اختلف في الأمر بشيء، هل هو أمر بذلك الشيء أم لا؟ فقيل إنه أمر بذلك الشيء، وقال البدر الشماخي -رحمه الله تعالى - وجمهور العلماء: إنه ليس بأمر بذلك الشيء، وهذا القول هو القول الأصح؛ لأن الدليل عليه واضح، وذلك أنه لو كان الأمر بالأمر بالشيء أمرا بذلك الشيء، للزم التناقض، فيما إذا قلت لأحد مر فلانا أن يفعل كذا، وقلت لفلان لا تفعل ذلك، ونحن نقطع أنه لا تناقض هنالك، وهذا معنى قول الناظم؛ لأنه يصح نهي من أمر بأمره إلخ، ولما صح أن نهي من أمرنا بأمره، ولم يكن في نهينا له مناقضة لأمرنا بأمره، علمنا أن أمرنا بأمره بشيء ليس أمرا بذلك الشيء، ولو كان ذلك أمرا له لناقض نهينا له، (وأيضا) فلو كان الأمر بالأمر بالشيء أمرا بذلك الشيء، للزم عليه أن يأثم من قال لسيد العبد مر عبدك أن يفعل كذا؛ لأنه بذلك آمرا للعبد، فيلزم عليه التعدي، فيترتب عليه الإثم، وهذا اللازم باطل قطعا، فكذا الملزوم، استدل القائلون بأن الأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء، بأمر الله تعالى لنبيه أن يأمر العباد بالانقياد وترك العناد ونحو ذلك من الأوامر، وبأمر السلطان وزيره، أن يأمر الرعية بشيء، للقطع بأن من خالف أمر النبي مخالف لأمر الله، وكذا من خالف أمر الوزير الصادر عن أمر السلطان، فهو مخالف للسلطان، قلنا إنما وجب ذلك بقرينة لا لنفس الأمر، فأما القرينة في الأول، فقوله تعالى: { ومن يطع الرسول فقد أطاع الله } { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } ونحوهما من الآيات، وأما القرينة في الثاني، فهو أن عادة الملوك، جرت بينهم بجعل الواسطة بينهم وبين الرعايا في أوامرهم، ولذا يعاقبون على ترك أمر واسطتهم، ويحسنون إلى من تبع أمرها، فعلم من هذه العادة؛ أن تلك الواسطة مبلغ لأمر السلطان، فالمأمور ابتداء هم الرعية، لا الواسطة، والواسطة في تبليغ الأمر، كأدلة للشيء، وكالكتاب المترجم ما بين المتكاتبين، حاصل المقام؛ أن لا نمنع من أن يكون
الأمر بالأمر بالشيء، أمرا بذلك الشيء، إذا دلت القرينة على ذلك، وإنما نمنع ذلك عند عدم القرائن، لما تقدم من الأدلة والله أعلم. ولما فرغ من بيان مدلول الأمر المفرد، أخذ في بيان الأمر المكرر، فقال:
مخ ۵۹