البناء، فإذا ترقَّت أو انحطَّت الأمة ترقَّت هيئتها الاجتماعية، حتى إنَّ حالة الفرد الواحد من الأمّة تؤثِّر في مجموع تلك الأمة. كما إذا لو اختلَّت حجرة من حصن يختلُّ مجموعه وإنْ كان لا يشعر بذلك، كما لو وقفت بعوضة على طرف سفينة عظيمة أثقلتها وأمالتها وإنْ لم يُدرَك ذلك بالمشاعر. وبعض السياسيين بنى على هذه القاعدة: أنَّه يكفي الأمة رقيًّا أن يجتهد كلُّ فرد منها في ترقية نفسه بدون أن يفتكر في ترقّي مجموع الأمة.
الترقّي الحيوي الذي يجتهد فيه الإنسان بفطرته وهمّته هو أولًا: الترقّي في الجسم صحّةً وتلذُّذًا، ثانيًا: الترقّي في القوّة بالعلم والمال، ثالثًا: الترقّي في النفس بالخصال والمفاخر، رابعًا: الترقّي بالعائلة استئناسًا وتعاونًا، خامسًا: الترقّي بالعشيرة تناصرًا عند الطوارئ، سادسًا: الترقّي بالإنسانية، وهذا منتهى الترقّي.
وهناك نوعٌ آخر من الترقّي ويتعلق بالروح وبالكمال، وهو أنَّ الإنسان يحمل نفسًا ملهمة بأنَّ لها وراء حياتها هذه حياةً أخرى يترقّى بها على سلّم العدل والرحمة والحسنات. فأهل الأديان -ما عدا أهل التوراة- يؤمنون بالبعث أو التناسخ، فيأتون بالعدل والرحمة رجاء المكافأة أو خوف المجازاة، وهم من قبيل الطبيعيين يعتبرون أنفسهم مدينين للإنسانية بحفظها تاريخ الحياة الطبيعية، فيلتزمون بخدمتها اهتمامًا بحياتهم التاريخية بحُسن الذّكر أو قبحه.
وهذه الترقّيات، على أنواعها الستّة، لا يزال الإنسان يسعى وراءها ما لم يعترضه مانع غالب يسلب إرادته، وهذا المانع إمَّا هو القدر المحتوم، المسمّى