وقد قدمنا العلة لظهور الأنهار والعيون فى «الكون العلوى» بأن الزلازل قد تظهر أنهارا وعيونا لم تكن قبل ذلك عند انشقاق الأرض بالبخار، فتظهر العيون والأنهار؛ وقد تخفى العيون والأنهار إذا كانت الزلزلة منقلبة. فأما النبات فلا يعرض له ذلك، لأن الهوائية فى تخلخل أجزائه. والدليل على ذلك أن الزلزلة لا تكون فى الرمال، وإنما تكون فى الأجرام الصلبة، أعنى مواضع المياه والجبال. وكذلك الزلازل تكون غالبة فيها، لأن الماء مصمت والأحجار مصمتة، ومن شأن الهواء الحار اليابس أن يتصاعد. فاذا اجتمعت أجزاؤه قوى فشق الموضع فخرج منه ذلك البخار. فلو كان متخلخلا لخرج أولا فأولا. فلما كان مصمتا لم يتهيأ للبخار أن يخرخ أولا أولا فاجتمعت أجزاؤه وقوى فخرق الموضع أوشقه فهذه علة الزلزلة فى الأجرام المصمته. ولذلك كان الحيوان والنبات لا تكون فى أجزائه الزلزلة؛ فأما فى سائر الأشياء فتكون الزلزلة — وقد نجد ذلك فى الخزف والزجاج وسائر المعادن كلها. فأما ما كثر تخلخله فمن شأنه أن يعلو، لأن الهواء خلخله. وقد يشاهد ذلك إذا رمى شىء من الذهب وغيره فيغرق من ساعته؛ ويرمى بكل خشب متخلخل فلا يغرق. فليس من أجل الوزن غرق (الذهب) ولا من الثقل، ولكن غرق لأنه مصمت. فأما المتخلخل فلا يغرق بتة، ولذلك صار خشب الأبنوس وما قرب من شكله يغرف لأن التخلخل فيه يسير ولا يكون الهواء يشيله إلى العلو فيغرق، لأن أكثر أجزائه مصمتة. فأما الأدهان كلها والورق فتطفو فوق الماء كلها. وقد بينا ذلك، لأنا قد علمنا أن فى الدهن والورق رطوبة وحرارة، ومن شأن الرطوبة أن تلحق بأجزاء الماء، ومن شأن الحرارة أن تلحق بأجزاء الهواء، ومن شأن الماء أن يحملها إلى بسيطه، ومن شأن الهواء أن يعليها ولذلك صار بسيطا لا يعلو عليه الماء، لأن بسيط الماء كله واحد، فلذلك علا الدهن فوق الماء. وأما الحجارة التى تطفو فوق الماء فان الخلل الذى فيها أكثر من مقدار أجزائها، فيكون موضع الهواء أكثر من مقدار جرم الأرض، ومن شأن الماء أن يعلو فوق الأرض، ومن شأن الهواء أن يعلو فوق الماء، ومن شأن الحجارة التى هى من جنس الأرض أن ترسب فى الماء، ومن شأن الهواء الساكن فى الحجارة أن يتصاعد من الماء إلى العلو. فكل واحد منها يجذب صاحبه بخلاف طبع صاحبه؛ فان كانا متكافئين ثبت نصف الحجر فوق الماء ونصفه فى الماء. وإن كان الهواء أكثر، طفا الحجر فوق الماء، وكذلك جميع الأحجار تفعل. فأما الأحجار التى تتولد فى البحر عند اضطراب الموج، فان الموج إذا اضطرب بعضه ببعض اضطرابا شديدا كثر زبده وانعقد كاللبن، فاذا ضرب الموج الرمل جمع لزوجة الزبد ذلك الرمل، فاذا طال به الزمان على هذا تولدت منه الأحجار.
مخ ۲۶۶