قال أحمد: إن الكلام مما يحتاج أن يتفهم ويصرف الرأى إلى الوقوف عليه ليدرك علمه. وقد تكلم الأوائل فيه، وطال خطبهم فقالوا: إذا كانت الأضداد من شأنها التباعد فالطبائع لم تزل مركبة على ما ترى، إذ من المحال أن تكون مفردة متضادة فتجتمع. وهؤلاء شيعة برقلس ومن يقول بقدم العالم والتركيب. وأما أفلاطون والفوثاغوريون فيقولون إن أوائل الطبائع طبائع مفردة وهى أربعة: الحر والبرد والرطوبة واليبوسة، وأن الحر مضاد للبرد، واليبس مضاد للرطوبة. فاجتماع الحر والبرد بالواسطتين اللتين هما اليبس والرطوبة؛ واجتماع الرطوبة واليبس بالواسطتين اللتين هما الحر والبرد، لأن ما لا يضاد مجتمع من ذاته، إلا أن بدء الاجتماع اجتماع الحر مع اليبس فتولد منه ركن النار؛ وليس الحر مضادا لليبس، فليس بالمستحيل أن يجتمعا من ذاتهما، ثم اجتمع الحر والرطوبة أيضا، وليس كل واحد منهما مضادا لصاحبه فتولد منه ركن الهواء. ثم اجتمع البرد واليبس وليس هما متضادين فتولد منه ركن الأرض. ثم اجتمع البرد والرطوبة فتولد منهما ركن الماء. — فأما اجتماع الأركان وإن كان أحدهما يضاد الآخر فإنهما يتضادان من إحدى الحاشيتين ويتسالمان من الأخرى، فليس يستحيل أن يجتمعا من جهة التسالم، لأن الماء والنار يتضادان من طرفين والطرفان المتضادان مضادة للحر والبرد، واليبوسة للرطب؛ فالطرفان المتسالمان مسالمة الحر للرطوبة ومسالمة البرودة لليبس؛ وكذلك سائر الأركان سبيلها هذا السبيل. فلينظر الطالب بعين حكمته: فينظر فى الابتداء وعلته، وكيف تركب واجتمع ليسهل عليه الكثير من عمل التحليل والتفريق.
قال أفلاطون: وأصلح الوعاء والرباط ليكون مقتدرا على حفظ ما يحل.
قال أحمد: يقول الفيلسوف إنك محتاج إلى الوعاء الذى تحبس فيه ما تحل من العمل وتربطه به لئلا يفوتك ويفارقك، لأن الشىء الذى قد صار فى نهاية اللطافة طالب للعلو مفارق للسفل، وهو عسر الضبط جدا. فلهذا أمرك الفيلسوف أن تتقدم فيما تكف غائلته عن نفسك. وقد وضع الفيلسوف فى ذلك أعمالا واحتال فيه بحيل: كان من حيله وأعماله أنه كان يرد فى الشىء بعدما يخرجه عنه البعض ليكون ممسكا له. فإذا أراد استعماله فرقه عنه وأخرجه منه، لأن الذى قد حدث عليه الافتراق وتعوده مسارع فى المرة الثانية إلى ما يراد منه.
قال أفلاطون: وإن جعلت الرباط مساعدا كان بالجدير أن لا يداخل العمل ويركب معه — إلى أن قال: تحفظه لتأمن شأن السفل.
〈قال أحمد〉: يجب أن تخالف ما يراد فى العمل ضبطه لئلا يجتمع معه ويداخله فيضعف عندما يحتاج إليه إخراجه عنه. فإن المراد أن يحفظه لئلا يفارق. وأما قوله: «تأمن شأن السفل» فإن الآراء مجتمعة أن السفل فقير إلى العلو طالب لمخالطته والتشبث به. وتكلموا فى السماد وما تولد من القوى التى تظهر بعده فى النبات ما أدى إلى البيان أن أكثر نفع السماد لما قد خص به من تفاوت التركيب، وإنه من إعجاز الطبيعة. فليس كل ما تولد من أجل ما يذهب إليه، بل لما تقدم من القول فى أن من شأن البالغ فى التفاوت التشبث باللطيف لفقره إليه. فإذا تشبث به ضبطه وطلب اللطيف مفارقته إذ ينافره؛ فيظهر بعد ذلك مفارقا له فى الثبات. هذا سوى ما يفارقه فى الظل وغير ذلك مما لا يحس.
قال أفلاطون: والسيال أوثق ما تربط به.
مخ ۱۶۲