والحق يقال: إن في الناس حتى في الغرب كثيرين مثل الشرقيين يسكتون ولا يعارضون ما زالت تجارتهم رائجة، وما زالوا على شيء من العيش رغد هنيء، ولكن هذه المظالم التي أصبحت من المزايا الشرقية المحضة لا تكثر في الأمم الغربية، ولا بد للتجار أصحاب الذراع والميزان من المجاملة والمكايسة، فالحضارة تنبه في الإنسان غرائز لا أثر لها في فطرة أهل البادية، وحبذا أخلاق العرب، حبذا البأس والمنعة وعزة النفس والمروءة والإباء والشهامة والوفاء. ولكن الأحكام الشرقية والتقاليد الدينية والمذاهب السياسية ذهبت بأكثرها.
في كل جيل أباطيل يدان بها
فهل تفرد يوما بالهدى جيل
ترانا لا نأتي عملا لا يكون منصوصا عليه في كتب الدين، ولا نخطو خطوة لم يخطها قبلنا أجدادنا، ولا نقول في مشاكل الحياة قولا لا نستطيع إسناده أو إسناد مثله إلى أحد الأئمة الكبار، ولا يمسنا ضر أو خير إلا منه تعالى، فنتوه في جهلنا قائلين: إنا لله! ونتربع على بساط المذلة صارخين : إنا لله! ونركب مطية الجبن والعجز متأوهين: إنا لله! وتحل بنا سبع ضربات مصر فنصرخ مبتهلين: والحمد لله والشكر لله!
جميل هذا التناهي في الورع والتقوى، جميل هذا الصبر والاستسلام، ولكن في المغرب أمما أراحوا الله من صراخهم، وشكواهم فأفلحوا، أي سادتي، خلق الله الطير ليطير بجناحيه لا ليتمرغ بهما في أوحال اليأس ويكسرهما على صخرة الإيمان، وأجنحة النفس والعقل في الشرقي لم تزل - والحمد لله - سليمة ولكنها مكبلة مقيدة، قيدتها القناعة والاستسلام، قيدتها عقيدة القضاء والقدر، قيدتها الأحكام الظالمة، قيدتها السيادة الدينية المطلقة، قيدتها الطاعة العمياء، قيدتها التقاليد والخرافات، بل قيدتها المرأة في قيودها. حلوا قيود المرأة الشرقية فتحل قيود الشرق كلها تدريجا.
ومن غريب سجايا الشرائع والأحكام أنها تحرر جيلا من الناس وتستعبد آخر، كانت عقيدة القضاء والقدر قديما من أكبر عوامل النصر في الإسلام، وهي اليوم من أكبر العوامل في تأخر المسلمين، والشريعة التي حررت المرأة من أحكام الجاهلية وعاداتها أمست اليوم نيرا على المرأة لا يطاق، الشريعة التي تقبلها امرأة العصر الخامس لا تقبلها امرأة العصر العشرين، والتي تقبلها امرأة اليوم قد ترفضها امرأة الغد، وهذا هو ناموس الترقي الحي الدائم الذي يخدع المتشرع والمصلح والحكيم، سنن الأدب والدين والسياسة إنما هي من عقل الإنسان، وإنما هي التي أبقت عقل الإنسان في قيود الجهل والعبودية زمنا طويلا.
على المرء أن يكون متيقظا عاملا ناشطا مفكرا، فلا يقبل اليوم من الشرائع التي سنت لأجداده ما لا يوافق حاله، ولا يساعده في ترقية نفسه وعقله، بل في ترقية قواه الحيوية والروحية كلها. عليه ألا يكون ممن:
عاشوا كما عاش آباء لهم سلفوا
وأورثوا الدين تقليدا كما وجدوا
فما يراعون ما قالوا وما سمعوا
ناپیژندل شوی مخ