ما هذه مقدمة
قبل المعركة
الرواد العتاق
شعراء الأمير
الشعراء العلماء
فجر التجديد
شعراء متفلسفون
الرائدات
الرواد الكتاب
رواد الصحافة
ناپیژندل شوی مخ
كتاب النضال
ما هذه مقدمة
قبل المعركة
الرواد العتاق
شعراء الأمير
الشعراء العلماء
فجر التجديد
شعراء متفلسفون
الرائدات
الرواد الكتاب
ناپیژندل شوی مخ
رواد الصحافة
كتاب النضال
رواد النهضة الحديثة
رواد النهضة الحديثة
تأليف
مارون عبود
ما هذه مقدمة
يا سبحان الله! قلما خلت عادة من فائدة، فالمرحوم والدي - رحم الله موتاكم جميعا - كان يجبرنا على الصلاة الجمهورية كل مساء، فلا ينساها ليلة، ولا يخرم منها حرفا. أذكر أنه ساقنا كلنا مرة، وركعنا بجانب فراش أمي الممغوصة، وقال لها: «يا أم مارون، صلي معنا تصحي.» حاولت المسكينة أن تضحك فكشرت، وقالت: «أهي فنجان بابونج أم كأس عرق؟» فضحك، وقال: «صلي، بعد الصلاة يكون ألذ وأطيب.»
كانت أمي - نيح الله نفسها - من القانتات؛ تحب الصلاة كثيرا، كيف لا وهي بنت الخوري موسى الذي كان يتوسل إلى ربه بصلاة أطول من يوم الجوع، ليرفض عنه الشباب الذين يسهرون عند بناته الكثيرات ... وقد سماهن كلهن على وزن واحد، وإليك اسم المرحومة الوالدة «كاترينا»؛ لتعلمه، وتقيس عليه ... ولكنها - أي أمي - كانت تهوم متى قامت الصلاة، فتأخذ بالسجود اللاشعوري، ثم لا تنفك تفعل ذلك حتى يرفع الوالد عقيرته مرتلا «طلبة السيدة». وكثيرا ما كان ينكعها إذا لم توقظها أول كيرياليسون ... ثم يمضي غردا كفعل الشارب المترنم على ما في صوته من بحة وصحل. وإذا استعجلنا نحن أخذ يتمطط هو على هواه، فنسير الهوينا اتقاء لشره، ثم لا نتنفس إلا حين يناجي العذراء، ويضعنا «تحت ذيل حمايتها» ... ولكنه يعود فيستأنف الصلاة من جديد، فتكون كذنب الطاووس في الكبر لا في الجمال، فيقول خمس مرات: أبانا وسلام لأجل راحة نفس جدكم؛ ليعامله الله بالرحمة. ويفرض مثلها لجدنا الآخر، ولجدتنا الأخرى، ومثلها لأقاربنا أجمعين، ومثلها لجميع الموتى المؤمنين، ومثلها لأجل ارتفاع شأن الكنيسة المقدسة، ومثلها لكل من آجر في بناء كنيسة الضيعة، ثم لأجل من له علينا فضل وتعب، وأخيرا لأجل «المنقطعين».
قد لا تكون جنابك من «شعب الله الخاص» فلا تفهم ما يراد «بالمنقطعين»، وقد لا تستطيع الوصول إلى الصديق الأستاذ الغلبوني؛ ليشرح لك من هم، فقد ورث الاهتمام بأمرهم عن المرحوم أبيه الفاضل. والأستاذ الغلبوني مفضل على أبي؛ لأنه قام مقامي، وقدس لأجل خلاص نفسه أربعين قداسا ... كان الأستاذ قد ظن أن والدي من «المنقطعين»، وعد وجودي كالعدم ... فهنيئا لوالدي. أما كافأه الله حالا، على ذكره المنقطعين بصلاته طول العمر!
ناپیژندل شوی مخ
إخالك فهمت من حديثي من هم «المنقطعون»، إنهم أولئك الذين ليس لهم عقب يصلي لأجلهم ويقدس، أظنني أفهمتك، ولكن بعد ما فلقتك، فقل: صبر جميل، واسمع أيضا.
ولما كبرنا أخذنا نتشاغل عن الصلاة، وأمسى والدنا يصلي ووالدتنا، ولما صار أرمل مثلي - ومن يشابه أبه فما ظلم إلا في الصلاة - أخذ يصلي وحده، وظل على ذلك حتى آخر ساعة.
ففي ليلة من ليالي صيف سنة 1930 سهر معنا كعادته، وأطربنا بنكاته البريئة، وأخباره الطريفة، وقبل أن يتدهور الليل قال: يا الله، علينا صلاة، فشق علينا ذهابه؛ لأنه برغم الخمسة والسبعين كان فتي الروح، فركع على تخته قبالتنا، في بيتنا المناوح بيتي، وشرع في صلاته ينبر نبرا، ويرسل الجمل متقطعة كأنه الحجاج يخطب في الكوفة، وظل يفعل هذا أكثر من ساعة، وضيفي الأستاذ جبرايل كان يسمع ويطرب؛ لأنه مصل كوالدي.
وأخيرا صلى الوالد صلاة «المنقطعين»، وتمدد في فراشه وهو يقول: «حطيت راسي عافراشي، سبع صلبان فوق راسي ... مار مخايل يا ملاك، تعينني وقت الهلاك ... إلخ»، ثم تلحف، وهو يقول: يا رضا الوالدين، يا رضا الرب.
فقلت لجبرايل: انتهت المعركة بسلام، وتصالح الوالد مع الله، ونال رضاه ورضاهما، وسينام على سكين ظهره حتى الصبح.
ولما أصبحنا جاء والدنا يسأل جبرايل عن نومته، وكيف وجد مناخ عين كفاع، أهو مثل مناخ «مار ماما» أم أحسن؟ فأحسن جبرايل الرد، ولم يزد على الواقع، أما أنا فقلت: النومة هنيئة، لا برغش، ولا بق، ولا ناموس، فقال: لا تقل ولا ناموس ... فضحكت لاستدراكه، وأعجب به صديقي الأستاذ .
ثم عدت وقلت: ولكن صلاتك كانت عياطا، كأنك تقاتل ربك، طولتها يا شيخ بومارون! فأجاب بغلظة: اسكت يا معتوه، أصلي عني وعنك، وتقول طولتها؟! يا ويلك متى مات بو مارون.
أجل، لقد بعد العهد بيننا وبين تلك الصلوات، ولكنني فطنت في هذه الأيام إلى أن الصلاة «للمنقطعين» نفعتني جدا، إن لم يكن في الدين ففي الأدب، وكم للدين عند العلم والأدب من يد. إني ميال جدا إلى «منقطعي» الأدب، وكثيرا ما أفكر بهم، ولهذا دعوت الأمة العربية منذ خمسة عشر عاما إلى الاحتفال بذكرى الخمسين لأحمد فارس الشدياق أعظم نوابغنا في القرن التاسع عشر، ولكن كلامي ذهب كصرخة في واد.
وها أنا ذا أعود اليوم إلى هؤلاء «المنقطعين» جميعا، وإذا ذكرت معهم من لم يحرموا من يذكر الناس بهم، ويطري آثارهم، فلأن سياق الكتاب يقضي بذلك، ثم لأنهم جاهدوا جهادا حسنا في بناء النهضة التي نفاخر بها، وإذا طالت المدة ولم تقتلنا شدة، فسوف نكتب كتاب «رجال النهضة» أحياء وأمواتا.
والآن ألتمس منك أيها القارئ أن تقرأ جيدا، أو أن لا تقرأ، اترك كتابي في ذقني إذا رأيتني أقول فيه ما لا توافقني أنت عليه، فالناس تناضل اليوم لأجل حرية القول، وها أنا أهبك حرية القراءة، فهب لي من لدنك ما التمست منك.
ناپیژندل شوی مخ
نصيحة لا حاشية: إذا كنت لم تقرأني بعد، فنصيحتي لك ألا تفتش عن شيء، بل اقرأ كل شيء لتجد ذلك الشيء ... وقد أعذر من أنذر.
قبل المعركة
(1) سنديانة الضيعة
إذا جاز لنا أن نصنف الأشجار أوابد ودواجن، فالأرزة آبدة، والسنديانة داجنة.
الأرزة بادية، والسنديانة حاضرة. السنديانة أم لبنان. في ظلها تعقد الضيعة مجلس الشورى، وتحت جناحيها يستريح الفلاح المنهوك.
هناك في فيئها ينفض الغبار عن حذائه، وهناك يستريح ريثما يجف العرق على جبينه كالرب.
في ظلها الظليل يلعب الصبية ويمرحون، فلا دنانير تفر من البنان، كما تراءى للمتنبي في شعب بوان.
في ظلها كنا نحصب الدوري عندما يغيب عنا الخوري، ومتى طلعت علينا لحيته البحترية من خلف الجدار انكببنا على الكتاب، وأمنا بهذه الحيلة هول الحساب. •••
أيتها الحبيبة، هل تذكرين تلك القلوب الصغيرة؟! فكم تكومت في حشاك الأجوف متوارية عن نظر المعلم، وكم نبضت فيه ودقت، فكانت لك فؤادا يحب ويحب.
في أحشائك الصابرة توارينا صبايا وشبابا، فما ردت عنك حرارة قلوبنا برودة الشيخوخة، وصقيع الهرم.
ناپیژندل شوی مخ
كم شاهدت من آباء وأجداد يتجادلون ويعبثون، وأنت معبسة لا تفارقك المهابة. تمدين فوق رءوسهم أغصانا كأنها أصابع تداعبهم محسنين، وتنكزهم مسيئين.
يا أم الضيعة، أي سر من أسرارها تجهلين؟ أخفي عليك شيء من نزواتهم ساعة يجهلون؟! أما كنت لهم دائما أما حنونا تستر على بنيها؟!
السلام عليك أيتها الأم، الممتلئة نعمة، مباركة أنت بين الشجر، ومبارك ثمرة بطنك العقل اللبناني.
كأني بالرئيس اللبناني
1
حين قال: «اللبناني والشجرة رفيقا جهاد»، قد فكر ببنتك المعرفة، ثم بابنك المجذاف. أما كنت حياة لهذا البلد منذ كان، ولما عري منك فقد الرجولة والطاقة.
يا أم أعمدة خيامنا مصيفين، ويا أم جذوع بيوتنا مشتين، إليك نرفع أبصارنا خاشعين مبتهلين.
إن مسنا القر دفأتنا جذوعك وأروماتك، وإن لفحنا الحر بردتنا غصونك، وإن شخنا فمنك لنا السند والعضد، منك العصي التي توكأ عليها الجدود، ومنك الخشب الذي يحنو علينا في اللحود.
أيتها الأم الحنون.
كما كنا نرشقك بالحجارة الطائشة فيتساقط بلوطك رطبا جنيا. يا كستناء القدامى، ونقلهم الشهي في ليالي كانون المعربدة، ما أسماك مرتفعة عن الأحقاد!
ناپیژندل شوی مخ
أيتها الشجرة المقدسة، قدوسة أنت!
لأخينا العربي جمر الغضا، ولنا فحم السنديان، وأكرم بناره من نار خالدة! منك تعلمنا الحزم والعزم والثبات؛ فصبرنا على الزوابع العابرة، مقتدين بك يا أمنا الصابرة.
يا بنت لبنان، يا جامعة الفطرة والزمان، كم هبط الوحي من أعالي سمواتك على الرءوس الحانية على الكتاب.
أتخصين الدفاتر التي حبرتها أيدي من كان جذعك المنخور لهم مسندا؟! كم نظرت بألف عين إلى من سودوا الأوراق فبيضوا وجه لبنان.
ألست قابلة الحرف يوم وضعته أمه؟ ألست مرضعة الكتاب التي لا تعق؟ مرحى يا سنديانة الضيعة الحبيبة، يا جارة الهيكل ما أنت جارة!
أنت أم، أنت أخت، أنت عروس يتجدد كالنسر شبابها. كلك جميلة يا حبيبتنا السمراء!
يقولون مدرسة تحت السنديانة، وما أحلى هذا الاسم الخالد، لقد أنصفك من سماك هكذا؛ ففي ظلك ترعرع العبقريون، ومن عودك استمدت يدهم الصلابة.
ما أحسب كنانة عبد الملك بن مروان، حين كبها، ورأى الحجاج أصلبها عودا، إلا من خشبك، وكيف يكون ذلك الرجل غير سنديان؟! أما كان معلم صبية ... إذا ضاق عنا صدر الهيكل ضممتنا كما تضم الدجاجة فراخها.
وإذا أطلت أمنا الأخرى القاسية، تلذعنا أسواط أشعتها، تخبأنا تحت أذيالك. ما أحلى القمر يغمزنا من بين ثناياك كالأخ الأصغر!
يا جبارة بلا مجن، يا فارسا جواده الجبل، وسرجه الجلاميد، ما أصبرك على الحر والقر! إن من أبدعك لا يضيع أجر الصابرين.
ناپیژندل شوی مخ
يا طويلة العمر، هاتي قصي علينا حديث جهابذتنا، لقد طال صمتك يا حبيبة القلب! أجولييت ما هذا السكوت ...
دمع جرى فقضى في الربع ما وجبا، أقسم بك لا بغيرك إن دمعتي تفر كلما تذكرتك. لعلي أبكي على الصبا المولي، وإن كان المولي ما له صاحب ... •••
إن جذورك تقتات من رفاتنا، فأي الأعماق تبلغ يا أم المعرفة.
تعدين الأجيال كما نعد السنين، وورقك النخاس يثير همة الأيدي المخشوشنة، وجذعك المشقق القشور كوجوه مشايخنا المجعدة، كلاكما صابر يضحك من الظواهر الجوية، فكلما ازدادت اهتياجا ازداد استهزاء، متسمدا من رجائه حياة.
إن عند العواصف علم ما لا يعرفه النسيم. في صوتها الجهوري رعب دونه حلاوة صوت النسيم الرخيم. شاهدك «رنان» فقال لجدي: عندكم سنديانة شاعرنا لامرتين. فهز كتفيه؛ لأنه لم يكن يعدل بمار أفرام وأبي العتاهية أحدا من شعراء العالم.
لقد أدرك ذاك الجد شيئا من عزك، وترنم بشعر «الملافنة» حول جذعك، وعلم بني ضيعتك الشعر السرياني، وما ينبغي لإقامة صلاة البيعة، والنثر العربي لعمل الدنيار حوائجها.
أما شبعت صلاة يا ستي! كم جيلا طويت من رجال الهيكل المترنمين، الذاكرين الله هازجين.
استظلوا بظلك أحياء، وناموا تحت جناحك على رجاء القيامة.
ترى بماذا كنت تفكرين؟ حين كانوا يتمتمون صلاتهم متمشين تحت ظلك: قاديشات الوهو إلخ، أي قدوس الله، قدوس القوي، قدوس الذي لا يموت.
هل كنت تحسبين أنك قوية فغرتك عينك، وحلمت بالألوهية كبعض الناس! هل ظننت يوما أنك لا تشيخين؟!
ناپیژندل شوی مخ
رأت أوائلنا شبابك الغض، وأبصرت جدودنا اكتهالك المجتمع الأشد، ورأى الآباء ورأيت أنا طلائع شيخوختك، وسترى أحفاد الأحفاد هرمك، والله يعلم من الذي يشهد احتضارك.
إنه لبعيد، أيتها الجبارة التي لا تريد أن تموت.
أيها البرج المعلقة على جدرانه مجنات جبابرة الذكريات. ما أجل شيخوختك، وأروع وقارك!
هاتي الحديث، أعندك خبر هذا الهيكل الذي دكه الزلزال؟ لم يبق منه غير بضع حجارة ضخمة، فبقيتما كلاكما تتناظران ضاحكين من خفة عقل الطبيعة.
أيرن في آذان جذوعك ما يرن في أذني من ذكريات الماضي؟ ترى ماذا تقولين لها إذا خطرت على بالك ...
هل تذكرين فتوة أوائلنا؟ أما كركرت في الضحك حين رأيت بنيك يشيخون في التسعين وأنت يا أم التسعينات لم ينحن رأسك ولم تحدودبي ...
كم تسار وتناجى أبناء القرية وبناتها في ظلك، فلم تفشي لهم سرا! كم استعادوا بظلك من ضوء القمر الفضاح، فكنت أبر من أم تستر على بنيها، وإن آلمها سلوكهم!
أيتها الناسكة الأزلية، يا بنت الغابة، كيف عشت وحيدة كل هذا العمر؟
يا طويلة العمر، السلام عليك.
يا ناسكة الدهر، أحسن الله جزاءك والأجر! (2) مدرسة «تحت السنديانة»
ناپیژندل شوی مخ
مديرسة ضاهت الجامعات بمن خرجت. لم أقل بمن أخرجت لأنها قائمة في العراء، ولا باب لها فيخرج منه. فحد الهيكل، في ظل السنديانة، كنا نقعد نتعلم. وإذا ما انهل المطر هرولنا إلى صحن الكنيسة، نقيم الدروس فيها إذا خلا «بيت الجسد» من القربان. أما إذا كان القربان «مصمودا»، وكم كنا نتمنى ذلك، فنكر إلى بيوتنا راكضين، كما تكر إلى أوطانها البقر ... وتسقط عنا كلفة المشي على الدرب مكتفين. كان يأمرنا المعلم ألا نلتفت يمينا وشمالا، فنسير وكأن كل واحد منا حصان عربة مكدون. علينا أن نمسي ونصبح كل من نراه على رمية حجر، ليقال إنا «تلاميذ مدرسة». أما تحية الظهر فكانت: المجد لله. وجوابها: دائما لله. وكثيرون كانوا يختزلون الرد فيكون «دائما» فقط ... ليستطيعوا رد سهامنا المتلاحقة، أما بوس يد الأب والأم والخال والعم، وكل نسيب حتى الدرجة الخامسة فكان من أقدس الواجبات ...
وأما مقاعدنا فكانت فروة شتاء، وعلى الأرض أو الحجارة صيفا، وللمعلم كرسي الكنيسة الدهري، وهو من خشب التوت المعمر، كان المعلم يجعل تلاميذه خطا مستقيما، حسب مرتبتهم العلمية، لكيما يصحح المتقدم خطأ المتأخر، ولا يعود إلى المعلم إلا كبش الكتيبة ...
وقبل أن نصف المدرسة وطلابها علينا أن نعرفك بالمعلم سيدها الجبار المسيطر، السحنة معروفة، فلا نستطيع تحديد الشخصية وتصويرها لأننا لا نتكلم عن واحد بعينه. فالمعلم يكون غالبا من أصحاب السمت، لباسه غنباز قاتم اللون، يشد وسطه بزنار يختلف عن الغنباز لونا، ولكنه يظل أميل إلى السواد محافظة على الأبهة والوقار. وإذا لم يكن المعلم ملتحيا فهو لا يحلق ذقنه إلا نادرا. عليه أن يظل معبسا ليدب الرعب في قلوب تلاميذه، فيحول تجهمه دون شيطنتهم. وكان يزيد في أبهته تلك، ذلك الطربوش المدور الأحمر - المغربي - الملفوفة عليه شملة سوداء من الحرير الخالص، ذات خطوط متواضعة اللون. أما «شرابة» طربوشه فحريرية زرقاء، خيطانها أنعم من صوف الهررة، وكثيرا ما كان يقترض منها الليقة لدواته النحاسية المشكوكة في زناره، تلك كانت سمة «المعلم» ولعل شرابة قبعة الجامعيين اليوم مأخوذة من هاتيك «الشرابة» ... ولا فرق بينهما إلا أن شرابة هؤلاء من قدام، وشرابة جامعة تحت السنديانة كانت من خلف.
كان بعض المعلمين يختنون تلك الشرابة، ومنهم من كان يجور عليها فيستأصل دابرها ... ولا يبقى إلا تلك الهناة التي تعلق بها، فتنتصب فوق قلة رأسه كأنها أصبع يشير إلى السماء موحدا المعلم ... الله أكبر.
يجلس على عرش غضبه، ومن حوله قضبان رمان، إذا مات منها سيد قام سيد ... فالرمانة حد الكنيسة، والسعيد منا من كان يكلفه المعلم قطع القضبان منها، متى استهلك ما عنده. أما «الفلق»، وهو شر ما خلق، فلا يلجأ إليه إلا في الجنايات الكبرى. أما الخيانة العظمى فتكون حين نضحك من المعلم إذا كان معوها، وكثيرا ما يكون ذا عاهة. كنا نصطف خطا مستقيما حد حيط الكنيسة، كما مر: في اليمين المدل، وفي اليسرى ورقة الألفباء، أو الأبجد، أو القدوس، مكتوبة بخط يد المعلم الطاهرة، مشكوكة بعود مفروض، له مسند تنكئ الورقة عليه. أما حملة الكتب، أي المتقدمون في الإخوة، فهؤلاء يقرأون بلا مدل؛ لأنهم «لقطوا» الحرف، ويقرءون كرجا.
يبدأ الدرس دائما بالصلاة، وإن كنا خرجنا إليه من القداس توا، ثم علينا أن نقرأ جميعا بحرارة، ومن كان صوته جهوريا أكثر كان أشدنا اجتهادا. ما على المعلم إلا أن يراقب أفواهنا ليرى إذا كان فينا من لا يقرأ، بينما نحن نرميه بطرفنا مزورين، وإذا ضحك أحدنا، ولو في عبه، جاءه قضيب الرمان يخط في بدنه الرخص أثلاما ...
ذاك كان أول واجبات معلمنا، فهو يعرف الكلمة المأثورة: من ضحكك بكاك، ومن بكاك ضحكك. فكثيرا ما كان يحدثنا بنعمة قضيب العز، مرصعا خطبته التربوية بقول ابن سيراخ - كما يزعم: من أحب ابنه فليهيئ له القضبان حزما حزما، وإذا تجاسر ولد وأفلت من براثنه ساعة التأديب؛ أرسلنا جميعا خلفه لنعود به إليه محمولا على الأكتاف والأعناق، كأنه أحد زعماء هذا الزمان ... وهذا ما كان يطلق عليه اسم «الزياح».
أما القصاص فكان يختلف باختلاف الجرائم، فمن ضرب بالقضيب أو المخفقة - الطبشة - على بطن الراحة، أو على رءوس الأنامل مجموعة ... إلى الركوع على الحصى. وكما أن آخر الدواء الكي كذلك كان آخر القصاص «الفلق».
وهناك قصاص أمر، وهو تزيين صدر المقصر بورقة مكتوب عليها «حمار الصف». وإذا قصر أحد، عند الامتحان، في قراءة كلمة أمر المعلم من فوقه أن يضربه كفا، أو يفرك أذنه إلخ.
أما ما كان يتقاضاه المعلم - عدا المرتب الذي يتناوله من الوقف - فهو «سمحة نفس»: بضعة أرغفة من الخبز، وبضع بيضات ... إلى آخر ما هنالك، مما تجود به عليه الأم الحنون ليرأف بابنها العزيز، ويشمله بالنظر السامي، فكأن كل الأمهات كن يعرفن قول الشاعر:
ناپیژندل شوی مخ
إن المعلم والطبيب كليهما
لا يخلصان النصح ما لم يكرما
وكانوا يعزمون عليه متى كان عند ذوي الطالب أكلة طيبة فيأكل هنيئا مريئا ... كثيرا ما كانت تلبينا «أوركسترا» العصافير الدورية حين تعزف، فيكشها المعلم إما مصفقا وأما مطبطبا، ثم يعدو إذا لم تطر، فنضحك حين ينفجر ثغر غنبازه، ويبدو سرواله الأزرق المفتوق، فيظن ذلك استحسانا، ثم يتهالك على كرسيه بعد أن أدى واجبه، وعند الفطور كان يهيب بنا: يا الله، «هوشة الترويقة». فيعلو صياحنا ويشتد، فيقصر لنا الوقت بقدر عياطنا ... وكذلك كان يفعل عند بعثة الغذاء. أما «الهوشة الكبرى» فتكون عند إخلاء السبيل قرب الدغيشة.
بقي أمر خطير لم أخبرك عنه، إلا وهو الخروج لقضاء الحاجة ... كان علينا أن نستأذن قائلين: دستور يا معلمي. فيتناول جلالته - قبل إعلان الدستور - صولجان الرمان، ثم يقول: افتح يدك. ويضرب السائل إما قضيبا أو قضيبين قائلا: إن تعوقت «تأكلها» ... قهقهنا مرة جميعا، فطار إلينا بجناحي غنبازه المهيضين، فعثر بهما ووقع، فكركرنا في الضحك، فانشق من الغيظ وسقانا كأس قضيبه دورين.
وكان بعض الكسالى يطيلون الإقامة في ذلك الموضع ... عندما يمنحون «الدستور»؛ فلكي يستعجلهم كان يبزق على حجر، والموعد قبل أن تجف تلك البصقة، والويل لمن لا يسبقها. أما الجبناء من التلاميذ، فكانوا «يقضونها» في ثيابهم، ولا يجرءون على طلب «الدستور» فيمسي شغل أمهم الشاغل إعداد الثياب وشراء الصابون.
يا ليتك رأيت التلميذ ماثلا أمام المعلم، فاتحا يده ليسلم عليه القضيب سلام الأحباب. التلميذ يقدمها ويؤخرها، وجوارحه تنضح خوفا وذعرا، والمعلم يتهيأ؛ كيلا يخطئ الهدف. التلميذ يتوجع ويبكي سلفا، مادا يده نصف مد، والمعلم يكز ويصرخ: افتح يدك!
أما الرفاق فيتفرجون، حتى إذا ما انتهت تلك المعركة عادت مياه المدرسة إلى مجاريها، وقال المعلم بعد النصر المبين: العصا علمت الدب يرقص، ادرسوا يا أولادي.
هذا حديث عام، أما حديث عبدك الحقير فهو هذا: أرسلت إلى مدرسة تحت السنديانة ابن خمس، فكنت ذنب الصف طبعا. قعدت أول يوم ولا شغل لي إلا كش الذبان، وتأمل رفاقي، وسؤال الله أن يفك أسري. ومر اليوم الثاني كالأول، وكذلك راح الثالث ... رآني ابن عمي على تلك الحال فضحك، أما أنا فأجهشت، وقلت بانكسار: يا فارس ابن عمي. قل لأمي، مارون «بدو» ياكل.
وبلغ الخبر الوالدة فصاحت: تقبر المدارس ... يا جرستنا، يه، يه، يه!
وصبر جدي الخوري علي أياما، ولما رآني مصرا بعناد على البقاء حيث أنا؛ أي ذنب الصف، لم يرض بها حالة؛ أيكون حفيده في هذا التأخر المخزي! جرب أولاده، ولم يوفق إلى من يخلفه، وها إن بوارق إخفاق تلوح في جو الخيبة من جديد فما عساه يعمل؟ - قم يا مارون احمل ورقتك والحقني.
ناپیژندل شوی مخ
فقال المعلم: لأ يا جدي الخوري، اصبر علينا.
فأجاب جدي، وهو ممتعض: آخذه جمعة وأرده. اتركني.
وقعد جدي على المصطبة، وقرفصت أنا أمامه، فشرع يعلمني الألف باء، فضحك والدي وقال لأبيه: الصبي راضع حليب بقر ... لا تتعب قلبك.
وقرصت تلك الكلمة والدتي - لأنها لم تكن التي يقال لها: لله درها - فاستعبرت. أما جدي فهز لوالدي العوجا - اسم عصاه الموسوية - وقال له: أنتم ما تعلم أحد منكم، اترك الصبي يتعلم!
وما أصبحنا وأمسينا حتى كنت تعلمت: الألف والأبجد والقدوس. فتهلل جدي للفتح الجليل ... فجاء بالمزامير، وشرع يعلمني «الطوبى» و«لماذا». وبعد جمعة صرت في المزمور الثامن: «أيها الرب، ربنا ما أعجب اسمك في كل الأرض»، فشكر جدي الله، وأخذ بيدي كما يأخذ الراعي بأذن شاته، وما بلغنا سنديانة الكنيسة حتى دفعني دفعا فوقعت في حضن المعلم، فقال له جدي: افحصه. ولما رآني جدي، عند الامتحان، كما يعهد قال للأولاد: وسعوا له.
فأجاب المعلم طنوس: لا توسيع يا جدي، محله فوق ...
وشاء الوالد أن يختبرني في إحدى الأمسيات فقعد على عتبة «برطاش» الباب، وأقعدني أمامه، وقال: أين صرت؟ ففتحت مزاميري، وقلت: هنا، في المزمور التاسع عشر. فقال: اقرأ. فقرأت: يا رب بقوتك. قرأت «بقوتك» كأنها كلمتان، فاستضحك الوالد، وقال: قم عني. المزامير ما فيه تكوك
2
فخجلت، ونمت تلك الليلة حزينا، وأظنني لم أتعش.
وانتهت القراءة العربية وجاء دور السريانية، فكان التنافس بين الآباء. كان جدي يعلمني السريانية في الليل، ويعاونه علي والدي وعماي، حتى حسبتني «خروف مور» يعلف للمرافع ... وهكذا ظللت محافظا على الأولية الضارية، وطابت نفس جدي.
ناپیژندل شوی مخ
وكنا نلحن ذات مساء أحد ميامر مار أفرام، فقال جدي: ستكون أنا على «الخورس» ولا ينقصك إلا صوتي. غير أن ذلك الحلم لم يصح ...
ثم انتقلنا إلى الفرنسية، وكان المرحوم لا يعرفها، فخاف علي، ولكنه اطمأن حين درى أنها ليست في حساب الأولية. كنت أنا أكرهها؛ لأني كنت أتعلمها وحدي دون أولاد القرية، ولكن الله - سبحانه وتعالى - فك تلك العقدة، وقع خلاف في الضيعة، فأخذ أحدهم كتبنا خلسة ورماها في بئر الكنيسة، ولم يدع منها غير كتبي الإفرنسية: الغراماطيق وديالوغ حرفوش. فأخفيتهما أنا خلف المذبح الصغير، واسترحت منهما حينا ...
وصرت الاختصاصي في خدمة القداس، فكنت أزهو حين تعجب الناس قراءتي «الرسائل» و«السنكسار»، وترتيل «الفراميات»، ثم صرت أنافس الكهنة على «القراية» حتى في صلاة الحاش - جمعة الآلام - وأخيرا صرت أجاحش في كل ميدان ...
وهاجر المعلم طنوس، فحل محله غيره، ثم مات هذا فكان موته عيدا كبيرا عندنا. وفتشوا عن آخر، فما اتفقت كلمتهم على واحد؛ لأنهم كانوا حزبين، فكان ذلك عيدا أكبر.
وظلت الضيعة بلا معلم، فقال جدي لوالدي: رح دبر مدرسة للصبي. وانتقلت من مدرسة تحت السنديانة إلى مدرسة حولها سنديانات، ومنها إلى مدرسة في غابة من هذا الشجر المبارك - مار يوحنا مارون، ثم كانت خاتمة المطاف في مدرسة الحكمة.
ما صعب علي شيء في مدرسة غير بري القلم، ومع ذلك قلت في وصفه حين نظمت الشعر: تعلم بطش الأسد في ضفة النهر.
هذه الصورة من صور مدرسة تحت السنديانة، التي يتحدثون عنها في لبنان، وغير لبنان، حتى أن آنسة في باريس كتبت إلى صديقي الأستاذ جبور عبد النور تسأله أن أصفها لها؛ لأنها تحتاج إليها في أطروحة الدكتوراه، فما فعلت إلا الآن، وإن كنت لم أتعد جهد المقل ولقطة العجلان.
أليس كلامنا في كتابنا هذا عن «رواد النهضة»؟ وهل هؤلاء الرواد غير تلاميذ مثل هذه المدرسة؟ إذن لا بأس علينا إن تكلمنا عن السنديانة ومدرستها، قبل أن نتكلم عن خريجيها، وخريجي أمثالها من ذوي الآثار الجليلة. (3) بين الكهف والدار «نسخ وطبع، ترجمة وتأليف»
في أعماق الديورة، وجوار الجوامع بقي للعلم قبس كنار المجوس الدائمة. أجل، في ثنايا كهوف الجبل كانت تذكى تلك النار بالقلمين: العربي والكرشوني، فظل الكهف، في زمن الرعب، مستودعا للمعرفة، ومعجنا لخميرة العلم، فتخت وفاضت على حفافيه. ففي غرفة ذات ثلاثة أذرع عرضا، في أربعة طولا، كان يحتبي راهب يابس من الصوم أو يقرفص، أمامه مصباح من الزيت، بلا زجاجة، يرسم نوره المترجرج خيالات وأشباحا كأنه الفانوس السحري، يحنو على كتابه حنو المرضعات على الفطيم، يقرأ بإمعان ريثما تستريح أنامله، ويزول خدر رجله، ثم يعود إلى عمله بعدما يتبسط جلده وتمحي الأثلام التي شقها فيه قش الحصير.
أما الدواة النحاسية ذات الأنبوب الطويل فهي أمامه على «سكملة» والمرملة حدها، يتكئ قلم «الغزار» على صدرها كما ينام الطفل على عنق أمه. إن له في أحشاء الدواة إخوة يحلون محله متى كل، والسكين مشحوذة دائما لقط رأسه، أو بري سواه. وعن يمين الناسخ - كاهنا كان أو شدياقا - لوحة مشبوحة بالخيوط شبحا متناسقا مستقيما، يصلب الناسخ عليها الورق لتستقيم له السطور.
ناپیژندل شوی مخ
ذاك كان عمل رجال الدين من كل ملة، وخصوصا رهبان لبنان المنزوين المنقطعين في أشداق الجبال وحناجرها، لا عمل للقارئ الكاتب منهم غير التعليم ونسخ الكتب، أو ترميم ما رث منها، كما قال جرير في وصف قبر أم حزرة:
وكأن منزلة لها بجلاجل
وحي الزبور تجده الأحبار
أو كقول ابن أبي ربيعة:
لمن دمن بخيف منى قفور
كأن عراص مغناها الزبور
أجل إن الزبور كان أكبر حظا من غيره عند النساخ، ثم كان أول ما طبع، وسبب ذلك تلك الشاعرية والصوفية التي كانت تستأثر بهوى نفوس الناس يوم لم يكن للمادة هذا الطغيان، ويوم كان الناس يؤمنون، ويخشون الخطيئة فيتشبهون بصاحب الزبور خاطئا، ويستغيثون بمزاميره تائبا، إن الله لتواب رحيم.
أما الأميون من هؤلاء النساك فكانوا للحراثة، والحياكة، والسكافة، والنجارة، وكل ما يقتضيه أسلوب حياتهم، وهكذا حفظوا العلم من الضياع قبل أن انبرت له المطبعة. فمن قلم الغزار، إلى المطبعة الخشبية، فالحجرية، فالرصاصية الحديثة السريعة الخطى، كل هذه المواكب الثقافية أزجاها - أولا - الدين ورجاله. فجل هؤلاء بل كلهم قد نشروا العلم إحياء للدين، ولكن العلم كان عقوقا فصح فيه القول: اتق شر من أحسنت إليه.
أما تاريخ المطبعة فقديم العهد عندنا. استهلت أول مطبعة في المشرق سنة 1610 أهدتها رومة إلى الرهبانية اللبنانية في دير قزحيا. وما دير قزحيا غير ذلك الكهف الذي أسمع جبال لبنان أول شعر عربي فصيح، بعدما كان يقال زجلا. وما ذاك الشاعر اللبناني الأول، غير الراهب جبريل، الذي صار، فيما بعد، المطران جرمانوس فرحات أول رواد الفصحى، ثم أنشأت هذه الرهبانية مطبعة أخرى في دير طاميش.
وفي حلب الشهباء أنشئت أول مطبعة عربية عام 1698، ثم كانت مطبعة الشوير سنة 1732، ثم مطبعة القديس جاورجيوس سنة 1753، ثم مطبعة بولاق عام 1821.
ناپیژندل شوی مخ
وعمت المطبعة هذه الربوع وكان أكبرها وأعمها فائدة مطبعة الأمير كان ومطبعة اليسوعيين، والمطبعة الأدبية لخليل سركيس، فطبعت كتب كثيرة ساعدت على نمو النهضة واشتداد ساعدها. وأنشأ الرواد المهاجرون - الشدياق وغيره - المطابع العربية في الأستانة وباريس وغيرهما من عواصم الدنيا؛ فانتشرت لغة الضاد، وذاعت حيث حلت ركاب أبنائها.
وعرف الشرق الصحافة فكانت «حديقة الأخبار» أول جريدة أهلية لا تشوب لغتها تلك الركاكة التي كانت تشوب لغة الجرائد الحكومية «الرسمية»، وولدت بعدها جريدة مرآة الأحوال لرزق الله حسون، ثم جريدة «الجوائب» لأحمد فارس التي استقام معها لسان العرب.
أما المدارس، فأقدمها عين ورقة، التي أنشئت في القرن الثامن عشر، وفيها نشأ كبار الرواد كالشدياق والبستاني والدحداح إلخ. أما أوفرها فضلا على هذه النهضة المباركة - وإن كان الفضل للمتقدم - فالكليتان اليسوعية والأميركية، إنهما منبع التجديد والتطعيم، بعد أولئك المهاجرين الذين سبقوا مولد هذه الكليات في الشرق.
وقد أدى نشوء مثل هذه المدارس الكبرى إلى إنشاء جمعيات أدبية كثيرة، فتعاضدت عناصر عديدة كالتمشرق والتمغرب، فخلقت هذه النهضة الميمونة فكان لنا أدب جديد. ولسنا نعدو الحق إذا قلنا إن كتب الأب لويس شيخو اليسوعي نحلة، والسرياني نبعة، والعربي لسانا، قد كان لها أبيض يد على هذا التوجيه، فهو واضع أول دفتر من روائع الأستاذ فؤاد أفرام البستاني، وعلى أثره تمشى، وشيخو - أيضا - هو واضع مجاني الأدب، أول مجموعة من المختارات الأدبية، على النسق الغربي، مع المحافظة على التبويب العربي. وسيأتي الكلام عن هذا الرجل وآثاره الجليلة النفيسة.
لقد كان التنافس الديني الأجنبي في لبنان من أهم بواعث هذه النهضة الحديثة، وحسبك دليلا عليها تلك الكلمة المأثورة عن فنديك: «رايح أفتح مدرستين.» يعني أنه متى أنشأ مدرسة بروتستانتية ينشئ اليسوعيون مدرسة كاثوليكية، كما أنشئوا البشير قبالة النشرة الأسبوعية، والمطبعة الكاثوليكية بإزاء المطبعة الأميركية. كل هذا كان يجري والمسلمون جامدون، ينظرون إلى هذه المدارس الأجنبية بحذر، وإلى هذا التجديد في التفكير والتعبير بتحفظ، ولكنهم لم يلبثوا أن جروا - أخيرا - في الميدان، مقتدين بالغزالي حين بل يده بقائم سيف المنطق، وانبرى للمعتزلة.
ولا ننسى معرفة اللغات الأجنبية فهي النبع الأغزر الذي روى تربة النهضة فنمت فروعها، ونضرت غصونها. عرف قدماء «الرواد» الطليانية التي خلقت النهضة الأدبية الفرنسية، ولكنهم كانوا منصرفين عن الأدب إلى ما هو ديني، فعربوا ما يتصل بالدين دون غيره، ثم ترجموا إلى اللغات الأجنبية بعض الآثار العربية.
إن معرفة اللغات الأجنبية والتضلع من السريانية كان لهما هذا الأثر الأبعد في تعبير هؤلاء، فجاء مميزا من تعبير أصحاب اللغة الواحدة. كان هؤلاء كما قال النابغة في مدح الغساسنة: عصائب طير تهتدي بعصائب، فما وقفوا عند حد، بل تنافسوا في كل فن ومطلب، ولم يتركوا بابا من أبواب العلم إلا طرقوه. لقد فعلوا كما فعل مشايخنا الخوازنة في زمن الإقطاع، فملئوا كسروان ديورة لمختلف الأمم والنحل. كان إذا وقف شيخ منهم عقارا على رهبان طائفة، وقف شيخ آخر شطرا مما يملك على رهبان طائفة أخرى، وهكذا صارت المقاطعة الكسروانية كعلية صهيون، حين فاجأ البارقليط التلاميذ فيها، فنطقوا بألسن عديدة ...
أما النسخ، وقد كان مدرسة ثانية للناسخين، فلم ينقطع؛ إذ لا يزال عندنا كتب لم تطبع، كالسنكسار - سير القديسين - ففي نسخ هذا الكتاب كان يتبارى النساخ في إضافة عجائب ومعجزات إلى قديسين يحبونهم. خذ مثلا، مار روحانا - شفيع قريتنا - فهذا القديس لا يعرف بهذا الاسم في السنكسار العام، ولكنه لم يعدم من كتب له سنكسارا خاصا، فضمنه من العجائب أبعدها مدى، ومن المعجزات أغربها؛ زعم الناسخ أن قديسنا المكرم أنقذ غلامين من أسد كاد يفترسهما، وجاء المصور - فيما بعد - فرسم نهرا كبيرا بين الغلامين، وصور الأسد مقعيا عبر النهر، ينظر إلى فريستيه بعين محمرة ... فعل المصور ذلك؛ لتستسيغ معد المؤمنين العجيبة، ولكن تعليله لها زاد في الطين بلة. أما كان في مكنة القديس المعظم - وهو صاحب القدرة - أن يكم فم الأسد، مثلا، ولا يصدع خاطره في إجراء نهر لا بد أن يكون كنهر العاصي؛ كيلا يقطعه ذاك الأسد. إذا كان في استطاعة أولياء الله أن يشفوا المريض بوضع اليد، فأية حاجة إلى الدمل الاصطناعي ... ثم شاءت العاصفة، بعد سنين، فحطت الصورة من عل، فصورت ثانية مستعيدة بساطتها.
هذه بعض آفات النسخ، ولا ننس الأخطاء والتحريف والتصحيف. لقد انبرى اليوم للتصحيح والتمحيص علماء مختصون فأصلحوا ما أفسدته يد النساخ، ولكن النسخ - في كل حال - قد كان من عناصر النهضة الحاضرة، شارك في إنمائها مشاركة مثلى؛ فحفظ آثارا كثيرة من الضياع، كما طبع الكثيرين من الرواد على غرار البلغاء الذين كانوا ينسخون كتبهم.
وقصارى القول أن الضعيف المقهور يلجأ إما إلى بيت مهجور، أو إلى كهف، وهذا ما أصاب اللغة العربية في بدء نهضتنا، هربت من وجه طغيان التركية، فآووها في الديورة، فصح فيها مثل جريح أريحا ...
ناپیژندل شوی مخ
ونحن في الشرق مطبوعون على التشبه وتوارث المهن، ولهذا ترى أن العلم يكاد ينحصر في بيوت وأسر دون سواها. وفي كلمة قالها صروف عن منافسته للشميل: «وكان كل واحد منا يتشبه بابن بلده؛ أي الشدياق واليازجي»؛ أصدق برهان على ما قلت، أما الآن فقد حان أن نعرفك بالرواد «المنقطعين» واحدا فواحدا.
الرواد العتاق
شعراء نساك ومتصوفون
بلا عنوان
لقد احترت في تبويب هذا الكتاب؛ لم أستطع فصل الشعراء عن الكتاب، لأن كل من حمل قلما قال شعرا ... فمن يدريني، بعدما قرأت قصيدة لفرح أنطون قال إنها «بيضة الديك»، أن ليس لكتابنا الآخرين بيوض ديكة، ولكنهم آثروا أن يكنوها، كما كن الحجاج أهل الشام ...
وإني لأخرج من هذا - بعد هذا - مصدقا قول من زعم: أن الأندلسيين جميعا، نساء ورجالا، قالوا الشعر، ومؤيدا قول الآخر: أن الشعر أسبق من النثر في آداب الشعوب. وأخيرا خرجت من ظلمات هذه الحيرة، فأحصيت كل «رائد» حيث وجدته أبعد أثرا، وأخطر شأنا ...
وإني أنذرك - منذ الآن - بألا تنتظر مني ذاك النقد المر الصارم؛ لأن عيوب الأوائل منهم كثيرة.
وإقرارا بفضل هؤلاء أزيد: أن الأدباء كمنارة الشاطئ، فهي تضيء أبدا، ولا يقر جيرانها بفضلها الذي يعرفه القادم من بعيد ... (1) القافلة الأولى (1-1) المطران والخوري
المطران جرمانوس فرحات
هو أول رائد أعجبته خضرة الدمن، وإذا ما تحدثنا عن فجر النهضة الأدبية فلسنا نعني البلاغة العربية، فالعالم العربي لم يخل قط من الفصحاء، بل ممن هم أفصح وأبلغ من أكثر هؤلاء الذين نسميهم الرواد العتاق، فعندما يتكلمون في الأدب عن أثر النصارى في نهضتنا الأدبية فما يعنون ولا نعني نحن إلا هذا العنصر الجديد، الذي أحدثه فيها نصارى الأمس، كما أحدثه من قبل نصارى العصر العباسي، وبخاصة السريان منهم، فأوضح آثار أولئك كان بما نقلوه إلى اللغة العربية، وها إن هؤلاء ينحون نحوهم؛ فأول من ترجم كتابي هوميروس كان من أولئك، وهو تاوفيل بن توما الرهاوي الماروني رأس منجمي الخليفة المهدي، وقد كتب عنه صديقي البحاثة الأديب نور الدين بيهم.
ناپیژندل شوی مخ
فأولية جرمانوس فرحات - إذن - ليست في شعره؛ فقد كان في زمنه شعراء مسلمون أبلغ منه قولا، وأصح كلاما. ولكن كونه أول شاعر من مستعربي لبنان، قال الشعر معربا بعدما كان زجلا سرياني الوزن أحله هذا المحل. فالشعر ابتدأ في لبنان من حيث انتهى في الأندلس، نشأ في الأندلس شعرا رصينا بليغا؛ ثم صار موشحات، وصارت الموشحات مهلهلات؛ ثم أخذت تنحط رويدا رويدا حتى أمست أزجالا، بل كلاما باردا.
إن لهذا الأسقف المولود في القرن السابع عشر؛ فضل التأليف في النحو؛ فهو أول نصراني ألف فيه، بعدما أخذ هذا العلم عن الشيخ سليمان النحوي المسلم في حلب.
1
وله أيضا فضل أكبر وأعم؛ إذ صحح الترجمة العربية للمزامير والأناجيل، وسائر كتب الموارنة الكنائسية، فعرفت الكنيسة فصاحة العرب، وحب المطران العربية حمله على تعريب الإنجيل مسجوعا، وهذا التعريب محفوظ حتى الآن بمكتبة حلب المارونية.
ولم يقف المطران عند حد التأليف في النحو بل تصدى - قبل كل رجال النهضة الحاضرة - إلى وضع معجم صغير، ولكنه صحيح، سماه: «الإعراب عن لسان الأعراب».
الترجمة:
إن دور النصارى في الأدب العربي كان ينحصر في الترجمة، قبل أن استقام لسانهم العربي، ففي النهضة العباسية كانوا تراجمة الخلفاء، فنقلوا لهم كتب القوم، وها إن التاريخ يعيد نفسه في فجر هذه النهضة. فها هو هذا المطران يؤلف في حلب «مجمعا علميا» يعنى أعضاؤه بالترجمة، ومن هنا جاء التجديد. فهم لم يتفوقوا بالكلام العربي الذي لا غبار عليه، بل بما ترجموه من كتب وغيرها. كانت هذه الترجمة أولا دينية، ولما صدرت كتب الشدياق و«جوائبه» أصبحت أدبية وسياسية، ثم أضحت في «جنان» و«دائرة معارف» المعلم بطرس البستاني تاريخية وقصصية وعلمية، ولما أنشأ صروف المقتطف صارت علمية صرفا؛ فكانت مجلته ولا تزال سجلا للاكتشافات الحديثة والمذاهب العلمية، وهكذا مشت الترجمة في مدارج زمن النهضة الأدبية، حتى بلغت اليوم ما بلغت مع أدباء وقتنا الحاضر.
إن سير الأمور قلما يختلف، فلو لم نترجم فلسفة اليونان إلى العربية لم يكن للعرب فلاسفة كالفارابي، وابن سينا، والغزالي، وابن رشد، الذين استعان علماء الغرب بكتبهم على تفسير كتب أرسطو، وتفهم معانيها.
2
إن هذا الأسقف كان المترجم والمصحح لما يترجم. شغفته اللغة العربية وكل ما يتصل بها؛ فخاطر بنفسه وأم الأندلس، راكبا البحر، يوم كان المركب لا يزال لبنانيا؛ ليمتع نظره بآثار العرب الخالدة فيها، ويقرأ في مكتباتها ما لا تقع عينه عليه في الأقطار العربية.
ناپیژندل شوی مخ
كتبه:
له - عظم الله أجره - مائة وأربعة كتب، بين مؤلف ومعرب ومصحح ومختصر. بعضها أدبي ولغوي وشعري؛ وأكثرها ديني على هوى ذلك الزمان. فهو واضع أول حجر في صرح النهضة في لبنان.
نعم قد سبقه مترجمون آخرون في القرون الوسطى، ولكن تعبيرهم كان ركيكا جدا، وهذا ما حمل أحمد فارس الشدياق، حين آلت إليه زعامة النهضة، على التهكم بلغة رجال الدين، والتنادر عليهم في فارياقه، ولم يحترم منهم أحدا غير هذا الحبر فقط.
الشاعر:
كان هذا العلامة يعرف أربع لغات على حقها: العربية، والسريانية، والطليانية، واللاتينية، فهو في تفكيره متأثر بما عرف، وقد استغل هذا في شعره حين قال:
أحاول في عمري من الدهر راحة
وهل تطلبن العقل والظرف من زنجي
فأصبح دهري عاجزا عن سعادتي
كأني حرف الحلق والدهر إفرنجي
وتضلعه من العربية حمله على نظم «المثلثات الدرية»، فقال قصيدة طويلة من طراز مثلثات قطرب ... وهاك هذين البيتين منها:
ناپیژندل شوی مخ
طوباك يا رامي السلام
وقيت من رمي السلام
احفظ يمينك والسلام
من حر نار الغضب
وجد يوم السبت
وشد نعل السبت
وكل حشيش السبت
تقشفا للذهب
أما أغراض شعره الأخرى، ففي مدحه تعالى، والسيد المسيح، وأمه، والرسل، والرهبانية، وغير ذلك، فكأنه صوفي من طراز آخر حين يقول:
الله الله أنت الفوز والوطر
ناپیژندل شوی مخ
في العاشقين وأنت الفوز والوطر
هويتكم والهوى مني على صغر
يا حبذا واله قد زانه الصغر
الذكر صورتكم، والقلب مركزه
والحب دائرة شعاعها الفكر
كان وجهك مغناطيس أنفسنا
فحيثما درت دارت نحوه الصور
خسرت في عشقكم دمعي وأسعدني
يا ربح قوم بكم بالربح قد خسروا
أروم رؤيتكم، والدمع يمنعني
ناپیژندل شوی مخ