هذه بلاد السويد، وهي من البلاد التي يقرص فيها البرد إلى التي لا فوقها، ومع هذا نراها كما وصفها مكاتب الطان هذه الأيام بعد أن كان يصيب الفرد فيها سنة 1830م 40 ليترا من المكسرات، أصبح لا يصيبه أكثر من 6 ليترات سنة 1895 بفضل ما قام به قادة الأفكار وتابعتهم عليه حكومتهم، أي إنه نزل معدل مقطوعية كل فرد في السنة من المسكر إلى سدس ما كان عليه قبل 65 سنة.
بدأ الإفراط في تعاطي المسكرات ببلاد السويد منذ أواخر القرن الثامن عشر، لما احتكرت الحكومة الألكحول، فاسترسل أهل البلاد في تعاطيها حتى كاد سيلها يجرف كل ما وقف في سبيله، ولم يسكر إلا بسكر منيع أقامته فئة من أهل الخير، وفي مقدمتهم رجل اسمه بطرس ويزلكران عميد مدينة غوتمبورج، جاهد هذا الرجل ثلاثين سنة حتى وفق عام 1855 إلى وضع حد لهذا السم القتال، فبدأ دور الإصلاح، وكان ما عرضه من الأفكار أساسا لوضع القوانين الحاضرة في هذا السبيل، وكلها ترمي إلى معاملة بائعي المسكرات وصانعيها بالقسوة الزائدة.
ضربت الحكومة السويدية على صانعي المسكرات ضرائب فاحشة، وأخذت تزيدها الحين بعد الآخر حتى بلغت سنة 1888م 138 فرنكا على كل هكتولتر، أي مائة لتر، فعجزت المعامل الصغيرة عن صنع المسكرات إذ قضي على كل معمل، إما أن يخرج أربعة هكتولترات في اليوم من الألكحول الخالصة أو يغلق أبوابه، ولم تسمح الحكومة بتنزيل هذا المعدل إلى هكتولترين ونصف إلا سنة 1871، وحظرت أيضا صنع الألكحول إلا في شهرين من السنة فقط، ثم تسامحت ورخصت على توالي السنين بأن تصنع سبعة أشهر في السنة.
وكان من نتائج هذه الذرائع الشديدة أن قل في البلاد عاصرو الخمر، فبعد أن كان سنة 1829م 124 و172 معملا في السويد نزل سنة 1898 إلى 128 معملا.
وجعلت تلك الحكومة بيع المسكرات حرا في الجملة، إلا أنها جعلت معدل ما يباع منه بالجملة 250 لترا، وألا يباع بالمفرق أقل من لتر واحد؛ ليأخذها المبتاع معه، ولا يشربها في المحل الذي يشتري منه، وعاملت الحانات بالشدة الزائدة، وكذلك محال بيع المسكرات، فأمرت أهلها أن يغلقوا محالهم الساعة الثامنة مساء في القرى والساعة العاشرة في المدن، ولم تسمح لبائع أن يتقاضى مالا من رجل ثمن خمر باعه إياه بالنسيئة.
وجعلت السويد 42 فرنكا ضريبة على كل هكتولتر من الألكحول الصافي وهي ضريبة فاحشة، ومنعت كل مديرية من بيع الخمر في دائرة اختصاصها، فأدى ذلك إلى إلغاء معظم المحال التي تبيع بالمفرق، بحيث أصبحت لا ترى في قرى بلاد السويد - وسكانها نحو خمسة ملايين - سوى 123 محلا لبيع المسكرات، بل إنك تمر في أربع ولايات، ولا تجد محلا واحدا لبيعها.
وابتدعت مدينة غوتمبرغ طريقة لفتت إليها الأنظار في جميع الأقطار ألا وهو أن تعهد بتجارة العرقى في كل مقاطعة إلى جمعية تضع منها رأس المال، ولكنها لا تأخذ من الأرباح إلا الفائدة المعتدلة المتعارفة، وتترك ما زاد عن ذلك يصرف في أعمال نافعة؛ فنتج من ذلك أن كل جمعية من هذه الجمعيات لم تر من مصلحتها أن تطلب المزيد في توسيع أعمالها، وبلغت الحال بكثير من أمثال هذه الجمعيات أنها لم تعط جانبا عظيما من الرخص التي يحق لها إعطاؤها، وإذا كانت كل حانة تقدم طعاما أصبح صاحبها لا يربح من الشراب بقدر ما يربح من الطعام؛ ولذلك كان من مصلحته ألا يكثر من بيع الألكحول.
وأنشأت هذه الجمعية في مدينة غوتمبورغ مثلا مطاعم حسنة لا تقدم فيها للمستطعمين غير نوع من المشروبات فقط، رأت أنه يعين على اشتهاء الطعام، وأنشأت في أنحاء كثيرة من المدينة غرفا للمطالعة، يدخلها في السنة نحو ثلاثمائة ألف مطالع، وبهذه الطريقة نزل معدل تناول المسكرات في العشرين سنة الأخيرة إلى 40 في المائة بمدينة أستوكهلم وإلى 45 في مدينة غوتمبورغ، وسنت السويد عام 1892 قانونا إجباريا يقضى فيه على جميع المدارس أن تلقي دروسا في طبيعة المشروبات الروحية وتأثيراتها المضرة.
هذا ما قامت به حكومة السويد، التي لا يحظر دينها تعاطي المشروبات، وهي البلاد المشهورة ببردها وزمهريرها، فما الذي قامت به الحكومة المصرية التي تحظر شريعتها كل مسكر وحرارة إقليمها لا تعذرها في الاستهتار والاسترسال في كرع كل ما يخترعه المخترعون من أنواعها، وما يصنعه الصانعون في أرضها ليبيعوا من فقيرها الكأس بمليم، فيورده موارد الهلاك في دار الجحيم، فليت أهل شمالي أفريقيا يعملون هم وحكومتهم ببعض ما عملت به حكومة السويد في شمالي أوروبا.
فإن قالوا في الإحصاء الأخير: إن في نيويورك وسكانها ثلاثة ملايين ونصف 10820 محلا لبيع المسكرات بالمفرق، وفي باريز وسكانها مليونان ونصف 30000، وفي لندرة وسكانها أربعة ملايين ونصف 5860 محلا، فأنا أقول: إن في هذه العاصمة الأسيفة أكثر من هذا العدد، يبيع لأهلها الصبوح والغبوق من فاسد الألكحول، فيفسد الأجسام والعقول.
ناپیژندل شوی مخ