265

أما عوامل التربية في الأخلاق فعديدة أذكر أهمها الليلة ولا أفيض فيها لضيق المقام، وإذا حصرت النظر في أوروبا فلأن مدنيتها خلاصة مدنيات العالم جمعاء، في الأعصر الخالية عند سقوط الدولة الرومانية كان الدين المسيحي العامل الوحيد الصالح في تلطيف أخلاق البرابرة هناك، ولكن الفساد الذي اعترى الكنيسة وأربابها بعد ذاك تفشى في البلاد وعم شعوبها فخيمت عليهم ظلمات أمرها في التاريخ مشهور.

وكلنا نعلم ما كانت فيه تلك الأمم من الجهل والخرافة والخمول يوم أشعل العرب مشعال العلوم في بغداد، فاتصل نوره بالأندلس وشع منه أشعة في صوامع الرهبان في أوروبا. فالرهبان إذن أول من اشتغلوا في إحياء العلوم في بلاد لم يكن ليسمع فيها غير قرع الرماح، وصليل السيوف، وصوت الكنيسة الرهيب.

وللحروب الصليبية فضل في تدميث أخلاق الأوروبيين، وتلطيف أذواقهم وتحسين نسلهم. ونظام الإقطاعات الذي لا يرى فيه بعض المؤرخين غير الجور والعسف والاستبداد ربى في العامة أخلاقا شريفة أهمها الوفاء والصدق، وأسس في الأسر الأوروبية سيادة المرأة. والنهضة الإصلاحية الدينية حررت نفس الإنسان من قيود السلطة المطلقة، والثورة الإنكليزية الأولى أعطته حجة بحقوقه، والثورة الإفرنسية الشهيرة متعته بها وعلمته التؤدة والاعتدال. وهناك عوامل أخرى عديدة كاكتشاف أميركا، واختراع الطباعة، وإحياء الفنون والصناعات، مما هو من نتاج العقل الذي يجلو مظاهر الأخلاق ويشحذها.

ولا يفوتننا أن نذكر بعض الفلسفات الأوروبية وفضلها في تهذيب الأخلاق كالفلسفة الاستقرائية التي أحياها «ديكرت» في فرنسا و«بايكن» في إنكلترا، فلقنت الأوربي حكمة الريب وعودته أن يسأل «كيف ولماذا» في كل عقيدة ومذهب وتعليم وحببت إليه البحث العلمي والتمحيص. ثم الفلسفة الكمالية الألمانية التي غذت عقله ونفسه، ثم الفلسفة الإنكليزية العملية التي غذت جسده فاشتد ساعده وصحت عزيمته.

وفي هاته الفلسفات كلها ترى أن المقام الأول في العمل إنما هو للإرادة، فالإرادة إذا ضعفت في المرء ضعفت فيه فضائل النفس والعقل والجسد كلها، والإرادة مثل كل الجوارح فينا ينميها الترويض وتعززها الممارسة. وهل تظنني مغبونا إذا حرمت نفسي قليلا مما اعتدته من أساليب الراحة والرفاه أو عملت عملا صغيرا أستثقله متعمدا في ذلك لا إماتة نفسي بل ترويض إرادتي للعمل؟ فإذا مر علي سنة وأنا كل يوم أعزم عزما مهما كان صغيرا وأنجز العمل به أستطيع أن أقول مع الفيلسوف (كنت): «علي أن أفعل أذن لي أن أفعل.» إذ ما الفائدة من هذه الأفكار الجميلة أفكارنا، ومن هذه الأخلاق الفاضلة المجيدة، إذا كنا لا نروض أنفسنا لها، ونعمل بها عازمين حازمين، لينتفع بها الناس ولينتفع بها الوطن؟

ولا أنكر أن الضرورة في الأحايين تغير من أخلاق الناس فتحسنها أو تفسدها، ضاقت مدينة أثينة على سكانها أيام مجدها والأرض المجاورة لم تكن خصبة فقلت المواشي وعزت فأغفل الناس الأضحية، فأفتى الحكماء، أن هدية تهدى إلى الآلهة لخير من ثور يذبح لها، فاتخذ الأثينيون الفتوى سنة؛ لأنهم كانوا أشد من الآلهة حاجة إلى اللحم، وكان هذا سبب اعتدالهم وحكمتهم حتى إن الناس بعدئذ - وقد نسوا أو جهلوا الأسباب - قالوا: إن الأثيني أرقى في خلقه الديني من سواه، ومثل هذا في التاريخ أمثلة عديدة لأمور صغرت أسبابها وكبرت نتائجها.

أما عوامل الرقي الفلسفية والفنية التي ذكرتها فقد لا تلزم لتهذيب الأخلاق في القبائل البدوية، وقد تحرم منها أمة وتكون أخلاقها سليمة كأمة العرب في صدر الإسلام، ولكن الملك إذا اتسع وتعددت فيه المساعي والنزعات قام في ظله من مظاهر الأبهة والجلال، والنفوذ والاقتدار، ما لا تسلم عواقبه ويسلم الملك منها إذا حرم عوامل الرقي الخلقية والعملية والفلسفية والفنية. ولنا على ذلك شاهد من الدول الشرقية الماضية ومن الدولة العثمانية اليوم. ولكن بحثنا الليلة في الأخلاق لا في السياسة.

قد اتضح لكم إذا أن العوامل الاجتماعية تؤثر في الأخلاق مثلما تؤثر عوامل الإقليم - أي: الحر والبرد - في الحيوان وفي ما هو حيواني في الإنسان. بقي علينا أن ننظر خصوصا في ما يحط الأخلاق ويفسدها فتخمد في سبيل المجد والعلى ولا ينشط صاحبها إلى نصرة ما فيه إقامة حق أو إزهاق باطل. ولا يطمح إلى مأثرة ولا تسمو إلى منقبة همته، بل يغضي على الضيم خاملا وقد رئم المذلة والاستعباد.

وإن عبدا لعاداته الذميمة لكمثل عبد الحكومة الأثيمة، ففي الغرب - كما في الشرق - مذاهب وعقائد وتعاليم تذهب بالبأس والمنعة والشجاعة والإباء، فتطفئ في المرء نور الضمير، وتخدر منه الحس والشعور، وتقعد فيه الإرادة إلا في سبيل الأباطيل والمنكرات. أحقا أن الغاية القصوى من الحياة أن ينجح الإنسان في عمله مهما كان وكيفما كان؟ على رسلك أيها المتكالب في سبيل المال العابث بما في الحياة من جوهر الكمال. إن في الحقول وفي الحراج وفي المناجم ما في السماء وفي البحار وفي النفس البشرية من جمال، لا يوزن منه للتجار ولا يكال، وأنت أيها الزعيم، زعيم العمال، سمعت أناسا يقولون: إنك تتاجر بالفقر والفقراء فتمسي غنيا، وأنتم أيها البائسون المؤمنون بمن لا يصدقون ويل منكم ساذجين، يشحذون فيكم الغرائز ويقضون على أخلاق سليمة فيكم خامدة ويغرون عليكم الأسياد، وإلى غاياتهم على بؤسكم يسيرون.

وما انخفضوا كي يرفعوكم وإنما

ناپیژندل شوی مخ