تسمح الحكومة لمأموري الإدارة في بعض المسائل كضبط الأشخاص المشتبه فيهم من الأجانب بدون أن يتداخل القناصل، فهلا سمحت بمثل ذلك لرجال الإدارة في المسكر، فتعهد إليهم أن يفتشوا المحال المشتبه في أنها تبيع المسكرات بلا رخصة أو تبيعها من الأجناس الرديئة، ولا يتوقف ذلك على أخذ الشراب المشتبه به وانتظار شهرين ريثما يحلل التحليل الكيماوي، فإن شوهد أنه رديء فيكون صاحبه قد صرف ما كان عنده منه، وإن ثبت أنه جيد يحق للبقال أو الخمار أن يرفع قضية على رجال الإدارة والصحة، وربما ربح القضية خصوصا إذا كان من غير رعايا الحكومة المحلية.
نعم، كيف يسوغ لرجال النيابة أن يفتشوا أي مكان يرتابون أن فيه أمرا محظورا وعملا يخل بالراحة، فإذا لم يجدوا فيه شيئا يعفون من العقاب ولا تقام عليهم القضايا، وكيف تقام القضايا على رجال الإدارة إذا فتشوا محلا عموميا، ولم يجدوا فيه شيئا من المسكرات وغيرها، فكما عهد لمأموري الإدارة أن ينظروا في المسائل البسيطة مباشرة بدون توسط القضاة وحسنت نتيجة ذلك، فقد كان الأحرى أن يعهد إليهم النظر في مسائل المسكرات لمطاردتها وتخفيف ويلاتها عن البلاد.
إذا أطلقت يد رجال الصحة والشرطة للبحث في الحانات، وعين مثلا يوم للكشف عن المشروبات، ورأى البوليس شبهة قوية في فساد الفاسد منها، وأساغت له الحكومة أن يحجزها كلها، حتى تتضح نتيجة التحليل الكيماوي، وجوزت الحكومة للبوليس إذا اشتبه في أي زجاجة كانت أن يفتحها في الحال، ويعمل بما يراه طبيب الصحة بدون تسويف ولا إمهال، إذا أساغت الحكومة ذلك فقل: إن هذه المسألة سارت الخطوة الأولى نحو الإصلاح.
كل هذه الملاحظات سهلة الإجراء، ولا يظن أن الامتيازات الأجنبية تحول دون تحقيقها، بل إن اللوائح والقوانين الموجودة لو جرى العمل بها، ولم تكن كعلم جابر - اقرأ تفرح جرب تحزن - توقف تيار المسكرات عن جريه بعض الشيء.
تقرأ في القانون المصري الجديد أنه يعاقب السكران ولو لم يعربد، وكان القانون القديم مثل القانون الفرنساوي لا يعاقبه إلا إذا عربد، فكم سكران يعربد كل يوم وليلة يا ترى، وكم سكران يقبض عليه ليعاقب فيكون عبرة لغيره؟
وكذلك ترى في لائحة المحال العمومية أنه لا يجوز فتحها قبل الساعة 6 صباحا من 15 أكتوبر إلى 14 أبريل، وقبل الساعة 5 صباحا من 15 أبريل إلى 14 أكتوبر، وأن ميعاد إقفال هذه المحال يكون في نصف الليل ابتداء من 15 أكتوبر إلى 14 أبريل، وفي الساعة الواحدة بعد نصف الليل من 15 أبريل إلى 14 أكتوبر، وفي المادة السابعة عشرة من هذه اللائحة لا يجوز لأصحاب المحال العمومية أو لمستخدميها أو للخدمة فيها قبول أشخاص في حالة السكر، أو بقاؤهم فيها، ولا صرف المشروبات لهم، ولكن متى نفذت هذه اللائحة؟ وإذا لم تنفذها الحكومة حتى الآن فمتى يكون تنفيذها؟ أو أنها من جملة اللوائح التي هي حبر على ورق طول بلا طول ولا طائل.
ويا ليتنا نعرف على وجه الصحة كم يدخل المواني المصرية كل سنة من الخمور المغشوشة وغيرها، وكيف تكثر سنة عن سنة، ويا ليت الحكومة تضرب على واردات الخمر ضرائب فاحشة كالتي ضربتها حكومة السودان ليصعب تناولها على الفقير، ويوكل - كما قلنا - أمر المشروبات التي تصنع في القطر لرجال الإدارة والصحة ينظرون فيها، ويضيقون على شاربيها وبائعيها تضييقا فعليا لا اسميا، فقد ثبت لأهل النظر أن الخمور المصنوعة في معامل الغرب الكبرى هي أجود ما يعمل من نوعها في المعامل الصغرى، وكذلك ما يصنع في هذه لا نسبة بينه وبين ما يصنع منه في القطر.
وليت شعري لم لا تجري عليه حكومة مصر في مسألة المسكر على نحو ما تجري حكومة السودان، ولو فعلت ذلك لما أتى بضع سنين حتى يخف شاربوه، ويقل بائعوه بيننا، ولكن حكومة تلك الجهات تريد هناك رجالا يعملون وهم صحاة لا سكارى، وفي مصر لا يهمها سكر القوم أم عربدوا، نعم ، إن إنكلترا نفسها في بعض الأقاليم من أفريقيا منعت المسكرات بتاتا، ولكن حكومتنا المباركة عندنا لم تتسامح بالكحول، بل أضافت إليه الحشيش، فتأمل حالة أمة ينخر سوس فساد هذه المواد القتالة عظمها، ويعبث في دمها ولحمها. •••
ماذا عرفنا من مضار الخمور؟ عرفنا أنها تحدث نشوة في النفس، وطربا في الفؤاد، ونفعا في الصحة، ونشاطا في الجسم، ونضرة في الوجه، وعرف الغرب منذ أوائل القرن التاسع عشر مضارها في إزهاق الأرواح، وتشويه الخلقة الطبيعية، وتأثيرها في النسل والعقل، وأنها يزيد بها عدد المعتوهين، بل كاد بعضهم لا يرى استعمالها حتى في الأدوية، يكثر السكر في الأصقاع الباردة مثل روسيا والسويد وشمالي فرنسا ونورمنديا وإنكلترا، ولكن يكثر مناهضوه وتفكر حكوماته في الخلاص منه، فأين هي مجتمعاتنا التي نخطب فيها بمضاره؟ وأين حكومتنا من مناهضته؟ بل إنك ترى زعيم الاحتلال في تقريره مغتبطا بأن الخمور التي دخلت السودان في العام الماضي «كانت ولله الحمد» من النوع الجيد، أي الذي لا يضر بصحة المأمورين والموظفين من الإنكليز والوطنيين.
آه، متى يكون شأن الشرق في السعي وراء المنافع سعي الغرب فيها؟ الغرب لم يكتف بتأليف المجتمعات لمقاومة المسكرات، والنعي على شاربيها، والتنفير منها بالقدوة والتعليم والإرشاد، بل عمد إلى سن القوانين، فاستعان بها لإنقاذ أبناء الجيل الحاضر والجيل الآتي من مضار الألكحول، وكانت أبدا قوانينه تابعة للزمن سائرة بحسب سنة التكامل.
ناپیژندل شوی مخ