لقيته بحرم المقدس أتاه من دمشق زائرا، وخرج من بيته مهاجرا، وقد كان عرف أني في الطريقة من أنسابه وعلى الحقيقة من المتعلقين بأهدابه، فحين رآني أسرع في القيام، وبادر إلى اللقاء والى السلام، فخجلت من فعله وعجبت من فضله واستنشدني من شعري، فأنشدته لي ولغيري، وتحصل بيني وبينه ذمام أكيد، وعهد بفضل الله حميد، ثم سألته في تقييد شئ من شعره فأخرج لي ما ارتضاه منه واختاره في نسخة تغار عليها حبات القلوب إذا تبديها، وتود الاحداق إذا رمقتها لو تبديها فياضها بياضها وسوادها بسوادها، فاستعرتها منه، وكتبتها عنه فلما رمق ما كتبته احب اقتناءه تجديدا للعهد وحفظا للود فاستوهبه مني محتشما، وأسعفته فيه فقبله وقبلت ضاحكا مبتسما، ووهبني أصله وأكمل لدى طوله وفضله فأنا أول من جلب ذلك الدر النفيس من بحره، وتقلد في جيده ونحره، وفاز بشرفه وفخره ولما قرأت عليه أخذ القلم بمحضري وكتب على ظهر الأصل ما نصه) الله الموفق قرأ على الشيخ الإمام العالم الكامل الفريد أبو البقاء خالد البلوي الأندلسي شكر الله بره المغدق وأصله المعرق، وحرس شخصه الذي تقول المحاسن أطلعه الغرب فأرنا مثله يا مشرق أكثر هذا النبذ من شعري والرسالة من إنشائي قراءة ملأ بها سمعا وذهنا، واربح بها للشعر نقدا ووزنا، وفضها سبط حلى فهو أما يقلد عنقا وأما يقرظ أذنا واحكمها ببيانته وصوته، فما سمعت أطيب من حالته إعرابا ولحنا، وأجزت له روايتها وجميع ما تجوز لي روايته معترفا بفوائده الممتازة، عالما أنه كان يجب أن أجيز من الجائزة لا من الإجازة متطوقا عوارفه التي عز بها الجيد ولا كرامة للدر، ولا عزازة، ونحلته هذه النسخة. وسألته إصلاحها بعد أن تعرضت عنها بنسخة من خطه الذي يتنافس فيه البصر والسمع، وقطرات أقلامه التي إذا نافستها أقلام الفضلاء تولوا وأعينهم تفيض من الدمع والله تعالى يرحم أسلافه، ويبقى منه على كرمه الطاهر ما أبقى الكرم من السلافة قال ذلك وكتبه محمد بن الخطيب بن نباته العبشهي المصري ثم الشافعي وذلك في شوال سنة سبع وثلاثين وسبعمائة بحرمة القدس الشريف وهذا الذي أثبته من نثره يدلك على جلالة قدره وحفاوة بره وها أنا اثبت من نظمه ما يسمعك عجبا ويريك ألفاظه ياقوتا ولجينا وذهبا:
من كل بيت لو تدفق طبعه ... ماء لغص به الفضاء مسيلا
وكل قصيدة للعقول مقصودة ومقطوعة، على الحسن مطبوعة، فمن ذلك قوله يمدح السلطان المؤبد صاحب حماة رحمه الله تعالى من قصيدة العينية:
سرى طيفها حيث العواذل هجع ... فنم علينا نشره المتضوع
وبات يعاطيني الأحاديث في دجى ... كأن الثريا فيه كاس مرصع
أجيراننا حيا الربيع دياركم ... وإن لم يكن فيها لطرفي مربع
شكوت إلى سفح النقا طول نأيكم ... وسفح النقا بالبين مثلي مروع
ولابد من شكوى إلى ذي مروءة ... يواسيك أو يسليك أو يتوجع
فديت حبيبا قد خلا عنه ناظري ... ولم يخل منه في فؤادي موضع
مقيم بأكناف الغضا وهي مهجة ... وإلا بوادي المنحنا وهي أضلع
أطال حجاز الصد بيني وبينه ... فمقلته حور ودمعي ينبع
لئن عارضت من دون زورته الفلا ... فيا رب روض ضمنا فيه مجمع
محل ترى فيه جوامع نزهة ... به تخطب الأطيار والقضب تركع
قرأنا به نحو الهنا فملابس ... تجر وأيد بالمدامة ترفع
وقد أمنتنا دولة شادوية ... فما نختشي اللاوى ولا نتخشع
وقال يمدح من قصيدة:
ملي الحسن حال المرشفين ... متى يقضي، وعود الوصل ديني
أبثك عن عاد لي المعنى ... رآك بعين حب مثل عيني
فحاكى قلبه قلبي خفوقا ... وحكمك الهوى في الخافقين
لمثل هواك تجنح كل نفس ... وتسفح كل ناظرة بعين
صددت فما الأسى عندي بقل ... ولا دمعي بدون القلتين
بروحي عاطر الأنفاس ألمي ... رشيق القد ساجي المقلتين
يهز مثقفا من معطفيه ... ومن جفنيه يجذب مرهفين
له خالان في دينار خد ... تباع له القلوب بحبتين
وحول نقا سوالفه عذار ... كما شعرت نقوش في لجين
أظل إذا نظرت لوجنتيه ... أنزه في النقا والرقمتين
فيا لله من غضن فريد ... وفي خديه كلتا الجنتين
1 / 58