الغاية إلى شرح كتاب الحماسة، واجتهدوا في غير نفاسة فأفادوا وأجادوا، غير أنهم مدوا أطناب الأطناب، وأسباب الإسهاب، وخير الكلام ما قل ودل، ولم يطل فيخل، فاستخرت الله تعالى في تجريد هذا المختصر من الاختيارات كالمعتصر".
وهذا الذي أدركه سبط ابن الجوزي في عقود النصف الأول من القرن السابع أدركه المصنف في عقود النصف الأول من القرن الخامس وأدركه كذلك جماعة آخرون منهم -كما مر علينا في الكتاب الأول- صاحب الشرح المنسوب بالخطأ إلى أبي العلاء المعري، وأمين الدين الطبرسي المتوفى سنة ٥٤٨ هـ، وأبو الرضا الراوندي المتوفى بعد سنة ٥٤٩ هـ.
وطبيعي أن هذا الإدراك عند هؤلاء العلماء وغيرهم ممن جنح إلى الاختصار والتسهيل لم يقع إلا بعد أن وقفوا على أعمال السابقين. وبخاصة رجال القرن الرابع الذين جعلوا من شروحهم مجالا واسعًا يناقشون فيه قضايا اللغة والأدب والنحو والبلاغة والنقد والرواية والأخبار، فتجاوزوا النص الأدبي الذي ضمه اختيار الحماسة إلى قضايا مسهبة تتصل بالأخبار ومناسبات الشعر كما فعل أبو رياش أو مشاكل لغوية ونحوية كما فعل ابن جني وأبو العلاء ومن بعدهما العكبري أو تأويلات متعددة لمعاني الشعر كما فعل أبو عبد الله النمري، وكل هذه أمور مع قيمتها العلمية وفوائدها الجمة للدارس المتخصص تحرم قاريء الأدب البحث من متعة معايشة النص وفهمه، بل إن هؤلاء الشراح وكما سبق أن أوضحنا في الكتاب الأول "الموازنة بين الشروح" قد جعلوا من اختيار الحماسة مجالًا لإبراز قدراتهم في فرع من فروع العلم، فالاخباري ينظر إلى النص الأدبي من خلال ما يستوعبه من أخبار، واللغوي ينظر إليه من خلال ملكاته اللغوية وقدرته على الاشتقاقات وإيراد النظائر في المعاني وما يطابقها من محفوظه اللغوي، وما يدل على ذلك من شواهد من القرآن الكريم أو الشعر العربي القديم أو كلام العرب الموروث، والنحوي ينظر إليه من خلال مواهبه النحوية التي تتصدى لعويصات المشكلات فيفرغ جهده في الإعراب وما يتصل به من استدلالات حتى ليخيل إليك أنك تقرأ كتابا في النحو لا كتابًا في الادب اختاره شاعر أديب.
2 / 38