إذا وقعت النطفة في الرحم وهي ماء مهين، ثم تصير بشرا سويا ذا حواس وجوارح وأعضاء وعروق وأعصاب، وتراكيب عجيبة باطنة وظاهرة، وتأليفات بين العظام بديعة، وعضلات متصرفة، ثم ينقله من حال إلى حال، والتدبير العجيب فيه بعد الخروج إلى أن يصير شيخا، فإذا بلغ العاقل وتفكر فيه علم أنه لم يحصل ذلك بفعل آبائهم وأمهاتهم، ولا بفعل أمثالهم من الأجسام ضرورة، وعلم أنه لم يحصل بفعل نفسه؛ لأنه مع كمال حاله وعلمه وقدرته، لا يقدر على تسوية معوج من بدنه، أو تعديل زيادة أو نقصان، أو تغيير صورة، ففي حال كونه نطفة أولى أن لا يقدر، فعلم عند ذلك أن له صانعا مخالفا للأجسام.
ولما أورد مشايخنا هذه الحجة على الدهرية، ذهبوا في التحيز كل مذهب، وتهوسوا بأباطيل جمة، فمنهم من قال: إنما يحصل كذلك لقوة في النطفة أو في الرحم، ومنهم من قال: هناك قالب، وغير ذلك من اختلاف كثير منهم فيها، فذكر مشايخنا أن جميع ذلك باطل؛ لأن في أول الحال جميع ذلك حاصل، ولا يحصل الولد وإنما يحصل على الترتيب والتدريج، فعلم أنه من فعل قادر يفعل كما يشاء، عالم بالنظام مختارا يفعل متى شاء على التدريج والترتيب.
ويقال لهم: أليس المني شيئا واحدا، ثم إذا صار بشرا تحصل فيه أعضاء مختلفة، وصور عجيبة، وحواس جمة، وعروق، وأعصاب، ودماء، وشعور.
مخ ۴۸