ومما شهدت من المواضع المعظمة مشهد الإمام أبو عبد الله الشافعي ﵁ وهو مسجد عظيم القدر ومتناهى الاحتفال، مفرط الاتساع، يصل داخله إليه بعد دخول أربعة أبواب هائلة حافلة بين كل باب وباب فضاء واسع، ومدى بعيد، والمسجد كله قبة كبيرة فائقة الحسن، فائقة الصنعة، نادرة الاختراع فيها من الذهب الخالص والتبر المسبوك ما يغشى الأبصار ويذهل الألباب ويفوت وصف الواصفين قد حار فيها أهل حران وأربت على مباني سجستان ونجران، وصارت غاية السمو والإتقان وانعطفت بما يفضل معاطف التيجان الفائتة باقترانها لاقتران حواجب القيان، وتحتها في وسط المسجد المبارك الضريح المكرم له من الرخام المجزع، الموضع والشبابيك المفضضة المذهبة الأستار، المدبجة المطرزة، والشمع الأبيض أمثال السواري العظام على قواعد الذهب والفضة ما يقصر عنه الوصف، ويحار فيه العقل، وبازائه قبور جله كرام، وعند رأس المشهد المكرم سارية من الرخام الأبيض منقوش بالخط الحسن ما نصه وان ليس للإنسان إلا ما سعى، وان سعيه سوف يرى، ثم يجزيه الجزاء الأوفى هذا قبر السيد الإمام أبى عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد زيد بن هشام بن المطلب ابن عبد المناف جد النبي ﷺ ولد ﵁ سنة خمسين ومائة وعاش إلى سنة أربع ومائتين ومات يوم الجمعة آخر يوم رجب من السنة المذكورة ودفن من يومه بعد العصر ﵁ وأرضاه آمين وعند منتهى القبلة من داخلها مكتوب في الدائرة بالخط العجيب والذهب الرائق ما نصه بسم الله الرحمن الرحيم:
الشافعي أمام الناس كلهم ... في العلم والحلم والعلياء والبأس
أصحابه خير أصحاب ومذهبه ... خير المذاهب عند الله والناس
له الإمامة في الدنيا مسلمة ... كما الخلافة في أولاد عباس
والسلام، ومما كتب في القبة المذكورة من نظم شرف الدين ابن عبد الله الدلاصي البوصيري:
بقبر الإمام الشافعي سفينة ... رست من بناء محكم فوق جلمود
وقد غاض طوفان العلوم بقبره ... فقل استوي فلك الضريح على الجودي
ومما أنشدني هناك بعض الفضلاء لبعضهم ﵃ أجمعين:
زرت الإمام الشافعي ولم أكن ... يوما زيارة قبره بالتارك
ووجدت مولاي الحبيب يزوره ... وظفرن عند الشافعي بمالك
وبازاء هذا المسجد العظيم مدرسة مختلفة الصنعة سامية المنية أعظم المدارس اتساعا وأعلاها سموا وارتفاعا فيها من المنازل الرفيعة والرواتب الموقفة، والمياه الجارية، ما يقر بالعين ويملأ اليد بالمين ويريك ذوائب الذهب في سبابيك اللجين، قرأت بها وبالمسجد الأعظم المذكور وسمعت من كتب الحديث النبوي تآليف جملة على إمام ذلك المقام الشافعي المعظم ولي الله تعالى الكريم عليه المتوجه إليه الشيخ العالم الصالح تقي الدين أبى التقى صالح بن مختار بن صالح بن أبى الوارس الأسندي ﵁ هو من أحد المتقين وعباد الله المخلصين قد سما بجلالة قدره ونبذ الدنيا وراء ظهره، ووضع الله له البركة في عمله وعمره، فظل يقطع ليله مستعبرا، ويهش للجميل مبتدرا، عالما انه سيحمد عند صباحه السرى فحافظ على السنن وانتهج أقوم السنن، واعتصم من الطاعة باوقى الجنن، حتى كأنه أبو حازم، أبو الحسن، له علو ومعرفة في الرواية، وإمامة كبيرة في العلم والدراية، ومراتب علية في الزهد والولاية، وكرامتها عند الخالق أعظم الدرجات وأكرم العناية، وقد حيل الله النفوس على مودته والقلوب على محبته وأنشدني:
وإذا أحب الله يوما عبده ... ألقى عليه محبة الناس
1 / 37