قال: وكثير من الأقاويل الشعرية تكون جودتها فى المحاكاة البسيطة الغير متفننة، وكثير منها إنما تكون جودتها فى نفس التشبيه والمحاكاة. وذلك أن الحال فى التشبيه كالحال فى الأعمال. فكما أن من الأعمال ما ينال بفعل واحد بسيط، ومنها ما ينال بفعل مركب، كذلك الأمر فى المحاكاة. والمحاكاة البسيطة هى الى يستعمل فيها أحد نوعى التخييل، أعنى النوع الذى يسمى «الإدارة»، أو النوع الذى يسمى «الاستدلال». وأما المحاكاة المركبة فهى التى يستعمل فيها الصنفان جميعا: وذلك إما بأن يبتدأ بالإدارة، ثم ينتقل منه إلى الاستدلال، أو يبتدأ بالاستدلال ثم ينتقل منه إلى الإدارة. والاعتماد هو أن يبدأ بالإدارة إلى الاستدلال، أو يبدأ بالاستدلال ثم ينتقل إلى الإدارة.
قال: وأعنى ب«الإدارة» محاكاة ضد المقصود مدحه، أولا: بما ينفر النفس عنه، ثم ينتقل منه إلى محاكاة الممدوح نفسه. مثل أنه إذا أراد أن يحاكى السعادة وأهلها ابتدأ أولا بمحاكاة الشقاوة وأهلها، ثم انتقل إلى محاكاة أهل السعادة، وذلك بضد ما حاكى به أهل الشقاوة. وأما «الاستدلال» فهو محاكاة الشىء فقط.
قال: وأحسن الاستدلال ما خلط بالإدارة.
قال: وقد يستعمل الاستدلال والإدارة فى الأشياء الغير متنفسة وفى المتنفسة، لا من جهة ما يقصد به عمل أو ترك، بل من جهة التخييل فقط، أعنى المطابقة.
وهذا النوع من الاستدلال الذى ذكره هو الغالب على أشعار العرب، أعنى الاستدلال والإدارة فى غير المتنفسة، وهو مثل قول أبى الطيب:
فان البيت الأول هو استدلال، والثانى إدارة. ولما جمع هذان البيتان صنفى المحاكاة، كانا فى غاية من الحسن.
قال: والاستدلال الإنسانى والإدارة إنما يستعملان فى الطلب والهرب. وهذا النوع من الاستدلال هو الذى يثير فى النفس الرحمة تارة، والخوف تارة. وهذا هو الذى نحتاج إليه فى صناعة مديح الأفعال الإنسانية الجميلة وهجو القبيحة.
مخ ۲۱۶