ومن ذلك كتاب أصدره من بعرين، وهو: المستقر ببعرين، حيث أخرجت السماء أثقالها وفتحت من عزاليها أقفالها، وركضت خيل الرعود لابسة من الغيم جلالها، وثوب الليل بماء الغمام غسيل، وشبح الظلام بسيف البرق قتيل، وغراب الأفق في الجو باز، إلا أنه في قوس قزح ناز، وكأن عقارب الظلماء بالثلج أفاع، فليكن ليل قرينتها ليل السليم، وكأن مواقع الرعد قعاقع حلي الغواني فهو لا ينام ولا ينيم، وكأن الصباح قد ذاب في الليل قطرا، وكأن البرق لما ساوى الغمام بين صدفي الليل والنهار قد قال آتوني أفرغ عليه قطرا، وقد ابتل جناح الليل المغدف فما يطير، وأبطا حمام الصبح خلاف ما نحاه في رسالة نوح فما يسير، والرياح وقد أعصفت فقصفت عيدان نجد ورتمها، وخيولها قد ركضها السحاب فكان البرق تحجيلها ورثمها.
فأما الخيام التي قد نضجت جلودها بإيقاد الشمس واسودت، ثم نضحت بدموع الغمام فتراخت أجفانها بعدما اشتدت. فما هي إلا أعين سال منها بالدموع كحلها، وخيول دهم حل عنها بالرياح من الأطناب شكلها، ولا يزال الخصام بينها وبين الأهوية إلى أن تشق الثياب من حربها كما شقها السحاب من طربها، ونحن ندأب في عقد ظنبها، لندخل في عقد حسبها. وهيهات سلبت في البيكار أشباحها، وخرجت بالرياح أرواحها. فالشمس إن طلعت ألقى الشرق جامات تقر على العيان، لا دنانير أبي الطيب التي تفر من البنان. وما لاذت بجانبها الرياح، وأبت على الأطناب من إرسالها في عنان الجماح، إلا أشبهت قطاة غرها شرك وقد علق الجناح، وقذاة هزها درك وقد أبت البراح.
وقد زادت السيول إلى أن صارت هذه الخيام عليها فواقع، وهمهم الرعد قاريا فاستقلت قيامها بين ساجد وراكع. وأنا فيها كعثمان في داره، والخطب قد أخذ في حصاره. فلا يزال نبل الوبل مغرقا، ولا أزال على نفسي من السيل مخندقا. وقد رجعنا إلى النشأة الأولى فعدنا في هذا الماء علقا. ولا كفران لله فإني ملقى على طرق الطوارق، ملقا ما شاب العيش من فراق يشوب بالشيب المفارق. وما كنت أخشى أن ينقلني الدهر من درجة مجانيه المقتطفة، إلى مدرجة مجاريه المجتحفه، ولن يرى أعجب مني ممحلا وأنا أشكو الغدران الغادرة، ومجدبا أتظلم من ظلمات الليالي الماطرة. وقبح الله بعرين، وإن استجن أسد الإسلام منها بعرين، وأنا بريء منها بعدد رمل يبرين.
ومن ذلك: وتلك الجهة وإن كانت غريبة، فإن الغرب مستودع الأنوار، وكنز دينار الشمس ومصب أنهار النهار.
ومن ذلك: وبالجملة، إن كانت البلاغة دينا فقد ألحد من لا يوحده وإن كانت سيفا فقد تعرض للحد من لا يقلده، وإن كانت فراشا فقد نفي عن ظهر البلاغة مالا يلده.
ومن ذلك: فلو ملكتم الدهر لامتطيتم لياليه أداهم، وتقلدتم أيامه صوارم، ووهبتم شموسه وبدوره دنانير ودراهم، وأيامكم أعراس وكأنه ما تم على الأموال فيها مآتم، والجود في أيديكم خاتم ونفس حاتم في نقش ذلك الخاتم.
ومن ذلك: فروح الله تلك الروح، وفتح لها أبواب الجنة فهي آخر ما كانت ترجوه من الفتوح.
ومن ذلك في شرك صنيعه: والله إن صنيعته كالشمس وضوحا لا أجحدها، ولو جاز أن تعبد الشمس في دين الله لكنت أعبدها، فإنها شمس ما ألقت يدا في كافر، ولا وضعت يدا إلا في شاكر.
ومن ذلك: ولو بلغ القول مني إلى السمع لما بلغ إلى القلب، ولو رأيت سيفه خضيبا من مقره في صدري لما استشعرت الحرب، ولو صمم على الضرب لحركته حتى يصير من الضرب لا من الضرب.
ومن ذلك: والقلوب طيبة، والغيوث صيبة، وقد صار على عطف كل زرع منها جبيرة تتبرج وعلى أذن كل قرط منها لؤلؤة تترجرج.
ومن ذلك: فلا عدمت تلك الأنفاس من النفائس، وتلك العقائل العرائس، وتلك الجواهر التي تسرني أن تفضح عرضي، وتلك السهام التي هي والله غرضي.
ومن ذلك: ووثقنا بنجح الطلب، وأمسكنا بقرون حماة فحصلنا على حلب حلب.
ومن ذلك في ذكر النيل يتدافع تياره دافعا في صدر الجدب بيد الخصب، وترضع أمهات خلجه حتى أبناؤها بالعصف والأب.
ومن ذلك: والمهامه قد نشرت ما ملأها من ملاء السراب وزخر فيها ما ولد لغير رشده على فراش السحاب.
ومن ذلك: وإن يصفح عنه الصفح الجميل المألوف من هذا البيت، فبصفحهم أمضى الله حدهم، وبعفوهم أنجح الله جهدهم، وباتباعهم لأبيهم ﵀ عليه أعلى الله سبحانه جدهم.
1 / 18