ولم يعلم ماذا دار بين هذه النمرة الهندية وبين هذا الأسد الباريسي من الحديث، غير أنهما بعد أن تباحثا مباحثة طويلة غادرها، فركب مركبة وذهب إلى قصر المركيز فان هوب ، فدخل وسأل عن المركيز فقيل له إنه لم يعد، ولكنه علم أن المركيزة في المنزل، فأمر الخادم أن يخبرها بقدومه وتبعه إلى قاعة الاستقبال، فقام ينتظر فيها، وبعد حين أقبلت المركيزة فحيته مبتسمة، ولكنها لم تتمالك من إظهار انقباضها؛ لأنها ذكرت حين رأته أنه عدو شاروبيم، ولكنها لم تجد بدا من مجاملته ومحادثته، وما زالت وإياه يتباحثان في الأحاديث المألوفة حتى أتى المركيز، فذهب بروكامبول إلى غرفة أشغاله كي يخبره بالسبب الذي أتى من أجله.
ولما اختليا ولم يكن روكامبول قد زار المركيز غير مرة واحدة، فعرفه بنفسه وقال له: عفوك يا سيدي، فإني ما أتيت إلا لشأن خطير قد يثقل عليك، ولكني لا أجد بدا من إخبارك به، ثم أني لا أجد بدا لإطلاعك على ما أتيت لأجله من أن أخبرك بشيء من تاريخ حياتي لشدة علاقته بهذا الشأن.
فأظهر المركيز الانذهال وقال: قل ما تشاء، فإني مصغ إليك.
فقال روكامبول: كنت يا سيدي منذ عام في مدينة نيويورك، وليس لي من العمر غير أربعة وعشرين عاما، فكان لي من الجرأة والإقدام والمطامع ما ينطبق على هذه السن، وقد لقيت في هذه المدينة العظمى فتاة غريبة العادات والأخلاق بارعة الجمال، وهي تسمى باسم أسرتك لأنها تدعى مسز دابي ناتها فان هوب.
فدهش المركيز وقال: إنها ابنة عمي، وقد مات أبوها في الهند، فكيف هي في نيويورك؟ - لقد كانت فيها، أما الآن فهي هنا في باريس. - ألعلك قادم من قبلها؟ - نعم، هي التي أرسلتني إليك، ولكنك وعدتني يا سيدي أن تسمع حديثي. - نعم، وها أنا مصغ إليك.
فقال روكامبول: إني عندما لقيتها في نيويورك بذلت جهدي مع كثيرين غيري من أعيان تلك العاصمة للتعرف بهذه الهندية، فكنت الفائز دون سواي، وبلغ من جسارتي أني كاشفتها بغرامي، فكانت تصغي إلي وتبتسم ابتساما حزينا لا يظهر إلا على شفتي من لقي عناء شديدا في جهاد الحياة، وقالت لي: إن القلب الكريم لا يحب غير مرة واحدة، وقد أحببت هذا الحب. فاضطرب المركيز عند سماع هذا القول، غير أن روكامبول تظاهر أنه لم ينتبه إليه واندفع في حديثه فقال: ولكني لم أقتنع بجوابها، وترددت عليها كثيرا وكل يوم أكاشفها بهذا الغرام، فلم تكن تحتفل بي إلى أن مدت لي يدها يوما وهي تقول: أتريد أن تكون صديقا لي؟ فقبلت تلك اليد وقلت لها: سأكون ما تشائين فدعيني أرجو على الأقل. فهزت رأسها وقالت: لعلك ترجو رجاء باطلا، فلقد مات الحب في قلبي.
ثم نظر روكامبول إلى المركيز وقال له: أسألك العفو يا سيدي، فإني لم أذكر لك جميع هذه التفاصيل إلا لغرض واحد، وهو أن أظهر لك أن ابنة عمك كانت تحب حبا قديما برح بها وألقى في قلبها اليأس.
وكانت تدعوني دائما إلى زيارتها، فما زلت اختلف إليها ستة أشهر حتى شعرت بأني أصبحت عاشقا مفتونا بها، ولكنها لم تشأ أن تقف معي إلا موقف الصديق، ثم طرأ علي من الشئون ما دعاني إلى الرجوع إلى باريس، فعدت إليها منذ عام، وكأن ملاذ هذه العاصمة وزخارف الحياة فيها شفتني من ذلك الغرام، فنسيت كل ما مضى، إلا أني أصبحت اليوم وإذا بكتاب ورد إلي من ابنة عمك تقول فيه هذا القول المتقطع. ثم أطلعه على كتاب بخط الهندية يتضمن ما يأتي:
أنا في باريس. أسرع إلي، فلم يبق لي من الحياة إلا ساعات معدودة، وإني أعتمد على صداقتك.
فقرأه المركيز وعرف أنه خط ابنة عمه، وصاح منذعرا: بربك قل لي ماذا أصابها، أهي ميتة أم لا تزال في قيد الحياة؟ - كلا، فإنها لم تمت بعد، فأصغ إلي، إني عندما قرأت هذا الكتاب أصابني من الاضطراب ما أصابك، فأسرعت إليها فوجدتها جالسة على مقعد شرقي، وهي تبتسم حسب عادتها وليس بين ثنايا وجهها ما يدل على ما جاء في كتابها، فدهشت وحسبت أنها أرادت المزاح.
ناپیژندل شوی مخ