260

ساعتونه د کتابونو ترمنځ

ساعات بين الكتب

ژانرونه

لكن ليس هذا كل ما يؤسف له من أمر هذا التمثال الأبتر من جهات كثيرة؛ فقد بترت ذراعاه وبترت تواريخه كلها، فلا يعلم له صانع ولا زمان صناعة، ولا يعلم عنه الآن إلا أنه تمثال الزهرة، وأنه وجد في جزيرة «ميلو» في شهر مارس سنة 1820.

إلا أن البقية الباقية منه كافية للدلالة على حقيقته الكبرى: وهي نظرة الفن الإغريقي إلى الجمال الأنثوي، والمقابلة بين هذه النظرة الإغريقية وبين أشباهها من النظرات في مختلف العصور والأمم، فلو أن مثالا مأخوذا بالمراسم التي قررتها التقاليد، وسجلتها تشبيهات العرف الذائع، عمد إلى نموذج الجمال الأنثوي ليصوره على أحسنه وأرشقه لكان الأغلب الأرجح أنه يدق من خصره، ويرفه من خلقته على الجملة؛ ليجيء على وفاق الصورة التي توهمها المترققون المتظرفون للمرأة الحسناء في حقيقتها، وإنما صور لنا الأجزاء كما يفهمون كل جزء منها على حدة، وجمع هذه الأجزاء فإذا هي امرأة يتخيلها المتخيل، ولا تنفعه في فهم جمال المرأة حق المنفعة؛ لأنه إذا قاس عليها الحسان قد ينكر منهن الجميلات اللواتي لا عيب فيهن إلا أنهن يخالفن ذلك الخيال.

أما النظرة الإغريقية فجمال المرأة فيها هو جمال الطبيعة وجمال الصحة، وهو الجمال الذي إذا نظرت إليه تمثلت لك المرأة في جميع حالاتها، أما مدبرة ومعشوقة ومدللة، ولم تتمثل لك زينة فحسب، تراها فتعجب أن تكون هذه أما مع ما فيها من الوهى، والرقة، والدلال الغالب على كل وسم وشارة.

بلاد الحياة والموت والأديان

القارة الآسيوية أرض حافلة بأسباب الحياة، حافلة بأسباب الموت، وهي لهذا كانت أرضا حافلة بالأرباب والشياطين، وكان سلطان الدين فيها أقوى ما عرف في نفوس بني الإنسان.

بلاد شاسعة الأطراف فيها من النبات صنوف ومن الحيوان صنوف، فيها البطاح تغمرها الغياض والآجام والكلأ الجميم والعشب المريع، وفيها الثمار من كل فاكهة ألوان، والأمواه تجري في السهول والجبال، والمعادن في جوف الأرض على مقربة من تناول الفحص اليسير والعلم القليل، وفيها الأقاليم الواسعات يجتمع لها ما تفرق في أقاليم الأرض من الزرع والحيوان، وتجوس خلالها أسراب الطير والأوابد على اختلاف في الأقدار والطبائع والأشكال، والدواب ميسرات لمن يخرج إلى العراء ويصيد ويروض، والطعام من فاكهة الأرض ومن لحوم الأطيار والأسماك والأنعام غير ممنوع ولا مضنون به على الطالبين، فها هنا البركة والرضوان والخير الموفور وأرباب الرحمة والرخاء التي تؤتي عبادها كل ما يشتهون.

وبين هذه الخيرات والنعم آفات لا حصر لها ولا علم لأحد هنالك بما يسوقها على الناس وما يدفعها، فالبطاح تضربها الشمس في الصيف فهي جهنم، ويثقلها الثلج في الشتاء فهي زمهرير، والبراكين تخسف الأرض وترفعها فتغيض البحار وترتفع الأطواد، ويندك ما كان شامخا ويشمخ ما كان في القرار الخفيض، والأمواه والأودية تخالطها السموم مما ينتشر فيها وعليها من الدواخين والمعاطب، فلا يعبرها حيوان إلا هلك، ولا تنبت فيها نابتة إلا ذوت، ولا يلم بها إنسان إلا على وجل يتلمس النجاة، والهوام ساعيات بالأذى، والأوابد ضاريات لا يحسبن لأبناء آدم حسابا، والوباء يشيع حيث يشيع فلا علاج له ولا وقاء منه، والمرء يتلفت حوله فلا يعلم من أين يجيئه الموت ومن أين ينشد السلامة، فكل مهلكة عنده شيطان مارد وكل مصيبة تعتريه دسيسة من عالم مجهول، ولا حيلة له في كل ذلك إلا الصلوات والتعاويذ والقرابين، وإلا أن يلوذ بمن هم على صلة بالأرباب والشياطين، ومعرفة بمواقع الغضب منهم والقبول؛ عسى أن يمشوا بينه وبينهم بالشفاعات والمعاذير.

إذا وبئت الأرض فمات من عليها من الحيوان قال لك العلم الحديث: إنه غاز الفحم ينتشر فويقها فيموت فيه كل متنفس، وإذا وبئ البحر فمات من فيه من الحيوان، قال لك العلم الحديث: إنه سلفيد الهيدروجين ينشأ من بعض الأملاح المتحللة، فيبعث ريح الموت في طباق الموت غورا بعد غور، وإذا لم يكن «علم حديث» فماذا يقول الإنسان صاحب الجهل القديم؟ لا يقول إلا أن الوادي استولى عليه روح الشر، ونزلت به لعنة الأرباب، ولا يعرف الخلاص إلا على يد كاهن أو ساحر هو في عرفه نصف شيطان ونصف إله، وإذا غبرت الدهور على ذلك مائة سنة بعد مائة أخرى بعد ألف سنة بعد ألف أخرى بعد آلاف وآلاف بلا أول لها معروف، فلا جرم يكون فن الكهانة قد بلغ الغاية من الإتقان، وقد أصبح أهله أساتذة مبرزين في اللعب بالحواس والعقول والسيطرة على الضمائر والأخلاد، بل لا جرم تكون لهم قدرة على ذلك يلعبون بها حتى بالعلم الحديث ورجال العلم الحديث! •••

الأستاذ «فرديناند أسندوسكي» عالم بولوني من علماء المعادن الذين أرسلتهم الحكومة الروسية قبل ثلاثين سنة إلى بلاد الروسيا الآسيوية للاشتراك في بعثة التنقيب عن المناجم ودرس ما يتصل بهذا الباب من شئون البحيرات والبقاع في تلك البلاد، ثم قضت عليه الشيوعية في سنة 1920 أن يعود إلى مواطن بحثه الأولى؛ هاربا بحياته متخفيا بين غدرات الطبيعة والناس، ملاقيا الموت في ألف طريق محتالا عليه بألف حيلة، حتى ليخيل إلى من يقرؤه أنه يقرأ قصة السندباد وهو ينجو من أخطار البحر ليقع في أخطار البر ويفلت من مخالب الرخاخ ليسقط بين براثن السباع، وإنما الفرق بين أعاجيب السندباد وأعاجيب الأستاذ أنك تقرأ في الأولى ما لا تصدقه، وتقرأ في الثانية ما هو خليق بالتصديق والأعاجيب التي تصدقها أعجب من تلك التي لا تصدقها وإن خيل إلى أناس أن الأمر على الخلاف، إذ لا غرابة ولا مشقة في تصورك ما لا يكون، ولكن الغرابة كلها في الشيء الكائن الذي يلقاه إنسان مثلك، وتلقاه أنت لو كنت في موضع ذلك الإنسان، فهذه هي الأعاجيب حق الأعاجيب، ومن أعجبها وأهولها قصة الأستاذ أسندوسكي، الذي عاش في مهربه كما تعيش الأوابد، بل عاش على قنص الأوابد من الأرض والماء والهواء، ولقي في جولاته قديمها وحديثها أناسا أكلوا زملاءهم في الطريق من سعار الجوع وضراوة التأبد في القفار، وأوى إلى الغيران بين الوحوش يتربص بها ليأكلها وتتربص به لتأكله ريثما يذوب الثلج المحيط به من كل مسلك، فلما أذن الثلج بالذوبان؛ إذا بالرعود القاصفة يجلجل بها الماء الذي كان محبوسا في القيعان فانطلق لا يلوي على شيء بما يجترف من الغابات والجثث والأنقاض، وإذا بالسجين الآدمي الذي أطلقه الربيع كما أطلق الماء الحبيس حائرا متحذرا يهاب من الآدميين ما لم يهبه من السباع والهوام، وإذا بالمآزق تنفرج له عن مثلها والمتالف تدفع به إلى شر منها، فلا يسلم من ريب أهل البلاد إلا لتقذف به الطريق إلى أعدائه الراصدين له بكل مرصد، ولا يجد الخيل للرحلة إلا ليفضي بها إلى أصقاع لا تطرقها الخيل، ثم لا يستعيض منها بالإبل حتى تخذله الإبل في بعض المصاعد والدروب، ثم لا يطمئن إلى المطايا حتى يحرن الدليل مخافة الشيطان الرابض في المفازة التي لا يجوزها من يسالم ذلك الشيطان، ولا يتصدى لحربه في عقر داره! وإذا نفعه العلم في مكان فهو وشيك أن يرديه في مكان آخر، فهو ها هنا ناصح خبير يمني الأماني ويتحدث بالكنوز والثروات، وهو ها هنا مطالب بأن يشفي المرضى ويصنع المعجزات لأنه عالم قدير، والعالم القدير لن يخفى عليه شيء ألا أن يكون بخيلا بعلمه أو مضمر السوء، وهكذا مما ليس يتخيله وليس يحيط به إلا من قرأ قصة الرجل في كتابيه اللذين كتبهما عن رحلته القديمة والحديثة، وتخللهما بالوصف الجميل لكل ما شهد من محاسن الطبيعة وأهوالها وعقائد الناس وتواريخهم، مما يندر مثله في نوادر الخيال وتلفيقات الأكاذيب. •••

كان لا بد للأستاذ أسندوسكي أن يغشى المعابد في تلك الرحلات المروعة، وأن يستجير بكهانها ومريديها، وأن ينفذ إلى بعض دخائلها ويطلع على بعض أسرارها، ولكنه مع كل علمه الحديث وخبرته الواسعة وشكوكه في الديانات لم يسلم من سلطان أولئك الكهان، ولم يكن شأنه معهم في إيرائه ما يريدون أن يراه، وإيهامه ما يريدون أن يتوهمه إلا كشأن أجهل الجهال من رحل البادية المنقطعين عن العمار، وخرج من آسيا حين خرج وهو نصف مؤمن بعقائدها الروحية بل بخرافاتها الموروثة التي كان يخشع لها وهو قد يعلم أسبابها ولا يخفى عليه تعليلها.

ناپیژندل شوی مخ