بسم الله الرحمن الرحيم
عفوك اللهم
الحمد لله الذي فطر عقول البشر متغايرة، وجعل النفوس برأيها عل نقطة الرضى دائرة، وزين لها أعمالها حتى توهمت أنها في الأمثال السائرة.
أحمده على نعمه التي أوضحت ما أبهم وألبس، وأبدت نار الهدى التي لم تكن بسوى أنامل الذوق تقبس، وراضت جواد الانتقاد الذي إذا أم غاية لم يثن عنانه ولم يحبس. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يسجع بها حمام اللسان من اليقين على أراكه، وتنجي قائلها من الوقوع في حبائل الشرك وأشراكه، وتكون له ذخيرة إذا عدم سكونه بعد حراكه. وأشهد أن محمدا سيدنا وعبده الذي عصمه الله من الخطأ في القول والعمل، وحرس به سرح الفصاحة ولولاه لاختلط المرعى بالهمل، وآتاه من جوامع الكلم ما لم تطمح إليه عين أمنية ولم تطمع فيه يد أمل، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين هابتهم الأساود وخافتهم الأسود، وتجانست أفعالهم فما منهم إلا من يجول ويجود، ويسوس ويسود، وتبرأت شيمهم من النقائص فلم يكن فيهم مختال ولا متكبر ولا حسود، صلاة تتبسم عن ثغرها شفة الفجر في لعس الظلام، ويتلثم بنورها وجه البدر في عرس التمام.
وبعد: فإن كتاب المثل السائر للصاحب ضياء الدين بن أثير الجزيرة، عامله الله بلطفه، وسامحه بما هزت به نسمات الخيلاء من غصن عطفه، من الكتب التي خفقت له في الاشتهار عذبات أوراقه، وسعى القلم في خدمته على رأسه إذا سعى الخادم على ساقه. واشتهر بين أهل الإنشاء اشتهار الليل بالكتمان والنهار بالإفشاء، لا بل اشتهار بني عذرة في الحب بتحرق الأحشاء، وأولع به أهل الأدب في الآفاق ولع الكريم بالإنفاق، لا بل ولع الرقباء بالعشاق.
إلا أن واضعه ﵀، وان جمع فيه العلم والعمل، وسجع فيه بين الثقيل والرمل، وتوهم أن بدر فضله قد تم وكمل، وتخيل أن جيد الإنشاء بعده قد عطل، وفنه قد خمل، قد أذهب حسناته النادرة، بتوالي سيئاته البادرة، وأضاع تلك الزهرات الفذة، في قفار الدعاوى التي لا يجد فيها السالك لذة، وطال على الناس بعد هلاله سواد ليله، ورفضوا مواقع طله لغثاء سيله. ونعم فإنه:
ما الجزع أهلٌ أن تردّد نظرةٌ ... فيه وتثنى نحوه الأعناق
لأنه أفنى ذلك البسط في الإعجاب بنفسه والإطراء، وأطال في الغض من أبناء جنسه والازدراء، وظن أن الله قد حرم الفصاحة على من يأتي من بعده، وأن الذين من قبله إما شيخ قد خرف في هرمه، وإما طفل يعبث في مهده. وجر رداء الكبر والخيلاء مخيطا بإبر الحمد، وبالغ في ذلك مبالغة أبي زبيد الطائي في وصف الأسد. ووصف نفسه ولا وصف امرىء القيس لأفراسه، ومدحها ولا مدح أبي نواس سلافة كاسه، وكرر ذلك فغثى النفوس بذلك الغث، وزاد حتى رثى القلق ثوب الصبر لمارث.
قال رسول الله ﷺ: احذروا ثلاثا: الحرص فإنه أخرج آدم من الجنة، والكبر فإنه حط إبليس عن مرتبته، والحسد فإنه دعا ابن آدم إلى قتل أخيه.
وقال ﷺ: إن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ويقال: إنه أول ذنب عصي الله به في السماء والأرض. وقال النبي ﷺ حاكيا عن الله ﷿: الكبرياء ردائي فمن نازعنيه أدختله النار. وقال جعفر بن محمد: علم الله أن الذنب للمؤمن خير من العجب، ولولا ذلك ما ابتلي مؤمن بذنب.
وقال بعض الحكماء: البلية التي لا يؤجر المرء عليها العجب، والنعمة التي لا يحسد عليها التواضع.
ومما قيل: لا شيء أكتم للمحاسن من التيه والعجب.
هذا إلى ما في الكتاب من فلتات عديدة، واختيارات غير موفقة ولا سديدة، ونصر باطل، وتحلية عاطل، وترجيح ما ضعف ووهى، وتوهين ما تحرر وانتهى.
مساوٍ لو قسمن على الغواني ... لما أمهرن إلا بالطّلاق
وكنت أقف على أطلالها عند المراجعة ناديا، وأعثر في أذيالها حين المطالعة غالبا، وأتأوه لانفراد تلك اللآلىء في سلوك السبج، وأستطيل سواد لياليه والصبح من محاسنه ما أسفر ولا انبلج.
وبلغني ما وضعه عز الدين بن أبي الحديد ﵀ على الكتاب من المؤاخذة، وأنه استصرخت به تلك الظلامات عائذة. فلما وقفت على الفلك الدائر وجدته قد أغفل كثيرًا، وأخذ قليلا وترك أثيرا. فأحببت بعد ذلك أن ألتقط ما غادره، وأتتبع شاذه ونادره.
1 / 1
وعليّ أن أقضي صلاتي بعدما ... فاتت إذا لم أقضها في وقتها
على أنني بعد ابن أبي الحديد كمن جاء بعد اجتحاف سيل، وأصبح بعد قاطف النهار حاطب ليل. فإن هذا الرجل له تصانيف تدل على تمكنه واطلاعه، وسداد مراميه عند مد باعه، وريه من الفنون وقيامه بها واضطلاعه. منها تعليقان على المحصل والمحصول للإمام فخر الدين وتعليقة ثالثة على الأربعين لفخر الدين، ونظم فصيح ثعلب نظما جيدا في يوم وليلة، وهذا الفلك الدائر علقه في ثلاثة عشر يوما مع أشغال ديوانه.
وكتب إليه أخوه موفق الدين ابن أبي الحديد لما وضع الفلك الدائر:
المثل السائر يا سيدي ... صنفت فيه الفلك الدائرا
لكنّ هذا فلكٌ دائرٌ ... أصبحت فيه المثل السائرا
ووضع على نهج البلاغة شرحا في ستة عشر مجلدا، وناهيك بمن يتصدى لنهج البلاغة ويشرحه، ويأتي على ما يتعلق به من كل علم: أصولا وفقها وعربية وتاريخا وأسماء رجال وغير ذلك. ومن وقف على هذا الشرح، علم أنه قل من يدخل معه ذلك الصرح، أو يسام معه في مثل هذا السرح، وحسبك بمن وأخذ الإمام فخر الدين وأورد عليه. ووجدت له أبياتا أولها:
وحقك لو أدخلتني النار قلت لل ... لذين بها قد كنت ممن يحبه
وأفنيت عمري في دقيق علومه ... وما بغيتي إلاّ رضاه وقربه
هبوني مسيئا أوتغ الحلم جهله ... وأوبقه دون البرية ذنبه
أما يقتضي شرع التكرم عفوه ... أيحسن أن ينسى هواه وحبه
أما ردّ زيغ ابن الخطيب وشكه ... وتمويهه في الدّين إذ جلّ خطبه
أما كان ينوي الحق فيما يقوله ... ألم تنصر التوحيد والعدل كتبه
فقلت أنا رادا عليه في وزنه ورويه:
علمنا بهذا القول أنك آخذ ... بقول اعتزالٍ جل في الدين خطبه
فتزعم أن الله في الحشر ما يرى ... وذاك اعتقاد سوف يرديك غبّه
وتنفي صفات الله وهي قديمةٌ ... وقد أثبتتها عن إلهك كتبه
وتعتقد القرآن خلقا ومحدثا ... وذلك داء عزّ في الناس طبه
وتثبت للعبد الضعيف مشيئةً ... يكون بها ما لم يقدره ربه
وأشياء من هذي الفضائح جمةً ... فأيكما داعي الضلال وحزبه؟
ومن ذا الذي أضحى قريبا من الهدى ... وحامى عن الدين الحنيفي ذبّه
وما ضر فخر الدين قولٌ نظمته ... وفيه شناع مفرط إذ تسبه
وقد كان ذا نورٍ يقود إلى الهدى ... إذا طلعت في حندس الشك شهبه
ولو كنت تعطي حق نفسك قدره ... لأخمدت جمرا بالمحال تشبّه
وما أنت من أقرانه يوم معرك ... ولا لك يوما بالامام تشبّه
ونقلت من خط الحافظ اليغموري قال: أنشدني الإمام ركن الدين أبو القاسم لنفسه في عز الدين بن أبي الحديد وقد صنف الفلك الدائر على المثل السائر:
لقد أتى باردا ثقيلا ... ولم يرث ذاك من بعيد
فهو كما قد علمت شيء ... أشهر ما كان في الحديد
وصنف كتابا يرد فيه على ابن أبي الحديد وسماه: نشر المثل السائر وطي الفلك الدائر قلت: هذا ركن الدين أبو القاسم، هو محمود بن الحسين ابن الإمام أرشد الدين الأصبهاني الأصل السنجاري المولد. كان حنفيا يعرف المذهب والأصولين والخلاف والأدب، قرأ على السيف الآمدي وعلى ضياء الدين ابن الأثير، وبطل خرقة الفقهاء وتزيي بزي الأجناد، وتوفي بدمشق في سادس شهر رمضان سنة خمسين وستمائة، ودفن بسفح قاسيون. ومولده في سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة. وقال في انتقاله إلى الجندية أبياتا منها:
فانظر أخا العقل إلى حرفةٍ ... منها هربنا للوغى الجحفل
لو لم تكن أنحس ما في الورى ... لم ترض عنها بالردى الاعجل
وكنت أنا في وقت قد كتبت على المحصل للإمام فخر الدين الرازي أبياتا يحسن هنا ذكرها وهي:
علم الأصول بفخر الدين منتصرٌ ... به نصول بإعجاب وإعجاز
1 / 2
أضحت به السنة الغراء واضحةً ... قد استقامت لمختار ومجتاز
له مباحث كم قد أحرقت شبها ... بشهبها فمن الزاري على الرازي!
وأنشدني من لفظه شيخنا الإمام الحافظ أثير الدين أبو حيان محمد بن يوسف بالديار المصرية سنة ثمان وعشرين وسبعمائة قال: أنشدنا شيخنا النسابة حافظ المشرق والمغرب شرف الدين أبو محمد عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن الدمياطي يوم الاربعاء الخامس عشر من جمادى الآخرة سنة ثمانين وستمائة بالقاهرة بقراءتي عليه قال: أنشدنا الشيخ العالم الصاحب عز الدين أبو حامد عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن حسين بن أبي الحديد المعتزلي ببغداد، ومولده بالمدائن مستهل ذي الحجة سنة ست وثمانين وخمسمائة لنفسه:
لولا ثلاثٌ لم أخف صرعتي ... ليست كما قال فتى العبد
أن أنصر التوحيد والعدل في ... كل مكان باذلا جهدي
وأن أناجي الله مستمتعا ... بخلوةٍ أحلى من الشّهد
وأن أتيه الدهر كبرا على ... كل لئيمٍ أصعر الخد
لذاك أهوى لا فتاةٍ ولا ... خمرٍ ولا ذي ميعة نهد
قول ابن أبي الحديد هنا: لولا ثلاث.. البيت، إشارة إلى قول طرفة بن العبد:
فلولا ثلاثٌ هنّ من لذّة الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عوّدي
فمنهن سبقي العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزيد
وكري، إذا نادى المضاف، مجنبا ... كسيد الغضا، نبهته، المتورد
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ... ببهكنة تحت الخباء المعمّد
ومن شعر ابن أبي الحديد قصيدة بائية من جملة مدائحه في علي بن أبي طالب ﵁:
ألا إن نهج المجد أبيض محلوب ... على أنه جم المسالك مرهوب
هو العسل الماذيّ يشتاره امرؤ ... بغاه وأطراف الرماح اليعاسيب
ذق الموت إن شئت العلا واطعم الردى ... فنيل الأماني بالمنيّة مكسوب
خض الحتف تأمن خطة الخسف إنما ... يبوح ضرام الخطب والخطب مشبوب
ألم تخبر الأخبار عن فتح خيبر ... ففيها لذي اللب الملب أعاجيب
وفوز عليٍ بالعلا فوزها به ... فكلٌ إلى كلٍ مضافٌ ومنسوب
حصونٌ حصان الفرج حيث تبرجت ... وما كل ممتط الجزارة مركوب
تناط عليها للنجوم قلائد ... وتسفل عنها للغمام أهاضيب
منها:
وأرعن موار العنان يمورها ... فلم يغن عنها جرّ مجرٍ وتلبيب
فللخطب عنها والصروف صوارفٌ ... كما كان عنها للنوائب تنكيب
منها
نهار سيوفٍ في دجى ليل عثيرٍ ... فأبيض وضاحٌ وأسود غربيب
ينوح عليها نوح قارون يوشعٌ ... ويذري عليها دمع يوسف يعقوب
بها من زماجير الرجال صواعق ... ومن صوب آذيّ الدماء شآبيب
منها
يمج منونا سيفه وسنانه ... ويلهب نارا غمده والأنابيب
ومن مدائحه في علي بن أبي طالب ﵁، قصيدة أولها:
عن ريقها يتحدّث المسواك ... أرجا فهل شجر الأراك أراك
ولطرفها خنث الجبان فإن رنت ... باللحظ فهي الضيغم الفتاك
شرك القلوب ولم أخل من قبلها ... أن القلوب تصيدها الأشراك
منها
يا وجهها المصقول ماء شبابه ... ما الحتف لولا طرفك الفتاك
أم هل أتاك حديث وقفتها ضحى ... وقلوبنا بشبا الفراق تشاك
لا شيء أقطع من نوى الأحباب أو ... سيف الوصيّ كلاهما سفاك
1 / 3
وهاتان القصيدتان طويلتان، اختصرت منهما ما اختصرت، واقتصرت على ما اقتصرت، طلبا للدلالة على فضله، ومضاء سنانه ونصله. ولكن أدته مواده الغزيرة إلى أن اعتزل وتشيع، وأهمل جانب السنة وضيع. وله نثر أجاد فيه بعض جوده، ولم يكن كنظمه الذي رفع هضبه ووطد طوده. وقد ساق شيئًا منه في الفلك الدائر، ونثر ابن الأثير أقعد منه عند أولى البصائر، ولو حذفه كان خيرا من إثباته، وأمنع له من عجم سهمه وغمز قناته.
فأي قوادم ينهض بها من جاء بعد هذا المتكلم، وأي سيف يفري فريه وهو متثلم، والمعتزلة فرسان المباحث، وممن توفرت لهم الهمم على الجدل وطاوعتها الدواعي والبواعث. ولكن:
قد يدرك المجد الفتى ولباسه ... خلق وجيب قميصه مرقوع
وقد ترك الأول للآخر أكثر مما جاء به، وتفاوتت الأذهان في انتقاد مها الحسن وكواعبه، وأعقب العقل سحابه لما انجلت بصوب سحائبه.
وما عقمت أم الندى بعد حاتمٍ ... لها كلّ يوم في البرية مولود
وقد جمعت ما عثرت عليه من هفوات ابن الأثير في هذه الأوراق، وضربت عليها هذا الفسطاط ومددت هذه الأرواق، وسردتها على الترتيب، وسقتها على ذلك التبويب. وسميت ذلك نصرة الثائر على المثل السائر واخترت هذه التسمية له شارة وإشارة، لأن الثائر لغة هو الذي لا يبقي على شيء حتى يدرك ثاره. وإذا ناقشته في بحث أورده، ونافسته في صالح أفسده، لا أكاد أخلي ذلك الموطن من محاسن أرباب هذا الفن الذين عابهم، وتردد إلى مواقف ذمهم وانتابهم. خصوصا القاضي الفاضل رحمه الله تعالى. فإنه قد عارضه في بعض ما أنشاه، وعاب عليه ما دبجه ووشاه.
وقال السها للشمس أنت خفيةٌ ... وقال الدّجى يا صبح لونك حائل
والسيف مشهور بغير حمائل، والصبح مشهود بغير دلائل. وأين مقاصد الفاضل وبعد مرماه، واختلاسه المعاني بلطف مغزاه وخفي مسراه. هيهات، فإن بينهما من الفرق، ما بين ذل القدم وعز الفرق. ولطف ذلك لا يخفى على ذوق الكاتب الماهر، وحسن معانيه في الباطن أضعاف كلامه في الظاهر.
ولله در ابن سناء الملك إذ يقول على أن غالب ديوانه فيه:
شهد الكاملون بالفضل للفا ... ضل أو كاد يشهد المولود
وعد الدهر أن يجود على الخل ... ق ولكن بمثله لا يجود
وابن قلاقس إذ يقول أيضًا فيه من جملة أبيات:
وأسكرنا بيانا دام حتى ... عجبنا كيف حذّرنا المداما
معان يقعد الفصحاء عنها ... وتسمعها خواطرهم قياما
يتيماتٌ تصدّق في علاه ... مقالة من دعاه أبا اليتامى
وأما ابن الساعاتي فأكثر فيه المدح. من ذلك:
ما من يقيس إليه خلقا مثله ... إلا كمن قاس الوهاد إلى الذّرى
فإذا تقدم في العلاء مفاخرا ... عرف السماك محله فتأخرا
وقد تصدى الناس لابن الأثير كونه ناقض الفاضل، ورمي من ألسنتهم وأقلامهم بمشق سيوف المناظر، ورشق سهام المناضل.
فلا تجزعن من سنّة أنت سرتها ... فأول راضي سنّةٍ من يسيرها
وليس هذا موطن الثناء على القاضي الفاضل، وسوف تقف عليه، وتدلك نفحات طيبه إذا انتهيت إليه.
ومن هنا أجرد عن ساعد المؤاخذة، وأبرى السهام التي أظنها في الغرض نافذة. وعلى الله قصد السبيل، هو حسبي ونعم الوكيل.
الابتداء بالحمدلة
قال ابن الأثير سامحه الله تعالى: نسأل الله أن يبلغ بنا من الحمد ما هو أهله، وأن يعلمنا من البيان ما تقصر عنه مزية النطق وفضله، وحكمة الخطاب وفصله.
1 / 4
أقول: قال رسول الله ﷺ: كل كلام لايبدأ فيه بحمد الله فهو أجذم فلو قال: الحمد لله لكان أفضل. وربما عيب ذلك على الزمخشري في أول المفصل كونه قال: الله أحمد. وعلى الحريري كونه قال: اللهم إنا نحمدك. لأنهما ما افتتحا كلامهما بالحمد. والأولى الأخذ بما جاء عن الله تعالى، فإنه لا مقام للعبد أشرف من الصلاة لأنها عبادة. حتى قال رسول الله ﷺ: أقرب ما يكون من العبد من ربه وهو ساجد. والفاتحة التي هي أم الكتاب والعمدة في الصلاة، إنما افتتحت ببسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين. وقد قال سهل بن هارون: حق على كل ذي مقالة أن يبدأ فيها بحمد الله قبل استفتاحها، كما بدىء بالنعمة قبل استحقاقها. واستعمل ابن الأثير رحمه الله تعالى ذلك في توقيع كتبه فقال: كل كلام لا يبدا فيه بحمد الله فهو أجذم. وقد أورد ابن أبي الحديد على ابن الأثير فيما سأله في هذه السجعة ما فيه مقنع، فليؤخذ ذلك من الفلك الدائر.
وأما السجعة الثانية، فما أدري معنى قوله تقصر عنه مزية النطق، فأي شيء يعلمه حتى تقصر عنه مزية النطق؟ إن أراد بذلك لطف المعاني التي هي أرواح الألفاظ فمتى قصر النطق عن معنى لم تبرزه النفس كاملًا؟ وإن أراد بذلك الأشياء التي تكون على تراكيب الألفاظ من الطلاوة والرونق ذلك غير البيان لأن البيان إيضاح المعاني وإبداؤها وإظهارها، وذلك الذي أردته من الحسن واللطف اللذين يكونان في بعض الكلام، فذلك غير البيان. وهو كالملاحة التي لا يعقل لها معنى ولا يعبر عنه. كما قيل:
شيء به فتن الورى غير الذي ... يدعى الجمال ولست أدري ما هو
ويقال: مع المحبوب شيء آخر غير حسنه هو الذي يشفع له إلى القلوب. ألا ترى أن بعض الصور مفردات أعضائها نهاية في الحسن، وليس لها ذلك المعنى الذي لغيرها. وكذا قيل في الترياق، إنه بعد التركيب يفيض الله عليه خاصة لم تكن في قوة أجزائه حالة الإفراد. والهيئة الاجتماعية لها معنى غير الحالة التي تكون لأفرادها ولا شك أن لكلام الفصحاء في حالة التركيب خواص لا يمكن التعبير عن ذلك الحسن الموجود فيها. ولهذا أفتى الفقهاء فيمن بدل ترتيب الفاتحة، وقلب بعض الآيات إلى موضع بعض أنه لا تصح صلاته، لأنه يبطل إعجاز القرآن العظيم، وهو سياقته على هذا النمط الغريب، وتأليفه على هذا النظم العجيب. وهنا بحث بين الأشعري والمعتزلي، أضربت عنه طلبًا للاختصار. فإن كان ابن الأثير سأل هذه الخاصة، فهذه الخاصة لا يطلق عليها لفظ البيان. وإذا كان الأمر كذا، فقد ثبت أن معنى هذه السجعة غير مفهوم. وقد ناقشه ابن أبي الحديد في قوله النطق وما الذي أراد به فليؤخذ من كتابه.
قال: وعلى آله وصحبه، الذين منهم من سبق وبدر، ومنهم من صابر وصبر، ومنهم من آوى ونصر. وأقول: لو قال: ومنهم من هاجر ونصر لكان أحسن من وجهين: أحدهما أنه يحصل له الموازنة والترصيع بين هاجر وصابر، وثانيهما أنه يتناول المهاجرين والأنصار من الصحابة رضوان الله عليهم، فإنهم مقدمون على الأنصار، وعلى قوله لا ذكر للمهاجرين، فإن من الأنصار من سبق غيره إلى الإيمان.
فإن قيل: قوله صابر وصبر المعنى واحد، قلت: اتبع لفظ القرآن في قوله تعالى: اصبروا وصابروا. فإن الصبر غير المصابرة، لأن المصابرة مفاعلة، وهي مقابلة الفعل من الآخر بمثله. وكأن ذلك زيادة على الصبر الذي يطيقه الإنسان.
عجز الحريري عن إنشاء ما طلب منه
في الديوان
قال وقد ذكر الحريري المقامات رحمه الله تعالى، وأنه صدر عنه مثل هذا الكتاب، ولما استكتب في الديوان أفحم. وساق الحكاية المشهورة. ثم قال: وهذا مما يعجب منه، وسئلت عن هذا فقلت: لا عجب، لأن المقامات مدارها جميعها على حكاية تخرج إلى مخلص، وأما المكاتبات فإنها بحر لا ساحل له، لأن المعاني فيها تتجدد بتجدد حوادث الأيام، وهي متجددة على عدد الأنفاس، ألا ترى أنه إذا كتب الكاتب المفلق عن دولة من الدول الواسعة التي يكون لسلطانها سيف مشهور وسعي مذكور، ومكث على ذلك برهة يسيرة لا تبلغ عشر سنين، فإنه يدون عنه من المكاتبات ما يزيد على عشرة أجزاء، كل جزء منها أكبر من المقامات حجمًا، ثم إذا غربلت خلص منها النصف.
1 / 5
أقول: أما عجب الناس من واقعة الحريري فهي موضع العجب في بادىء الرأي. لأن من يصدر عنه مثل هذا الكتاب الذي لا نظير له في بابه، وهو في الآداب:
شمس ضحاها هلال ليلتها ... درّ تقاصيرها زبر جدها
ثم يتوقف في كتاب يطلب منه فإن ذلك غريب. وأما إذا فكر الإنسان، وعلم أن الإنشاء من باب الفتوح على الإنسان، لم يكن ذلك بعجيب. لأن الله تعالى قد يفتح بذلك في وقت دون وقت. وقد عد الشيخ محيي الدين بن عربي النظم وحسن الكتابة من الفتوح، وما يزال الناس كذلك تارة يفتح عليهم وتارة لم يفتح. والحريري في ذلك الوقت لم يفتح عليه.
على أن الحريري في وقت عمل المقامات كان في بيته مخلى ونفسه، يصوغ ويكسر ويهدم ويبني فإذا نبا به مقام تحول إلى غيره، وإذا تقاعس عليه معنى تركه وجذب ما هو أسلس قيادًا منه. وقد ذكر أن مسودات المقامات كانت حمل جمل. وذلك أمر غير جلوسه في الديوان وأول قدومه، وهو بين جماعة من أرباب الفن، ويقترح عليه معنى لا محيد له عنه، ولا فسحة له في مضيقه، ولا نجاة له من زلله، ولم يكن قد استعد له، لا جرم أنه أفحم وتوقف ونتف عثنونه.
وليس يعاب المرء في جبن يومه ... إذا عرفت منه الشجاعة بالأمس
ولعل ابن الأثير سامحه فيما أورده من كلامه في المثل والوشي المرقوم والمعاني المبتدعة وغير ذلك من نسبة المقامات. فإنه حكى عن نفسه في المثل السائر أنه كان يتلو القرآن العظيم، فإذا مرت به الآية الكريمة ولمح فيها معنى يناسب أن يكون في كذا، بنى عليه كتابًا أو فصلًا وأثبته. أو كما قال. وغالب ما أثبته إنما هو معارضات عارض بها كتب القاضي الفاضل وأبا إسحاق الصابي وهذا من باب عمل المقامات وهو في بيته يطالع على ما يعمله ويتروى ويمحو ويثبت.
وتوهموا اللعب الوغى، والطعن في ال ... هيجاء غير الطعن في الميدان
وأما قوله: إن الكاتب يظهر عنه في المدة التي ذكرها عشرة أجزاء كل جزء أكبر حجمًا من المقامات وإذا غربلت ونقحت كانت خمسا، فهذا تعصب ودعوى لا يقوم عليها برهان، أو جهل بلغ الغاية. وأي ترسل لكاتب تقدم عصره وإلى الآن يجمع له من ترسله مجلدة واحدة تكون كالمقامات يتداولها الناس، ويتعاطون كؤوسها، ويتمثلون بأبياتها وأسجاعها، ويكررون عليها من أولها إلى آخرها، ويبحثون عن عوراتها، وينقبون عن مساوئها، فلا يجدون فيها مغمزًا، ولا يقعون فيها على مطعن. بل تصفوا على السبك، وتجود على الاستعمال.
ويزيدها مرّ الليالي جدةً ... وتقادم الأيام حسن شباب
على أن ابن الخشاب رد عليه أليفاظًا يسيرة وأجابه المسعودي عنها وابن الخشاب أصاب في القليل من القليل، وتعنت في كثير القليل. وكذلك ابن بري وضع عليها نكتا يسيرة.
وناهيك بكتاب اشتهر، وضرب به المثل، وأصبح إحدى الأثافي في علم الأدب، وأصبحت ألفاظه ومعانيه حجة، ونقلت بها النسخ عدد حروفها.
وسار مسير الشمس في كل موضعٍ ... وهبّ هبوب الريح في البر والبحر
وما رأيت ولا سمعت بمن أخذ جزءًا من ترسل، وقرأه على شيخ وحفظه وطلب به الرواية وعلق عليه حواشي لغة وإعراب ومعان. وقد وضع الناس الشروح المبسوطة على المقامات مثل المسعودي فإن له عليها شرحين، والمطرز وابن الأنباري وأبي البقاء وغيرهم ولقد رأيت بعضهم يزعم أنها رموز في الكيمياء، ويحكى أن الفرنج يقرؤونها على ملوكهم بلسانهم ويصورونها ويتنادمون بحكاياتها.
وما ذاك إلا أن هذا الكتاب أحد مظاهره تلك الحكايات المضحكة، والوقائع التي إذا شرع الإنسان في الوقوف عليها، تطلعت نفسه إلى ما تنتهي إليه، وتشوقت نفسه إلى الوقوف على آخر تلك القصة. هذا إلى ما فيها من الحكم والأمثال التي تشاكل كتاب كليلة ودمنة وإلى ما فيها من أنواع الأدب وفنونه المختلفة وأساليبه المتنوعة.
حكى لي الشيخ فتح الدين محمد بن سيد الناس عن والده أبي عمرو عن أبيه أبي بكر قال: قلنا لابن عميرة كاتب الأندلس: لأي شيء ما تصنع مثل المقامات؟ فقال: أما الألفاظ فما أغلب عنها، وأما تلك الأكاذيب التي تكذبها فما أحسن أن أضع مثلها.
1 / 6
وسمعت القاضي شهاب الدين محمودا رحمه الله تعالى حين قراءة هذا الكتاب عليه يحكي أن القاضي الفاضل رحمه الله تعالى أراد معارضتها، وصنع ثلاث عشرة مقامة عارض كل فصل بمثله حتى جاء إلى قول الحريري في المقامة الرابعة عشرة: اعلموا يا مآل الآمل وثمال الأرامل، أنني من سروات القبائل، وسريات العقائل. لم يزل أهلي وبعلي يحلون الصدر، ويسيرون القلب، ويمطون الظهر، ويولون اليد. فلما أردى الدهر الأعضاد، وفجع بالجوارح الأجساد، وانقلب ظهر البطن، نبا الناظر، وجفا الحاجب وذهبت العين وفقدت الراحة، وصلد الزند، ووهت اليمين، وبانت المرافق، ولم يبق لنا ثنية ولا ناب. فمذ اغبر العيش الأخضر، وازور المحبوب الأصفر، اسود يومي الأبيض، وابيض فودي الأسود، حتى رثى لي العدو الأزرق، فحبذا الموت الأحمر.
فقال الفاضل: من أين تأتي الإنسان بفصل يعارض هذا؟ ثم إنه قطع ما كان عمله من المقامات ولم يظهر. أو كما قال. وناهيك بمن يقول مثل القاضي الفاضل في حقه مثل هذا، ويعترف له بالعجز.
وأما أنا فكلما قرأت هذا الفصل وذكرته، أجد له نشوة كنشوة الراح، وبهجة ولا بهجة الساري بطلعة الصباح. وفي أي ترسل تجد نظير هذا الفصل الذي له هذه الخفة والطلاوة، ولم تروجه الأسجاع؟.
وقد ظلم المقامات من جعلها من باب الترسل، والترسل جزء منها. بل هي كتاب علم في بابه، وبلاغة الرجل تعلم من ذكره لشيء في غالب مقاماته بالمدح والذم. وهذا هو البلاغة، أن تصف الشيء ثم تذمه، أو بذم ثم تمدحه، كما فعل في مقامة الدينار، والتي فاضل فيها بين كتابة الإنشاء والحساب، والتي ذكر فيها البكر والثيب والزواج والعزبة وغير ذلك.
وفصاحته تعلم من أخذه الأمثال السائرة وضمها إلى سجعة أحسن منها. كقوله: أعطيت القوس باريها وأنزلت الدار بانيها وقوله: تخلصت قابية من قوب وبرىء براءة الذئب من دم ابن يعقوب. وقوله: وهل ضاعت عدتنا عدة عرقوب أو بقيت حاجة في نفس يعقوب وقوله: فلما دل شعاعه على شمسه، ونم عنوانه بسر طرسه وقوله: فبقيت أحير من ضب وأذهل من صب وقوله: أنحل من قلم وأقحل من جلم وقوله: لو كان في عصاي سير ولغيمي مطير وقوله: طويته على غره، وصنت شغاه عن قره وقوله: إنكما فرقدا سماء وكزندين في وعاء وقوله ليعلم أن ريحه لاقت إعصارًا وجدوله صادف تيارًا وقوله مأرب لا حفاوة ومشرب لم يبق له عندي طلاوة وقوله: المكنة زورة طيف، والفرصة مزنة صيف وقوله: أبعد من رد أمس الدابر، والميت الغابر وقوله: ما أطول طيلك وأهول حيلك وقوله: وكان يوما أطول من ظل القناة، وأحر من دمع المقلاة وقوله: فأخذ يلدغ ويصي، ويتقح ولا يستحيي وقوله: أين مدب صباك، ومن أين مهب صباك وقوله: قد وجدت فاغتبط واستكرمت فارتبط وقوله: ما ذهب من مالك ما وعظك، ولا أجرم إليك من أيقظك وقوله إنك حمت على ركية بكية، وتعرضت لخلية خلية وقوله ما كل سوداء، تمرة، ولا كل صهباء خمرة وقوله: كمن يبغي بيض الأنوق، ويطلب الطيران من النوق وقوله: أتعلم أمك البضاع وظئرك الإرضاع وقوله: فلما رأينا نارهم الحباحب، وخبرهم كسراب السباسب وقوله: إني لأطوع من حذائك، وأوفق من غذائك وفيها من هذا النوع كثير أضربت عنه خوف الإطالة.
وما تناهيت في بثي محاسنه ... إلا وأكثر مما قلت ما أدع
ثقافة الكاتب
قال: فإذا ركب الله في الإنسان طبعا قابلا لهذا، فيفتقر إلى ثمانية أنواع من الآلات ثم سردها.
1 / 7
أقول: أما الكاتب فيحتاج إلى حفظ الكتاب العزيز وإدمان تلاوته، ليكون دائرًا على لسانه، جاريًا على فكرته، ممثلا بين عيني ذاكرته لينفق من سعته، وإلى معرفة اللغة والنحو وإدمان الإعراب ليلا ونهارا، حتى يصير له ذلك ملكة جيدة، والتصريف والمعاني والبيان والبديع والعروض والقافية والأحكام السلطانية كما ذكر في كتابه وشيء من التفسير، وشيء من الأحاديث مثل كتاب الشهاب أو كتاب النجم للأقليشي، والآثار المنقولة عن الصحابة رضوان الله عليهم وما دار بين الخلفاء الراشدين وعمالهم، وما دار بين علي ومعاوية ﵄ من المحاورات، وتواقيع الخلفاء والوزراء والكتاب، وأمثال العرب، وحفظ جانب جيد من شعر العرب والمخضرمين والمحدثين وفحول المتأخرين، وحفظ جيد الحماسة ومختار المفضليات، وبعض قصائد منتهى الطلب جمع ابن ميمون، وما أمكن من التاريخ وأسماء الرجال والحساب، ومراجعات أمهات كتب الأدب، مثل الأغاني والعقد والبيان والتبيين والذخيرة وزهر الآداب وأمالي القالي والكامل للمبرد وتذكرة ابن حمدون وحفظ جانب جيد من المقامات والخطب النباتية، وبعض شعر المتنبي وأبي تمام والبحتري وسقط الزند وغير ذلك. وقد اخترت أنا من شعر هؤلاء الشعراء الأربعة في مجلدة لطيفة، والوقوف على ترسل الكتاب ومراعاة ما قصدوه في كل فن: من التهاني والتعازي والفتوحات ووصايا تقاليدهم وتواقيعهم وأوامرهم ونواهيهم فيها، وافتتاحات أدعيتهم في كل ما يتشعب من طرق الكتابة وكيفية البداءات والمراجعات في الهدايا والشفاعات والأوصاف وكتب الإخوان وما يجري هذا المجرى. وهذا باب لا يغلق له مصراع ولا ينعقد على حصره إجماع.
وعلى الجملة، فالكاتب يحتاج إلى كل شيء، ولولا أنه لا يلزمه تحقيق كل فن لقلت إنه الذي يعرف الوجود على ما هو عليه. وهيهات.
نعم الناس متفاوتون في ذلك وهم على طبقات: فمنهم من تسنم الدرجات، ومنهم من لا نهض من الدركات، وما بين ذلك. ولا بد من المشاركة مهما أمكن، ولو أنه معرفة لمصطلح لكل صاحب فن، وإذا كمل مواده أو قارب الإكمال، فمعرفة مصطلح الديوان في المكاتبات من معرفة الألقاب والنعوت وما يجري هذا المجرى. فإن هذا معرفته مع المباشرة في أقل من جمعة يتصوره ويدريه، وهو مما لم يتقرر قاعدته، لأنه يختلف باختلاف كل زمان وأهله. وهذا لا عبرة به، فإنه أسهل ما يعرفه.
هل تضر مخالفة النحو في معنى
قال وقد ذكر النحو: إذا نظرنا إلى ضروبه وأقسامه، وجدنا أكثرها غير محتاج إليه في إفهام المعاني. ألا ترى أنك لو أمرت رجلا بالقيام فقلت: قوم بإثبات الواو ولم تجزم لما اختل من فهم ذلك شيء. وكذلك الشرط والفضلات كلها تجري هذا المجرى من الحال والتمييز والاستثناء وساق أشياء من هذه الأنواع.
أقول: ما يورد مثل هذا إلا عوام الناس ومن لم يتلبس بالمعرفة، ومن لم يرح رائحة العلم. ألم يعلم أنه إذا صدر عن مترسل كتاب لم يجزم أفعال أمره ولا شروطه وجوابها، ولم يرفع فاعله وينصب فضلاته، ولا راعي شيئًا من قواعد إعرابه التي هي ظاهرة، ولا حافظ على شيء من الإعراب ألبتة، كان ذلك ضحكة للمغفلين فضلا عن العقلاء. وحينئذ فقد استوى العلماء والجهال.
وقد كتب عمر ﵁ إلى أبي موسى الأشعري: أما بعد فتفقهوا في السنة وتعلموا العربية وكان عبد الله بن عمر ﵄ يضرب ولده على اللحن.
وقال عبد الملك: اللحن في الكلام أقبح من آثار الجدري في الوجه. ورأى أبو الأسود الدوءلي أعدالا للتجار مكتوب عليها لأبو فلان. فقال: سبحان الله يلحنون ويربحون. ويقال: من أحب أن يجد الكبر في نفسه فليتعلم العربية.
ألم يعلم أن بعضهم استدل على أن النحو فرض كفاية إن لم يقل إنه فرض عين، وذهب بعضهم إلى أن الله تعالى لا يقبل الدعاء إذا لم يكن معربا. وقال الشيخ تقي الدين ابن الصلاح: أخشى على من تعاطى الحديث ولم يدر النحو، أن يدخل في قوله ﷺ: من كذب علي متعمدا، فليتبوا مقعده من النار.
ثم إنه استثنى أشياء من ذلك لا تعرف إلا بالإعراب. فأقول: إنه لا يتوصل إلى معرفة الغامض إلا بعد معرفة الواضح، ومن لم يعرف البين لم يعرف العويص، لينتقل في التفهم من الأدنى إلى الأعلى.
1 / 8
قال الخليل بن أحمد ﵀: لا يصل أحد من النحو إلى ما يحتاج إليه إلا بتعلم ما لا يحتاج إليه، فقال أبو عمر: إن كان لا يوصل إلى ما يحتاج إليه إلا بما لا يحتاج إليه، فقد صار ما لا يحتاج إليه محتاجا إليه. وكل علم بهذه المثابة فيه الجلي والغامض في الفقه، فإن مسائله الغامضة في الحيض والتيمم وللفرائض، وما في الجبر والمقابلة، ومسائل الدور في الطلاق وغير ذلك. وكما في المنطق فإن غوامضه في الأقيسة والمختلطات والمغالط وغير ذلك. وكما في علم الكلام من إثبات الجوهر الفرد، وأن العرض لا يبقى زمانين، وأن المعدوم ليس بشيء. وما يتوصل الإنسان إلى معرفة هذه المسائل العويصة إلا بعد مقدمات يفهمها من المسائل الواضحة، وما رأيت من يورد مثل هذا غير العوام، أو من يجهل هذا الفن.
هل يقدح اللحن في حسن الكلام
قال بعد أن ساق شيئًا من نظم أبي نواس وأبي تمام وأبي الطيب ولحنهم: إن اللحن لم يكن قادحًا في حسن الكلام.
أقول: ما بقي بعد هذا إلا أن يقول: إن مراعاة الإعراب علة موجبة لقبح الكلام أتراه ما سمع بقولهم: النحو في الكلام كالملح في الطعام. وقد ذهب بعضهم إلى أن الإعراب إنما سمي إعرابا لأن العرب في قوله تعالى: " عربًا أترابًا " هن المتحببات إلى أزواجهن، فكأن من أعرب كلامه تحبب إلى مخاطبه. أقول: معنى تحببه كونه ذكر أمارات تدل على معانيه. فإنه إذا أراد التعجب قال: ما أحسن زيدًا، ولو ترك الإعراب وقال: ما أحسن زيد بسكون النون والدال، لالتبس الفهم على المخاطب وبقي في حيرة: هل هو مستفهم أو متعجب أو مخبر. فلما نصب النون والدال علم أنه يتعجب. وإذا قال: ما أحسن زيد برفع النون وكسر الدال علم أنه يستفهم. واذا قال ما أحسن زيد بنصب النون ورفع الدال علم أنه مخبر بنفي الإحسان عنه. واذا أراح المتكلم من يخاطبه من الفكرة والحيرة بالإعراب، فقد تحبب إليه.
وقد قال..... لا قدر للحان ولو بلغ يافوخه عنان السماء وأنا فما أنكر أن لطف التركيب وسهولة الكلام أمر آخر وراء النحو. هذا معلوم ولكن المشاحة في تعسفه وتعنته.
حول لون البقرة في الآية صفراء فاقع لونها
قال: وكان فاوضني بعض الفقهاء في قوله تعالى في سورة البقرة: " صفراء فاقع لونها "، إن لون البقر كان أسود. وأخذ في الشناع على ذلك والاستدلال على أن اللون أصفر.
أقول: من المعلوم أن الأرجح هو أن اللون كان أصفر، لكونه مؤكدًا بفاقع. كما يؤكد أسود بحالك وحانك، وأبيض بيقق ولهق، وأحمر بقان وذريحي وأخضر بناضر ومدهام، وأصفر بناصع وفاقع ووارس، وأزرق بخطباني، وأرمك برذاني. ولكن إذا ورد التفسير وثبت النقل بشيء، فما يمكن غير قبوله والعمل به في موضعه من غير أن يتعدى به ذلك الموضع. هذا إذا خالف قاعدة، وإن أمكن ترجيحه رجح، كما رجح هذا بعضهم بقوله تعالى: " إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالات صفر ". أي جمال سود تضرب إلى الصفرة. قالوا: والنار سوداء مظلمة.
التأدب في الحديث عن العظماء
قال عند ذكر وقائع العرب: ومن ذلك أنه ورد عن عمر بن الخطاب أنه استدعى أبا موسى الأشعري ومن يليه من العمال، وكان منهم الربيع بن زياد الحارثي، فمضى إلى يرفأ، مولى عمر، وسأله عما يروج عنده وينفق عليه، فأشار إلى خشونة العيش. فمضى ولبس جبة صوف وعمامة دكناء وخفا مطابقا وحضر بين يديه في جملة العمال. فصوب عمر نظره وصعده فلم يقع إلا عليه، فأدناه وسأله عن حاله ثم أوصى أبا موسى الأشعري به.
ثم قال ابن الأثير: وقد استعملت أنا هذا في تقليد لبعض الملوك من ديوان الخلافة، فقلت: واذا استعنت على عملك بأحد، فاضرب عليه بالأرصاد، ولا ترض بما عرفته من مبدا حاله، فإن الأحوال تتنقل تنقل الأجساد، وإياك أن تخدع بصلاح الظاهر كما خدع عمر بن الخطاب بالربيع بن زياد.
1 / 9
أقول: قوله كما خدع عمر، في هذا القول إساءة أدب على عمر ﵁ من نسبته إلى أنه خدع، وفي هذا شبهة لصاحب التقليد، فإنه يقول في نفسه: وإذا كان مثل عمر خدع، فما ظني بنفسي، فيقع منه الإهمال. والآدب في مثل هذا أحسن، ودفع الانخداع عنه أليق. ألا ترى إلى قوله تعالى حاكيًا عن يوسف ﵇: " من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي "، فنسب ما وقع بينهم إلى الشيطان تأدبًا مع إخوته ﵈. وإذا خدع مثل عمر بن الخطاب ﵁ مع تحرزه وشدته في الدين، فما يظن بغيره.
وقال المغيرة بن شعبة: ما رأيت أحدا أحزم من عمر. كان والله له فضل يمنعه أن يجزع، وعقل يمنعه أن يخدع.
قال أبو بكر الخرائطي: رحم الله عمر ما كان أنظره بنور الله في ذات الله وأفرسه. كان والله كما قال الشاعر:
بصيرٌ بأعقاب الأمور برأيه ... كأنّ له في اليوم عينا إلى غد
وقد نقل عن أبي العباس أحمد بن عبد الله بن الحطيئه أنه كان يقول: أدرجت سعادة الإسلام في أكفان عمر بن الخطاب.
وما أحسن قول الشاعر:
حججي عليك إذا خلوت كثيرةٌ ... وإذا حضرت فإنني مخصوم
لا أستطيع أقول أنت ظلمتني ... الله يعلم أنّني مظلوم
فانظر إلى أدب هذا الشاعر وتلطفه مع محبوبه وإجلاله له.
وكان الأحسن أن لو قال: وإذا استعنت على عملك بأحد، فلا تثق منه بلمع السراب، واكشف بيد إرصادك عن وجه سيرته حجاب النقاب، وتيقظ لأموره فلا ترض بالظاهر العامر وتنسى الباطن الخراب، وتخيل من مكره ما تحيل به الربيع بن زياد على عمر بن الخطاب. فإن نسبة الحيلة إلى الربيع أحسن في الأدب من نسبة الخدع إلى عمر ﵁.
إنكار التلقب بالناصر على السلطان صلاح الدين
قال: وجدت لابن زيادة البغدادي كتابًا كتبه إلى الملك الناصر صلاح الدين يشتمل على أمور أنكرت عليه من ديوان الخلافة. من ذلك أنه تلقب بالناصر وذلك لقب أمير المؤمنين.
ثم إن ابن الأثير استصلح الكتاب وقال: لم أجد فيه مغمزًا إلا في هذا الفصل الذي يتضمن حديث اللقب، فإنه لم يأت فيه بكلام يناسب باقي الفصول المذكورة، بل أتى بكلام فيه غثاثة كقوله: ما يستصلحه المولى على العبد حرام وشيء من هذا النسق.
ثم إن ابن الأثير ﵀ ذكر ما أنشأه في هذا المعنى لنفسه قال: قد علم أن للأنبياء والخلفاء خصائص يختصون بها على حكم الانفراد، وليس لأحد من الناس أن يشاركهم فيها مشاركة الأنداد. وقد أجرى رسول الله ﷺ ذلك في أشياء نص عليها بحكمه، من جملتها أنه نهى غيره أن يجمع بين كنتيه واسمه، وهذا مسوغ لأمير المؤمنين أن يختص بأمر يكون به مشهورًا وعلى غيره محظورًا.
وساق باقي السجع وليس فيه زبدة فأثبته. أقول: قبل الخوض معه أقدم الفرق بين الاسم والكنية واللقب.
وذلك أن العلم الدال على شخص معين إن كان مصدرا بأب كأبي بكر وأبي حفص، أو بأم كأم كلثوم وأم البنين وأم المؤمنين فهو الكنية. وإن أشعر برفع المسمى كماء السماء وذي رعين وذي النورين وذات النطاقين وذي الجناحين، ويدخل في هذا ألقاب الخلفاء بني أمية وبني العباس، كالهادي والمهدي والرشيد والأمين والمأمون، ويدخل فيه مصطلح الناس، من شمس الدين وبدر الدين ونجم الدين وغير ذلك من ألقاب أهل الكتاب كشمس الدولة وتاج الملك. أو يشعر بضعة المسمى كففة وبطة والأقيشر والأحوص فهذا هو اللقب. وإن كان للدلالة على ذات المسمى وتعيينه، كزيد وعمرو وبكر وخالد فهذا هو الاسم.
وإذا تقرر هذا، فالنبي ﷺ قال: " لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي " مراده لا يقال لأحد من أمته محمد أبو القاسم. أما الناصر والعاضد والقادر والمستنصر وما أشبه ذلك فليس ذلك بكنية ولا اسم على ما تقرر.
على أن الفقهاء اختلفوا في التكني بأبي القاسم على ثلاثة مذاهب: فذهب الشافعي ﵀ ومن وافقه إلى أن لا يحل لأحد أن يكتني به سواء كان اسمه محمدا أو غيره.
وذهب مالك ﵀ إلى أنه يجوز التكني به لمن اسمه محمد ولغيره. وذهب بعضهم إلى أنه يجوز لمن لم يكن اسمه محمدًا ولا يجوز لمن اسمه محمد.
قال الرافعي: يشبه هذا الثالث أن يكون أصح، لأن الناس ما زالوا يكتنون به في جميع الأعصار ولا إنكار.
1 / 10
قال الشيخ محي الدين النووي ﵀: وهذا الذي قاله صاحب هذا المذهب، فيه مخالفة لظاهر الحديث. وأما إطباق الناس على فعله مع أن في المكتنين به من الأئمة الأعلام وأهل الحل والعقد والذين يقتدى بهم في الدين، ففيه تقوية لمذهب مالك ﵀ في جوازه مطلقًا. ويكونون قد فهموا النهي مختصا بحياته ﷺ، لما هو مشهور من سبب النهي في اكتناء اليهود بأبي القاسم ومناداتهم يا أبا القاسم طلبا للايذاء. وهذا المعنى قد زال انتهى.
قلت: وممن تكنى بأبي القاسم محمد بن الحنفية. يقال: إن رسول الله ﷺ قال " لعلي ﵁ سيولد لك بعدي غلام وقد نحلته اسمي وكنيتي ولا يحل لأحد بعده ".
ومحمد بن أبي بكر، ومحمد بن طلحة، ومحمد بن سعد بن أبي وقاص، ومحمد بن عبد الرحمن بن عوف ومحمد بن جعفر بن أبي طالب، ومحمد بن حاطب بن أبي بلتعة، ومحمد بن الأشعث بن قيس.
وسمعت بخواص الأنبياء: أما النبي ﷺ فخواصه معلومة شرعًا. منها: وجوب الضحى والضحية والوتر والتهجد والسواك وتخيير الزوجة في الإقامة معه أو الفراق، وتحريم الخط والشعر وإمساك الكارهة من الزوجات، والفرار من العدو في الحرب، وأن لا يغمد السلاح بعد إشهاره حتى ينال به من العدو، وإباحة الوصال، والخمس وصفي المغنم، ودخول مكة حلالًا، وجعل تركته صدقة غير موروثة، والنكاح بلفظ الهبة من الزوجة بلا مهر وبلا ولي ولا شهود، وفي الإحرام والتزوج بأكثر من أربع، ومن آثرها حرم على الزوج نكاحها ولزمه طلاقها، وحرمة زوجاته بعد وفاته على الأمة فلا يحل نكاحهن لأحد. وأما من عداهم من سائر أمتهم فما لأحد منهم خاصة يمتاز بها من حيث الشرع.
فانظر إلى ابن الأثير ﵀، لم يطابق بين الإنكار والاستشهاد، ولو أجاب الملك الناصر عن ذلك وقال: إن الخادم ما جمع بين كنية أمير المؤمنين وبين اسمه ولا انفردت بواحدة منهما، فما وجه الإنكار علي، لكان له أن يقول ذلك.
على أن الملك الناصر رحمه الله تعالى ما تسمى بهذا اللقب والناصر في بني العباس خليفة، وإنما العاضد من خلفاء الفاطميين بمصر لما استوزره في سنة أربع وستين وخمسمائة لقبه بهذا اللقب وكان الخليفة ببغداد إذ ذاك المستضيء بالله.
رسالة ابن زيادة البغدادي
وأما قول ابن زيادة: وكل ما يستصلحه المولى على العبد حرام، فإنه مناسب، ولعله أتى به في صورة أحسن من هذه، وجاء في أثناء كلامه مطبوعًا، ولم يذكر ابن الأثير ما أتى به ليعلم حسنه من قبحه، ولم يحضرني عند تعليق هذا الفصل كلام ابن زيادة، ولعلي أظفر به فيما بعد فأثبته في الحاشية.
وقفت على كلام ابن زيادة فيما بعد، فكان ما ختم به فصل الإنكار على اللقب: ومن العجب أن أمير المؤمنين يخاطبه من سمة الملك بما لم يكن له، ويزاحم هو فيما هو لغيره. ومن الحكم الرائقة في وجيز الكلام، والذي يصلح للمولى على العبد حرام انتهى.
قلت: وهذه السجعة بيت شعر من أبيات كتبها عمرو بن مسعدة إلى المأمون مع فرس أهداه إليه وهو أدهم بغرة:
يا إمامًا لا يداني ... هـ إذا عد إمام
قد بعثنا بجوادٍ ... مثله ليس يرام
وجهه صبحٌ ولكن ... سائر الجسم ظلام
والذي يصلح ... البيت
وقد أجاب القاضي الفاضل ﵀ عن كتاب ابن زيادة جوابا مطولا، ولكنه حاسن فيه وما خاشن وكاثر وما كاشر. ثم إن القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر رحمه الله تعالى، أملى جوابا على الكتاب المذكور على لسان صلاح الدين طول فيه إلى الغاية، مع أنه نافس فيه وناقش، وقاسر فيه وقاشر.
وللقاضي الفاضل ﵀ عذر ظاهر في ذلك الوقت عن المداهنة، لعظم منصب الخلافة ذلك الزمان. ولعمري إن هذا الكتاب، فت في عضد الملك الناصر وغض منه، وامتنع الناس الأعيان الذين لهم سورة في غير بلاده أن يقولوا إلا السلطان صلاح الدين دون الملك الناصر، لإنكار الخليفة ذلك. ولعل هذا الأمر باق إلى هذا الزمان، فإنه لا يقال إلا السلطان صلاح الدين في الغالب.
وهذان الجوابان قد أثبتهما في الجزء الثالث عشر من التكرة التي جمعتها
البلاغة والفصاحة
1 / 11
قال في الفصل الثامن في الفصاحة والبلاغة عند ذكر البلاغة، بعد أن قرر أن البلاغة للمعاني والفصاحة للألفاظ: البلاغة شاملة للألفاظ والمعاني، وهي أخص من الفصاحة، كالإنسان من الحيوان. فكل إنسان حيوان وليس كل حيوان إنسانًا. وكذلك يقال: كل كلام بليغ فصيح، وليس كل كلام فصيح بليغا ويفرق بينها وبين الفصاحة من كل وجه آخر غير الخاص والعام، وهو أنها لا تكون إلا في اللفظ والمعنى بشرط التركيب، فإن اللفظة الواحدة لا يطلق عليها اسم البلاغة، ويطلق عليها اسم الفصاحة، إذ يوجد فيها الوصف المختص بالفصاحة وهو الحسن. وأما البلاغة فلا يوجد فيها لخلوها من المعنى المفيد الذي ينتظم كلامًا.
أقول: قد ادعى أن هذا الفارق الثاني غير الأول، وهو هو بعينه ومينه. فإنه أراد أولا، كل كلام فصيح يطلق عليه أنه بليغ ولا ينعكس. ومعنى هذا، إذا قلنا: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل فإن هذا الكلام بليغ باعتبار أن معناه بلغ في صوغ تركيبه إلى حد له توفية بتمام المراد. وفصيح باعتبار بيان مفرداته وحسنها وعذوبتها في السمع. وإذا فككنا هذا التركيب وأخذنا كل فرد من ألفاظه، كان كل فرد فصيحا، ولا يكون بليغا لعدم التركيب في المعنى. فكانت الفصاحة أعم من البلاغة لأنها وجدت في الإفراد والتركيب. وكانت البلاغة أخص لكونها لا تتناول إلا المركب فقط. فحيث وجدت البلاغة مع عذوبة الألفاظ وجدت الفصاحة ولا ينعكس. فصح أن البلاغة كالإنسانية في خصوصها، والفصاحة كالحيوانية في عمومها. وهذا المعنى موجود بعينه في الفارق الثاني الذي أبداه. فإنه قال: إن البلاغة لا تكون إلا في اللفظ والمعنى بشرط التركيب.. إلى آخره فتأمل كلامه يظهر لك ما قلته.
تحديد معنى البلاغة والفصاحة
والذي أقوله أنا: هو أن بين البلاغة والفصاحة، عموما من وجه وخصوصا من وجه. بيان ذلك: أما عموم البلاغة، فلأنها تتناول الكلام الفصيح أعني الحسن المبين، وغير الفصيح أعني الغريب الوحشي. وعموم الفصاحة، فلأنها تتناول الألفاظ المركبة فقط، وخصوص الفصاحة، فلأنها لا تتناول إلا الألفاظ العذبة المستعملة فقط. فثبت أن بين البلاغة والفصاحة عموما من وجه، وخصوصا من وجه. ومثل هذا لا يتنبه له ابن الأثير.
أقسام علم البيان
قال في هذا الفصل: وأما أقسام علم البيان من الفصاحة والبلاغة، فليست كذلك لأنها استنبطت بالنظر وقضية العقل من غير واضع اللغة، ولم يفتقر فيها إلى التوقيف، بل أخذت ألفاظ ومعان على هيئة مخصوصة وحكم لها العقل بمزية الحسن لا يشاركها فيها غيرها. فإن كل عارف بأسرار الكلام من أي لغة كانت من اللغات، يعلم أن إخراج المعاني في ألفاظ حسنة رائقة يلذها السمع ولا ينبو عنها الطبع، خير من إخراجها في ألفاظ قبيحة مستكرهة ينبو عنها السمع. ولو أراد واضع اللغة خلاف ذلك ما قلدناه.
أقول: قد ادعى أن ذلك عقل صرف. فإن أراد بالبيان الذي اصطلح عليه أرباب البلاغة، وهو أحد أقسام علم البلاغة الذي يطلق على معرفة الحقيقة والمجاز والتشبيه والاستعارة والكناية، فإن من المجاز ما هو لغوي كالصلاة، استعملها الشارع في هذه الهيئة المخصوصة المشتملة على القيام والقراءة والركوع والسجود والذكر والسلام والدعاء. وهي في أصل اللغة إنما تطلق على الدعاء الذي هو جزء هذه الهيئة فسماها باسم جزئها، فقد توقفت معرفة هذا المجاز على حقيقته، وتلك الحقيقة لا تعرف إلا بالنقل لا بالعقل، والمتوقف على المتوقف على معرفة الشي متوقف على ذلك الشيء.
الاستعارة والكناية
وأما الاستعارة، فاختلف علماء البيان، هل هي مجاز لغوي أو عقلي. فذهب الأكثرون إلى أنها مجاز لغوي خلافا لصاحب المفتاح فإنه ذهب إلى أنها عقلية. ودليل الأكثرين أنك إذا قلت: عندي أسد شاكي السلاح، وأنت تريد الرجل الشجاع، كان لفظ الأسد عند التحقيق مستعملًا في غير ما وضع له، لأنك تفهم أنه عنده رجل شبهه بالأسد. وإنما حذف أداة التشبيه مبالغة، والألف والسين والدال فهم معناها متوقف على النقل.
وأما الكتابة فمن أقسامها قسم يتوقف على النقل. كقول الشاعر:
أخو لخم أعارك منه ثوبًا ... هنيئًا بالقميص المستجد
أراد أبوك أمك حين زفت ... فلم يوجد لأمك بنت سعد
1 / 12
وقد ألقى كساء أبي عبيد ... عليك فصرت أكسى أهل نجد
أراني الله عينك في الجعبى ... وعينك عين بشار بن برد
فإن الشاعر أراد بأخي لخم جذاما، وببنت سعد عذرة، وبأبي عبيد الأبرص، وبعين بشار العمى.
وقول محمد بن عبدون في خمر عادت خلا:
ألا في سبيل اللهو كأس مدامةٍ ... أتتنا بطعم عهده غير ثابت
حكت بنت بسطام بن قيسٍ صبيحةً ... وراحت كجسم الشّنفري بعد ثابت
أراد ببنت بسطام صهباء، وبجسم الشنفري قوله:
فاسقنيها يا سواد بن عمرو ... إن جسمي بعد خلي لخلّ
وقول الآخر:
ويدعي الشرب في كأس وفي قدح ... وأم عنترة العبسي تكفيه
أي تكفيه زبيبة لأنها اسم أم عنترة العبسي.
ولولا النقل لما علم من هذه الكنايات شيء، وليس للعقل هنا مجال. فقد اتضح أن بعض البيان نقلي.
وإن أراد بالبين علم المعاني الذي هو ما يعرف به تتبع خواص تراكيب الكلم، من أحوال الإسناد الخبري، وأحوال المسند إليه، وأحوال المسند، والفصل والوصل، والإيجاز والإطناب وأحوال الطلب، فأكثر ذلك تتوقف معرفته على النقل، إذ المسند والمسند إليه هما المبتدا والخبر، وأحوال كل منهما متنوعة، من تقديم وتأخير لكل منهما وتعريفهما وتنكيرهما، وحذف هذا تارة وذلك أخرى، ومجيء المسند إليه تارة اسمًا وتارة فعلًا إما ماضيًا وإما مضارعًا. ولولا خوف الإطالة لضربت أمثلة ذلك، ولكنها معلومة من النحو. وجميع ذلك الأصل فيه ما ورد به النقل.
وهذا هو جل علم المعاني. فقد ثبت أن البيان ليس بعقلي كما ادعاه ابن الأثير، بل بعضه عقلي وبعضه نقلي. على أنه قد أورد الناس على علم المعاني فقالوا: إن كان بديهيا لم يحتج إلى تعلمه وتدوينه، وذكره مستغنى عنه، وإن كان كسبيا افتقر إلى علم آخر، ودار أو تسلسل. وما أفضى إلى ذلك فهو باطل.
وأجيب بأنه ليس الكل بديهيًا فيلزم ذلك. بل البعض بديهي يدرك بالذوق السليم والذهن المستقيم، والبعض كسبي يؤخذ بالنقل.
ولما كان الناس على ثلاث طبقات: الأولى أصحاب الطبع السليم وهم العرب الخلص الذين يوردون الكلام بسجيتهم موارده، فهؤلاء مستغنون عن تعلمه لأنه لهم جبلة وفطرة. والطبقة الثانية الجفاة أصحاب الفظاظة والطباع النافرة الذين لا شعور لهم بمعاني الكلام، ولا استعداد لهم لتحصيل ذلك، فهؤلاء أيضًا مستغنون عن تعمله، فإنه لا فائدة لهم فيه. والطبقة الثالثة هم المتوسطون، بين هؤلاء وبين هؤلاء، قد يصيبون تارة في أفكارهم وقد يخطئون. فهؤلاء هم الذين وضعت لهم هذه الآلة. فإذا راعوا قوانينها المدونة، وحدودها المقررة، كانوا أبعد عن الخطأ. وحينئذ لا تستغني هذه الطبقة عن تعلم هذه الآلة.
تعليلات النحاة
قال في هذا الفصل أيضًا: والذي تكلفه النحاة من التعليلات واه لا يثبت على محك النظر.
أقول: قد أجابه ابن أبي الحديد في الفلك الدائر عن ذلك. ولكن ما أنضج القول معه، ويحتاج إلى بقية تذنيب. وهو أن يقال له: ما كأنك نظرت في هذا العلم حق النظر ورأيت ما ذكره ابن السراج والرماني وأبو علي والسيرافي ومن بعدهم مثل: ابن جني وما أتى به في كتاب الخصائص وسر الصناعة وابن الأنباري في أسرار العربية وغير ذلك من حسن التعليل لأحكام النحو، والمناسبات التي أبدوها وإن كان في البعض تسامح لما أنهم التزموا بتعليل كل ما ورد عن العرب. وكما التزم أبو علي في الحجة بتعليل القراءات السبع، وابن جني في المحتسب في تعليل القراءات الشاذة وليس كل ذلك ما يطابق قواعد النحو في الظاهر أكثر من قراءة أبي عمرو رحمه الله تعالى، لأنه كان أقعدهم بالنحو، ولهذا شنع النحاة على ابن عامر ﵀ في قراءته المشهورة قوله تعالى " وكذلك زُين لكثير من المشركين قتلُ أولادَهم شركائهم ". بتغيير زين لما لم يسم فاعله، ورفع قتل مفعول له، ونصب الدال من أولادهم على أنه مفعول المصدر الذي هو قتل، وجر شركائهم لأنه فاعل المصدر وجره على الإضافة، ولا يضاف المصدر إلا إلى فاعله.
1 / 13
فقد فصل ابن عامر بين المصدر وفاعله المضاف إليه، وهو غير ما قرره النحاة. وأفرطوا في الشناع عليه، وهو جائز. وقد جاء عن العرب كثيرًا في شعورهم، واستشهد له الشيخ جمال الدين بن مالك ﵀ في شرح الكافية بشواهد عديدة ومنع الخصم بأن هذا الباب جائز في ضرورة الشعر، وليس في القرآن ضرورة. وانتصر الكواشي لابن عامر في تفسيره وأيد هذه القراءة.
وهذا شأن الفقهاء، أكثر تعليلاتهم لما ورد في أحكام الشرع الشريف في غاية الحسن والقوة، وفي بعض ذلك تسامح. كمن أراد تعليل بعض مناسك الحج فإنه ليس بقوي قوة غيره. والغزالي في الإحياء تكلم في هذا كلاما حسنا، وكذلك شأن المتكلمين، فإن بعض أدلتهم لا تبلغ القوة فيما أتوا به. من حدوث العالم والنفس وإثبات الوحدانية وعدم الجهة. فقد تجىء معهم مسائل قليلة أدلتها عليلة لا تبلغ في القطع والجزم وإلزام الخصم مبلغ تلك. ولولا ذلك لما وقع في النحو خلاف بين البصريين والكوفيين، ولا بين أصحاب المذاهب في الفروع، كالأئمة الأربعة ومن عداهم من الفقهاء التابعين وأصحاب الظاهر ﵃ أجمعين، ولا بين المتكلمين في أصول الدين من الأشاعرة والمعتزلة والإمامية والخوارج والحشوية. وكأنه نظر إلى قول ابن فارس صاحب المجمل:
مرت بنا هيفاء مجدولة ... تركية تعزى لتركي
ترنو بطرف فاتن فاتر ... أضعف من حجة نحوي
ألم يعلم أن الشعر والخطابة يروج فيهما أدنى شبهة، وتضيء فيهما أقل لمعة. وقول الشاعر هنا إنما هو بالنسبة إلى الأمور الضرورية، كتنافي الضدين، وأن الواحد نصف الاثنين، وأن الجسم الواحد لا يشغل الحيزين معا في وقت واحد وما أشبه ذلك، على أن من الناس من أنكر هذه البديهيات وطعن في صحتها واعترف بالحسيات. ومن الناس من أنكر الحسيات وطعن فيها وجزم بالبديهيات. ومن الناس من طعن فيهما وأنكر الحسيات والبديهيات وهم السوفسطائية.
حكي أن صالح بن عبد القدوس مات له ولد فمضى إليه أبو الهذيل ومعه النظام وهو غلام حدث، فرأى من جزعه فقال له: لا أعلم لجزعك وجها إذ كان الناس عندك كالزرع! فقال صالح: يا أبا الهذيل، إنما أجزع عليه لأنه لم يقرا كتاب الشكوك فقال وما هو؟ قال: كتاب وضعته، من قرأه شك فيما كان حتى يتوهم أنه لم يكن، وفيما لم يكن حتى يظن أنه قد كان. فقال له النظام: فشك أنت في ابنك أنه لم يمت وإن كان مات واعمل على أنه عاش إلى أن قرا الكتاب وإن كان ما عاش إلى أن قرأه. فبهت صالح وحصر.
وإذا كان الأمر وصل في المكابرة إلى هذا الحد، فما ظنك بمن يعلل رفع الفاعل ونصب المفعول وعمل لم الجزم وإن جزم الشرط والجزاء وغير ذلك. وباب الجدل مفتوح لكل من أراد أن يمنع شيئا. ولهذا يقال: إذا ناظرت المعتزلي في مسألة الرؤية الزم جانب المنع، ومن أراد أن ينكر شيئًا أنكره وأتعب خصمه، فلا يستطيع أن يقهره.
وليس يصحّ في الأفهام شيءٌ ... إذا احتاج النهار إلى دليل
نعم إذا لزم خصمك الحق وقصده ظفرت منه بالمراد، وجذبته بعد العناد إلى الصواب سلس القياد وإذا كان متعنتا أو جاهلا أو جاحدا، فإنما تضرب في حديد بارد وقد ضيعت نفخك في الرماد.
وما يقوم لأهل الحب بينةٌ ... على بياض صباحٍ أو سواد دجا
ويابن الأثير: إن كانت تعليلات النحاة واهية لم تثبت على محك النظر، فماذا الذي يثبت على محك النظر من تعليلات أصحاب المعاني وهي ما هي؟ أكثر ما يستندون إليه شبه خطابية لا يقطع بها. ولو عورضوا فيها وقفوا في الكثير منها.
وكان الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد رحمه الله تعالى يقول: علم المعاني والبيان إلى الآن بعد ما أنضجته الطبيعة. حكى لي ذلك عنه الشيخ فتح الدين ابن سيد الناس بالديار المصرية في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، فإنه تلميذه الخاص به.
وما أشك أن الكثير من الحجج أقوى وأقطع وأقرب إلى الجزم من الكثير من حجج أرباب المعاني، بل ما بينهما صيغة أفعل. فأت في ذلك بحجة قاطعة:
أو فدع الأشياء مستورةً ... وادخل بنا في النسب الواسع
ما يشترك فيه الكاتب والشاعر
قال في الفصل التاسع في أركان الكتابة: إن الكاتب من أجاد المطلع والمقطع، أو يكون مبنيًا على مقصد الكتاب. ثم قال: وهذا يشترك فيه الكاتب والشاعر.
1 / 14
أقول: هذا فيه تسامح، فإن الشاعر في كل وقت ما يفتتح قصيدته بما يدل على مقصوده. فإن من مدح يطلب الإرفاد والإعانة بمال أو مركوب أو شفاعة أو طلب ولاية، ثم صدر تلك القصيدة بغزل يصف فيه محبوبه، أو وصف هوى أو غربة أو شوق أو مسير، كيف يتأتى له ذلك؟. نعم إذا كان مدحا مجردا بلا غزل لاق به ذلك، وأكثر ما يكون المدح مجردا من الغزل إذا كان في واقعة تجددت للمدوح فيهنئه الشاعر إما بولاية منصب أو بظفره بعدو أو بمولود أو بسلامة من حادثة أصابته أو هناء بعافية أو بتشيف أو غير ذلك من مجددات الوقائع. ولولا خوف الإطالة ذكرت الشواهد على ذلك.
وأما الكاتب فإنه إن كتب إلى من هو دونه أو مساويه أو أرفع منه، بحيث أنه تمكن مخاطبته بالدعاء، فيحتاج إلى أن يكون الدعاء مناسبا لما يتضمنه الكتاب من شوق أو وحشة أو هدية أو استهداء أو شفاعة أو سؤال أمر أو شكر أو هناء أو عزاء أو ما هو بحسب الحال. وهذا النوع إنما حافظ عليه المتأخرون من الكتاب خصوصا في التقاليد والتواقيع فإنهم راعوا ذلك. ولولا خوف الإطالة لأوردت من ذلك جملة كافية.
على أن هذا لا يحتاج أهل هذا العصر إلى التنبيه عليه، لأنه هذا الأمر قد اشتهر بين كتابه.. وقد بقي هو الغاية المطلوبة من الكاتب. حتى إنه ليقال: افتتح تقليده أو توقيعه أو كتابه بكيت وكيت. ويذكر اسم صاحب التقليد في أول السجعة، أو ينبه على معنى ما اشتمل عليه الكتاب. فمنهم السابق ومنهم المقصر. وقد يتفق في غالب الأوقات اسم المكتوب له والوظيفة، فينبه الكاتب على المعنى. ألا ترى ما أحسن قول.... وقد كتب تقليدا بولاية العهد للسلطان الملك الأشرف صلاح الدين فقال: الحمد لله الذي جعل الملك الأشرف صلاح الدين. فما استعار له شيئًا. واتفق لي مثل هذا في توقيع كتبته لقاضي القضاة الحنفية عماد الدين علي بتدريس المدرسة القايمازية فقلت: الحمد لله الذي جعل عماد الدين عليا فما استعرت له شيئًا. وهذا كثير الاتفاق.
وقول القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر وقد كتب تقليدا بولاية العهد للسلطان الملك الصالح علاء الدين علي عن والده السلطان الملك المنصور فقال: الحمد لله الذي شرف سرير الملك بعليه، وحاطه منه بوصيه، وعضد منصوره بولاية عهد مهدية وقول القاضي علاء الدين بن عبد الظاهر رحمه الله تعالى في تقليد كتبه لركن الدين بيبرس المظفر، عندما تملك عن مولانا أمير المؤمنين أبي الربيع سليمان أدام الله أيامه فافتتحه بأن قال: إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم.
وكتب فخر الدين بن لقمان عن الملك السعيد بن الملك الظاهر رحمهما الله تعالى تقليدا بوزارة برهان الدين السنجاري، افتتحه بقوله تعالى: " يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم ". وفي هذه اللمعة كفاية. ولكن قد ظهر أولا أن الشاعر لا يلزمه الكاتب من مراعاة المطالع.
كيف يستفيد الكاتب المنشىء
من التراث الأدبي
وقال في الفصل العاشر في الطريق إلى تعلم الكتابة: الثاني أن يمزج كتابة المتقدمين بما يستجده لنفسه من زيادة حسنة: إما في تحسين ألفاظ أو تحسين معان ثم قال: إلا أن هذه الطريق مستوعرة جدا، ولا يستطيعها إلا من رزقه الله لسانا هجاما وخاطرا رقاما، وقد سهلت لي صعابها وذللت فجاجها، وكنت أشح بإظهار ذلك لما عانيت في نيله من العناء.
أقول: وقد سلك هو طريقا والقاضي الفاضل طريقًا:
عاجوا إلى تلفي وعجت إلى الرضى ... شتان بين طريقهم وطريقي
فإن القاضي ﵀، أذهل لما أسهل، وابن الأثير سامحه الله أحزن لما أحزن، على أن ابن الأثير أكثر ما جاء به في طريقه: حل المنظوم، وتضمين الأمثال. وليس هو بأبي هذه العذرة، ولا ناظم تلك الشذرة. وأين كلامه من كلام الوزير أبي الوليد ابن زيدون: ومن وقف على ترسله، على حسن توصله إلى هذا الفن ولطف توسله. لا سيما رسالته التي كتبها على لسان ولادة بنت المستكفي إلى الوزير أبي عامر ابن عبدوس، والرسالة التي كتبها إلى ابن جهور يستعطفه بها. فإنه أتى في هاتين الرسالتين بالغرائب والعجائب، وضمنهما من الأمثال والوقائع وحل الأبيات ما زاد، وضوع نده في كل ناد، لأنه حشر فيهما فنادى، ونظم لآلىء ذلك توأما وفرادى فجاءت كل رسالة.
يحرك أعطاف المعالي سماعها ... وتبعث أطراب النهى وتهيّج
1 / 15
وهناك يعلم قدر هذا الرجل في إطلاعه، وبسط ظله وغاية ارتفاعه. حتى قيل: إن نثره أشبه منه بالمنظوم.
وقد نثر ابن خلف الحماسة وزاد عليها في مجلدة وسمها بالمنثور البهائي وادعى فيه أنه هو الذي ابتدع حل المنظوم، كما أن الخليل بن أحمد اخترع العروض.
وأما ابن الأثير، فإنه أكثر من الحل، وأتى فيه بما حرم وما حل، وزاد من رقمه في بروده، وبالغ من نظمه في عقوده.
والخد بهجته بخالٍ واحد ... وتقلّ فيه بكثرة الخيلان
وأتى فيه بالسمين والغث، وما جاء فيه بجديد إلا وقرنه بالرث. وحل المنظوم إنما هو نوع واحد، وقسم لو فقد ما كان عليه واجد، وما لم تمكن فيه خفة تروجه، وحلاوة تقرنه بالسمع وتزوجه، لم يعلق بالسمع قرطه، ولم يجاز بالقبول شرطه. وما أمثله إلا بعقد نثرت حباته، وروض صوحت زهراته. فأي حسن لقريض خانه وزنه، وأي نضارة لروض جفاه مزنه. اللهم إلا أن يكون المنشىء سليم الفطرة، قويم الفكرة، يستدرك على الناظم ما فاته، ويرهف صارمه ويثقف قناته، إما باحتراز ما لم يحد عنه، أو الإتيان بملائم لم يتمكن لضيق الوزن منه، أو باختصار ما يقوم المعنى بدونه، أو بزيادة زهر غصونه، أو بجودة سبكه، أو بإتقان حبكه. وهنا تظهر القدرة المتمكنة، وتكون أدلة الفصاحة بينه.
فليس لوصل من يدعى فيأتي ... عذوبة وصل من يدعى فيأبى
وأما القاضي الفاضل ﵀، فإنه سلك طريقا غريبة، وأظهر فنونا عجيبة، زعم بعضهم أنه كان جل اعتماده على حفظ كلام ابن أبي الشخباء، وأنه كان يستحضر أكثر كلامه، وبعضهم زعم أنه اعتمد على كلام ابن أبي الخصال، وبعضهم زعم أنه اعتمد على كلام البديع وهيهات، ليس في كلام واحد منهم تلك النشوة، ولا لمتكلم غيره تلك الخطوة في نيل الحظوة، ولا لمترسل حسنه الذي شق قلوب الرجال إن لم يقطع أيدي النسوة. بينما هو يخاطبك بالكلام، إذا به قد عاطاك كؤوس المدام، وبينا هو يناوح مهبك، إذا به قد سحر لبك، وبينا هو يتكلم مثل الناس على العادة، إذا به قد سرد الكواكب الوقادة، وبينا هو قد ألفتك ظهره، إذا به قد أدار لك المحيا، وبينا هو يسايرك في الثرى، إذا به قد تبختر عند الثريا.
فإن كان من درٍ فما الدرّ هكذا ... وإن كان سحرا إن ذا لعجيب
وها أنا أورد هنا من كلامه نبذة تكون لباقيه عنوانا، وفلذة تكون بينه وبين غيره ميزانا، من ذلك كتاب كتبه في وصف كتاب كتبه موفق الدين خالد بن مهذب الدين القيسراني بذهب وهو: وقف الخادم على ما دبجته أنامل الحضرة التي إذا صاب سحابها روض لساعته، وإذا عدمت حقيقة السحر فهي التي نفثها بيانه في روع يراعته، فانتقل من الاستحسان إلى التسبيح لأن حروفه شذور السبح، وخلص التفضيل من الترجيح بأول ما صافح الطرف من الطرف واللمح من الملح. فتناول منها جنة قد زخرفت بنار، وليلة قد وشحت بنهار، وروضة قد سقيت بأنها عقار، وغصون أقلام قد فتحت بنوار نضار، وعارض ذهب قد أذيب يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار. فتعالى من ألان لداود ﵇ الحديد ولها الذهب، وأيقظ به جد هذه الصناعة بعد أن نام بين الأنام فهب، وأعلم الناس أن القلم في يد ابن البواب للضرب لا للطرب، وأن قيمة لك منها ومنه ما به في هذه الصناعة كتب، وحلاها بتمام البدور وأعطاه ما أعطى أباه هلالًا من المحاق، وأخر زمانها وقدم زمانه ورزقها السبق وحرمه اللحاق.
1 / 16
فمن ألفات ألفت الهمزات غصونها حمائم، ومن لام ألفات بعدها يحسدها المحب على عناق قدودها النواعم، ومن صادات نقعت غلل العيون الصوادي والقلوب الحوائم، ومن واوات ذكرت بما في جنة الأصداغ من العطفات، ومن ميمات دنت الأفواه من ثغورها لتنال جنى الرشفات، ومن سينات كأنها التأشير في تلك الثغور، ومن دالات دالات على الطاعة لكاتبها بانحناء الظهور، ومن جيمات كالمناسر تصيد القلوب التي تخفق لروعات الاستحسان كالطيور، وفها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وخالد فيها خالد، وتحيته فيها المحامد، ويده تضرب في ذهب ذائب والخلق تضرب في حديد بارد. فهي اليد التي تنظم تيجان الملوك بدرها، وتظهر آية الكرم على قراطيسها بما تظهره من تبرها. وما كنت قبل يدها أحسب أن سحابا تمطر نضارا، ولا أن ماء يستمد نارا، ولا أن أقلامها سيوف قد سفكت دم المال فأجرته أنهارا، ولا قبل لحظها أن الشفق لا يشفق من طلوع الفجر، ولا أن لون الوصل ينفض على لون الهجر، ولا أن الليل يتشبث بعطف البرق فلا يريم، ولا أن ذهب الأصيل يجري به سواد الليل البهيم، ولا أن يدا كريمة تدعي من آيات قلمها ومعجزات كرمها أن الجلمود بها يفارق الجمود، وأن البراعة تسير فرقدها على الظما فيشافه منهل النضارة المورود، وما كانت خطوط الفضلاء إلا تجربة بين يدي تحريرها الآن، ولا أقلامها إلا حطبا أوقدته على الذهب فذاب لها ولان، ولا يحسب الخط إلا يحسب بيدها فغيرت له أثواب الحداد وجلت عرائس حروفه مضمخة الأجساد بالجساد، وأطلعت إنسان عين الإحسان بدليل كونه لم يلمح إلا في سواد، وسجد له والسجود فرضه لأنه دون التيجان، وقبله والتقبيل حقه لأن الجنان يحاور منه حور الجنان، وكيف لا يفضل جوهرها بأن يفصل، وتقابل حروفها بأن تقبل، وقد كتب الناس باليد وكتب بالعين، وحصل الناس من هذه الصناعة بعد حرب حنين على خفي حنين، وفازت بما أظهرت من نروتها للنظار من النضار، وصحت لها الكيمياء، لأنه كتب بشطر دينار سطرا بألف دينار، وأن له في نهارها بل في أنهارها سبحا طويلا، وأنها على خفة وزنها وقلة أسطرها لتكلف من الشكر عبئا ثقيلا، وكيف لا يخف ميزان الثناء على أنهار حجته بذائب ذهب، وكيف يضل وفد الشكر وقد هدته بذوائب لهب، وقد نشره وطواه حتى كاد أن يخلفه، وأسام فيه ناظر لا يسأمه، فكان آخر ما تأمله أول ما رمقه، ومأسى لافتنائه يعبد مذهبه على حرف أو على ورقه، وورده إذ يقسى ورده فازداد عطشًا على كثرة العل والنهل، وأعشاه إذ أغشاه وكثرة النور تعشى ناظر المقل.
ومن ذلك ما وصف به الخيام من جملة كتاب وهو: أما الخيام فقد بليت وصارت أمشاجا، ورقت فخالطت كأس الغمام مزاجا، ولقيت معنا الشدة وكانت شدتنا أن رأينا بها انفراجا. ففيها من السماء رقاع، وكأنما أخذها في شق الثياب سماع، وإذا هبت الرياح فهي بتقدمها وتأخرها في نزع حثيث، ونزغ من الشيطان خبيث، طلقتنا وهي بعد في حبالنا، وطعنت وهي بعد في عقالنا، إن أرسلت الريح آية ظلت أعناقها لها خاضعة، وإن قعدنا فيها فعلى قارعة الطريق وهي قاعدة على طريق القارعة، وإن وقعت ليلا فما لوقعتها الخافضة رافعة. بها للدهر جراح الإبر لا تقطبها، ومنها على الدهر أطلال تصدقها العين تارة وتكذبها، وقد فرجت سماؤها وانشقت، وأذنت لربها وحقت. لم يبق في أديمها بشرة تعاتب، ولا في صبرها مسكة تجاذب. كأنها وأخواتها إذا هبت الرياح المجرمون رأوا العذاب، وتقطعت بهم الأسباب، بحيث ترى حماها نافضا، والعارض قد دخل عليها على الحقيقة عارضًا، فعمدها الأغصان هزها البارح، وشرائطها الشرار أطاره القادح، وأما إذا نشأت السحائب فسلت سيوف برقها، وسلسلت سيول ودقها، فإنها أمام تلك السيوف جرحى، ووراء تلك السيول طرحى. تود ما ود ابن نوح يوم لا عاصم، وتراها كبط الماء ونحن بين غريق وعائم. نضربها في كل يوم فوق الحد، ونأخذها في المصيف بحرب حر في الشتاء ببرد برد.
1 / 17
ومن ذلك كتاب أصدره من بعرين، وهو: المستقر ببعرين، حيث أخرجت السماء أثقالها وفتحت من عزاليها أقفالها، وركضت خيل الرعود لابسة من الغيم جلالها، وثوب الليل بماء الغمام غسيل، وشبح الظلام بسيف البرق قتيل، وغراب الأفق في الجو باز، إلا أنه في قوس قزح ناز، وكأن عقارب الظلماء بالثلج أفاع، فليكن ليل قرينتها ليل السليم، وكأن مواقع الرعد قعاقع حلي الغواني فهو لا ينام ولا ينيم، وكأن الصباح قد ذاب في الليل قطرا، وكأن البرق لما ساوى الغمام بين صدفي الليل والنهار قد قال آتوني أفرغ عليه قطرا، وقد ابتل جناح الليل المغدف فما يطير، وأبطا حمام الصبح خلاف ما نحاه في رسالة نوح فما يسير، والرياح وقد أعصفت فقصفت عيدان نجد ورتمها، وخيولها قد ركضها السحاب فكان البرق تحجيلها ورثمها.
فأما الخيام التي قد نضجت جلودها بإيقاد الشمس واسودت، ثم نضحت بدموع الغمام فتراخت أجفانها بعدما اشتدت. فما هي إلا أعين سال منها بالدموع كحلها، وخيول دهم حل عنها بالرياح من الأطناب شكلها، ولا يزال الخصام بينها وبين الأهوية إلى أن تشق الثياب من حربها كما شقها السحاب من طربها، ونحن ندأب في عقد ظنبها، لندخل في عقد حسبها. وهيهات سلبت في البيكار أشباحها، وخرجت بالرياح أرواحها. فالشمس إن طلعت ألقى الشرق جامات تقر على العيان، لا دنانير أبي الطيب التي تفر من البنان. وما لاذت بجانبها الرياح، وأبت على الأطناب من إرسالها في عنان الجماح، إلا أشبهت قطاة غرها شرك وقد علق الجناح، وقذاة هزها درك وقد أبت البراح.
وقد زادت السيول إلى أن صارت هذه الخيام عليها فواقع، وهمهم الرعد قاريا فاستقلت قيامها بين ساجد وراكع. وأنا فيها كعثمان في داره، والخطب قد أخذ في حصاره. فلا يزال نبل الوبل مغرقا، ولا أزال على نفسي من السيل مخندقا. وقد رجعنا إلى النشأة الأولى فعدنا في هذا الماء علقا. ولا كفران لله فإني ملقى على طرق الطوارق، ملقا ما شاب العيش من فراق يشوب بالشيب المفارق. وما كنت أخشى أن ينقلني الدهر من درجة مجانيه المقتطفة، إلى مدرجة مجاريه المجتحفه، ولن يرى أعجب مني ممحلا وأنا أشكو الغدران الغادرة، ومجدبا أتظلم من ظلمات الليالي الماطرة. وقبح الله بعرين، وإن استجن أسد الإسلام منها بعرين، وأنا بريء منها بعدد رمل يبرين.
ومن ذلك: وتلك الجهة وإن كانت غريبة، فإن الغرب مستودع الأنوار، وكنز دينار الشمس ومصب أنهار النهار.
ومن ذلك: وبالجملة، إن كانت البلاغة دينا فقد ألحد من لا يوحده وإن كانت سيفا فقد تعرض للحد من لا يقلده، وإن كانت فراشا فقد نفي عن ظهر البلاغة مالا يلده.
ومن ذلك: فلو ملكتم الدهر لامتطيتم لياليه أداهم، وتقلدتم أيامه صوارم، ووهبتم شموسه وبدوره دنانير ودراهم، وأيامكم أعراس وكأنه ما تم على الأموال فيها مآتم، والجود في أيديكم خاتم ونفس حاتم في نقش ذلك الخاتم.
ومن ذلك: فروح الله تلك الروح، وفتح لها أبواب الجنة فهي آخر ما كانت ترجوه من الفتوح.
ومن ذلك في شرك صنيعه: والله إن صنيعته كالشمس وضوحا لا أجحدها، ولو جاز أن تعبد الشمس في دين الله لكنت أعبدها، فإنها شمس ما ألقت يدا في كافر، ولا وضعت يدا إلا في شاكر.
ومن ذلك: ولو بلغ القول مني إلى السمع لما بلغ إلى القلب، ولو رأيت سيفه خضيبا من مقره في صدري لما استشعرت الحرب، ولو صمم على الضرب لحركته حتى يصير من الضرب لا من الضرب.
ومن ذلك: والقلوب طيبة، والغيوث صيبة، وقد صار على عطف كل زرع منها جبيرة تتبرج وعلى أذن كل قرط منها لؤلؤة تترجرج.
ومن ذلك: فلا عدمت تلك الأنفاس من النفائس، وتلك العقائل العرائس، وتلك الجواهر التي تسرني أن تفضح عرضي، وتلك السهام التي هي والله غرضي.
ومن ذلك: ووثقنا بنجح الطلب، وأمسكنا بقرون حماة فحصلنا على حلب حلب.
ومن ذلك في ذكر النيل يتدافع تياره دافعا في صدر الجدب بيد الخصب، وترضع أمهات خلجه حتى أبناؤها بالعصف والأب.
ومن ذلك: والمهامه قد نشرت ما ملأها من ملاء السراب وزخر فيها ما ولد لغير رشده على فراش السحاب.
ومن ذلك: وإن يصفح عنه الصفح الجميل المألوف من هذا البيت، فبصفحهم أمضى الله حدهم، وبعفوهم أنجح الله جهدهم، وباتباعهم لأبيهم ﵀ عليه أعلى الله سبحانه جدهم.
1 / 18
ومن ذلك: والله بيننا وبين البين، فما أكثر فضوله ودخوله بين المحبين.
ومن ذلك: وقد وصل كتابه الكريم جوابًا بل ثوابًا عن كتابي العافي، وأسفر بشر صفحة بره المخفي وكل بشر لا إخفاء معه فهو بشر الحافي.
ومن ذلك: والقصائد أنا مترقب وصولها بأي خط اتفق، فعربيتها لا تغولها عجمة الناقل، ونور حقها يعرف من ظلمة الباطل، وما يضر محاسن سحبان أن تجري على لسان باقل.
ومن ذلك: سعدا لا يصوح منه مربعه الأخضر، أمنا لا يحزنه الفزع الأكبر، مطاعا بنفاذ تصريفه الأبيض والأسمر، محبوب القلم حتى لو عاداه السيف لقيل له إن شانئك هو الأبتر.
ومن ذلك: ولا أعدمني تفضله الذي تفض له صحائف الود، وتفاظ عليه طرائق الحمد، وعهده الذي جمع إلى بقاء الآس نضارة الورد، وإلى رواء الروض ري الورد.
ومن ذلك: وإلى أن تنجلي عنا هذه الغمره، وإلى أن تجف مناديل العيون فإنها كانت بالدموع عصره.
ومن ذلك: وفداه بأوليائه وإخوانه، ولا كرامة لأعدائه ولا نعمة لحسده، وأبقى على الدهر سؤدده الذي أجار بنيه من سوء دده.
ومن ذلك: ورد من سيدنا كتابان شرحا الصدر وسرا السر وسريا الهم، ولقياني بالفتح ولقيتهما بالضم.
ومن ذلك: ورد المثال الشريف من الديوان العزيز، فأبى له الضلال نوره، وأناله الهدى والهدو إسفاره وسفوره، وجلا وجله ملا أمله حبوره وحبيره، وما عدت أن غدت جنته وجريره جنته وحريره، وراض طرف طرفه في روض أنف أنف أن يعبر عنه إلا عبيره، وحلا عنه الآثام وأحله الدرجات العلا فهو سواره وسوره وسريره.
ومن ذلك: قسم فعدل، وأجزل فأفضل، وبلغ فلم يكن في بلاغ بلاغ، وفتح زهرا ما كان مثله ما يطول إليه باع باغ، فلله هو من كتاب ولله قلمه، فهذا أورد ما ساغ، وهذا قلد ما صاغ.
ومن ذلك: فأما الكتاب إلى غريم الجمال فالله يجمع المال على الجمال ويريحه من اتفاق هاتين السجعتين حتى يكون الجمال الجم المال.
ومن ذلك: والفضل بيد الله يؤتيه أهله، وقد زاده منه فلا عدم فضله، فما يجاريه مجار إلا حمق وكان في طريق السيل بقله.
ومن ذلك كل لفظة موصولة بأنة، وفي كل قلب من حزنه نار وفي كل دار من فضله جنة.
ومن ذلك: فما وصلت إلى مكان العافية منه، إلا وقد امتقعت واقتطعت وقلت بقية السلف الوضاح، وسحاب الفضل حوشي أن يضف حتى يكاد يرفعه من قام بالراح.
ومن ذلك: وأغناه بحراسة لفظه عن احتراسه، وأغنى الملك عن إعمال سهمه بقرطاسه.
ومن ذلك: وأدام سيادته على أهله، وأعاذه بخصب رحله من محل محله، ولا عدمنا من لفظه ما يشهد أنه الشهد حقا لا نحلة نحله ولا نحيلة نخله.
ومن ذلك: وأهلك كل عدو له وأذله، وجعل الحياة قذى وأذى له، ووقفت منهما على البلاغة المسرودة الموضونة، والجواهر الثمينة المكنونة، والثمرات التي اجتناها من شجرة البلاغة الطيبة، ومن الناس من يجتني من الشجرة الملعونة.
ومن ذلك: هو ذلك الفرع الذي سقاه حتى التف في ورقه، وخطر في سندسه وإستبرقه، وشافه منه بياض الفجر بعدما كان لا يظفر بأزرقه.
ومن ذلك: وبات الناس بالحصن مطيفين والنيران بهم مطيفة وعليهم مشتملة، وعذبات ألسنتها على وجهه مسدلة ومن خلفه مسبلة، ولفحاتها جهنمية وقودها الناس والحجارة، والبلاء ينادي طبرية وإياك أعني واسمعي يا جارة.
ومن ذلك: ولا زالت الملوك ببابه وقوفا، والأقدار له سيوفا. والخلق له في دار الدنيا ضيوفا، ودين دين الحق يعلم الناس إذا جرد لتقاضيه سيوفا أن سيوفى.
أقول: كيف رأيت هذه الدرر المتسقة والمحاسن المتفقة؟ هل أتى غيره بهذا النمط، أو ظفرت بهذه النكت في ذخائر الكتاب قط:
هذا كلامٌ عن الأملاك محتجبٌ ... فلا تذله بإكثارٍ على السّوق
وسوف يرد له في أثناء هذا الكتاب ما تدور عليه كؤوسه، وتشرق شموسه.
الصفدي ينتقد ابن الأثير في بعض من إنشائه
وأما قول ابن الأثير ﵀ في هذا الفصل الذي قدمته: إلا من ملكه لسانا هجاما وخاطرا رقاما.
فأقول: ما أدري ما أقوله في هذا، أي مناسبة بين هجام ورقام: ثم إن استعارة الرقم للخاطر بعيدة، وإنما الرقم لليد حقيقة وللقلم مجاز. وما معنى اللسان الهجام، ولو قال لسانا قوالا، وخاطرا جوالا، أو لسانا حاد الغرب، وجنانا لا يهاب الحرب، أو لسانا نظاما، وبنانا رقاما، أو ما أشبه ذلك لكان أحسن.
1 / 19
قال في هذا الفصل: ومن وقف على ما ذكرته علم أني لم آت شيئًا فريا، وأن الله قد جعل تحت خاطري من بنات الأفكار سريا.
أقول إنه هنا في مقام تعظيم لما أتى به في فن الكتابة من حل المنظوم والآيات الكريمة، فقوله، شيئًا فريا ينافي هذا المقام، لأن الفري العظيم أو الشيء المختلق المصنوع، فإذا قال: ما أتيت شيئًا عظيما، أو شيئًا مختلقا مصنوعا، لم يكن ذلك مناسبا.
وأما السري فإنه النهر الصغير، ومن ذهب إلى أنه عيسى ﵇، بمعنى أنه واحد من سراة الناس، فإنه غلط منه.
قال لبيد يصف حمر الوحش:
فتوسّطا عرض السّريّ وصدّعا ... مسجورةً متجاورًا قلاّمها
فالسري: النهر الصغير. والمسجورة: صفة للعين المملوءة.
وما أحسن قول أبي المقدام الخزاعي من جملة قصيدته المشهورة في اللغز:
وسريّا رأيته وسط قوم ... ماكثا ما يريد عنهم زوالا
تشرب الخمر دونه وسقوه ... حين دارت رحاهم أبوالا
السري: هو النهر الصغير وعليه سياق الكلام. وسياق الآية الكريمة يدل على بطلان قول من قال هو كناية عن عيسى ﵇ لأنه تعالى قال: " وكلي واشْرَبي " أي كلي من الرطب الجني، واشربي من النهر، وإذا ثبت هذا فما أدري ما معنى قوله تحت خواطري من بنات الأفكار سريا فإن أراد الذي ذهب إليه من زعم السري هو عيسى ﵇، فكان ينبغي له أن يقول سريات لأنه صفة لبنات، وإن كان المراد النهر فلا معنى له.
ولو قال: علم أني امتلأت من ذلك ريا، وأن الله قد جعل تحت فكري من هذا النوع سريًا.
قال أيضًا بعد ذلك: والذي يعلمها منهم يرضى بالحواشي والأطراف، ويقنع من لآلئها بمعرفة ما في الأصداف.
أقول: ما أدري معنى هذه القرينة الثانية ما هو؟ فإنه ما في الأصداف إلا اللؤلؤ ولو قال: ويترك اللآلىء ويضم الأصداف، لكان أحسن.
قال: ولو استخرج منها ما استخرجت، واستنتج منها استنتجت لهام بها في كل واد، وتزود إلى سلوك طريقها كل زاد.
أقول: هذه السجعة الأخيرة محلولة باردة لا معنى تحتها. ولو قال: لهام بها في كل واد، وارتفع لها في مظهر الربا وانخفض في مضمر الوهاد، لكان أحسن.
ادعاء ابن الأثير الإبداع في رسالة له
في ذم الشيب
قال في هذا الفصل: ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب يتضمن ذم الشيب فقلت: والعيش كل العيش في سن الحداثة، وما يأتي بعدها فلا يدعى إلا بسن الغثاثة، وليس بعد الأربعين من مصيف للذة ولا مربع، وهي نهاية القوة الصالحة من الطبائع الأربع فإذا تجاوزها المرء أشفت ثمار عمره على خرصها، وصارت زيادته كزيادة التصغير تدل على نقصها، ويصبح بعد ذلك وهو يدعى أبا بعد أن كان يدعى ابنا، ويتقمص من المشيب ثوبًا لا يجتر ذيله خيلاء ولا يزهى به حسنا. وإن قيل إن أحسن الثياب شعارًا البياض قيل: إلا هذا الثوب فإنه مستثنى، ويكفيه من الفظاعة أنه ينظر الأحباب إليه نظر القال، ولولا أن الخمود بعده لما استعير له لفظ الاشتعال. ومن الناس من يدلس لونه بصبغة الخضاب، وليس ذلك إلا حدادا على فقد الشباب، وهو في فعله هذا كاذب ولا يخفى أنس الصدق من وحشة الكذاب. وخداع النفس أن تسلو عن بسره المعطلة وقصره المشيد، ويحسن لها الخروج في ثوب مرقع وهي تراه بعين الثوب الجديد ثم قال وبعض هذا مأخوذ من شعر ابن الرومي. وهو قوله:
رأيت خضاب المرء بعد مشيبه ... حدادا على شرخ الشبيبة يلبس
غير أن في هذا الفصل معاني كثيرة لا توجد في كلام آخر.
أقول: قد ادعى أنه ابتكر ما فيه هذا الفصل من المعاني، وأنا أذكر أبياتا تدل على أخذ كلامه منها.
قال أبو الطيب:
آلة العيش صحةٌ وشباب ... فإذا وليّا عن المرء ولّى
وقال التهامي أيضًا:
وطري من الدّنيا الشباب وروقه ... فإذا انقضى فقد انقضت أوطاري
وقال ابن أبي حصينة:
كأنّ الفتى يرقى من العيش سلّما ... إلى أن يجوز الأربعين وينحطّ
وقال سبط التعاويذي:
وعلو السن قد كس ... ر بالشيب نشاطي
كيف سموه عوا ... وهو أخذٌ في انحطاط
وقال أبو الطيب في معنى أن زيادة التصغير نقص:
وكان ابنا عدو كاثراه ... له يائي حروف أنيسيان
1 / 20