المذكورون، فتلقاه صاحبها الملك المغيث، وتسامع خوشداشيته به، وقصدوه من كل جهة، هم وغيرهم ؛ فرتب السلطان أمور الكرك وجعل لصاحبها حرمة في قلوب الناس. ثم تجهز بعد مدة في جماعة من خوشداشيته وغيرهم، وعدهم سبعمئة فارس - منهم ثلاثمائة مقاتلة - وقصد الديار المصرية، وفعل ما لا فعل غيره، وهجم على الديار المصرية، وفيها العساكر العظيمة، ولم يعلم به إلا وقد تعدى العريش، فخرجت العساكر من مصر صحبة الأتاباك فارس الدين أقطاي والأمير سيف الدين قطز ؛ فلما التقوا جال السلطان بين الصفوف ؛ وكان معه طبل باز، امارة بينه وبين أصحابه، فلم يبق مكان إلا وحس الطبل باز يسمع منه، تارة يمينا، وتارة يسارة ؛ وهجم إلى أن وصل السناجق، فقطعها، وكسر الرماح، ورمي النقار اتية، وبدد الجموع، وفعل ما لا فعله عنترة العبسي ولا غيره من أبطال الجاهلية والإسلام. ولما اشتفي قلبه بعض التشفي، وشاهد كثرة العساكر رجع كما قال الشاعر :
لا يركنن أحد إلى الإحجام
يوم الوغى متخوفة لحمام
فلقد أراني للرماح درية
من عن يميني مرة وأمامي
حتي خضبت بما تحدر من دم
أكناف سرجي أو عنان لجامي
ثم انصرفت وقد أصبت ولم
أصب جذع البصيرة قارح الأقدام »
ووسار السلطان في ثلاثة أنفس بغير زاد، إلا يأكلون الشعير، ويستفون الدقيق. وأقام ثلاثة أيام ما أكل شيئا، ووجد قطعة سكر فلم يجد شيئ يذيبها، فجعلها في فمه وبلها بريقه. ولما وصل منزلة أعوج كاد يهلك عطشة، فأرسل الله سبحانه فيها مطرة غرقت الأرض ولم يكن مع السلطان ما يشرب به، والأرض رمل لا يجتمع فيها ماء، فوجد السلطان مكان حافر فرسه قد اجتمع فيه ماء، فشرب منه، ووجد يسير تبن في مكان لو كانت فيه جبال رمال أذهبتها الرياح، كأن الله أرسله له، رفقة به ولطفا. فنزل السلطان وشكر الله، وجعل ذلك في طرف قبائه، وأطعم فرسه، وكان ذلك سبب السلامة.
مخ ۵۸