رأوا خفضكم طول الحياة لهم رفعا
وسيدي صاحب الدولة والرتب العالية إنجيله غير إنجيل المسيح الذي يتبجح باسمه، إنجيله كتاب عرفناه، هو: «كتاب الأمير» رأيناه يتخذه دستورا لأعماله وأقواله، «وكتاب الأمير» لمكيافلي - أيها السادة - يعلم الكذب في السياسة والمكر والغدر والسفسطة والرياء.»
قال «الكردينال ريشليو» في وصيته السياسية: إن الحاكم لا ينبغي أن يولي صاحب الشرف والوجدان، وفي كتبنا العربية التي تعلم الملوك والسوقة السلوك كثير من هذا، وإن نصيحة «ريشليو» لتذكرني بما قاله عمر عندما عزل زياد بن أبي سفيان، قال زياد: لم عزلتني يا أمير المؤمنين ألعجز أم لخيانة؟ فقال عمر: لم أعزلك لواحدة منهما ولكني كرهت أن أحمل فضل عقلك على الناس، فالشرف إذا والكياسة والذكاء والوجدان؛ عيوب في صاحب السياسة، غربيا كان أو شرقيا، إلا إذا استخدمت في المصانعة والكذب والمكر والخداع.
على أن الشرقيين قد لا يرون في مدنية أوروبا غير آفات أفضت فيها في خطاب لي سبق فينفرون منها بل ينبذون من أجلها المدنية كلها زاعمين أن فيها ما لا يوافق حالهم وشئونهم وطباعهم. ولعمري إن ما فسد في تلك المدنية لا يوافق أحدا من الناس لا شرقيين ولا غربيين.
وفي أوروبا وأميركا كثيرون من ذوي الرصانة والحصافة، نوابغ في العلوم وفي الفنون وفي الآداب، يحملون على ما في مدنيتهم من الموبقات والمنكرات وأكثرها آفات ظاهرة تعرف الحكومة كيف تتأثرها لتصلحها أو لتستأصلها. وأما في الشرق فآفات المدنية خفية دقيقة يصعب على العلماء معالجتها ويعجز في سبيلها الحكام.
الغربي بما فطر عليه من حب الحرية والجهر بالأمور يجرأ على عمل قد يكون مخالفا سنن العدل المصطلح عليها، ولا يخفي قصده عن الناس بل يسير إليه في رائعة النهار ويعززه بحجة عقلية أو سياسية. وقد يكون مجرما مع ذلك أو فوضويا، أو شاعرا أو سريا. أما الشرقي فنفسه كتاب من الأسرار مختوم لا يعلم منه إلا ما نقش على الختم «اللطف، المجاملة، المصانعة، الاستسلام» تحدث الشرقي في أجل الأمور أو في أحقرها، وتطلق لنفسك العنان في النصح أو النقد أو التقريع، فيهز رأسه مؤمنا محبذا، أي نعم، تمام، الحق معك، هذا صحيح، حبذا والله. ثم يذهب في شأنه ثابتا في ضلاله.
إخواني، في كل أخلاقنا الكريمة الشريفة ما وجدت خلقا واحدا يقارن الجرأة الأدبية والحرية الأدبية، شعوب وأمم تفرقوا مذاهب وهم في حاجة إلى التفاهم قبل كل شيء، ومفتاح التفاهم التصريح بمقاصدنا وغاياتنا، التصريح بما تكنه أفئدتنا مما يختص بشئوننا الاجتماعية والدينية.
أما هذه الحرية السياسية التي ترفع في الجرائد وفي الأندية عقيرتها فليست صافية من شوائب التقية والتعصب والمخاتلة. لم يزل هذا الشرقي شرقيا - مسلما كان أو مسيحيا - فيقف مثلا أمام الحاكم مكتفا مزررا، ويتأدب تأدبا لا يمنعه من الغيبة والنميمة عندما يخرج من الديوان، ويظهر أن سب الحاكم سرا، هو خلق قديم من أخلاق الشرقيين؛ لذلك قيل في الأمثال: ادفع إليهم ما طلبوا من الظلم ولا تنازعهم فيه، وكف لسانك عن سبهم.
5
على المرء أن يدفع الحجة بالحجة، والظلم بالحق، بل بالتمرد إذا اقتضى الأمر والعصيان، فيكون التمرد - إذ ذاك - حقا والعصيان واجبا، عليه أن يطالب أبدا بحقوقه المهضومة مهما كانت، فإذا نام عن صغيرها لا يستطيع صيانة كبيرها، ولكن الشرقي، لوفرة أدبه، أو لكبر نفسه، أو لشدة ورعه، يغضي على الضيم ويعود إلى الله، وقد يتأوه في سره ويشكو الزمان.
ناپیژندل شوی مخ