وقضى شبابه منزويا، وربي في منزله تربية خاصة غير مستعين بمدرسة ولا ناد، وما كان من اجتماع هذا الضابط الفتى بزملائه - ولو قليلا - فقد ألهب طموحه، وكان نفوره ينطوي على إخلاص مطلق لمهنته وعلى شعور بالواجب كما عند الموظف البروسي، وسواء عليه أوضع خرائط في قبرس أم وضع رسوم جسور في فلسطين لم يعش غير وحيد عادا أقل لوم إهانة شاكيا رؤساءه إلى لندن في الحال.
وكان لا يوحي بعطف إلى الرجال ولا إلى النساء، وكان يفضل أن يخاف على أن يحب، وقليل من الأصدقاء من كان يدافع عنه، فإذا فعلوا ذلك فبحماسة وهوى، وهو قد جرب جنديا وفارسا في أفريقية، وفي غير معركة، فخسر ذقنه على سواحل البحر الأحمر تقريبا، ويمضي زمن وينال هذا المستبد مناصب عالية ويعاب على غلظته فيصنع في أثناء خدمه ما يؤيدها فيشتد غطرسة ويرتاح إلى زيادة خصومه، وكان لا يصغي إلى أحد، وكان لا يعاني نفوذ أحد ولا ينفذ غير ما عزم عليه فينتهي إلى نتائج رائعة.
ذلك هو الرجل الذي أنشأ الخط الحديدي من خلال الصحراء وهزم الدراويش وفتح السودان في سبيل بلاده. وكان كتشنر قد شاهد ضرب الإسكندرية بالقنابل في أثناء إجازة، وصار كتشنر رئيسا لأركان حرب الجيش المصري الجديد، وصنع كتشنر ما استطاع لينظم حملة تنقذ غوردون، ولو حكم في أمر كتشنر بعد النظر إلى ما حقق لوجد أنه الوحيد الذي كان قادرا على ذلك. ومن المحتمل أن لازمه هذا الرأي حينما كان راكبا ظهر الجمل منفردا متتبعا إنشاء الخط الحديدي مفكرا في صروف القدر الذي اختاره ليثأر بذلك الذي لم يوفق لإنقاذه.
وأفكار من ذلك الطراز مما كان يسيره في الغالب؛ لأن كتشنر كان جبريا، ومما أدت إليه إقامته بالشرق وصلاته بالمسلمين أن تمكن منه هذا الاعتقاد بالمقدار الذي يلائم طموحه، ومن العرب - الذين كان يتكلم بلغتهم على قدر الإمكان - اقتبس ما يناسبه؛ اقتبس الإيمان بالقدر ورفض كل نقاش مع رجاله وتذوق الفن الشرقي، وكان جامعا للآثار فيأتي من الأسواق إلى قصره جالبا لها محترزا، ويعد هذا التلذذ، وتعد الحديقة الروائية الحسنة التنسيق في جزيرة نيلية أمام أسوان، مظهري هواه الوحيدين اللذين يبيحهما ما يحترق في قلبه من طموح، وكان يؤتى إليه بالبريد فيطرح كل شيء جانبا ويقرأ تقرير بستانيه في بدء الأمر، وكان يفضل أن يتنزه تحت عرش الورد على أن يكون وحده على الدوام.
وفي سنة 1916 قتل كتشنر بلغم ألماني حينما كان ذاهبا إلى روسية ليصون الائتلاف من التصدع.
وفيما كانت الخطوط الحديدية تمد في الصحراء كان الخبراء في لندن يصرحون بأن مشروعها مخالف للصواب، وفيما كان كتشنر يرسم خطته مع ضابط في خيمته بالقرب من وادي حلفا كانت الكتائب المصرية - والكتائب السودانية على الخصوص - تدرب تدريبا نظاميا، وكان يعرف سهولة انحلال عزيمة الشرقي عند أقل حبوط، وكان يعلم درجة ضرورة الهدوء والعناد وقوة المقاومة للقيام بذلك العمل، وكانت كتيبة الخطوط الحديدية مؤلفة من ثمانمائة رجل؛ أي من أخلاط جميع شعوب شمال أفريقية الشرقي؛ أي من الفلاحين وأسرى الدراويش والدنكا والشلك، وكان لا بد من تعليمهم وضع العوارض وربط الخطوط وتسميرها، وفيما كانت الكيلومترات الأولى من الخطوط الحديدية توغل مستقيمة في الصحراء كان فتيان من الزنوج يجلسون تحت النخل ويتعلمون الأبجدية المورسية
2
ويتخصصون في أمور البرق.
ويبدو الخط الحديدي غير مؤد إلى شيء في البداءة، ثم يتجلى ككل أمر يحقق وفق خطة أحسن حسابها، وتمد الخطوط الأولى فينقل عليها قوت ثلاثة آلاف رجل، ومقدار متزايد من القضبان الحديدية والعوارض، ومن الماء على الخصوص، ويفتقر إلى الوقت والنقد، ويجب أن يتم العمل قبل الشتاء، ولم يوجد ما فيه الوقاية من هجوم يشنه أعراب الخليفة فيبيدون به هذه العصابة المعادية التي ليس لديها من الماء ما يكفي لأكثر من شرب ثلاثة أيام ، ومما حدث ذات مرة أنهم قوضوا الخط المنتهي عند الشلال الثالث والذي أنشأه إسماعيل باشا سنة 1884.
ويوجه كتشنر مفرزة من وادي حلفا إلى مجرى النيل الفوقاني حفظا لذلك الجزء من النهر على حين يغذ في السير إلى أبي حمد بأقصى منعطف النهر في الجنوب الشرقي، ومسافة ذلك خمسمائة كيلومتر، وذلك الجزء هو أصعب ما في الخط وأقفره. ويتقدم عمال الصحراء أولئك من بين الرمال والجنادل، خالين من خرائط ومن خطوط برق ومن لاسلكي، غير مهتدين بسوى البوصلة والفرجار والنجوم. ويتساءل عمال الصحراء أولئك - دوما - عن إمكان ملاقاتهم العدو أمامهم، ويتبع المهندسين في كل عشرة كيلومترات إلى الأمام ألف وخمسمائة شخص يمهدون الأرض وألف شخص آخرون يضعون الخطوط الحديدية، وفي كل أربعة أيام تتقدم طليعة فنية عسكرية عشرة كيلومترات مع ما يجلبه القطار الأول من فحم ليفربول وماء وادي حلفا، وذلك كأم عطوف تأتي أولادها بغداء في أثناء نزهة، ويمد في اليوم الواحد نحو خمس كيلومترات من الخطوط الحديدية.
ناپیژندل شوی مخ