فآويت إلى إيوان، ونزلت أحسن مكان، وأمكن إحسان، ثم دخلت المسجد الأعظم فرأيت من حسنه عجبا، ومن بنيانه ما شئت فضة وذهبا، لا تدرك مبانيه السامية، ولا تلحق أثاره العالية، له أواب حافلة من الحديد وشباك منه بديع، وبنيان بالرخام والأحجار العظام الهائلة المنحوتة الضخام، عددت في طول الحجر الواحد منها أربعة وثلاثين شبرا، وفيها أكبر من ذلك وأصغر، قد أسس ذلك المسجد العظيم عليها وبنى ظاهره وباطنه منها فجاء جامعا عجيبا واسع الساحة، بديع الصنعة، أحدق بجميعه سور جليل، بناؤه من الصخر الجسيم، قد جمع الحسن والحصانة والعلو والمتانة، يشرق بياضه على بعد المتأمل وكذلك حال المدينة منازلها وقصورها من الإشراق والبهجة التي تشوبها خضرة الحدائق الملتفة بها المكتنفة بساحتها، وداخل المسجد الأعظم موجه القبلة بالرخام المجزع المختلف الألوان، الغريب الترصيع الفائق الحسن قد أفرغ فيه الذهب المضروب والتبر الخالص افرغا، وفي وسط المسجد الكريم، التربة المقدسة تربة الخليل أبينا إبراهيم ﵇ قد جن بها من الشماعات العظام المذهبة والأستار المكللة المطرزة والمصابيح البديعة المموهة كل حسن رائق رائع، وإمامه ضريح زوجه رضوان الله عليها وتجاه ذلك من الجانب الجوفي قبة أخرى عظيمة القدر متناهية الإتقان تحتها ضريح النبي يعقوب ﵇ وأمامه زوجه رضى الله عنها وتحتها طبقة وقبة فيها ضريح النبي يوسف الصديق ﵇ والأستار المدبجة والرسوم المذهبة بأسمائها المباركة على جميعها والله ﷾ أعلم بصحة ذلك كله وما بين المسجد الكريم والقبة الجوفية صحن عظيم كبير جدا فيه في المسجد أيضا هو مجتمع الواردين والمقيمين من الأغنياء والفقراء والأمراء والكبراء للضيافة المباركة ضيافة لخليل ﵇ في كل يوم بعد صلاة العصر على توالي أحقاب الدهر وفيه حضرتها مع جملتهم متبركا بذلك ثم اختلفت إلى لقاء الفضلاء وأخذت عمن بذلك القطر المبارك من العلماء، منهم شيخ الوقت سناء وسنا وعلما ودينا الشيخ العالم الصالح شمس الدين أبو عبد الله محمد بن كافل الشافعي ﵁ شيخ العلم والوقار ومحل المناقب المغرسة في أرفع البقاع وأمنع القرار وأهل المكارم السنية الأنوار السنية الآثار نزيه الأحوال نبيه القدر زكي الخلال ما عرى من أثواب عفاف ولا تعطل من حلى برو إنصاف له الحكم الظاهرة والنباهة الحاصرة والنزاهة التي أذعنت لها الدنيا وترجى لها الآخرة فما قيس ابن عاصم منه بأحلم ولا عبد الرحمن بن القاسم بأعلم، ولا الأغلب ممن سالم بأجل في النفوس وأعظم ولي القضاء بعدما أكره عليه وجذب راغم الأنف إليه، فلم يعلق به طبع ولا زال من الزهد والورع بمرئي ومسمع ثم نبذ الأمر وخلاه، وأسلمه لمن ولاه، تخلى هو لعباده مولاه فهو الآن بذلك المسجد العظيم والمقام النيير الكريم لا يفتر من العبادة ولا يدخل منزله إلا للعادة، الله أكبر حين تسئله وحي على الفلاح. سمعت من لفظه هناك بين المنبر والمحراب أجزاء غير واحدة واستفدت في مجلسه غير ما فائدة وسألته عن أشياخه فأخبرني أنهم جماعة كبيرة منهم الشيخ الزاهد أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد الرقي الشافعي نزيل دمشق رحمه الله تعالى سمع عليه كثيرا وأنشدني لنفسه:
وصل الحبيب لسم الهجر ترياق ... وقربه لأسير البين إطلاق
أما السلو فدين لا أدين به ... وكيف يسلو عن الأحباب عشاق
أم كيف يجمل في سلوى جمالكم ... وبيننا في الهوى عهد وميثاق
قلبي القريح عليكم حشوه حرق ... ولوعة وصبابات وأشواق
لا غروان كان قلبي شيقا قلقا ... قلب المحب إلى الأحباب تواق
ان أبعدوني فأهل للبعاد وان ... هم قربوني فان القلب مشتاق
1 / 44