس.
والجزء السادس هو النظر، أعنى الاحتجاج لصواب الاعتقاد أو صواب العمل، لا بقول إقناعى، فان ذلك غير ملائم لهذه الصناعة، بل بقول محاك. فإن صناعة الشعر ليست مبنية على الاحتجاج والمناظرة، وبخاصة صناعة المديح، ولذلك ليس يستعمل المديح صناعة النفاق والأخذ بالوجوه كما تستعملها الخطابة.
قال: والصناعة العلمية التى تعرف من ماذا تعمل الأشعار وكيف تعمل، أتم رئاسة من عمل الأشعار، فان كل صناعة توقف ما تحتها من الصنائع على عملها هى أرأس مما تحتها.
[chapter 5] فصل
مخ ۲۱۱
فإذ قد قيل ما هى صناعة المديح، ومماذا تلتئم، وكم أجزاؤها، وما هى — فلنقل فى الأشياء التى بها يكون حسن الأمور التى يتقوم بها الشعر. فان القول فى هذه الأشياء ضرورى فى صناعة المديح وفى غيرها، وهو لها بمنزلة المبدأ. وذلك أن الأمور التى تتقوم منها الصنائع صنفان: أمور صرورية، وأمور تكون بها أتم وأفضل.
مخ ۲۱۲
فنقول: إنه يجب أن تكون صناعة المديح مستوفية لغايات فعلها، أعنى أن تبلغ من التشبيه والمحاكاة الغاية التى فى طباعها أن تبلغه. وذلك يكون بأشياء: أحدها أن يكون للقصيدة عظم ما محدود تكون به كلا وكاملة. والكل والكامل هو ما كان له مبدأ ووسط وآخر. والمبدأ «قبل»، وليس يجب أن يكون «مع» الأشياء التى هو لها مبدأ. والآخر هو «مع» الأشياء التى هو لها آخر وليس هو «قبل». والوسط هو «قبل» و«مع» ، فهو أفضل من الطرفين إذ كان الوسط فى المكان قبل وبعد، فان الشجعان هم الذين مكانهم فى الحرب ما بين مكان الجبناء ومكان المتهورين، وهو المكان الوسط. وكذلك الحد الفاصل فى التركيب هو الوسط، وهو الذى يتركب من الأطراف ولا تتركب الأطراف منه. وليس يجب أن يكون المتوسط وسطا، أى خيارا فى التركيب والترتيب فقط بل وفى المقدار. وإذا كان ذلك كذلك، فقد يجب أن يكون للقصيدة أول ووسط وآخر، وأن يكون كل واحد من هذه الأجزاء وسطا فى المقدار، وكذلك يجب فى الجملة المركبة منها أن تكون بقدر محدود، لا أن تكون بأى عظم اتفق. وذلك أن الجودة فى المركب تكون من قبل شيئين: أحدهما الترتيب، والثانى المقدار؛ ولهذا لا يقال فى الحيوان الصغير الجثة يالإضافة إلى أشخاص نوعه إنه جيد. والحال فى المخاطبة الشعرية فى ذلك كالحال فى التعليم البرهانى، أعنى أن التعليم إن كان قصير المدة لم يكن الفهم جيدا، ولا إن كان أطول مما ينبغى لأنه يلحق المتعلم فى ذلك النسيان. والحال فى ذلك كالحال فى النظر إلى المحسوس، أعنى أن النظر إلى المحسوس إنما يكون جيدا إذا كان بين الناظر وبينه بعد متوسط، لا إذا كان بعيدا منه جدا ولا إذا كان قريبا منه جدا، والذى يعرض فى التعليم بعينه يعرض فى الأقاويل الشعرية، أعنى أنه إن كانت للقصيدة قصيرة لم تستوف أجزاء المديح؛ وإن كانت طويلة لم يمكن أن تحفظ فى ذكر السامعين أجزاؤها، فيعرض لهم إذا سمعوا الأجزاء الأخيرة أن يكونوا قد نسوا الأولى. وأما الأقاويل الخطبية التى تستعمل فى المناظرة فليس لها قدر محدود بالطبع، ولذلك احتاج الناس أن يقدروا زمان المناظرة بين الخصوم إما بآلة الماء على ما جرت به العادة عند اليونانيين إذ كانوا إنما يعتمدون الضمائر فقط، وإما بتأجيل الأيام كالحال عندنا، إذ كان المعتمد فى الخصومات عندنا إنما هى الأشياء المقنعة التى من خارج. ولذلك لو كانت صناعة المديح بالمناظرة لكان يحتاج فيها إلى تقدير زمان المناظرة بساعات المساء أو غيرها. لكن لما لم يكن الأمر كذلك، وجب أن يكون لصناعة الشعر حد طبيعى كالحال فى الأقدار الطبيعية للأمور الموجودة. وذلك أنه كما أن جميع المتكونات إذا لم يعقها فى حال الكون سوء البخت صارت إلى عظم محدود بالطبع. كذلك يجب أن تكون الحال فى الأقاويل الشعرية، وبخاصة فى صنفى المحاكاة، أعنى التى ينتقل فيها من الضد إلى الضد، أو يحاكى فيها الشىء نفسه من غير أن ينتقل إلى ضده.
قال: ومما يحسن به قوام الشعر ألا يطول فيه بذكر الأشياء الكثيرة التى تعرض للشىء الواحد المقصود بالشعر. فان الشىء الواحد تعرض له أشياء كثيرة. وكذلك يوجد للشىء الواحد المشار إليه أفعال كثيرة.
قال: ويشبه أن يكون جميع الشعراء لا يتحفظون بهذا، بل ينتقلون من شىء إلى شىء ولا يلزمون غرضا واحدا بعينه، ما عدا أوميرش.
وأنت تجد هذا كثيرا ما يعرض فى أشعار العرب والمحدثين وبخاصة عند المدح، أعنى أنه إذا عن لهم شىء مامن أسباب الممدوح — مثل سيف أوقوس — اشتغلوا بمحاكاته وأضربوا عن ذكر الممدوح.
وبالجملة، فيجب أن تكون الصناعة تشبه بالطبيعة، أعنى أن تكون إنما تفعل جميع ما تفعله من أجل غرض واحد وغاية واحدة. وإذا كان ذلك كذلك، فواجب أن يكون التشبيه والمحاكاة لواحد ومقصودا به غرض واحد، وأن يكون لأجزائه عظم محدود وأن يكون فيها مبدأ ووسط وآخر، وأن يكون الوسط أفضلها. فان الموجودات التى وجودها فى الترتيب وحسن النظام، إذا عدمت ترتيبها لم يوجد لها الفعل الخاص بها.
مخ ۲۱۳
قال: وظاهر أيضا مما قيل من مقصد الأقاويل الشعرية أن المحاكاة التى تكون بالأمور المخترعة الكاذبة ليست من فعل الشاعر، وهى التى تسمى أمثالا وقصصا، مثل ما فى كتاب «كليلة ودمنه». لكن الشاعر إنما يتكلم فى الأمور الموجودة أو الممكنة الوجود، لأن هذه هى التى يقصد الهرب عنها أو طلبها أو مطابقة التشبيه لها، على ما قيل فى فصول المحاكاة. وأما الذين يعملون الأمثال والقصص فان عملهم غير عمل الشعراء — وإن كانوا قد يعملون تلك الأمثال والأحاديث المخترعة بكلام موزون. وذلك أن كليهما، وإن كانا يشتركان فى الوزن، فأحدهما يتم له العمل الذى قصده بالخرافة، وإن لم تكن موزونة، وهو التعقل الذى يستفاد من الأحاديث المخترعة. والشاعر لا يحصل له مقصوده على التمام من التخييل إلا بالوزن. فالفاعل للأمثال المخترعة والقصص إنما يخترع أشخاصا ليس لها وجود أصلا ويضع لها أسماء. وأما الشاعر فانما يضع أسماء لأشياء موجودة. وربما تكلموا فى الكليات، ولذلك كانت صناعة الشعر أقرب إلى الفلسفة من صناعة اختراع الأمثال. — وهذا الذى قاله هو بحسب عادتهم فى الشعر الذى يشبه أن يكون هو الأمر الطبيعى للأمم الطبيعية.
قال: وأكثر ما يجب أن يعتمد فى صناعة المديح أن تكون الأشياء المحاكيات أمورا موجوة، لا أمورا لها أسماء مخترعة، فان المديح إنما يتوجه نحو التحريك إلى الأفعال الإرادية. فاذا كانت الأفعال ممكنة، كان الإقناع فيها أكثر وقوعا، أعنى التصديق الشعرى الذى يحرك النفس إلى الطلب أو الهرب.
وأما الأشياء الغير موجودة فليس توضع وتخترع لها أسماء فى صناعة المديح إلا أقل ذلك، مثل وضعهم الجود شخصا، ثم يضعون أفعالا له ويحاكونها ويطنبون فى مدحه. وهذا النحو من التخييل، وإن كان قد ينتفع به منفعة غير يسيرة لمناسبة أفعال ذلك الشىء المخترع وانفعالاته للأمور الموجودة، فليس ينبغى أن يعتمد فى صناعة المديح. فان هذا النحو من التخييل ليس مما يوافق جميع الطباع، بل قد يضحك منه ويزدريه كثير من الناس. ومن جيد ما فى هذا الباب للعرب، وإن لم يكن على طريق الحث على الفضيلة، قول الأعشى PageV01P21 4
وإذا كان هذا هكذا، فظاهر أن الشاعر إنما يكون شاعرا بعمل الخرافات والاوزان بقدر ما يكون قادرا على عمل التشبيه والمحاكاة. وهو إنما يعمل التشبيه للأمور الإرادية الموجودة، وليس من شرطه أن يحاكى الأمور التى هى موجودة فقط، بل وقد يحاكى الأمور التى يظن بها أنها ممكنة الوجود، وهو فى ذلك شاعر ليس بدون ما هو فى محاكاة الأمور الموجودة، من قبل أنه ليس مانع يمنع أن توجد تلك الأشياء على مثل حال الأشياء التى هى الآن موجودة. فليس يحتاج فى التخيل الشعرى إلى مثل هذه الخرافات المخترعة، ولا أيضا يحتاج الشاعر المفلق أن تتم محاكاته بالأمور التى من خارج، وهو الذى يدعى نفاقا وأخذا بالوجوه. فان ذلك إنما يستعمله المموهون من الشعراء، أعنى الذين يراؤون أنهم شعراء وليسوا شعراء. وأما الشعراء بالحقيقة فليس يستعملونه إلا عندما يريدون أن يقابلوا به استعمال شعراء الزور له. وأما إذا قابلوا الشعراء المجيدين فليس يستعملونه أصلا. وقد يضطر المفلقون فى مواضع أن يستعينوا باستعمال الأشياء الخارجة عن عمود الشعر، من قبل أن المحاكاة ليس تكون فى كل موضع للأشياء الكاملة التى تمكن محاكاتها على التمام، بل لأشياء ناقصة تعسر محاكاتها بالقول، فيستعان على محاكاتها بالأشياء التى من خارج، وبخاصة إذا قصدوا محاكاة الاعتقادات، لأن تخيلها يعسر، إذ كانت ليست أفعالا ولا جواهر. وقد تمزج هذه الأشياء التى من خارج بالمحاكيات الشعرية أحيانا كأنها وقعت بالاتفاق من غير قصد، فيكون لها فعل معجب، إذ كانت الأشياء التى من شأنها أن تقع بالاتفاق معجبة.
مخ ۲۱۵
قال: وكثير من الأقاويل الشعرية تكون جودتها فى المحاكاة البسيطة الغير متفننة، وكثير منها إنما تكون جودتها فى نفس التشبيه والمحاكاة. وذلك أن الحال فى التشبيه كالحال فى الأعمال. فكما أن من الأعمال ما ينال بفعل واحد بسيط، ومنها ما ينال بفعل مركب، كذلك الأمر فى المحاكاة. والمحاكاة البسيطة هى الى يستعمل فيها أحد نوعى التخييل، أعنى النوع الذى يسمى «الإدارة»، أو النوع الذى يسمى «الاستدلال». وأما المحاكاة المركبة فهى التى يستعمل فيها الصنفان جميعا: وذلك إما بأن يبتدأ بالإدارة، ثم ينتقل منه إلى الاستدلال، أو يبتدأ بالاستدلال ثم ينتقل منه إلى الإدارة. والاعتماد هو أن يبدأ بالإدارة إلى الاستدلال، أو يبدأ بالاستدلال ثم ينتقل إلى الإدارة.
قال: وأعنى ب«الإدارة» محاكاة ضد المقصود مدحه، أولا: بما ينفر النفس عنه، ثم ينتقل منه إلى محاكاة الممدوح نفسه. مثل أنه إذا أراد أن يحاكى السعادة وأهلها ابتدأ أولا بمحاكاة الشقاوة وأهلها، ثم انتقل إلى محاكاة أهل السعادة، وذلك بضد ما حاكى به أهل الشقاوة. وأما «الاستدلال» فهو محاكاة الشىء فقط.
قال: وأحسن الاستدلال ما خلط بالإدارة.
قال: وقد يستعمل الاستدلال والإدارة فى الأشياء الغير متنفسة وفى المتنفسة، لا من جهة ما يقصد به عمل أو ترك، بل من جهة التخييل فقط، أعنى المطابقة.
وهذا النوع من الاستدلال الذى ذكره هو الغالب على أشعار العرب، أعنى الاستدلال والإدارة فى غير المتنفسة، وهو مثل قول أبى الطيب:
فان البيت الأول هو استدلال، والثانى إدارة. ولما جمع هذان البيتان صنفى المحاكاة، كانا فى غاية من الحسن.
قال: والاستدلال الإنسانى والإدارة إنما يستعملان فى الطلب والهرب. وهذا النوع من الاستدلال هو الذى يثير فى النفس الرحمة تارة، والخوف تارة. وهذا هو الذى نحتاج إليه فى صناعة مديح الأفعال الإنسانية الجميلة وهجو القبيحة.
مخ ۲۱۶
قال: فهذان الجزآن اللذان أخبرنا عنهما هما جزءا صناعة المديح. وها هنا جزء ثالث، وهو الجزء الذى يولد الانفعالات النفسانية، أعنى انفعالات الخوف والرحمة والحزن، وهو يكون بذكر المصائب والرزايا النازلة بالناس — فان هذه الأشياء هى التى تبعث الرحمة والخوف، وهو جزء عظيم من أجزاء الحث على الأفعال التى هى مقصودة المديح عندهم.
[chapter 6] فصل
قال: فأما أجزاء صناعة المديح من باب الكيفية، فقد تكلمنا فيها. وأما أجزاؤها من جهة الكمية، فينبغى أن نتكلم فيها.
وهو يذكر فى هذا المعنى أجزاء خاصة بأشعارهم. والذى يوجد منها فى أشعار العرب فهى ثلاثة: الجزء الذى يجرى عندهم مجرى الصدر فى الخطبة، وهو الذى فيه يذكرون الديار والآثار ويتغزلون فيه. والجزء الثانى: المدح. والجزء الثالث: الذى يجرى مجرى الخاتمة فى الخطبة. وهذا الجزء، أكثر ما هو عندهم، إما : دعاء للممدوح، وإما فى تقريض الشعر الذى قاله. والجزء الأول أشهر من هذا الآخر، ولذلك يسمون الانتقال من الجزء الأول إلى الثانى استطرادا. وربما أتوا بالمدائح دون صدور، مثل قول أبى تمام:
... ... ... ... ... ... .. لهان علينا أن نقول وتفعلا
ومثل قول أبى الطيب:
لكل امرئ من دهره ما تعودا ... ... ... ... ... ... ...
مخ ۲۱۷
ولما فرغ من تعديد أجزاء الشعر عندهم، قال: فأما أجزاء صناعة المديح التى من جهة الكيفية والتى من جهة الكمية فقد أخبرنا بها. فأما من أى المواضع يمكن عمل صناعة المديح، فنحن مخبرون عنها بعد ومضيفون ذلك إلى ما تقدم.
قال: وينبغى — كما قيل — ألا يكون تركيب المدائح من محاكاة بسيطة، بل مخلوطة من أنواع الاستدلالات وأنواع الإدارة ومن المحاكاة التى توجب الانفعالات المخيفة المحركة المرققة للنفوس. وذلك أنه يجب أن تكون المدائح التى يقصد بها الحث على الفضائل مركبة من محاكاة الفضائل ومن محاكاة أشياء مخوفة محزنة يتفجع لها، وهى الشقاوة التى تلحق من عدم الفضائل لا باستئهال. وذلك أن بهذه الأشياء يشتد تحرك النفس لقبول الفضائل. فان انتقال الشاعر من محاكاة فضيلة إلى محاكاة لا فضيلة، أو من محاكاة فاضل إلى محاكاة لا فاضل، ليس فيه شىء مما يحث الإنسان ويزعجه إلى فعل الفضائل، إذ كان ليس يوجب محبة لها زائدة ولا خوفا.
والأقاويل المديحية يجب أن يوجد فيها هذان الأمران، وذلك يكون إذا انتقل من محاكاة الفضائل إلى محاكاة الشقاوة ورداءة البخت النازلة بالأفاضل أو انتقل من هذه إلى محاكاة أهل الفضائل؛ فان هذه المحاكاة ترق النفس وتزعجها إلى قبول الفضائل. وأنت تجد أكثر المحاكاة الواقعة فى الأقاويل الشرعية على هذا النحو الذى ذكر، إذ كانت تلك هى أقاويل مديحية تدل على العمل، مثل ما ورد من حديث يوسف — صلى الله عليه — وإخوته، وغير ذلك من الأقاصيص التى تسمى مواعظ.
مخ ۲۱۸
قال: وإنما تحدث الرحمة والرقة بذكر حدوث الشقاوة بمن لا يستحق وعلى غير الواجب. والخوف إنما يحدث عند ذكر هذه من قبل تخيل وقوع الضار بمن هو دونهم، أعنى بنفس السامع، إذ كان أحرى بذلك. والحزن والرحمة إنما تحدث عند هذه من قبل وقوعها بمن لا يستحق. وإذا كان ذكر الفضائل مفردة لا يوقع فى النفس خوفا من فواتها ولا رحمة ومحبة، فواجب على من يريد أن يحث على الفضائل أن يجعل جزءا من محاكاته — للأشياء التى تبعث الحزن والخوف والرحمة.
قال: ولذلك المدائح الحسان الموجودة لصناعة الشعر هى المدائح التى يوجد فيها هذا التركيب، أعنى ذكر الفضائل والأشياء المحزنة المخوفة المرققة.
قال: ولذلك يخطئ الذين يلومون من يجعل أحد أجزاء شعره هذه الخرافات. ومن الدليل على أن ذلك نافع فى المديح أن صناعة المديح الجهادية قد تدخل فيها المغضبات. والغضب هو حزن مع حب شديد للانتقام.
وإذ كان ذلك كذلك فذكر الرزايا والمصائب النازلة بأهل الفضل يوجب حبا زائدا لهم وخوفا من فوات الفضائل. فأما محاكاة النقائص فى المدائح فقد يدخلها قوم فيها، لأن فيها ضربا من الإدارة، لكن مناسبة ذم النقائص لصناعة الهجاء أكثر منها لصناعة المديح. ولذلك لا ينبغى أن يكون تخييلها فى المدائح على القصد الأول، بل من قبل الإدارة. وإذا كان الشعر المديحى تذكر فيه النقائص، فلا بد أن يكون فيه ذكر الأعداء المبغضين.
والمدائح إنما تنبغى على ذكر أفعال الأولياء والأصدقاء. وأما عدو العدو أو صديق الصديق فليس يذكر: لا فى المدح ولا فى الذم، إذ كان لا صديقا ولا عدوا.
قال: وينبغى أن تكون الخرافة المخيفة المحزنة مخرجها مخرج ما يقع تحت البصر —
— يريد : من وقوع التصديق بها، لأنه إذا كانت الخرافة مشكوكا فيها أو أخرجت مخرج مشكوك فيها، لم تفعل الفعل المقصود بها. وذلك أن ما لا يصدقه المرء فهو لا يفزع منه ولا يشفق له. وهذا الذى ذكر هو السبب فى أن كثيرا من الذين لا يصدقون بالقصص الشرعى يصيرون أراذل، لأن الناس إنما يتحركون بالطبع لأحد قولين: إما قول برهانى، وإما قول ليس 〈ب〉برهانى. وهذا الصنف الخسيس من الناس قد عدم التحرك عن هذين القولين.
مخ ۲۱۹
قال: ومن الشعراء من يدخل فى المدائح محاكاة أشياء يقصد بها التعجب فقط من غير أن تكون مخيفة ولا محزنة. — وأنت تجد مثل هذه الأشياء كلها كثيرا فى المكتوبات الشرعية، إذ كانت مدائح الفضائل ليس توجد فى أشعار العرب، وإنما توجد فى زماننا هذا فى السنن المكتوبة.
قال: وهذا الفعل ليس فيه مشاركة لصناعة المديح بوجه من الوجوه. وذلك أنه ليس يقصد من صناعة الشعر أى لذة اتفقت، لكن إنما يقصد بها حصول الالتذاذ بتخييل الفضائل، وهى اللذة المناسبة لصناعة المديح.
قال: وهو معلوم: ما هى الأشياء التى تفعل اللذات بمحاكاتها من غير أن يلحق عن ذلك حزن ولا خوف. وأما الأشياء التى تلحق مع الالتذاذ بمحاكاتها الرحمة والخوف، فانما يقدر الإنسان على ذلك إذا التمس أى الأشياء هى الصعبة من النوائب التى تنوب، وأى الأشياء هى اليسيرة الهيئة التى ليس يلحق عنها كبير حزن ولا خوف. وأمثال هذه الأشياء هى ما ينزل بالأصدقاء بعضهم من بعض من قبل الإرادة من الرزايا والمصائب، لا ما ينزل بالأعداء بعضهم من بعض. فان الإنسان ليس يحزن ولا يشفق لما ينزل من السوء بالعدو من عدوه، كما يحزن ويخاف من السوء النازل بالصديق من صديقه. وإن كان قد يلحق عن ذلك ألم، فليس يلحق مثل الألم الذى يلحق من السوء الذى ينزل من المحبين بعضهم ببعض، مثل قتل الإخوة بعضهم بعضا أو قتل الآباء الأبناء أو الأبناء الآباء.
ولهذا الذى ذكره كان قصص ابراهيم — عليه السلام — فيما أمر به فى ابنه فى غاية الأقاويل الموجبة للحزن والخوف.
قال: والمدح إنما ينبغى أن يكون بالأفعال الفاضلة التى تصدر عن إرادة وعلم. ومنها ما يفعل عن علم لا عن إرادة ، أو عن إرادة ولا علم. وكذلك الأفعال منها ما يكون لمن يعرف ولمن لا يعرف. فالفعل إذا صدر من غير معرفة ولا إرادة، فليس يدخل فى باب المديح. وكذلك إذا كان صادرا من غير معروف لأنه يكون حينئذ فى الأكذوبات أدخل منه فى الشعر ولا يجب أن يحاكى.
مخ ۲۲۰
وأما الأفعال التى لا يشك أنها صدرت عن إرادة ومعرفة وعن معروفين، فما أحسن الاستدلال الذى يكون فى هذه الأفعال!
قال: فأما فى حسن قوام الأمور التى تركب منها الأشعار، وكيف ينبغى أن يكون تركيبها، فقد قلنا فى ذلك قولا كافيا. فأما أى العادات هى العادات التى ينبغى أن تحاكى فى المدح، فقد يجب أن نقول فيها فنقول: إن العادات التى تحاكى عند المدح الجيد، أعنى الذى يحسن موقعها من السامعين، أربعة: إحداها العادات التى هى خيرة وفاضلة فى ذلك الممدوح. فان الذى يؤثر فى النفس هو محاكاة الأشياء الحق الموجودة فى ذلك الممدوح. وكل جنس ففيه خير ما، وإن كان فيه أشياء ليست خيرا.
والثانية أن تكون العادات من التى تليق بالممدوح وتصلح له. وذلك أن العادات التى تليق بالمرأة ليست تليق بالرجل؛
والثالثة أن تكون من العادات الموجودة فيه على أتم ما يمكن أن توجد فيه من الشبه والموافقة؛
والرابعة أن تكون معتدلة متوسطة بين الأطراف. وإنما كان ذلك كذلك لأن العوائد الرذلة ليس مما يمدح بها، وكذلك العوائد التى لا تليق بالممدوح وإن كانت جيادا، وكذلك العوائد اللائقة إذا لم توجد على أتم ما يمكن فيها من المشابهة، أو لم توجد مستوفاة، والعوائد التى هى خير وتدل على الخلق الخير الفاضل: منها ما هى كذلك فى الحقيقة، ومنها ما هى كذلك فى المشهور، ومنها ما هى شبيهة بهذين. والعوائد الجياد: إما حقيقية، وإما شبيهة بالحقيقية؛ وإما مشهورة أو شبيهة بالمشهورة. وكل هذه تدخل فى المدح.
قال: ويجب أن تكون خواتم الأشعار والقصائد تدل باجمال على ما تقدم ذكره من العوائد التى وقع المدح بها، كالحال فى خواتم الخطب، وأن يكون الشاعر لا يورد فى شعره من المحاكاة الخارجة عن القول إلا بقدر ما يحتمله المخاطبون من ذلك حتى لا ينسب فى ذلك إلى الغلو والخروج عن طريقة الشعر ولا إلى التقصير.
مخ ۲۲۱