ألا وإن قيمة الجنس السكسوني بمجموعه، وقيمة الجنس الفرنساوي بخياره، فالإفرنسي المتوسط لا يساوي الإنكليزي المتوسط، والإفرنسي العالي يساوي أكثر من إنكليزي عال، ولكن الخيار من الفرنسيس لا يشغلون المكانة التي يستحقونها؛ لأنهم مغلوبون للأخلاق الحالية، لم يستوفوا شروط النفع ولا أتموا أدوات التهذيب.
وأنجح طريقة يجب على فرنسا سلوكها تحسين تربية خيارها وتربية أفرادها، ومزج الخاصتين السكسونية والإفرنسية وتطبيق تربية جمهور الإنكليز على تربية خيار الفرنسيس ليأتي الغد ولفرنسا من وراء هذه التربية شعب صغير كالشعب الأثيني يهب لها فاتحين ذوي أفهام، ورجالا صحاح الأحلام، يساوون الجيوش، ويوازون كل عدد وعدة، ويخدمون أمتهم خدمة أرخميدس
6
وينقذون وطنهم إنقاذ تيمستوكلس.
7 (2) اتكالنا
بمثل هذا اللسان يخاطب الكاتب الفرنساوي أمته، ويقرعها تقريعا أمر من الصاب والعلقم؛ لتستفيق من غشية تخشى مغبتها، وتفلت من الوقوع في مخالب أسود السكسون؛ لئلا يكون حظها في الوجود حظ الأمم البائدة كالرومان واليونان والفرس والعرب، وما القصد من إيراد كلامه بنصه إلا ليحصل التمثيل بيننا وبين أمة نشابهها في الأعراض، وإن كانت أعلى منا جوهرا.
ولعله يخيل لبعض سكان هذه الديار أن الفرنسيس مثلهم في الانحطاط، وأن لهم بهم قدوة حسنة وأعظم سلوى، ولكن شتان بين حالنا وحالهم، ورجالنا ورجالهم، وحضارتنا وحضارتهم، أمة تشخص الداء، وتفكر في وصف الدواء، أو تشعر بنقصها وتسعى إلى كمالها، وأمة موقنة بأن داءها عين الصحة لا بأس عليها ولا خشية من ناحية حياتها، يرضيها نقصها فلا تريد استبدال غيره به، وكل من محضها النصح رمته بانحلال عقدة الوطنية والمروق من عهود الحمية وصدق التابعية.
لا جرم أن الرجل الفرنساوي الراغب في الاستخدام لا يشبه الرجل المصري أو السوري أو العراقي مثلا، فإن الأول يستعد ليحسن الاضطلاع بما يوسد إليه من أمر أمته، ومعظم هؤلاء على نقص في المدارك وانحطاط في الفضيلة، يطمحون إلى السعادة والسيادة بلا سابق معرفة سوى أواصر القربى أو التقرب أو أواخي المؤاخاة والتزلف أو وشائج الدرهم والدينار.
ولقد أصبح من الرأي المقرر بين الناس أن كل من ليس له علاقة بالحكام كعضو أصيب بالآكلة لا حيلة فيه إلا بالبتر أو الموت، بيد أنه لا تثريب على الفقير إذا رشح ابنه لأي خدمة كانت ليرتفع بها من الدنية، ما دامت البلاد صفرا من أصناف المعاش الذي يزعج صاحبه عن العيش الاتكالي ويورده موارد الاستقلال، بل اللوم كل اللوم على رجل يعد من نواصي أهل وطنه وعليتهم وله من العقار والقرى ما يسد عوزه وعوز مئات معه، وهو على ما له من الاعتبار بين جيله وقبيله يسف إلى الاستخدام في وظيفة؛ ليتباهى بها أمام العدو والصديق.
أعرف رجلا في إحدى مدن الشام الحافلة له عراقة في محتده، وأصالة بين قومه وسعة من دنياه، وتراه مع هذا يصرف من نهاره وليله في نيل الزلفى من الأمراء كبتا لخصومه، فيبذل كل عام في هذا السبيل من الصفراء والبيضاء ما يكفي لإعالة ألف نسمة من أصحاب البأساء، وكلما طعن في السن يزداد غلوا في مباديه وإصرارا على نكاية أعاديه، وهو دائما أجول من قطرب وأشغل من ذات النحيين، ومساعيه أبدا مخفقة، وآماله مخيبة، وهكذا حال خصمه اللدود له مال وبنون ومقام بين أهل حيه كريم، ولكن لا يهدأ له بال إلا بالجلوس على أرائك الحكم، ومقاعد التصدر، يتلمس لبنيه إذنا بملازمة الدواوين، مزاحمة لأولاد الفقراء ليستأثروا بعد بالرواتب دونهم، وينالوا المعالي بنفوذ والدهم عفوا صفوا.
ناپیژندل شوی مخ