والدليل أيضا على أن البحر على الرمل أن الأرضين كلها عذبة المذاق، فان وقف الماء امتنع الهواء وصير فى ذلك الموضع ماء محصورا لم يصعده الهواء وغلبت عليها أجزاء الأرض فملحت التربة وجمدت أولا فأولا، فان الطين الحر فى الأنهار العذبة لسلولة الماء وللطافته، فاذا غلب على الماء يبس الأرض صار الماء من جنس الأرض أو قريبا من ذلك فكدس كل واحد منهما صاحبه ثم دام اليبس بدوام ثبات الأرض ووقوف الماء يفصل أجزاء الطين صغارا صغارا، فلذلك صارت تربة البحار كلها رملية وكذلك البرارى إذ ليس لها ستر من الشمس وهى بعيدة من الماء العذب ونشفت الشمس أجزاء الرطوبة العذبة وبقى ما كان من جنس الأرض. ولما دامت الشمس فى هذا الموضع وكان غير مستتر تفصل أجزاء الطين وكان منه الرمل. ويستدل على ذلك الموضع أيضا أنا إذا عمقنا الحفر، أصبنا هناك الطين الحر فيعلم أن ذلك أصله وإنما ترمل بالعرض الداخل عليه، أعنى دوام حركة الشمس وبعد المواضع من المياه العذبة. وكذلك أقول فى ملوحة ماء البحار إن أصلها كلها الماء العذب، وإنما تعرض لها الملوحة لما وصفنا. والدليل على ذلك أن المشاهد يدل على الأرض أنها تحت الماء، والماء فوقها اضطرارا بالطبيعة. فان قال قائل إن الأعم من كل شىء أكثره، وأكثره ماء البحار، فالبحار هى العنصر لجميع الماء و[هو] الماء الطبيعى فوق الأرض بطبعه؛ وقد بينا أن الماء هو أبعد بعد الأرض من العلو لجرم الماء. فلنأخذ إنائين معتدلين فى القدر ونصب فيهما ماء مالحا وماء عذبا؛ ثم نأخذ بيضة فنصيرها فى الماء العذب فتغرق، ثم نصيرها فى الماء المالح فيظهر بعضها فوقه، فقد علا جرم الماء المالح لأن أجزاءه لا تكاد تغرق كأجزاء الماء العذب، واحتمل فضلة أجزاء ذلك الثقل فلم يغرق. وكذلك البحيرة الميتة لا يغرق فيها حيوان ولا يتولد فيها حيوان لغلبة اليبس والقرب من شكل الأرض. فقد وضح أن الماء المتكاثف أسفل من الماء الذى هو غير متكاثف، لأن التكاثف من جنس الأرض والتخلخل من جنس الهواء. ومن هنا صار الماء العذب فوق المياه كلها، وفهو أبعدها. وقد أعلمنا أن أبعد المياه من الأرض هو الماء الطبيعى. وقد تبين أن الماء العذب فوق المياه كلها، فيستدل على أنه الطبيعى اضطرارا، وكذلك كون الملح فى السباخ هو أن الماء العذب يكون مالحا، تنشف ملوحة الأرض تلك الملوحة فيبقى الهواء منحصرا، فلا يكون لذلك الجرم الذى نشف عذوبته. وهكذا كون المياه لما يكون منها بالعرق.
مخ ۲۶۸