ولقائل أن يقول : إنه ليس في فحوى كلامه أنه أمر غيره أن يحمد الله ، وليس يفهم من قول بعض رعية الملك لغيره منهم : العظمة والجلال لهذا الملك أنه قد أمرهم بتعظيمه وإجلاله . ولا أيضا في الكلام ما يدل على أنه ثابت على ذلك مدة حياته ، وأنه يجب على المكلفين ثبوتهم عليه ما بقوا .
ولا أعلم كيف وقع ذلك للراوندي ! فإن زعم أن العقل يقتضي ذلك فحق ؛ ولكن ليس مستفادا من الكلام ، وهو إنما قال : إن ذلك موجود في الكلام .
فأما قوله : لو كان قال : أحمد الله لم يعلم منه جميع ذلك ، فإنه لا فرق في انتفاء دلالة أحمد الله ، على ذلك ودلالة الحمد لله ، وهما سواء في أنهما لا يدلان على شيء من أحوال غير القائل ، فضلا عن دلالتهما على ثبوت ذلك ودوامه في حق غير القائل . وأما قوله : الله أخص من الإله ، فإن أراد في أصل اللغة ؛ فلا فرق ، بل الله هو الإله وفخم بعد حذف الهمزة ، هذا قول كافة البصريين ، وإن أراد أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون على الأصنام لفظة الآلهة ، ولا يسمونها الله فحق ، وذلك عائد إلى عرفهم واصطلاحهم ، لا إلى أصل اللغة والاشتقاق ؛ ألا ترى أن الدابة في العرف لا تطلق على القملة ، وإن كانت في أصل اللغة دابة ! فأما قوله : قد أظهر العجز عن القيام بواجب مدائحه فكيف بمحامده ! فكلام يقتضي أن المدح غير الحمد ، ونحن لا نعرف فرقا بينهما ، وأيضا فإن الكلام لا يقتضي العجز عن القيام بالواجب ، لا من الممادح ولا من المحامد ؛ ولا فيه تعرض لذكر الوجوب ، وإنما أن يبلغ القائلون مدحته ، لم يقل غير ذلك .
وأما قوله : الذي حقت العبادة له في الأزل واستحقها حين خلق الخلق ، وأنعم بأصول النعم ، فكلام ظاهره متناقض ، لأنه إذا كان إنما استحقها حين خلق الخلق ، فكيف يقال : إنه استحقها في الأزل ! وهل يكون في الأزل مخلوق ليستحق عليه العبادة ! .
واعلم أن المتكلمين لا يطلقون على البارئ سبحانه أنه معبود في الأزل أو مستحق للعبادة في الأزل إلا بالقوة لا بالفعل ، لأنه ليس في الأزل مكلف يعبده تعالى ، ولا أنعم على أحد في الأزل بنعمة يستحق بها العبادة ، حتى إنهم قالوا في الأثر الوارد : يا قديم الإحسان : إن معناه أن إحسانه متقادم العهد ، لا أنه قديم حقيقة ، كما جاء في الكتاب العزيز : ' حتى عاد كالعرجون القديم ' ، أي الذي قد توالت عليه الأزمنة المتطاولة .
ثم قال الراوندي : والحمد والمدح يكونان بالقول وبالفعل ، والألف واللام في القائلون لتعريف الجنس ، كمثلهما في الحمد ، والبلوغ : المشارفة ، يقال : بلغت المكان إذا أشرفت عليه ، وإذا لم تشرف على حمده تعالى بالقول فكيف بوصول إليه بالفعل ! والإله : مصدر بمعنى المألوه .
ولقائل أن يقول : الذي سمعناه أن التعظيم يكون بالقول والفعل وبترك القول والفعل ، قالوا : فمن قال لغيره : يا عالم فقد عظمه ومن قام لغيره فقد عظمه ، ومن ترك مد رجله بحضرة غيره فقد عظمه ، ومن كف غرب لسانه عن غيره فقد عظمه . وكذلك الاستخفاف والإهانة تكون بالقول والفعل وبتركهما حسب ما قدمنا ذكره في التعظيم .
فأما الحمد والمدح فلا وجه لكونهما بالفعل ، وأما قوله : إن اللام في القائلون لتعريف الجنس ؛ كما أنها في الحمد كذلك فعجيب ؛ لأنها للاستغراق في القائلون لا شبهة في ذلك كالمؤمنين والمشركين ، ولا يتم المعنى إلا به ؛ لأنه للمبالغة ، بل الحق المحض أنه لا يبلغ مدحته كل القائلين بأسرهم . وجعل اللام للجنس ينقص عن هذا المعنى إن أراد بالجنس المعهود ، وإن أرادالجنسية العامة ، فلا نزاع بيننا وبينه ، إلا أن قوله : كما أنها في الحمد كذلك ، يمنع من أن يحمل كلامه على المحمل الصحيح ؛ لأنها ليست في الحمد للاستغراق ، يبين ذلك أنها لو كانت للاستغراق لما جاز أن يحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا غيره من الناس ، وهذا باطل .
وأيضا فإنها لفظ واحد مفرد معرف بلام الجنس ، والأصل في مثل ذلك أن يفيد الجنسية المطلقة ، ولا يفيد الاستغراق ، فإن جاء منه شيء للاستغراق ، كقوله : ' إن الإنسان لفي خسر ' ، وأهلك الناس الدرهم والدينار ، فمجاز ، والحقيقة ما ذكرناه . فأما قوله : البلوغ المشارفة ، يقال : بلغت المكان إذا أشرفت عليه . فالأجود أن يقول : قالوا : بلغت المكان ؛ إذا شارفته ؛ وبين قولنا : شارفته ، وأشرفت عليه فرق .
مخ ۴۵