مديرسة ضاهت الجامعات بمن خرجت. لم أقل بمن أخرجت لأنها قائمة في العراء، ولا باب لها فيخرج منه. فحد الهيكل، في ظل السنديانة، كنا نقعد نتعلم. وإذا ما انهل المطر هرولنا إلى صحن الكنيسة، نقيم الدروس فيها إذا خلا «بيت الجسد» من القربان. أما إذا كان القربان «مصمودا»، وكم كنا نتمنى ذلك، فنكر إلى بيوتنا راكضين، كما تكر إلى أوطانها البقر ... وتسقط عنا كلفة المشي على الدرب مكتفين. كان يأمرنا المعلم ألا نلتفت يمينا وشمالا، فنسير وكأن كل واحد منا حصان عربة مكدون. علينا أن نمسي ونصبح كل من نراه على رمية حجر، ليقال إنا «تلاميذ مدرسة». أما تحية الظهر فكانت: المجد لله. وجوابها: دائما لله. وكثيرون كانوا يختزلون الرد فيكون «دائما» فقط ... ليستطيعوا رد سهامنا المتلاحقة، أما بوس يد الأب والأم والخال والعم، وكل نسيب حتى الدرجة الخامسة فكان من أقدس الواجبات ...
وأما مقاعدنا فكانت فروة شتاء، وعلى الأرض أو الحجارة صيفا، وللمعلم كرسي الكنيسة الدهري، وهو من خشب التوت المعمر، كان المعلم يجعل تلاميذه خطا مستقيما، حسب مرتبتهم العلمية، لكيما يصحح المتقدم خطأ المتأخر، ولا يعود إلى المعلم إلا كبش الكتيبة ...
وقبل أن نصف المدرسة وطلابها علينا أن نعرفك بالمعلم سيدها الجبار المسيطر، السحنة معروفة، فلا نستطيع تحديد الشخصية وتصويرها لأننا لا نتكلم عن واحد بعينه. فالمعلم يكون غالبا من أصحاب السمت، لباسه غنباز قاتم اللون، يشد وسطه بزنار يختلف عن الغنباز لونا، ولكنه يظل أميل إلى السواد محافظة على الأبهة والوقار. وإذا لم يكن المعلم ملتحيا فهو لا يحلق ذقنه إلا نادرا. عليه أن يظل معبسا ليدب الرعب في قلوب تلاميذه، فيحول تجهمه دون شيطنتهم. وكان يزيد في أبهته تلك، ذلك الطربوش المدور الأحمر - المغربي - الملفوفة عليه شملة سوداء من الحرير الخالص، ذات خطوط متواضعة اللون. أما «شرابة» طربوشه فحريرية زرقاء، خيطانها أنعم من صوف الهررة، وكثيرا ما كان يقترض منها الليقة لدواته النحاسية المشكوكة في زناره، تلك كانت سمة «المعلم» ولعل شرابة قبعة الجامعيين اليوم مأخوذة من هاتيك «الشرابة» ... ولا فرق بينهما إلا أن شرابة هؤلاء من قدام، وشرابة جامعة تحت السنديانة كانت من خلف.
كان بعض المعلمين يختنون تلك الشرابة، ومنهم من كان يجور عليها فيستأصل دابرها ... ولا يبقى إلا تلك الهناة التي تعلق بها، فتنتصب فوق قلة رأسه كأنها أصبع يشير إلى السماء موحدا المعلم ... الله أكبر.
يجلس على عرش غضبه، ومن حوله قضبان رمان، إذا مات منها سيد قام سيد ... فالرمانة حد الكنيسة، والسعيد منا من كان يكلفه المعلم قطع القضبان منها، متى استهلك ما عنده. أما «الفلق»، وهو شر ما خلق، فلا يلجأ إليه إلا في الجنايات الكبرى. أما الخيانة العظمى فتكون حين نضحك من المعلم إذا كان معوها، وكثيرا ما يكون ذا عاهة. كنا نصطف خطا مستقيما حد حيط الكنيسة، كما مر: في اليمين المدل، وفي اليسرى ورقة الألفباء، أو الأبجد، أو القدوس، مكتوبة بخط يد المعلم الطاهرة، مشكوكة بعود مفروض، له مسند تنكئ الورقة عليه. أما حملة الكتب، أي المتقدمون في الإخوة، فهؤلاء يقرأون بلا مدل؛ لأنهم «لقطوا» الحرف، ويقرءون كرجا.
يبدأ الدرس دائما بالصلاة، وإن كنا خرجنا إليه من القداس توا، ثم علينا أن نقرأ جميعا بحرارة، ومن كان صوته جهوريا أكثر كان أشدنا اجتهادا. ما على المعلم إلا أن يراقب أفواهنا ليرى إذا كان فينا من لا يقرأ، بينما نحن نرميه بطرفنا مزورين، وإذا ضحك أحدنا، ولو في عبه، جاءه قضيب الرمان يخط في بدنه الرخص أثلاما ...
ذاك كان أول واجبات معلمنا، فهو يعرف الكلمة المأثورة: من ضحكك بكاك، ومن بكاك ضحكك. فكثيرا ما كان يحدثنا بنعمة قضيب العز، مرصعا خطبته التربوية بقول ابن سيراخ - كما يزعم: من أحب ابنه فليهيئ له القضبان حزما حزما، وإذا تجاسر ولد وأفلت من براثنه ساعة التأديب؛ أرسلنا جميعا خلفه لنعود به إليه محمولا على الأكتاف والأعناق، كأنه أحد زعماء هذا الزمان ... وهذا ما كان يطلق عليه اسم «الزياح».
أما القصاص فكان يختلف باختلاف الجرائم، فمن ضرب بالقضيب أو المخفقة - الطبشة - على بطن الراحة، أو على رءوس الأنامل مجموعة ... إلى الركوع على الحصى. وكما أن آخر الدواء الكي كذلك كان آخر القصاص «الفلق».
وهناك قصاص أمر، وهو تزيين صدر المقصر بورقة مكتوب عليها «حمار الصف». وإذا قصر أحد، عند الامتحان، في قراءة كلمة أمر المعلم من فوقه أن يضربه كفا، أو يفرك أذنه إلخ.
أما ما كان يتقاضاه المعلم - عدا المرتب الذي يتناوله من الوقف - فهو «سمحة نفس»: بضعة أرغفة من الخبز، وبضع بيضات ... إلى آخر ما هنالك، مما تجود به عليه الأم الحنون ليرأف بابنها العزيز، ويشمله بالنظر السامي، فكأن كل الأمهات كن يعرفن قول الشاعر:
ناپیژندل شوی مخ