ولو عقلا لاستعاضا عن التلهي بهذه السفاسف بإدارة شئون مزارعهما الواسعة، وتحسين طرقها وتنمية غلاتها وثمراتها، ولكن هو حب الرئاسة يستلب الألباب وفي الأمثال: «يا حبذا الإمارة ولو على الحجارة.»
ولطالما سمعنا أن فلانا غادر سكنه ومسكنه، تاركا دخلا يكفيه وعياله لأن يعيش عيش الاستقلال، فيوكل به من يسرق نصفه لينتظم في سلك الموظفين، ويأخذ من استخدامه ما يوازي النصف الذي فقده بغيابه ويغتذي من دماء الأمة سحتا بحتا وحراما محضا ليقال عنه: إنه من الموظفين، ويخاطب بالفضيلة والسعادة، ثم إذا كثر سواد أقرانه يقضي حياته قلق الضمير، وربما أنفق كل ما يملكه من تراث آبائه؛ ليرتقي إلى وظيفة أعلى من وظيفته، ويسبق من سبقوه أو هم لاحقوه، وما الموظفون في الحكومات الاستبدادية براغبين أن يعدوا من ممثليها ليحموا ما يملكونه من اعتداء المعتدي، وتعسف الظالم كما هي دعواهم، بل ليكونوا جلادين في تلك الدولة، ويسوغ لهم إتيان كل منكر أرادوه بلا وازع ولا رادع.
ألا وإن الأمثال لكثيرة على من آثروا العيش الاتكالي، ورضوا بالإسفاف إلى الدنايا كأصحاب الأوقاف ممن يرضون بالكفاف من العيش، ويقنعون بدريهمات تأتيهم من وراء أجدادهم، أضف إلى زمرتهم من حبسوا أنفسهم في الصوامع والجوامع مثل المدرس والمؤذن والخطيب ممن يكتفون بالنزر من المشاهرات، يقبضونها ببذل ماء المحيا، ويصرفون لأجلها من الأوقات ما لو صرفوه في بيع الثرى لأثروا به، ثم يرقبون ما يأتيهم من أجور الطلاق والمناكحات، ويتلمظون بطعام الولائم والوضائم، ويقنعون بتقبيل الأيدي ومصافحة المريدين، وكذلك حال الرهبان والقسيسين وسائر من يتصرف باسم الدين، وهم فائضون عن الحاجة، فكلهم يتقربون بالفاقة إلى مولاهم، ويستوكفون أكف الصدقات، وينتظرون قيم الصلوات والدعوات، وهذا الخلق مستحكم من المسلمين بحكم التربية أكثر منه بغيرهم من الطوائف.
إليك شرح الاتكال المجسم الذي شكا منه كبار الفرنسيس، وهو عندنا في أرقى درجاته، ولا نشكو ولا نتبرم، وأما شكواهم من كثرة المرشحين للحرف الأدبية فيقابله شكوانا من قلتهم إذا لم نقل من فقدهم، يعوزنا الصحفي العلامة، والطابع الماهر، والطبيب النطاسي، والمحامي الحاذق، والاقتصادي المدرب، والرياضي المنجذ، والطبيعي المتعقل، والمهندس الفطن، والسائح الثابت، والممثل الفاضل، ممن تبرم بكثرتهم في فرنسا صاحب سر تقدم الإنكليز السكسونيين، ولكننا نحن في غنية عن هذا العدد الدثر من الحاجب والكاتب والمصاحب، والجاسوس والمسجل، والرئيس والمرءوس، بل وألوف مؤلفة من أصحاب الرواتب بلا عمل الذين يأكلون مال الأمة بالباطل، ويعيشون على عاتقها حملا ثقيلا، فلا هم بوجودهم ينفعونها، ولا هم عن مغرمها غافلون.
أين حال الأغنياء والأعيان المتهافتين على المناصب في بلادنا من أهل تلك الطبقة في إنكلترا مثلا حيث الحكومة تخطبهم، والشعب يطلبهم، وشتان بين خاطب ومخطوب.
كتب أحد سراة بريطانيا إلى صديق له يقول: دع الناس يطلبون الأرزاق من الدولة، فأنا لا أنحو منحاهم؛ لأنني أقدر أن أكون غنيا بتسامي عن الدنايا، ولا أرتضي أن أشين خدمتي لوطني بفوائد ذاتية، فإني أعمل في بستاني بيدي وأجتزئ بالقليل من النفقة عن الكثير.
وهو - كما رأيت - كلام من يوقن أن الإمارة ليست بمذهب طبيعي للمعاش، بل كلام من ارتقى وتهذب وعلم علم اليقين أن الحكومات ليست إلا خادمة للأمم، وأن الشعب في غنية عنها ولا غنى لها عنه، فمتى يكون مثل هذا القول لسان حال أعيان بلادنا حتى لا يكونوا على أمتهم أضر من العث في الصوف والدودة في الكرمة، ولكن المشارقة انغمسوا في مضال الجهالة منذ قرون، حتى أصبحوا يقدسون حكامهم ومن انتسب إليهم، وغالوا في تعظيمهم إلى أن بلغوا بهم منازل الألوهية، وأنشئوا يستحلون لهم المحارم، ويطلقون عليهم ألقاب الربوبية.
وما برح الناس يبحثون عن داء المجتمع الإنساني، ويصفون له الأدوية وهو لا يزداد إلا تفشيا، وقد أعضل ما يسميه الغربيون بالمسألة الاجتماعية، حتى حار في طبها رجال العلم والسياسة، وأصبحت شغلا شاغلا لأهل المدارك السامية، ولذا قال صاحب سر تقدم الإنكليز السكسون: ليست المسألة الاجتماعية عبارة عن مساعدة الأفراد، كما أن مسالة الحياة لا تقوم بكثرة تناول الأدوية والعقاقير؛ إذ ليست المساعدة أو العقاقير من وسائل الحياة الطبيعية، وليست الحكمة إلا ما أدت إلى الاستغناء عن تلك الوسائل الصناعية، وليس من حل للمسألة الاجتماعية إلا جعل الأفراد بحيث يستطيع كل فرد منهم أن يقوم بأمر نفسه، وأن يرتقي بجده وعمله؛ لأن سلامة الاجتماع كالسلامة الأخروية تقوم بكل واحد على حدته، وعلى كل واحد أن يسعى إليها، وقولي هذا لا يروق في أعين الذين اتخذوا السياسة حرفة وغيرهم ممن طلبوا رزقهم من انحطاط الأمة، وضعف مدارك الطبقات النازلة، وكانت منفعتهم في بقاء الناس دائما على حالة يشبهون فيها القاصرين، حتى يتيسر لهم أن يكونوا عليهم أوصياء.
ونحن لو استشهدنا التاريخ لرأينا أجدادنا كانوا في منازع حياتهم أشبه بالجنس السكسوني، لا يعرفون مع بسطة الجاه واتساع الثروة والملك إلا النشأة الاستقلالية، بعيدين في كل أطوارهم عن السرف والترف، فقد اشتهر من سيرة الصديق الأكبر - رضي الله عنه - أنه كان يغدو كل يوم إلى السوق فيبيع ويبتاع، وكانت له قطعة غنم تروح عليه، وربما خرج هو بنفسه فيها، وربما رعيت له، وكان يحلب للحي أغنامهم، فلما بويع بالخلافة قالت جارية منهم: الآن لا يحلب لنا منائح
8
ناپیژندل شوی مخ