ولقائل أن يقول : إنه لم يكرر لفظة الخنوع ، وإنما ذكر أولا الإذعان ، وهو الإنقياد والطاعة ، ومعناه أنهم سجدوا ، ثم ذكر الخنوع الذي معناه الخضوع ، وهو يعطي معنى غير المعنى الأول ، لأنه ليس كل ساجد خاضعا بقلبه ، فقد يكون ساجدا بظاهره دون باطنه . وقول الراوندي : أفاد بالثاني ثباتهم على الخضوع له لتكرمته أبدا تفسير لا يدل عليه اللفظ ، ولا معنى الكلام .
ثم قال : قبيل إبليس نسله ، قال تعالى : ' إنه يراكم هو وقبيله ' ، وكل جيل من الإنس والجن قبيل . و الصحيح أن قبيله نوعه ، كما أن البشر قبيل كل بشري ، سواء كانوا من ولده أو لم يكونوا . وقد قيل أيضا : كل جماعة قبيل وإن اختلفوا ، نحو أن يكون بعضهم روما وبعضهم زنجا ، وبعضهم عربا ، وقوله تعالى : ' إنه يراكم هو وقبيله ' لا يدل على أنهم نسله .
وقوله بعد : وكل جيل من الإنس والجن قبيل ، ينقض دعواه أن قبيله لا يكون إلا نسله .
ثم تكلم في المعاني فقال : إن القياس الذي قاسه إبليس كان باطلا ، لأنه ادعى أن النارأشرف من الأرض ، والأمر بالعكس ؛ لأن كل ما يدخل إلى النار ينقص ، وكل ما يدخل التراب يزيد . وهذا عجيب ! فإنا نرى الحيوانات الميتة إذا دفنت في الأرض تنقص أجسامها ، وكذلك الأشجار المدفونة في الأرض ؛ على أن التحقيق أن المحترق بالنار وبالتالي لم تعدم أجزاؤه ولا بعضها ، وإنما استحالت إلى صور أخرى .
ثم قال : ولما علمنا أن تقديم المفضول على الفاضل قبيح ، علمنا أن آدم أفضل من الملائكة في ذلك الوقت وفيما بعده .
ولقائل أن يقول : أليس قد سجد يعقوب ليوسف عليه السلام ! أفيدل ذلك على أن يوسف أفضل من يعقوب ! ولا يقال : إن قوله تعالى : ' ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا ' ؛ لا يدل على سجود الوالدين ؛ فلعل الضمير يرجع إلى الإخوة خاصة لأنا نقول : هذا الاحتمال مدفوع بقوله : ' والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ' ، وهو كناية عن الوالدين .
وأيضا قد بينا أن السجود إنما كان لله سبحانه ، وأن آدم كان قبلة ، والقبلة لا تكون أفضل من الساجد إليها ، ألا ترى أن الكعبة ليست أفضل من النبي عليه السلام ! الأصل : واصطفى سبحانه من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم ، وعلى تبيلغ الرسالة أمانتهم ، لما بدل أكثر خلقه عهد الله إليهم ، فجهلوا حقه ، واتخذوا الأنداد معه ، واجتالتهم الشياطين عن معرفته ، واقتطعتهم عن عبادته ، فبعث فيهم رسله ، وواتر إليهم أنبياءه ، ليستأدوهم ميثاق فطرته ، ويذكروهم منسي نعمته ، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ، ويثيروا لهم دفائن العقول ، ويروهم آيات المقدرة ؛ من سقف فوقهم مرفوع ، ومهاد تحتهم موضوع ، ومعايش تحييهم ، وآجال تفنيهم ، وأوصاب تهرمهم ، وأحداث تتابع عليهم .
مخ ۷۴