مقدمة المترجم
مقدمة المؤلف
الجزء الأول: الحرية والمغامرة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الجزء الثاني: أوحش الأخوين
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الجزء الثالث: مكافحة الإنسان
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الجزء الرابع: النهر المقهور
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الجزء الخامس: الفم الذهبي
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
مقدمة المترجم
مقدمة المؤلف
الجزء الأول : الحرية والمغامرة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الجزء الثاني: أوحش الأخوين
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الجزء الثالث: مكافحة الإنسان
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الجزء الرابع: النهر المقهور
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الجزء الخامس: الفم الذهبي
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
النيل
النيل
حياة نهر
تأليف
إميل لودفيغ
ترجمة
عادل زعيتر
إلى إلغا لودفيغ الأفريقية.
المؤلف
مقدمة المترجم
نقلت للكاتب الألماني الكبير إميل لودفيغ غير كتاب في تراجم الرجال، وللنابغة الغربي هذا كتاب «النيل» وكتاب «البحر المتوسط» ترجم فيهما للنهر وللبحر كما ترجم للعظماء، فأكسبهما من الحياة ما يخيل إلى القارئ معه أن الجماد من بني الإنسان، و«النيل» هو الذي أعرضه الآن على القراء.
بدا النيل للودفيغ إنسانا فقص نبأ مغامراته ومخاطراته، وأبصر النيل في شبابه مرددا لمؤثرات البيئة التي أوجدته، فلما صار كهلا أخذ يكافح تطاول العالم الخارجي بسجيته، ولما دخل دور المشيب ظهر أثر الإنسان فيه.
وقضى لودفيغ ست سنين في جمع مواد هذا السفر الجليل، الذي هو بدع في بابه ووضعه، ولا يعد هذا السفر - إذن - من الكتب التي ينشرها كتاب ينفقون أسابيع في مصر فتشتمل على خطأ غير قليل.
وينطوي الكتاب على أدب وتاريخ وجغرافية، مع غموض والتباس في الفكر والتعبير، شأن لودفيغ في جميع كتبه، فبذلنا جهدا كبيرا في تذليل ذلك لشوكة اللغة العربية مع حرفية النقل، وجعل أسلوب الترجمة مساويا للأسلوب الأصلي جهد المستطيع.
والكتاب - مع ذلك - ليس للتسلية، ولا للترويح والتخلية، فلم يكتب باللغة الدارجة ولا على نمط الروايات السيارة، وهو يتطلب - لفهمه والإحاطة بمعانيه ومناحيه - صبرا ودقة وإنعام نظر.
ومن يطلع على كتب لودفيغ ومن إليه من أساطين الأدب في الغرب يرعه ما بين الأدبين - العربي والغربي - من بون واسع في الوقت الحاضر، مع ما كان من غنى لغة الأدب العربي في الزمن الغابر، ولا بد - لذلك - من تطعيم لغتنا الراهنة مقدارا فمقدارا بما تحتويه معاجمنا من كلمات غير نابية، فلعلها تصير مألوفة، وهذا ما سرت عليه بعض السير في كثير من الأسفار التي ترجمتها، ولكن مع تفسير هذه الكلمات في هامش الصفحات تسهيلا للمطالعة.
وفي الكتاب كلمات قليلة عربناها لما رأينا من عدم وجود ما يقابلها في كتب لغتنا، كما أننا اجتنبنا تكرار النسبة في الكلمات المعربة خلافا لما اعتمده كتابنا فنبهنا إلى ذلك كله في مواضعه.
نقلت كتاب «النيل» إلى العربية معتمدا على ترجمته إلى الفرنسية والإنكليزية، راجيا أن أكون قد قدمت إلى إخواني أبناء النيل هذه الهدية الصغيرة لأعرب لهم عن مودتي بها، ووادي النيل هو البلد الكريم الذي أحببته كثيرا.
نابلس
عادل زعيتر
مقدمة المؤلف
كتبت وترجمت، وكلما كتبت سيرة رجل وترجمت عنه
1
تمثل لي مجرى نهر ومصيره، ولم يبد لي وجود نصيب بشري لنهر وصورة إنسان له غير مرة واحدة، فلما أبصرت سد أسوان العظيم للمرة الأولى في نهاية سنة 1924 كان للمعنى الرمزي الذي فرضه علي من السلطان الكبير ما ظننتني معه هنالك، في ذلك المحل الفاصل من المجري، مدركا لحياة النيل من منبعه إلى مصبه، وترى للطبيعة في ذلك المكان قوة أولية سيطر الإنسان عليها بذكائه فحول الصحراء إلى أرض خصيبة محققا ما حاوله الدهري
2
فاوست
3
وعده أرفع عمل للرجل، وما لاح لعيني في أسوان من ذكرى لخاتمة فاوست هذه أوحى إلي برغبة في كتابة قصة النيل كما أكتب قصة العظماء.
ولكنني قبل أن أقص نبأ مغامراته وأبدي عميق مخاطراته أرى سبر غوره توكيدا لبصري أو تقويما لنظري، وقد عرفت أجزاء أفريقية الأخرى منذ زمن، وأفريقية مما أحببت، وأفريقية مما جلب السعادة إلي، وفي المنطقة الاستوائية وفي منبع النيل كنت قبل الحرب العظمى، وعلي أن أدرس النيل عن كثب ليظهر لي أنه أبهر الأنهار طرا.
والنيل أكثر الأنهار طولا، وليس النيل أغزر الأنهار ماء، وفي هذا سر حياته وحياة ما يبلله من بقاع، والنيل يجوب صحاري وفلوات، ولا ينال النيل روافد ولا غيثا في شطر
4
من مجراه، ولا ينقص النيل بذلك، ويوجد أخصب الأرضين في نهاية أمره مع ذلك، وعلى ما يبدده النيل من أدق قواه في فتائه على ذلك الوجه تبصره مهولا في مصبه، وعلى ما يدل عليه طوله من سدس محيط الأرض تراه أبسط الأنهار شكلا، فهو يجري من الجنوب إلى الشمال توا محدثا عطفة وحداة فقط، وهو لم ينحرف غير أربعمائة كيلومتر من طوله البالغ ستة آلاف كيلومتر، ويقع مصبه ومنبعه على درجة واحدة من الطول تقريبا.
ويشتمل حوض النيل على أعظم بحيرة في نصف الكرة الأرضية الشرقي وعلى أعلى جبال قارته وأكبر مدنها، ويعمر ضفاف النيل أكثر طيور النصف الشمالي من الكرة الأرضية وجميع ما في الفردوس من حيوان ونبات يترجح بين نوامي الألب وغياض البلاد الحارة وغراس البطائح والغدران، وزرع السهوب والفيافي وأغنى ما في الدنيا من الأطيان، ويطعم وادي النيل مئات العروق ويقوت أناسي من الجبال والمناقع ومن العرب والنصارى ومن أكلة لحوم البشر ومن ذوي الطول والقصر، وما بين الناس من اصطراع في سبيل الثراء والسلطان وفي سبيل العادات والإيمان وفي سبيل هيمنة اللون يمكن تتبعه هنا لمدة ستة آلاف سنة خلت؛ أي لمدة أطول مما في أي مكان لتاريخ البشر.
ولكن أعجب ما وجدت في تلك الظاهرات التي تتجلى فيها قدرة الطبيعة وعمل مخلوقاتها وجهود الناس والزراعة والنبات والحيوان والأمم وتاريخها هو أنها ما كانت لتوجد لولا النهر، أو كانت توجد على خلاف ما هي عليه بغير النهر.
بدا النيل لي كائنا حيا يقوده قدر مرهوب نحو استعباد محتوم بعد ظهور نضير، ولاح النيل لي كعظماء الرجال فأردت أن أستنبط من طبيعته تسلسل حوادث حياته المقدر فأبنت كيف أن الوليد - وهو يتفلت من الغابة البكر - ينمو مصارعا ثم تفتر همته ويكاد ينفد ثم يخرج ظافرا، وكيف أن أخاه القصي المقحام يهرع إليه ليزلقا معا من خلال الصحراء ويصاولا الصخر، والنيل في تمام رجولته يقاتل الإنسان فيقهر ويروض ويوجب سعادة الآدميين، ولكن النيل قبل ختام جريته يسبب من المآسي أكثر مما في شبابه الوحيش.
ويكون تأثير البيئات في النيل شديدا في البداءة شدة تأثر الصبا والفتاء بالطبيعة والمحيط، فإذا مضى حين عملت مكافحته الإنسان عملها فيه وساقته، ويجاوز النيل دور البساطة الأولية في الكون إلى دور النور المعقد في التمدن الحديث فيبصر مبدأ قاهريه الأكبر في خطر، ويتعبه طمع الناس في المال فيقذف نفسه في البحر ليجدد ببعث خالد.
وفي الغالب تجد وثائق حياة كل نهر في المؤلفات العلمية أو في كتب السياحة حيث يسافر الكاتب مع القارئ، ويتضمن الوجه الوصفي الجديد الذي هدفت إليه طرازا آخر في جمع الوقائع، فقد أمسكت النهر في مراكز مجراه الحيوية الخمسة كما صنعت في تراجمي السابقة: أمسكت به في بحيرة ألبرت (مرتين) وفي بحيرة نو وفي الخرطوم وفي أسوان وفي القاهرة، وقد نويت وصف حياة، لا كتابة دليل، فلا أسيح مع القارئ على النهر، ولا أقص مغامراتي بل أقص مغامرات النيل، والنيل سائحا هو الذي يفتن مصيره أفئدتنا أجمعين.
ومن العبث أن يبحث في هذا السفر عن جغرافية كاملة لبقاع النيل الأربع أو عن تاريخ جامع لها، أو عن معلمة
5
للشعوب والحيوان والنبات، وتبصر في هذا السفر نبذا تقصر بلا انقطاع اجتنابا لعوق النهر عن جريه، وتبصر في هذا السفر إعراضا عن حياة كاشفي منبع النيل الروائية مع احتمال بيانها ذات يوم على انفراد.
وقد اقتطع وصف مجرى النيل من منبعه إلى مصبه بفصول تاريخية تشغل ربع النصف الأول من هذا الكتاب ونصف الشطر الثاني منه؛ وسبب هذا التفاوت في التوزيع هو عدم وجود تاريخ للنيل الأعلى تقريبا ووفرة معارفنا عن النيل الأدنى.
وكما رأيت فيولا وأسودا على ضفاف النيل الأعلى، وجمالا وحميرا على ضفاف النيل الأدنى، ترد للشرب مساء أبصرت موكبا متصلا لأشباح أولئك الذين عاشوا وسيطروا وألموا هنالك، وأبصرت تنازع الأديان والعروق في صحارى السودان وسهوبه، وفي مصر التي هي مصدر الإنسانية في الغرب.
وفي هذا الكتاب - كما في سيري الأخرى - لم آل جهدا في كتم المصادر التي رجعت إليها تحقيقا لانطباعاتي وإمعانا فيها، وذلك لعدي إظهار الذي أرى في رمز وإظهار الرمز في حادث منظور أهم من جمع التواريخ والأسماء التي يمكن كل واحد أن يجدها في المراجع الخاصة، وفي هذا السفر، كما في سواه، لم أدخر وسعا في تلوين ما يعبر المتخصص عنه بالأرقام والجداول، وفي هذا السفر لم أرغب في وصف ما يحدث عنه في الغالب، بل عملت على وصف ما يقف الأبصار ثم على تسميته، وفي الدرجة القصوى من الفصل الثالث فقط؛ أي في طور الأسداد الجازم من تلك الحياة، اضطررت إلى ذكر أرقام قليلة ذكرا مضبوطا معتذرا إلى القارئ، وهذا إلى أنني حولت كسور الأرقام إلى أصفار عند الضرورة، لما في ال «964 كيلومترا بين بحيرة نو والخرطوم» مثلا من وقف للنظر أقل من ال «1000 كيلومتر بينهما»، وكذلك لم تسو كتابة الأسماء الأفريقية في اللغات الأوروبية تماما.
ولم توضع الطبيعة والتاريخ في النصف الثاني من هذا الكتاب على المستوى الذي اتفق لهما في النصف الأول منه، ولا غرو، فالنهر في فتائه، كالإنسان في شبابه، يردد مؤثرات البيئة التي أوجدته، على حين ترى النهر في كهولته يكافح تطاول العالم الخارجي بسجيته، وللإقليم والبلد تأثير عظيم في ريعان الشباب، ثم يبدو تأثير الإنسان، وتقضي الضرورة بتحويل الخطة أكثر من قبل عند تناول نهر يجوب في شبابه من البقاع ما لا ترى له تاريخا ويجري في مشيبه من أقدم بلاد الدنيا تمدنا، وتبصر لمصر ستة آلاف سنة تاريخا، ولا تكاد تجد لأوغندة والسودان من التاريخ قرنا، وهكذا نخصص ثلاثة أرباع النصف الأول من الكتاب للطبيعة ونخصص ربعا منه للتاريخ، مع أن نصيب الطبيعة هو نصف الشطر الثاني منه، وذلك لما بين أسوان والدلتا من اختلاف قليل في المنظر والنبات والحيوان.
ومع ذلك تعالج الأقسام التاريخية من نصف الكتاب الخاص بمصر في كلمات جوامع ما لم تعارض موضوع الجميع، والأوصاف تحتل مكان الأفكار كما في تراجمي السابقة، والأحوال الاجتماعية في هذه الأوصاف تفضل الحروب صدارة، ومشاعر الناس فيها تفوق شأنهم أهمية، وهكذا يعطف في النصف السوداني عند الوصف على مشاعر الزنجي أو الفيل أكثر مما على الإنسان الأبيض، وهكذا يحاول إبراز التاريخ في مصر من حيث مقام الفلاح الذي عاش أوثق عشرة للنيل في كل زمن من عشرة ذوي الحكم، لا كما نظر إليه الملوك والفراعنة والسلاطين؛ وذلك لأن مصر هي بلد الدنيا الوحيد الذي يقضي كل ساكن حياته فيه تبعا للنهر في أي وقت كان؛ وذلك لأن الأسر المالكة تأتي وتستغل النهر وتزول، ولكن النهر، ولكن أبا البلد هذا، هو الذي يظل باقيا، وكان للنيل، كان لمولد الماء والحب هذا، من الشأن منذ ستين قرنا ما له في دور الأسداد والقطن الحاضر، ولم نأل جهدا في وصف الأديان والمعابد والمساجد مظهرين تأثيرها في الفلاحين، ومن الفلاحين يتألف شعب النيل الأدنى.
ومما يلاحظ على الخصوص سكوتي عن مواكب الصيد الأكبر التي لم أشترك فيها وامتناعي عن كل حوار إثنوغرافي، ويربط العلماء الذين بحثوا عن الشعوب التي استقرت بوادي النيل بعروق متباينة مناوبة، وأجد في هذا ما يزيدني حذرا من جميع النظريات العرقية، وأرى أن ما يحوم حول الحاميين والساميين من جدل علمي كاشف في كل خمس سنين ل «مراكز جديدة للحضارة» أقل وقفا لنظري من منظر بدوي على ضفة العطبرة أعجب من خلال أعطافه الرائعة بتوالد خمسة عروق أو ستة عروق، وذلك إلى أن مما يستحب إهماله دراسة مثل هذا التوالد في كتاب يقوم موضوعه على أمر نهر ولو كنا نبلغ بتلك الدراسة طائفة من الحقائق.
ومن ناحية أخرى أرى الشعوب المختلفة ألوانا ذات أهمية في زمن تعد فيه لتمثيل دور جديد في حياة النوع البشري، والنيل قد أثر في جميع هذه الأمور، وجميع هذه الأمور قد أثرت في النيل، ويقوم عملي الوحيد على إظهار الرمز الأكبر الذي يستخلص مما يحف بالنيل من قدر.
وقد قمت برحلات ثلاث متوالية بين سنة 1930 وسنة 1934 فأتيح لي بها أن أدرس جميع النيل بأوغندة والسودان، وأن أدرس النيل الأزرق في سفر بالقسم الغربي من الحبشة حيث بلغت منابعه، وأن أدرس في السودان مجراه الأدنى، وقد اكتفيت مضطرا برسم مجراه الأوسط بين بحيرة طانة وحدود السودان وفق ما رواه من الأنباء ثلاثة سياح أو أربعة سياح رأوا أجزاء من هذه البقعة التي لم يقع ريادها تقريبا، وقد استطعت بفضل ما حبتني به حكومات بلاد النيل الثلاث من عناية ووسيلة أن أنتفع كما أود بالخط الحديدي والطائرة والباخرة والشراع والبغل والحمار، وقد وضع الملك فؤاد باخرة تحت تصرفنا ، وسهلت الحكومة الإنكليزية رحلتنا بشتى الوسائل، وأرفقتنا الحبشة بحرس عسكري من قلابات.
وقد تم القسم الخاص بالحبشة قبل بدء النزاع في أفريقية الشرقية.
ومن بين ما لا يحصيه عد من المؤلفات الخاصة بمصر انتفعت في النصف الثاني من هذا الكتاب ب «تاريخ الأمة المصرية» على الخصوص، بهذا الكتاب الرائع الواقع في أربعة أجزاء، والذي نشر بإشراف غبريال هانوتو فأهدى الملك فؤاد نسخة منه إلي، ومما انتفعت به كتاب مس و. س. بلاكمن الممتع عن فلاحي مصر العليا، ومما انتفعت به مذكرة الأمير عمر طوسون المصري عن تاريخ النيل.
وأعرب عن شكري لذوي الفضل الذين أعانوني بالنصح حين قراءة النسخة الخطية، وهم مدير حديقة الحيوانات بالخرطوم الميجر باركر فيما هو خاص بالحيوان، والمركيز جنتيل فارينولا بفاراميستا (توسكانة) فيما هو خاص بالحبشة، والدكتور تكس مايرهوف بالقاهرة فيما هو خاص بالعرب والتاريخ الطبيعي، وسكرتير حكومة السودان السابق وحاكم تنغانيقة سير هارولد مكمايكل فيما هو خاص بالسودان، ومفتش الري العام في المملكة المصرية مستر توتنهام فيما هو خاص بالفراعنة واليهود، فهؤلاء الأفاضل المتخصصون صانوني من طائفة من الأغاليط مع عدم مشاطرة تامة لأفكاري.
وما بقي من الخطأ في هذه الزبدة الجامعة فأتركه، مع ذلك، لمن يبحث عنه من ذوي الاختصاص.
ومعظم صور الكتاب الفوتوغرافية هو من تصوير لهنرت ولندروك بالقاهرة، والصور الفوتوغرافية الأخرى هي من تصوير قوة الطيران الملكي البريطاني بلندن وقراقاشيان وإخوانه بالخرطوم ومن دليل السودان بلندان.
لودفيغ
موشيا، سنة 1936
الجزء
الحرية والمغامرة
انظروا إلى الساجنة
1
تروها ناضرة سرورا كبصر الكواكب! وهنالك فوق البواسق
2
وبين الصفوات
3
ذوات الأدغال
4
رضعت في صغرها ملائكة الخير، فلما شدنت
5
واشتدت اندلقت من السحاب ... فكانت كالدليل العجيل
6
حين قطرت وراءها ينابيع الإخاء.
غوته
الفصل الأول
هدر يبشر بنهر، وحول صخر جزيرة حجيرة
1
تبصر شريطا جبارا صخابا أزرق سماويا أزهر بهيا يلقي نفسه من عل في مسقط مضاعف فيؤدي إلى دردور
2
يغشاه زبد ضارب إلى خضرة كالذي يعلو اللبن فيدفع هذا الزبد إلى ما ينتظره من مصير مجهول ، فبين هذا الضجيج يولد النيل.
وبالقرب من هذا المسقط الهائل وفي شريم
3
هادئ بعض الهدوء يفغر فم مخيف وردي بين أذنين حمراوين ورديتين، فهذا البقر البحري حين يثأب، وهذا الجاموس النهري حين يزنخر
4
متراخيا، ويرفع رأسه ويتنفس صاخبا مع خوار،
5
يقذف من منخره الماء صعدا، وهنالك في الأسفل حيث يسكن الماء تبصر تنانين برونزية خضرا ممدودة على صخرة يسترها زبد رقشا
6
ذوات عيون ذهبية وبطون صفر متمة لمنظرها الأسطوري، ويجثم على ظهر كل واحد منها، حتى بين نابي أحدها، طائر لنومها مفتوحة الفم، وذلك هو التنين الذي ذكر في سفر أيوب، وذلك هو التمساح، وذلك هو الحيوان الغريب المحتمل بقاؤه من الزمن الذي كان الخنشار
7
والدلبوث
8
يغطيان فيه وجه الأرض وكانت الزحافات فيه سادة الدنيا.
وفوق هؤلاء الغيلان الذين يرجع أمرهم إلى ما قبل الطوفان تحلق ذوات الأجنحة وتحوم وتهتز وتصطاد، وهنا يتجمع كثير من طيور أوروبة، وهنا يجتمع جميع الطيور التي تجوب أفريقية الشمالية، وما تحدثه الطيور من ضوضاء فيغفر
9
خرير الماء، ففي الجزيرة المدغلة
10
المائلة عن سمت المساقط، والتي لم تطأها قدم إنسان، وإن شئت فقل في منبع النيل، تقع جنة تلك الطيور.
ولدى أدنى دوي تتحول تلك الرقاع البيض الملس كالحرير، والتي تتلألأ كزهر البرتقال بين أوراقه المدهامة،
11
إلى بلاشين،
12
بيض تطير فوق الشلالات مثنية الأرجل إلى الوراء، ويبدو هذا الطائر الآخر، الذي هو أبيض الطيور مع منقاره الملعقي الغريب الذي يشتق منه اسمه،
13
صغيرا بجانب طير آخر ضخم رمادي يأخذ في الطيران متثاقلا منحني الجذع منعطف العنق، ومن بين ذلك البعاق
14
يسمع حفيف بغتة، فقد غطس طير كبير بالغ السواد في الماء، غطس القاق المشهور بشرهه لمدة دقائق حتى يظهر من بعيد حاملا سمكة بمنقاره مصفقا بجناحيه كطيور البحر، وهنالك طير أسود أبيض ينظر إلى ذلك المنظر بعين السخط، فيتقدم متزنا منخفض الرأس، ثم يرى إثبات عزته الصادقة فيبسط بتؤدة ما في جناحيه الأصفري الخطوط من انحناء منسجم ويطير رشيقا، فهذا هو طير النيل المقدس: إبيس .
15
وترى الكراكي
16
واقفة على الضفاف شامخة صامتة منيعة كالأمراء الذين ورد ذكرهم في الأقاصيص العربية، وترى كركيا أغبر نبيل النظر يحمل عنقه الدقيق بروعة رأسا ذا ثقل ويجمع في طاقة ريش ذنبه الأدكن
17
وينشر من فوره جناحيه الوسيعين ويحوم فوق الماء رويدا، وأجمل من ذلك كركي آخر ذو ريش ضارب إلى زرقة ممتد إلى ذنبه وذو ريش ضارب إلى صفرة ممتد على رأسه كريش الطاووس، ولهذا الكركي المتوج مشية تنم على الزهو والهبوط كالصور التي رسمها فان ديك
18
لأبناء الملوك، وبجانب هذا الأمير من الخلف مع قليل بعد مناسب تبصر أبا سعن
19
الطائر المضحك البشيع كما في الأساطير والأبيض الأسود مع سكون ظاهر خادع ومع وقار ممزوج بحذر وجفوة ومكر وجشع، فهذا الطائر يشترك في كل عمل نافع فيصيد كل شيء يقدر عليه فأرة كان أو عنكبوتا.
وبين كبار الطير تلك تبصر ألوفا من صغار الطير تحلق فوق منبع النيل صادحة مغردة مصفرة، وتبصر التمامر
20
الفيروزية
21
مع ريش نارنجي يبدو ورديا تارة مغريا
22
تارة أخرى ويتحول مترجحا بين ألوان قوس قزح ويلمع في الماء والضياء، وتبصر هذه التمامر في وسط السمانى الزاهي الذي يعبث بين القاوند
23
الزاهر الزرقة وفوقه، وفي العيص
24
يغرد عندليب الشرق، البلبل، متواريا، على حين يهوي قريبا من مأواه الخفي سنونو الثمال مع صوت خفيف، شأن حنين شعراء الألمان إلى الجنوب وإلى هزار
25
الشرق، وتسجع القمر
26
الوردية الرمادية سجعا رزينا، ويرتفع صفير الزرازير السمر الخضر، المختلفة الألوان عند الانعكاس كعين الهر،
27
من بين أصوات الطيور الكبيرة، ويبلل الخطاف صدره الأغبر برشاش النهر، وتغرد الدعرة،
28
وهي طائر نيلي كإبيس، محركة ذنبها، فبانسجام الألوان وتوافق الأصوات تحيط هذه الطيور بالجزيرة المنيعة بين الشلالات كأنها تخشى الإنسان أكثر من خشيتها بقر النهر والتمساح وكبار الطير.
وأين نحن؟
تقع مساقط ريبون، وهي منبع النيل، وهي ما يسميه أهل تلك البقعة بالحجارة، في شمال خط الاستواء رأسا، ويبلغ عرضها ثلاثمائة متر، وتندلق بين صخر بكر، وتحف بهذه الصخور شجيرات وأزهار برية نابتة على هضبة جرداء بعد إتلاف البيض للغاب محوا للقاتل من الذباب.
وفي أقصى شمال بحيرة فيكتورية، وبالقرب من جنجا، ينم هدير هائل على هذا المنظر العظيم، وخلف الصخور الغبر التي هي ضرب من الأسداد الطبيعية وبجانب الخليج تمتد البحيرة ذات الجزائر والجزيرات، ومن هنالك يسير النهر، ومن هنالك ينطلق رسول قلب أفريقية حاملا البشائر العجيبة إلى بحر بعيد.
وما كان أحد ليعرف مأتاه، وما بذله الإنسان من جهود في ألوف السنين بحثا عن منبعه، فقد ذهب أدراج الرياح، والناس كانوا يعتقدون أن هذا النهر المحير مدين في قوته إلى أطواد
29
وأنه كالأنهار الأخرى وليد سيول، ومنذ سبعين عاما فقط يرى بعد كشف أن جري النيل يبدأ بشلال عظيم، والنيل - وهو ابن لأعظم بحيرة في أفريقية، وهو يزبد ويزمجر - يبدي سلطانه من يوم حياته الأولى.
وقليل من هذا العباب
30
الأولي ما يصل إلى الغاية، ولا تسفر الريح والشمس والصخر والحيوان والنبات عن غير وقف تلك الأمواج أو تحويلها إلى بخار، وليس ما يبلغ البحر المتوسط بعد شهور طويلة صادرا عن ذلك الينبوع، فللنيل ثلاثة ينابيع وعدة روافد في البداءة، وهذا إلى الملايين من ذرات الماء التي تتبع النهر في مجراه من ذلك الشلال الذي يولد منه إلى أن يختلط بملح البحر.
وفي الأعلى، وبالقرب من المنبع، ينشر ضباب الفجر ستره فوق البحيرة، ولا أحد يستطيع أن ينبئ أين ينتهي، فإذا طلع النهار ظهرت جزائر وجزيرات وخلجان صغيرة عميقة توغل في الأرض، وظهرت كثبان على مدى البصر، وظهرت سلاسل تلال تكسف في الزرقة البعيدة، وتسطع على الضفاف المرتفعة مراع، وهي أراض خصيبة شعرية، تحدها أدواح
31
منفردة فاصلة بين الظل والنور.
وما كانت العين لتمتد إلى الضفة البعيدة، ولو لم تزحم كثرة الخلج والجزر أبصارنا هنالك؛ وذلك لأن تلك البحيرة بحر أوسع من سويسرة مساحة، ولها قوانينها ونظمها ومخاطرها، وهي جوهر فرد في وسط تلك القارة المفتتنة، وهي مرآة كبيرة لشمس أفريقية، وهي حد لبلد رعائي: لأوغندة، وتقع أوغندة على ارتفاع 1100 متر، وتقاس بالجنة. ويسودها صيف خالد عاطل من حر قاتل في النهار ومن ضباب خانق في الليل، وتنعم العاصفة عليها بالنسيم بعد الظهر وبالريح في المساء، وتعد أوغندة بلدا مخصابا مخراقا
32
يتوازن الغيث والشمس فيه دوما.
وعلى تلالها وفوق جبالها وراء الإطار الذي يحيط بالبحيرة يتوارى أواخر عمالقة ما قبل التاريخ، وبيان ذلك أنك إذا ما سرت من ضفاف هذه البحيرة ذات الزرقة الحريرية وجدت البلد يرتفع إلى أرصفة ويصعد في الشمال الغربي نحو براكين وذرى من الغرانيت ونحو ينابيع لروافد تصب كلها في النهر الأكبر وإلى قمم جبال القمر الثلجية، ومن هذه الجبال يتألف سور لحديقة أناس من ذوي الحظ يبذرون قليلا ويحصدون كثيرا.
والحق أن ضفاف البحيرة هي حديقة من عمل الطبيعة ويد الإنسان المسمرة بفعل الشمس، وفي كل جهة من تلك الحديقة ينتصبب من السنط الأكبر عظلم
33
أخضر كالمهابط
34
المبسوطة فيمر النور من بين أغصانه الدقيقة ناشرا ظلا لطيفا على المروج، وينقسم أصله العريض الأغبر الناعم الجاف الأعقد عند مستوى الأرض إلى عدة فروع مكسوة في أعلاه بأوراق ذات تقاطيع رقيقة وعناقيد خبازية طويلة، وإليك قبة شجر التين النابت فوق جذور جسام بارزة من الأرض والغني بخشبه وظله، وإليك الجميز الملكي القائم بجانبه والحائز لمثل صفاته، ويميل الزهر الأحمر الزاهي النحيف نحو البحيرة على حين تغرز ثريا شجر المرجان أصابعها القرمزية الساطعة في الهواء.
يقوم فوق المنحدرات المخضرة على طول البحيرة جميع ما ذكر ساكنا وحيدا تقريبا، وذلك رمزا إلى منظر خيال.
الفصل الثاني
لم يجرؤ أحد بعد على قهر منبع النيل، ولا على الإنشاء والتنظيم فوق ضفافه مع أن عدة خطط وضعت حول ذلك الجزء الأفريقي من قبل مهندسين كثيرين، ومع ذلك نصب جسر حديدي أسمر على النهر في أوائل حياته؛ أي بالقرب من مجراه التحتاني، فيصل به قطار بين بحيرة فيكتورية والمحيط الهندي، أو يصل به قطار بين البحر الصغير والبحر الكبير، وما كان النيل ليحتمل جسرا آخر إلا بعد ثلاثة آلاف كيلومتر من مجراه التحتاني وعلى طرف الصحراء، وما كان لإنسان في جميع هذه المسافة بين بلاد وشعوب أن يعبر النيل بلا زورق (عدا جسرا طبيعيا)، وقد حاول ذلك كثير من الحيوان والإنسان فكان الهلاك نصيبهم، والنهر بلا جسر في مسير لا نهاية له دل على أنه حاجز بين حيوان وحيوان.
والنهر الفتي لا يأخذ حذره من معبر،
1
والنهر الفتي في رتل طويل من المساقط والدوافع يطلق العنان لصولته الطفلية فائرا مدحورا مزبدا سعيدا بالحياة، والمسقط الثاني الذي هو مسقط أوين عريض كالأول، ولكنه أعمق منه مرتين وأقفر وأقتم، وهو يعجل سلسلة الدوافع، وإذا ما نظر إلى الأمر كما تود الطبيعة، لا كما تصنع الحضارة، سميت هذه الدوافع بالشلال الأول والثاني، وينحرف النيل المرغي وغير الصالح للملاحة نحو الشمال من غير أن ينقطع نفسه، وقد توارت المراعي والمروج، وقد منعت سكنى تلك البقعة بسبب مرض النوم، ويظل النهر والغابة وحدهما كما صنعتهما يد الخالق، ويبقيان نتيجة نبت القرون وقرضها، والنيل في ذلك المسير، وفي ذلك الحين وحده، يلامس الأيكة
2
البكر.
وتفصل النهر من الغابة وتتركه يلهو بألعابه أسوار حية من النبات المعترش المشتبك وتخفي عنه اصطراع الحيوانات الكبيرة ومصائبها، كما يسعى في إبعاد منظر أليم عن الصبي، وما يقع خلف تلك الأسوار فيرجع إلى زمن كانت الأرض فيه أشد فتاء والحياة فيه أكثر وفرا وأعظم نموا، وفي ذلك النبت، حيث تنازع الأفراد أخفى مما في بقاع الشمال القرع، تلتقي الحياة والممات التقاء وثيقا، وهنالك تكون البهائم والنوامي التي لم تمسسها يد إنسان على أتم التحام، وعلى نور هذا السفر
3
الأخضر الذي تتجلى الغابة البكر به تتعلق جذور الدوح بسالف موتاها على حين تهيمن ذراها على ذلك الاشتباك الكثيف كأعاظم الرجال العزل فتؤلف مع غيرها شركة رءوس مشمسة، وما تنتجه الرءوس فيسقط على الأرض، يسقط على منبع الخصب الجديد في منطقة الحياة التي لا تفنى، والتي لا أحد فيها يجني ثمار هذه الأشجار، والتي ترى الطبيعة بها في بخار حار ولود من الحب طليقة من كل مأرب .
جبار في السهب.
وفي غضون القرون ما فتئ تراب الغابة البكر يرتفع مدبولا
4
إسفنجيا نديا فتنبت الجذور والسوق في غصون الأشجار التي توشك أن تنهار مع أنها لا تزال حية، وينمو صائلا نبات جديد بخيت على أصول عادت إلى التراب أو على أصول حية فيتغذى بها، ولا ينفذ عدوا غاب الشمال، الجليد والبرد، ولا خريق
5
الجبال المجاورة المستورة بالثلج، تلك الأسوار التي أقامتها الغابة بنفسها، وبالعكس تجد هنالك الشيء الكثير من حاميتي النبات: الحرارة والرطوبة، والعدو الوحيد الذي يجرؤ على دخول تلك المحال التي هي أمنع من سواها هو الحيوان الذي يرجع إلى ما قبل الطوفان، والذي ظل باقيا من خلال الانحلال الشامل، فالفيل وحده هو من القوة ما يستطيع بأعضائه القوية أن يدوس معه ما يعاسره أو يسحق معه ما يعوقه، وما كان الإنسان ليطأ أرض الغابة البكر لولا خطوات الفيل، والفيل هو الذي رسم سبيل الأسود التي لا يزال الأبيض يتبعها في طرقه.
وإذ إن الغابة البكر هي اشتباك مستمر من الأسفل ومن الأعلى حيث يحاول الخنشار
6
والكلأ الأكبر أن يلحقا بالنبات المعرش الهابط؛ فإن السور الذي لا ينفذ منه يتألف من مائة ضعف مع الزمن من غير أن يقف رنين هذا العالم صوت الفأس حين خبطها الشجر.
وكثافة الأيكة تسفر عن سكوتها، وأصوات الطيور وحدها هي التي تنم على عمقها، هي التي تدل على جزء من بعد غورها، وما هو واقع من ضحك
7
القردة وطنين الحشرات وحفيف الدوح التي يعوزها الهواء ونقيق الضفادع في البردي،
8
وصفير الشحرور وحسيس الورلان
9
وكشيش الثعبان ونعيق الغربان فقد ضعف كضياء الغابة، وقد بدا حادا مفاجئا كصوت الأولاد في الكنيسة عند القيام بالشعائر ما دام ظلام الأجمة وعلوها يثيران فينا ذكرى الكنائس.
وفوق الأرض وفي أصول التين العظيمة وبين سوق السحلبيات تكونت كوات عميقة يمكن الإنسان أن يأوي إليها، وهي تشابه كوات أركان الكنائس، ومن العلاء وفي أغصانها المستورة بالأزهار تجثم البوابشين
10
ساكنة كالتماثيل السود متبرمة من وثبات الربابيح
11
التي تلمع أذنابها البيض وخطوط ظهورها عندما تقفز من معرش إلى آخر، وتدب الحياة دبيبا خفيا في تلك الأشجار الخامدة الخانقة المظلمة بفعل الحيوانات التي تؤثر فينا بخطاها وأصواتها أقل من تأثير الأزهار بألوانها، ومن خلال اشتباك المعرشات يبصر جلد حية لامع، ولا يكون لصوت طير معنى إلا حين يرى ظل عابر لصقر أبيض وحين يصيح بعض الببغاوات على البوباب
12
الذي هو شجر ضخم ذو قاعدة جلدية متجعدة، وتتلاشى هذه الأصوات بسرعة في سكون الأيكة البكر المثير.
وإليك نداء شجرة المرجان المحرق، وإليك هذه الشجرة التي تحكي أغصانها فروع شجر التين فتمس الشمس، وإليك هذه الدوحة التي تتدلى من الرأس كأنها ضرب من فول مارد، وإليك السنط المخملي، الذي تسطع من بين أوراقه أزهار وردية حمر كبيرة كيد الإنسان، وإليك العشق
13
السماوية التي تسترسل أكاليل أكاليل من أغصان الجميز إلى اللماع مع أزهار حمر متزاحمة كثافة.
وفي بقاع من الغاب لا شجر فيها وعلى ضفاف غدران تكاد تستر بأوراق فتنفذ إليها شمس البلاد الحارة تكون الأزهار أقل أخذا بمجامع القلوب وإن وجد هنالك عشرة أمثالها؛ وذلك لأن الحيوان هو السيد على طرف الماء هنالك حيث تبصر القاوند الفيروزي واقفا على اللبلاب
14
القرمزي الملتف حول الحساسة
15
منحنيا فوق الماء مترقبا سمكا يمسكه، ويهتز وكر التنوط
16
في أقصى سعوف النخل فيتفلت بذلك من جشع القرود وطمع الأفاعي، وهنالك، حيث يميل الخنشار المذر
17
إلى الماء، ترفرف فراش سمنجونية
18
ذوات أعين أرجوانية، وهنالك ضبان زرق ذوات نقط نارنجية تدفئ بين البطيحة
19
والغدير.
ويبدي النساف
20
حركات غريبة ويخرج أصواتا صحلا
21
كما لو كان كل جرس
22
نتيجة ألم صميم، ويصفر شحرور جهير على شجرة قريبة كما لو كان يغازل، كما لو كان متفننا مولدا بجانب مقلد أرفل،
23
ويفوق الزمار كلا الطيرين، ويخرق مزماره المغري المغم أوراق الشجر كما لو كان يعيش في الهواء والماء، وذلك مع تحد للغابة البرية وسخر من ضرورة النقر
24
ومن عبء ما يحيط به، وذلك إلى أن يقف تغريده نعيق العقعق.
25
وعلى مدى من تلك القرقرة والمفارعة تعيش الحيوانات الكبرى في الغابة وتصيد وتتزاوج وتتقاتل، وهي تظهر على ضفاف دوافع النيل الفتي مساء فتجرع وتكرع من مائه الفرات،
26
والزنجي في ذلك الحين يتوارى، والزنجي في النهار يصطاد ويغتسل في خليج ساكن، فإذا دنا الليل ترك المكان لسادة الغابة الصامتين عن وجل.
الفصل الثالث
يهدأ النيل الشاب على مسافة ستين كيلومترا من مجراه بعد منبعه، ويتعرف النيل الشاب ببطائنه، وينزل مائتي متر بين المساقط والدوافع، ويحيط ببضع جزيرات كثيرة الغابات، ويبصر أناسا عراة أنشئوا أكواخا لصيد السمك وتجفيفه وتدخينه.
والنيل عندما يغادر الدوافع ويتسع ويسلك سبيل الحكمة يباغته الناس ويرهبونه بأمر جديد عليه لا ريب، وبيان ذلك أن زوارق وبواخر صغيرة تنتظره فيرى لزاما أن يحتمل استواء أناس على ظهره، ويبدأ النيل وضع ذلك الوزر
1
عنه بشدة، وتعينه حجارة قراره وصخور قاعه على ذلك، ثم يذعن لما كان من إنشاء الإنسان الماكر سفنا ذات حيازيم
2
مسطحة. فيظل النيل صالحا للملاحة مائتي كيلومتر، وبالقرب من المكان الذي يغدو به ذلك الأمر ظاهرة النيل، ومن درجة العرض الشمالية الأولى، يلوح الخط الحديدي متوجها إلى الجنوب الشرقي نحو كينيا والبحر بما لا يكاد يمس به النيل، ولا يدنو الخط الحديدي الثاني من هذا البر إلا في الدرجة الثالثة عشرة الشمالية؛ أي بعد ألفي كيلومتر، فهذا هو طول البقاع التي تعترض دون إنشاء خطوط حديدية.
ولا يكاد النيل يحتمل باخرة حتى يعاني مغامرة جديدة؛ وذلك أن ضفاف مجراه تتوارى فيتسع مقدارا فمقدارا، وأين الغابة التي تفرض عليه حدودا ثابتة؟ كان عرضه ستمائة متر منذ هنيهة، فلم يلبث أن انبسط على كيلومترات ويغيض ماؤه، ويصبح ناقص الصورة، ويهبط في ضرب من الإسفنج فيخشى ضياعه، ويتقدم، وكلما تقدم تمطى وأضحى عمقه ثلاثة أمتار أو أقل من ذلك عند طرف المستنقع، وهذا إلى ما يظهر من ستره بالخضر والزهر، ويبدو كل شيء حوله ساكنا نائما، ويلوح إقدامه معطلا وسروره زائلا، وماذا حدث إذن؟
ترانا في بحيرة كيوغا، وهي مساحة واسعة من الماء مع أربعة فروع كبيرة، وهي مستنقع يحف البردي من حوله، ويجتابه النيل في مائة كيلومتر فيعاني نباته، وتتأصل جذور النيلوفر
3
بسهولة في تلك المياه الدنيا، ويكسوها هذا النبات العجيب الأزرق السماوي مع تجاويف ذهبية يعلوها زهر آخر أحيانا، فكأن ذلك بساط حقيقي مصور نمطي يتوارى النهر تحته تقريبا.
وتحاذر الروافد الأولى أن تفضي إلى هذا الإسفنج لما يسفر ذلك عن امتصاصه لها، وفي أقصى طرف البحيرة الغربي، حيث يتركها النيل، ينضم إليه أخوه الصغير نهر كافو خاتما حياته الصغيرة هنالك، ويتجه النيل إلى الشمال بعد أن يصير نهرا مرة أخرى، ولكن مع محافظته على جرية بحيرة، ولكن مع ظهوره متثاقلا متوانيا مستغدرا
4
متخيلا.
وفي تلك المرحلة من المجرى يمكن قياس نظام النيل بما لبعض السجايا من تغير دوري، والنيل يغير ثم يغير جريه ولونه مناوبة وعلى غير انتظام في ألوف من الفراسخ وطويل من الشهور، فطورا تراه هائجا عبوسا وطورا تراه سائبا تعبا، ومن المتعذر أن يعرف أي الأمرين يؤثر في الآخر ويطبعه بطابعه: النيل أم البلد المحيط به؟ وإنما الذي يقال الآن هو أنه يدلف
5
نحو الشمال مع انحدار غير محسوس على وزن بحيرة كيوغا.
وينعطف النيل بغتة، ويترك ذلك الاتجاه الشمالي للمرة الأولى، ويسير نحو الغرب ويتحول تحولا تاما، وما يلاقيه من أرض صخرية فيشد عزيمته فيقلب السفن، وينقلب إلى سيل منيع كما في صباه ويضيق مجراه ويعمق مسيله، وهل هذه مغامرة جديدة؟
يظهر فلق أفريقي فجأة مع طرف متلفف، فالبقعة تصير صخرية، وتتجمع كتل الصوان ويتكون عقيق،
6
ولم يجاوز النيل حتى الآن غير دوافع واسعة جدا، ويهبط النيل الذي ضغط في عرض ستة أمتار للمرة الأولى من ارتفاع أربعين مترا، ويؤدي مصب البحر الاستوائي الداخلي إلى هذا المسقط الذي يتدهور به النهر في بضع ثوان مع إرزام
7
رعد وهباء
8
ماء وزبد.
ويوجد النيل سجيته بمساقط مرشسن تلك التي هي أهم ما في جريه، ويعرض للنيل أمر هائل، فهو يهبط من منطقة أفريقية إلى أخرى، وتحوله مغامرة الشباب هذه التي هي ولع جامح تحويلا تاما، وهنا لا يلهو بقر ماء ولا تمساح، حتى إن الطير قليل هنا، حتى إن السمك لا يحاول العود إلى مأتاه هنا، ولكنك ترى جسرا خالدا يصل الماء بالسماء، ولكنك ترى قوس قزح، وينعكس النور في كل مكان على الألوف من مها
9
الطلق
10
التي هي أساس براق لهذا المنظر المؤثر.
وعلى مسافة فرسخ من هنالك لا يزال الزبد فوق الموج الهائج مشاهدا لما يعانيه النيل من رج، ثم يتجه النيل من بين شجيرات منثورة في السهب،
11
إلى واد يتسع بسرعة، ويجد النيل نفسه للمرة الأولى تجاه ظاهرة عجيبة ترجع إلى ما قبل التاريخ، فالفيل يدنو من النيل نحو المساء.
هو ضخم، هو آخر من سيطر في تلك الأرض على جميع المخلوقات الأخرى، هو الأقوى الذي لا يقدر على مقاومته حيوان ولا شجر، هو الذي لا يبالي بشك شوكة
12
أو لسع ثعبان، هو شاعر كالعظماء بقدرته التي لا يحتاج من يخشاها، هو ليس فحورا ولا ضاريا، هو أكرم الحيوانات وأذكاها طرا، هو حليم طيب المزاج مع شدة انتقام عندما يدافع عن صغاره تجاه هجمات الإنسان الغادرة، هو مجهز بأصغر العيون في أكبر الوجوه وبأدق صماخ
13
تحت أعظم لغد
14
هو ذو عضو نصفه أنف ونصفه ذراع وذو عاج يستطيع أن يتلف به كل شيء، هو لا يخرب غير الضروري مع ذلك، هو قلما يرهب أو يصطاد الحيوانات الأخرى، هو لا يأكل منها، هو يغتذي بالعشب الغض وبقشر الشجر وبالثمر كغيلان الأقاصيص، هو إذا ما وطئ الأرض بقوائمه الهائلة كان دوسه من الحفة كدوس الجائل، والحق أن هذا الحيوان الذي يرجع إلى ما قبل الطوفان بعيد من الثقل والتوحش، والحق أنك تبصر الهدوء في نظره وسيره.
وفي سالف الأدوار كان الفيل معروفا في جميع الأرض، وليس في العالم مكان وجد فيه من العاج مثلما وجد في منطقة مضيق برنغ،
15
ووجد الفيل في رومة وإرلندة وإسبانية الشمالية وسيبرية، وما عثر عليه في هذه البلدان من عظامه التي هي عظام الفيل الأفريقي فيكفي لإثبات سابق اتصال بين القارتين، وكان الفيل يعيش في أوروبة في الأزمنة التاريخية أيضا، فقد رأى سائح فنيقي فيولا بجوار جبل طارق، ويدل رسم فيلة هنيبال في النقود على صمخ ضخمة وظهور منحدرة لا ترى لها نظيرا في أفيال الهند.
وتخرج من الغابة جماعة من الفيلة، ولا يكاد يشعر بطقطقة لها لشدة حذرها، والبلاشين وحدها هي التي تنم عليها حينما تحوم فوقها؛ وذلك لأن البلاشين تتغذى بالحشرات التي تعيش على جلودها كما يعيش اللغويون من الشعراء، وتحذر الفيول الإنسان، والإنسان ينصب لها أشراكا في الغالب، وتقف الفيول وتترقب ولا يسمع سوى تصفيق لآذانها، وتتحرز الفيول لوجود صغير بينها، وهي تتوارى صامتة إذا لم تبصر، وهي على عكس الإنسان تجبه العدو إذا ما كشف أمرها، والآن تخرج الأفيال من الأدغال ويبدو ثلثا أجسامها ويبلغ الكلأ الطويل مستوى ركبها، ويجعل الصغير نفسه تحت أمه وبين قائمتيها الأماميتين حيث اللوابن،
16
ويلقي الصغير خرطومه إلى الخلف ليرضع بفمه، وتدخل الفيول الأخرى في الماء بعد أن تسحق كل شيء في خليج، لا عن حدة، بل عن ضخامة، وتزنخر
17
بمنخرها في النيل وتنضح
18
ظهرها بخرطومها وتشرب وتأكل الكلأ العالي في المرج، ولا يرى لها مضغ، فهي لا تفغر فما عظيما كما يفعل بقر الماء، وإنما يتوارى كل شيء في هوة لا قعر لها كما يلوح.
وعندما تأخذ الفيلة في الأوب من النهر تبدو سودا في سهب أصفر، غير أن أنيابها تلمع بيضا في الذكور والإناث منها على السواء، ويقود الذكر جمعها، ويأخذ مالك الحزين مكانه من ظهره كالجني الأبيض الذي يقود كبار المجرمين وشيوخ الأشرار وفق ما جاء في الأساطير، ويرجع الفيل الضخم إلى الغابة مروحا مبللا سعيدا مائدا،
19
والفيل في طريقه يمس بخرطومه شجرة سنط ليرى هل تستحق أن تقشر، والفيل في طريقه يلتفت ليطمئن إلى أن زوجه وولده يتبعانه، وهكذا يعود الفيل من ضفاف النيل إلى ظلال الأيكة البكر المدهامة حيث يسيطر بعقل إنسان بصير فيرتب ويذكر طليقا طلاقة موجود عال قويا أكثر من كل حي باديا آخر ملك حقيقي للطبيعة.
وهنالك حيث يتسع النهر بالتدريج ترى وطن بقر الماء والتمساح، وفي مساقط مرشسن بمجرى النهر التحتاني تبصر الألوف من هذه الحيوانات، وتلك المياه التي تبدي نفسها للشمس والتي هي حمام جبارة تحمي هذه الموجودات المائية من كل خطر.
والحق أن النيل للمرة الأولى يلاقي بحيرة كبيرة بلا شواطئ كبحيرة فيكتورية التي يتركها خلفه من غير أن يراها، والنيل، وراء السهب الأصفر المقطع كدلتا ينتهي إلى طرف بحيرة ألبرت الشمالي الأقصى، والنيل يجوب هذه البحيرة، وهنا - وعلى بعد 500 كيلومتر من منبعه - يعدل النيل عن التسمي بنيل فيكتورية إلى التسمي بنيل ألبرت لما عزز به من منبع قوي آخر، وتوجد مئات التماسيح على جزر مستوية وعلى أنوف تتقدم كألسنة جزائر فريز،
20
وتثب أسماك فضية من خلال أمواج خلجان ملونة بألوان قوس قزح على حين يظهر ماء البحيرة أزرق في مكان آخر، وعلى الشواطئ حيث يتناوب الغاب والشهب تعبث جماعة رائعة من الأوعال، وتقترب الظباء من النيل الذي يسقي كل حيوان.
ولكن النيل لا يضمحل في ماء هذه البحيرة الصافي كما حدث له في إسفنج كيوغا؛ وسبب ذلك أن جرافا
21
عنيفا يجره وتخط طريقه، وفي الغرب البعيد تنتصب ظلال بنفسجية لجبال شامخة، وهنالك يجري نهر كبير آخر، يجري نهر الكونغو متجها إلى الغرب، ولن يرى النيل هذا النهر، والنيل يجره مجراه إلى الشمال، ولنر ما الذي يغذي ذلك المنبع الثاني الذي هو حوض بحيرة ألبرت العظيم، وذلك قبل أن نقتفي أثر النيل.
الفصل الرابع
تنم عطفات الأنهار على سابق وجودها، ومما هو موضع شك مدة الحوادث وخصائصها، ولكن أمرها يحزر كما لدى الإنسان من خلال دجى
1
الذكريات مع تعذر إثباتها وإنكارها، وارجع البصر إلى أوغندة مع ذلك تبصر أن حل ما قبل التاريخ فيها أيسر من حل التاريخ نفسه ما دام لعالم ما قبل التاريخ قدم في العالم التاريخي هنالك، وما حدث للإنسان فقد دفن في هوة الأزمان. والإنسان كان يجهل الكتابة إلى زمن حديث، وكان عاطلا من العنعنات تقريبا مع أن ما قبل التاريخ قد نحت أطلاله ودلائله على الجبال، فيمكن تخمين ماذا كان عليه مجرى النيل الأصلي.
وأفريقية هي قارة مهاد،
2
ومفاوز،
3
وهي القارة الوحيدة التي يمكن إطلاق هذا الاسم عليها مع استثناء هضبة البحيرات الكبرى، ومما حدث عند انفتاق وجه القارة أن ظهرت فرجة تمتد من روديسية إلى وادي الأردن مشتملة على البحر الأحمر، وقد انفجرت النار من جوف الأرض وألقت كتلا عظيمة وجعلت منها جبالا واسعة الفوهات، وفتحت على سفح هذه البراكين ذلك الوادي الذي تكونت فيه البحيرات وجرت منه الأنهار، وقد انقسمت الفرجة إلى ذراعين في جنوب حوض النيل، فاتجهت الذراع الشرقية إلى كينية وكونت كليمنجارو وكونت الذراع الغربية ثلاث بحيرات واقعة في غرب بحيرة فيكتورية، وتمثل هذه البحيرة انخفاض الهضبة بين الذراعين.
ومهما يكن من ريب في معارفنا فإن مما تلوح صحته تكون البحيرات السبع بأفريقية الوسطى في تاريخ حديث نسبيا، وتمدد سهول واسعة في مكان بحيرة فيكتورية الحاضرة، وخد
4
روافد هذه البحيرة لها، ومن المحتمل أن وجدت طبوع
5
واسعة مؤخرا فزادت بوابل
6
متصل وشقت طريقا لها من بين التلال المجاورة، والماء يعمق ويوسع الخرق ويعد سبيله إلى السهل، والدوافع والمساقط آية هذا التطور.
وفوق البراكين الكبرى وفوهاتها الصغرى التي ندين لها بالحمم المجمدة والينابيع الحارة والهزات الأرضية نرى انتصاب شاهد، نرى صخورا أولية، نرى ملك الجبال رونزوري المغطى بالثلج والأعلى من الجبل الأبيض،
7
فهذا الطود هو فؤاد أفريقية، ومنه يجري الماء إلى الغرب وإلى الشرق مغذيا أعظم أنهار القارة: النيل والكونغو.
وليس جبل رونزوري نفسه خط تقسيم المياه، ويعود هذا الشأن إلى سلسلة من البراكين تبلغ من العلو 4500 متر، وتقع في الدرجة الثانية من العرض الجنوبي من خط الاستواء، وتعرف بسلسلة مفنبيرو التي هي خط تقسيم المياه الصحيح كما يلوح، وقد تغير هذا الخط في أثناء تناسخ الأنهار، حتى إن أمره اليوم يبدو ملتبسا خفيا فلا ينفك علماء الجغرافية وعلماء المياه يجددون قياسه بلا انقطاع، وبالأسماء وحدها يدل عليه، وفي النيل ترتبط البحيرات الأربع الكبرى المسماة بأسماء ملوك من الإنكليز بالغة الغرابة في أفريقية، وفي الكونغو ترتبط البحيرتان الحاملتان لاسمين أفريقيين وهما: كيفو وتنغانيقا، وتجد بين هذه الحدود منابع ذينك النهرين العظيمين اللذين يحييان قارة تثير العجب بخثرها.
8
مساقط ريبون.
وإذا كان النيل ينال جميع مائه من بحيرات فما هو مصدر ماء هذه البحيرات، وإذا كان يأتيها من الأنهار ماء أقل مما يأتيها من المطر فما هو مصدر هذا المطر؟ لا تزال هذه الأسئلة موضع جدال واختلاف.
والآن يعتقد أن مصدر أمطار حوض النيل هو جنوب المحيط الأطلنطي، ويظل التبخر
9
والتكاثف، الناشئان عما بين البحر والأرض من توتر، متوازنين إجمالا لا تفصيلا، وهنالك صراع بين التبخر وتكون الأنهر وجريها نحو البحر، ولعمق الصحن شأن في هذه الدورة التي تشتمل على ثلث أمطار الأرض، ولا يزيد عمق بحيرة فيكتورية على تسعين مترا، ويتبخر من هذه البحيرة أكثر مما تأخذ، فيعد مهندسو النيل هذا النقص المستمر من المسائل الخطيرة. والحق أن لبحيرة فيكتورية شكلا خاصا بها به جوها ونظام ريحها، وتقوم عوامل إقليمها الأساسية على تناوب الريح البرية والريح البحرية، وعلى كثرة الزوابع وعلى ارتفاع حرارة الماء إلى 26 درجة، وعلى عدم وجود أشهر جفاف، وعلى ما يصاب به ذلك السطح العظيم من تبخر.
ولا عمل لسواعدها
10
في ذلك، ومن السواعد ما يأتيها من ثلاث جهات مع ذلك، ولكن ليس لها سوى منفذ واحد، سوى منبع النيل في شمالها بالقرب من جنجا، وفي الشمال الشرقي تنزل سيول بانحدار قوي من إلغون، البركان المنزوي البالغ ارتفاعه أربعة آلاف متر، فتأتيها هذه السيول بماء غزير، ومن سواعدها الخمس عشرة ترى واحدة مهمة، فكان يطلق عليها اسم النيل؛ وسبب هذا هو أن من منطق الجغرافيين أن يذهب إلى أن أهم ساعدة لبحيرة هي النهر الذي يخرج منها، وأن يرى ذلك في أمر البحيرات الكبرى فضلا عن أمر صغرى البحيرات التي يمكن قياس جريانها ورؤيته من بعيد أيضا، وإذا كان هذا الرافد الغربي هو النيل وجب أن يجد أقرب مخرج له على مسافة 250 كيلومترا، والبرهان الوحيد الذي يذكر تأييدا لهذا الافتراض هو أن السكان الأصليين يسمونه «أم نهر جنجا».
ورافد بحيرة فيكتورية ذلك - ويدعى كاجيرا - هو نهر كبير، هو نهر عظيم حتى عند عدم حمله لاسم النيل، ويبلغ طوله سبعمائة كيلومتر، ويستنزف مياه معظم الهضبة الواقعة غرب تلك البحيرة، وتتعذر الملاحة في منافذه الثلاثة بغير الزوارق لتحول هذه المنافذ بحسب علو النبات الذي تجيء به من الجبال، وتبصر بعد مسافة صالحة للملاحة كثيرة العرض في بعض الأحيان، من الفلوع
11
والمراتج
12
ما يضايقه في مجراه الفوقاني على حين يستره البردي ويجعله منقعا،
13
وهو إذا ما اقترب من منبعه رئي أنه سيل جبلي صائل.
كانت سبع مدن تتنازع شرف كونها مسقطا لرأس أوميرس، وتزعم ثلاثة منابع كونها مهدا للنيل، ولكل من هذه المنابع اسم غريب، وقد وجد بعد قياسات كثيرة أن الجدول الذي يحمل اسم روفوفو هو مصدر الرافد كاجيرا، وهو يجري في أرض بلجية
14
من ارتفاع ألفي متر على الجانب الشرقي من الفلق
15
بين تنغانيقا وبحيرة إدوارد، وفي الأيكة الكثيفة البكر، ومن المباح لكم عند الرغبة أن تكرموا منبع النيل الأول في ذلك الجدول: روفوفو.
الفصل الخامس
تعانق سلسلة رونزوري في حضن واسع ذلك البلد الرائع الواقع حول البحيرات الغربية، وكان القدماء يسمون تلك السلسلة جبال القمر، وإذ لم يسطع الزنوج أن يفسروا وجود الثلج على ذراها كانوا يزعمون أنها اجتذبت إليها نور ذلك الكوكب. والحق أن سلسلة رونزوري لم تصور من عنصر أرضي كما يظهر، وهي التي تناطح سماء المساء الذهبي بعزلتها مرتفعة خمسة آلاف متر في منطقة خط الاستواء حيث توارى النبات واختفى الصوان وحيث يبدو جليد قممها وجمد قبابها، وهي منزوية كفيلسوف يكفيه شعوره بقدر نفسه، فقاومت زمنا طويلا فضول الناس وحجبت رءوسها عدة شهور عن ثلاثة من أعظم الرواد، فأخذوا يشكون فيما يؤكده الزنوج، وكثير أولئك السياح الذين اتخذوا الخريطة دليلا لهم في البحث عنها فلم يروها قط، وهي أغنى جبال أفريقية، وهي - لتكاثف المطر على صخرها - تنزل ألوف الجداول منها فتتحول إلى أنهار وتجتمع في بحيرات وتؤلف نصف النيل الآخر في نهاية الأمر، ويمكن جبال القمر أن تدعى ملكة ذلك البلد، غير أنها والدة له.
ويتألف من هذه السلسلة البالغ طولها مائة كيلومتر ثلاثة مدارج متعاقبة، والسهب أولها، والسهب - وارتفاعه ألف متر - أهمها.
والسهب ساطع، والسهب أرض مفتوحة متموجة مجزأة إلى مروج واسعة مع أنواع كثيرة من شجر السنط، ومن السنط ما هو بلا أوراق وما هو شائك وما هو أبيض ضارب إلى خضرة، ومنه ما هو أبيض ذو أوراق خضر لامعة بين الشوك، ومنه ما هو أسود كثير الورق أسمر الفروع، ومنه ما هو ذو ساق براقة ضاربة إلى حمرة، ومنه ما هو كبير العناقيد نرديني
1
الزهر أزرقه، ويقوم اليتوع
2
بينه قائما قاتما مستقيما مصمتا،
3
ويلوح كل شيء في اليتوع خاصا بما قبل الطوفان كالفيل، فهو عصلبي
4
أزغب، وهو يثير في النفس صورة أسرة يرأسها زهر ضخم أصفر ووردي، وتزهر السحلبيات العالية والنرجسيات القانية
5
على الأرض اليابسة، وتوحي ألوف الأزهار فوق ضخم السوق وعلى مستوى الأرض برسم طاقة ذات غبار أحمر، وتجري الأنهار هنالك حيث العشب يلمع مدهاما وحيث تتجمع الطيور في البردي وفي الأقسام الكثيفة من الغاب، ويبلغ ارتفاع ذلك الكلأ أربعة أمتار مع سوق تستغلظ غلظ الخيزران ومع أوراق تنتهي بحرف، ويسمى ذلك الكلأ على طول النيل عشب الفيل، والخلنج
6
الأحمر الشائك الطويل هو الذي يفوقه علوا.
وتدنو الوعول من أنهار ذلك السهب غير خائفة تقريبا، وترفع الغزلان المغر
7
الشعر
8
قرونها الظريفة وتشم الهواء بمناخرها على حين يصل الرت
9
متئدا خافض الرأس بين الخوف والشجاعة، وتجاوز الوعول شائك العوسج قافزة، والبقعة الخضراء التي تنم على الماء هي التي تجتذب جميع هذه الحيوانات، وفيما يحوم أبو سعن
10
فوق أرجال
11
الجراد كالجوارح
12
يطير الخضاري
13
فوق غدير البردي مذعورا من صفير العقاب.
وفي منطقة رونزوري الثانية - التي هي بقعة المضايق والأودية والتي تكثر فيها المساقط - يحيط بالبال نطاق يرى من بعيد، وهنالك تبصر غابات تكسوها الأشنة
14
بأسرها، وهنالك يسيطر شجر من طائفة الصنوبر والسرو، ويعلو الخيزران وترتفع اللوبيلية
15
محدقة مفتحة العيون بادية شمعة زهر كالرمح مع عناقيد متدلية منها، وتنتصب تلك النباتات الكبيرة في غابة المطر الخالد كالمسلات في المقابر المهجورة.
ويزهر بالقرب منها شجر الخلنج الأحمر الوردي والضارب إلى زرقة، ويستر هذا الشجر طحلب أخضر برتقالي أرجواني متصل بلحية غائمة نازلة من ساقه، ويتجمع بين هذا الشجر أجداده الموتى تحت كفن من الطحلب الأبيض، ويئن في كل مكان خيزران شبه مكسور بفعل الريح والمطر، والحق أن ذلك هو بلد البحيرات وفوهات البراكين.
وهي كثيرة، وهي تنظر إلى السماء بعينها السوداء غائصة بين حواجز وعرة حافظت على شكلها الابتدائي، ويقطع الصمت العميق هدر اليمام
16
الرزين، وتخفي وجود الإنسان أشجار الموز في بقاع محروثة من الغابة مع أكواخ قليلة، وهنالك من المرتع
17
البلقع
18
ما يكون له في النفس أثر الحديقة المتروكة لو لم تذكرنا ذوات القوائم الأربع بالخطر الداهم من فورها، ومما رئي هنالك، وعلى علو 1800 متر، فيول وجواميس، ومما شوهد هنالك أسود تتعقب رتتة على ارتفاع 2400 متر، ومما نظر على ما هو أعلى من ذلك هنالك وعول وربابيح
19
وقردة وهررة وخشية وأرانب صخرية وثابة، وأنمار تغامر حتى منطقة الثلوج، ومن بين الطيور تجد التمرة
20
ذات الالتماع الضارب إلى خضرة معدنية تصعد إلى آخر الأشجار باحثة عن العسل.
والمنطقة الثالثة هي أضيق المناطق. وهي مستورة تقريبا، وعلى الدوام، بغطاء من الأمطار والغيوم التي تتحول إلى ثلج، وهي سلسلة من الذرى الثلجية بالغة خمسين كيلومترا ومشابهة لما في القفقاس، وبها يلمع آخر شهود العصر الجليدي من خلال القرون.
وفي سفح تلك الجبال، وفي غرب بحيرة فيكتورية، وفي حوض كاجيرا، حيث يترجح ارتفاع البلد بين 1100 متر و3000 متر، يصار إلى الطرف الشرقي من تلك الحفرة الكبيرة التي تنخفض إلى 1500 متر دفعة واحدة، ويبلغ الانحدار من الوهر والوعر ما يمتنع معه قطعه على الحيوانات الوحشية عدا الفيل والجاموس.
وتجمع تلك الحفرة التي قعرتها البراكين الفعالة مياهها من سلسلة البحيرات، وتصل المياه إلى تلك الحفرة بجري دلوق، وتقف المياه هنالك وتكسل ثم تشق طريقا لها بعنف.
ونحو الشمال، وإلى النيل وحده، تجري بحيرة إدوارد، التي تنال روافد من الجنوب والشمال ويذهب جميع ما ينزل من سلسلة رونزوري إلى النيل مارا من بحيرة جورج وبحيرة ألبرت، ويتوجه جميع ما يرد أوغندة من سيول وأنهار وبحيرات إلى منبعي النيل، حتى إن ما يود أن يتفلت منه لا يقاومه، ومن ذلك أن نهر كافو الذي يباري النيل الفتي سرعة في بدء الأمر يتردد بين اتجاهين، فإذا ما ذهب نحو بحيرة كيوغا التجأ إلى نيل فيكتورية، وإذا ما جرى نحو الغرب انتهى إلى نيل ألبرت، وفي كلتا الحالين ترتبط حياته الوضيعة في مصير رفيقه المرهوب.
الفصل السادس
يلتقي نظاما منابع النيل، ويجتمع كل شيء في الزاوية الشمالية من بحيرة ألبرت لتقوية تدفق النهر الشاب الذي يجهل طوله حتى الآن، وقد قامت الأنهار بدورات طويلة وجابت
1
أضواجا
2
غير قليلة، ما دامت المسافة برا قصيرة من منبع النهر إلى مصبه في أوغندة، وهي 250 كيلومترا في بلد ذي واد مجوف على طريق صالح يقطع بسرعة، وبين البحيرتين يتجه نيل فيكتورية من الجنوب الشرقي إلى الشمال الغربي، وتجري في جهة واحدة سواعد اليمين الثلاث المهمة التي تلاقيه بعد مسافة وفي فترات طويلة، وذلك كالأولاد الذين يقلدون خطى أبيهم الأولى من دون أن يستطيعوا مسايرة أدوار مصيره الكثيرة فيما بعد.
وبحيرة ألبرت التي هي أصغر من بحيرة فيكتورية، وأكبر ثماني مرات من بحيرة كونستانس،
3
مستودع للأنهار القصيرة والطويلة التي تصدر عن ثلوج جبال القمر وأمطارها، وهي تغذي النيل وتملأ الحفرة بين الدرجة الأولى والدرجة الثانية من العرض الشمالي، وتمتد الجبال على جانبيها، وتعد حدا للحيوانات باتساعها وطولها فيعجز معظم أنواع الجراد عن مجاوزتها، حتى إن الزنوج يسمونها بلغتهم الزاهية «لوتانزيغا»؛ أي «الضياء الذي يقتل الجراد».
وقال أحد ملوك الزنوج لبعض السياح: «يمكن روح البحيرة أن تثير الرياح الهائلة عليكم وتقلب جميع زوارقكم.» وألقى الزنوج فيها دجاجا وخرزا بحضرة الملك تسكينا لها، ويحيق الخطر بكل شيء ما كان هنالك مرفأ واحد فقط وما دام يسافر في قوارب صغيرة أو على أرماث
4
غريبة مصنوعة من سوق البردي وما دامت الزوابع والأعاصير تهب بغتة، وبالعكس تنعم روح البحيرة على سكان شواطئها بمقادير كبيرة من الأسماك التي تدفعها العواصف إلى الشاطئ فتؤخذ بحبال طويلة أو في سلال، ويذكر في كل حديث يقع بينكم وبينهم خبر عن سمك نهري عظيم وجد هنالك من قبل أجدادهم، ونبأ أكبر من ذلك عن الملح.
وماء بحيرة فيكتورية - هذا البحر الداخلي - عذب، وماء بحيرة ألبرت ملح، وملح هذه البحيرة رزق لمعظم زنوج تلك البقعة، ولا تصل أيديهم إلى الكلأ الطويل الذي يحبكون به بيوتهم، فيضطرون إلى ابتياعه من بعيد بذلك الملح الذي يستعمله في أغذيته نصف أوغندة كما تستعمله القبائل الأخرى وداخل الكونغو البلجية حيث يفتقر إليه، ويرسب ذلك الملح في البحيرة فلا يحتوي النيل عند خروجه على شيء منه تقريبا، ولهذه الظاهرة شأنها في ألوف الكيلومترات من المجرى التحتاني، ولهذه الظاهرة خطرها حتى لمصر، وهكذا يشعر في المشيب، عن قدر، بنتائج مغامرات الشباب، وهكذا تبصر الملح العقيم عامل حياة في الجبال التي تحول الحواجز الوعرة دون زراعة الحبوب فيها، ولكن الرجال لا يبدون حراكا في جمعه، والنساء هن اللائي يفعلن كل شيء.
وذلك قدر ساحر، وفي أقصى شمال البحيرة الشرقي، وفي المضايق العميقة، وبين الصخور وكسر الحجارة التي يحس الرجل الأبيض حرارتها من خلال نعل حذائه، تنبعث أبخرة كبريتية محرقة خانقة وتنبجس من تلك التجاويف مياه حارة مالحة إلى الغاية رائقة، وفي ذلك الجو تشاهد نساء عاريات عريا تاما يرفعن جدرا صغيرة من طين، ومن بين هذه الجدر وفي قنوات ضيقة يوجهن الطين المالح، وبين هذه الجدر التي توحي بمنظر قرية خربة، والتي تفصل بعض مختلف المنافع عن بعض يجلس النساء والأولاد القرفصاء ويجرفون الطين الذي يرسب من الماء بقطع من حديد، ويلتقطونه أو يقطرونه بحسب الحال في جواب
5
من صلصال ،
6
والحذق كل الحذق في مزج التراب والماء مزجا مناسبا، وإذا ما برد المطر التراب ذهب الملح، والمطر أشد ما يخشونه كما أن الغيث أكثر ما يرجوه إخوانهم، ولتلك المادة التي يستخرجونها من الماء قيمة كالتي تكون لما يناله غيرهم في مياه أخرى بالرحض،
7
والواقع أن الملح هو ذهبهم.
ويحزم الرجال تلك السلعة الرمادية المرة في أوراق من شجر الموز ويضعونها في غلف طويلة ضيقة مصنوعة من سيقان الخيزران ويحملونها على ظهورهم كأنها زوارق نيلية مصغرة، ثم يسيرون أياما بأسرها عراة مع حصير للنوم وقرع
8
مملوء ماء حتى ينتهوا إلى الأسواق التي يزن الملح فيها إخوان لهم ويعطونهم عوضا منها ذخائرهم من البردي والحبوب والخرز والرماح والجلود، وغاية القول أنهم يقايضون الملح الذي يحكه نساؤهم وأولادهم على أرض بلادهم بين الأبخرة الخانقة بما يحتاجون إليه في سكنهم ولباسهم وغذائهم وزينتهم وصيدهم، وهكذا يقوم بذلك العمل الطريف الذي يلوح أنه عريق في القدم أناس لم يسمعوا شيئا عن استغلال المناجم، وذلك في بقعة لم تطأها قدم إنسان أبيض منذ مائة سنة.
ويعيش شعب بالقرب من هنالك، وهو شعب أطرف وأقدم من ذلك، وهو شعب وحيد في أصله وقصر قامته، ويسكن هؤلاء الأقزام أحد سفوح جبال القمر، والآن ترانا أمام هذا الشعب الأفريقي الذي ظل حيث هو منذ أقدم الأزمان، ويروي أرسطو مؤكدا أن ذلك ليس من الأساطير، ويوري أرسطو أن أقزاما يسكنون كهوفا هنالك، وليس في رواية أرسطو من الأسطوري سوى ما عزي إلى أولئك القوم من حيازة أفراس صغيرة، ويلوح أن الأقزام هاجروا إلى السهوب المرتفعة من أفريقية الجنوبية في غضون القرون.
تمساح في النيل.
فلما أخذ الزنوج يفلحون المروج دحر أولئك إلى الآجام عن ضعف، وهنالك داوموا على التجمع في غابة الكونغو البكر موسعين رقعة أراضيهم إلى أن انتصب لهم زنوج البانتو الذين هم قوم طوال فردوهم مجددا، وهكذا ترى الأقزام ويدعون بالباكوا على العموم، وهكذا ترى الأقزام وهم قوم عند ولكن حذر ومزروبون ولكن مع مناعة، يعمرون أكثر من العروق المسيطرة التي لا يختلطون بها إلا نادرا، وللأقزام تعيين لسجيتهم بأجسامهم ومصيرهم، وهم من كل ناحية يشابهون الغيلان والعفاريت الذين ورد ذكرهم في أقاصيص الشمال والذين خرجوا أيضا من أصلاب أقزام وجدوا في الحقيقة فعثر في أوروبة على عظام لهم ترجع في القدم إلى العصر الحجري.
وليس أولئك الأقزام من الملاح، ولكن ليس فيهم ما يثير السخرية، ويبلغ طول أجسامهم الشعر
9
الكستنائية اللون أو الضاربة إلى صفرة مترا و30 سنتيمترا، ولهم بطون باجرة
10
وسرر كالأزرار ووجوه متهارمة كامدة فاهمة يحيط بها شعر كثيف، وللرجال منهم لحى طويلة، ولهم عيون لوزية وأفواه كبيرة ذات شفاه رقيقة، ويتصفون بالصمت والترصد وبما ليس خاصا بالزنوج من عدم الثرثرة وعدم الفضول، ومما يميزهم من العروق المجاورة ما في وضعهم من ذكاء وحياء يذكر بما عند القردة الكبيرة، وهم إذا ما أبصروا في السوق عراة يحترزون من السود والبيض على السواء، وأبصرت نساؤهم لابسات ثيابا طفيفة من قشر الشجر مع إقدام وجفاء وهمجية، وجدت فيهم صفات العفاريت، وهم ألباء مداجون وقساة نصراء وعاطفيون عطاش إلى الانتقام وحاقدون شاكرون، والشيب وحدهم هم الذين يحملون منهم سمات الألم، والشيب هم الذين يعرفون أن كل شيء كان باطلا.
ولا يكادون يتحولون في مصارعتهم شعوبا تنظر إليهم من عل وتزدريهم كما يزدري الرجل الفطري من هو أصغر منه، ولا سيما في سواء تلك المنطقة الكثيرة السكان، وكان كل إنسان حولهم يعتمد على الماشية والحبوب في معاشه، وكان الصيد عيدا كالحرب، وهم لقصرهم - نتيجة لملاءمة بيئاتهم مع القرون - اضطروا إلى الاعتصام بالغابة البكر فغدوا عفاريت بين الحيوانات الابتدائية وصاروا من الصائدين، وهم قد عاشوا بدويين في زراب
11
صغيرة محبوكة بسرعة، وفي مخابئ يتعذر العثور عليها، فيتجنبها البانتوي الزنجي الخرافي على أنها مأوى الأقزام، ويحافظ الأقزام على نار لا يعرفون إيقادها، ويجهل إخوانهم من أهل جبل إلغون وجود النار، ويشوي الأقزام اللحم والطلح،
12
ويتقنون صنع الأباريق والسلال، ويأكلون أكثر مما تأكل الشعوب الأخرى، ولكن من الحيوانات التي يذبحونها ومن الخنازير البرية والغزلان والفئران والجراد والسمك والأفاعي، وهم لذلك، يبردون ثناياهم
13
وأنيابهم العليا فيذربونها.
14
ويعيش أولئك الأقزام في أكواخهم الصغيرة عيشا بسيطا غريبا، ويندر أن يشاطرهم أكواخهم آخرون، والأقزام يدخلونها زحفا من ثقوب كخروق الفئران، ونساء الأقزام - دوما - عاريات عاطلات من الحلي والقلائد والوشم، وليس لدى الأقزام أي معتقد كان كمعظم جيرانهم، وليس عندهم رؤساء، ولأحسن الصائدين منهم بضعة امتيازات في بعض الأحيان، وهم لا يرضون بشيء قد يوجد شركة أو حالا، وكل واحد منهم يعيش منفردا مع بعض نسوة، وتراهم يحملون عطفا مرموقا نحو أولادهم، ولا يضع النساء أولادهن في الأكواخ، بل في الغابة وحدهن، وهن يقطعن الحبل السري بأسنانهن كما تصنع الحيوانات.
وإذ ليس عند الأقزام مثل ما عند جيرانهم من دواجن وخضر وزراعة فإنهم لا يجتمعون إليهم إلا في عيد أو بعد صيد كبير، والأقزام أمرح من زنوج تلك البقعة وأكثر ولعا بالموسيقى، وهم يغنون فرقا وأفرادا، وهم يضحكون ويأتون بالأقاصيص، وهم يشربون قليلا ويتخذون أوضاعا لا غبار عليها، والتبغ والسعوط كلاهما مدار شغفهم الوحيد.
وهم - كأقزام الشمال - سراق شاكرون، فإذا ما جن
15
الليل وخرجوا لسرقة الموز، والموز طعامهم المفضل الذي لا يحوزونه في الغابة، وضعوا في الغالب قطعة من صيدهم
16
تحت الشجرة المسلوبة، ومما يحدث أحيانا أن يعوضوا الرجل المسروق ماله بأغرب من ذلك، وذلك بأن يدخلوا حقله في أثناء رقاده فيطهروه من الكلأ الرديء، أو أن ينصبوا مصيدا قد يقع فيه حيوان فيأخذه، أو أن يطردوا القرود من بين أشجار موزه، ومما يحدث أيضا أن يخطف هؤلاء النور الخبثاء من شباه القردة زنجيا صبيا وأن يضعوا أحد صغارهم بدلا منه لأمه الزنجية العواءة.
والفيل هو محل ميلهم وهدف طمعهم، والفيل - الذي هو أضخم الحيوانات - هو ضحية أناس صغار يستفيدون من قصر قاماتهم فيصطادونه مشتركين، وينساب أحدهم تحت الفيل مسلحا بحراب حادة، والفيل هو من شدة ضعف البصر ما يعجز معه عن رؤيته وإصابته بخرطومه، ويغلب الفيل بذلك الهجوم الغادر، ويرابط الأقزام حوله حتى يلتهم تماما، وينتفعون بعاجه في ابتياع ما يحتاجون إليه، ويبدون مكر الأقزام في صيد السمك كذلك، فهم يسدون الجداول وينشئون قنوات صغيرة يجري الماء إليها فيمسكون السمك المكافح بأيديهم.
وهكذا صار أولئك الصائدون الصغار مقاتلين وأقيانا
17
كبارا، ويحتقرهم إخوانهم الكبار، ويسخرون من هؤلاء «الرجال ذوي اللحى الطويلة»، وهم يضطرون - مع ذلك - إلى الاشتراء منهم مزاريق مطرقة
18
في الغاب وأسنة حراب وأسورة من حديد لنسائهم، وتستخدمهم القبائل المسيطرة في محاربة أعدائها، وإذا ما أضحى هؤلاء الأقزام مشاورين لرئيس تغلب شكرهم على غدرهم، وارتبطوا بعطف ثابت، خاص بالشعوب المضطهدة منذ زمن طويل، فيمن يحسن معاملتهم لاستغلالهم.
ومن هم هؤلاء البانتو الذين هم على خلاف دائم مع الأقزام؟ ومن هم سادة تلك البلاد؟
الفصل السابع
أوغندة بلد أغنى من جميع البلدان المجاورة وأوفر حظا منها، وذلك لما تتمتع به من جو سخي تنمو به ثمرات الأرض من تلقاء نفسها، ولما أنعم القدر عليها من إبعاد البيض حتى سنة 1860، وتمضي ألوف السنين ويعيش فيها بضعة آلاف من السود هنالك جاهلين شهوات الشرق والشمال، ويدخلها سبيك
1
ويكون أول من يتكلم عن شعب فردوسي يحسب نفسه سعيدا، واليوم لو سئل أوغندي على شواطئ بحيرة فيكتورية لأجاب أنه يأتي من بلد «يقتبس القمر فيه قواه الجديدة ونوره الجميل الأبيض من ذرى جبال الثلج»، وهو يمد يده نحو منبع النيل في بعض الأحيان فيقول: إنه من البلد الذي يلد فيه النهر الأكبر، ولكنه إذا ما سئل عن سير الزمن أبصر أن السنة ستة أشهر لغلتين ينالهما، وصرح بأن الشهر الأول من السنة هو شهر البذر، وأن الأشهر الخمسة التالية هي أشهر الأكل، وكان لدى أولئك القوم قبل أن يكشف أمرهم كل ما يحتاجون إليه من موز وحبوب وبقول وأسماك وضأن، وهم لم يهلك منهم أناس كثيرون في القرون الأخيرة إلا نتيجة لما اشتعل بين العروق من حروب طويلة.
ويعتقد أن ذلك العرق مزيج من البانتو ومن قبائل نيلية وحامية، ونحن - لأنه ليس لدينا وثائق مكتوبة - نرى أن اختلاط العروق مصدر سعادتها ، وأن غرورها مصدر سقوطها.
والبانتو، وهم عرق زنجي مسيطر، زراع، مستديرو الرءوس، ضلع
2
صحيحو البنية، سمر لامعو الجلود حسنو التكوين، والباهيما، وهم قوم من الرعاة انفصلوا عن أولئك بفعل ما كان بين البدويين والفلاحين من صراع، أجمل من أولئك وأسطع لونا مع أنوف مستقيمة وشفاه رقيقة ومنظر من أبوهم من البيض وأمهم من الخلاسيات.
3
وفي زمن مجهول أتى الباهيما فاتحين من الشرق، ومن الحبشة على ما يحتمل، فاستقروا حول بحيرة كيوغا وبحيرة فيكتورية، ثم قهروا في تاريخ متأخر من قبل البانتو الذين يفوقونهم مع ازدرائهم للبانتو بسبب امتيازهم منهم حسنا وحذقا، وعلى ما كان من وضع فريق من كبار علماء وصف الإنسان علامة استفهام بجانب النتائج التي انتهوا إليها من أبدان كلا العرقين وعنعناتهما ترى في تلك الهجرة الباكرة إيضاحا وحيدا لعادات أولئك الزنوج المنعزلين عن سواهم.
وبتعاريج لا تصدق وصل - كما يظهر - لقاط
4
من حضارة دلتا النيل إلى تلك العشائر البعيدة، وذلك كشعاع عبقري ينير أناسا لم يسمعوا عن وجوده قط، ولم يحدث في زمن أن أوصل المصريون نهر النيل إلى أوغندة، ومع ذلك من أين أتى هذا الثور المستقيم الظهر والعظيم القرنين الذي يسير بين زنوج خط الاستواء كما عرض في صور الجدر المصرية القديمة؟ ومن أين عرف ملوك الزنوج ذلك المعزف،
5
وذلك البوق المصنوع من قرن الوعل اللذين كان الفراعنة يمجدون بهما؟
لا ريب في أن حضارة مصر كانت من القوة ما تؤثر معه في القبائل الحامية العربية بطريق الصومال والحبشة حيث تبصر آثارها باقية، وقد سارت تلك القبائل إلى الأرض الخصيبة حول منابع النيل تبعا لموجات من الحروب والمجاعات، فنفذت الحضارة بذلك في الزنوج الذين كانوا يجهلونها كما كانوا يجهلون الإنسان الأبيض.
وليس ذلك الشعب الذي اكتشفه أوروبيون في سنة 1860 لأول مرة مدينا بحضارته لتاجرين أو ثلاثة تجار من العرب أتوا من زنجبار قبل ذلك ببضع سنين ليشتروا عبيدا من ملك الزنوج، ولم يكن الأبيض الأول الذي وصل إلى البحيرة الكبرى، فوجد ذلك الشعب، مرسلا أو رائدا، بل جندي زنجباري فار من دائنيه، ويولع الملك الزنجي به لبياض أدمه
6
وجمال شعره وحسن لحيته، وما انفك ذلك الزنجباري يعيش بجانب الملك حتى سنة 1857 بين نسائه الثلاثمائة، ويكشف ذلك المدين، ذلك الجندي، للملايين من سكان أفريقية الوسطى حياة البيض على حين ترى بعض الأدوات والعادات قد انتهت إليهم منذ ألوف السنين من أمدن بلاد البحر المتوسط الذي كانوا يجهلون حتى اسمه، ويتبع بعض شيوخ العرب وتجارهم بطل الحضارة الغريب ذلك.
ولم يكن الملك - مع ذلك - أول من بهت في أوغندة، فقد استحوذ الجزع والوله والضيق معا على الباهيما، الذين أسفر امتزاجهم بالبانتو عن اسودادهم مقدارا فمقدارا، نتيجة لوصول أولئك العرب، ومما ذكره الباهيما موكدين أنهم من عرق أولئك وأن أجدادهم كانوا أشد من حفدتهم بياضا بدرجات وأن شعورهم كانت طويلة، ويخشى الباهيما أن يعني حضور أولئك الغرباء حضور أجدادهم لاغتصاب أرضهم المحبوبة منهم.
ويصل الرواد الأولون - أي الإنكليز - على أثر العرب فيجدون أنفسهم تجاه قوم لم يروا رجلا أبيض قبل عشر سنين، وماذا كانت حال هؤلاء الوحوش؟
وجد الإنكليز هؤلاء القوم يعيشون في أكواخ مستديرة مصنوعة من سوق الكلأ الطويل، أو من ليف شجر الموز المجدول جدلا فنيا، وذات سقوف على شكل القباب أو ذات أطناف
7
ووجدوا رجالا ونساء يلبسون جلودا أو قشرا ويدوسون وقت الصباح طين الجدر حفظا لمساكنهم من المطرة اليومية، ووجدوا في البقاع المستغدرة
8
أسدادا أنشئت من جذوع
9
النخل، وطرقا محاطة بالقويسة
10
تصل بين القرى في ذلك البلد الكثير السكان، ووجدوا الملك قد جعل القتل جزاء من يقصد السوق عاريا، فلا يخلع الرجال جلود الحيوانات عنهم إلا في الزوارق أو في الحرب، ووجدوا النساء يقمن بكل عمل؛ فيبذرن ويحصدن ويجلسن القرفصاء فيسحقن الحب بين رحوين،
11
ويطبخن على البخار في قدور من فخار مصنوعة بأيديهن، وذلك مع لف اللحم والسمك في ورق الموز، ويحبكن خصافا
12
للبن الضارب إلى حمرة والذي ينبت شجره في أطراف القرية، ويعرفن تجفيف الجلود تحت الشمس وشدها على إطار ودعكها بالزيت وتنظيفها حكا بالحجارة وصنع نعال من جلد الجاموس، ووجدوا أولئك الوحوش قد بلغوا درجة من التمدن ما يغسلون معه أيديهم قبل الطعام وبعده وقبل شرب القهوة.
ووجدوهم يزرعون ثلاثين نوعا من الموز؛ أي من هبة الله هذه التي يمكنهم أن يكتفوا بها وحدها، ووجدوهم يصنعون من الموز سلائق
13
على البخار ثم يتخون
14
هذه السلائق مع بعض العطور فينالون بذلك خمرا وضربا من الجعة ذات العذوبة، ووجدوهم ينتفعون بالسعوف
15
في سقوفهم وفرشهم وتغطية اللبن في قدروهم، ويتخذون جذوع النخل في صنع الزرائب ويجعلون منها مراديس
16
للأرض أو ركائز لجذب الزوارق إلى الشاطئ، ويستعملون لبها كالإسفنج ويحولون ليفها إلى حبال وقلانس، ويعدون هذه الشجرة شجرة الحياة الحقيقية فتمنحهم جميع ما هو ضروري بعد استثناء اللحم والحديد.
ووجدوا الرجال - عند عدم استعدادهم للحرب - يصنعون شصوصا
17
وخيوطا لها من ليف المقر،
18
ووجدوهم يحفرون حفائر عميقة صيدا للفيل على أن يجهزوا عليه برماحهم، ويمسكون الجاموس بأشراك من أغصان شائكة، ويأخذون الأوعال بحبائل والآساد والأنمار بفخوخ من سوق شجرية ثقيلة، وينطلقون إلى الصيد بالمئات، وأبصروهم مخترعين حتى لسلاح كان يظن أنه من أساطير البارون مونشهاوزن
19
لو لم يصفه أعظم الخبراء في أمور أوغندة، ومن ذلك أنهم كانوا يمسكون أفاعي سامة في الأيكة البكر ويسمرونها في شجرة فوق أثر طريدة فتثور تلك الأفاعي ألما وتهجم على النمر أو الحيوان الوحشي الذي يمر وتقتله نفعا للزنجي المتواري في الجوار.
ومن ذلك أنهم كانوا يحبكون سلالا من شرط القشر ويعلقونها في رءوس دوح يلاحظون عليها نحلا، فترى هذه النحل من السعادة اتخاذ تلك السلال ملجأ تودعه عسلها، وهنالك يدخنها السود ويستولون على العسل وعلى الموم
20
الذي يصنعون منه أنواعا من الشمع.
ووجدوا أن الرجل يمكنه نكاح ما طاب له من النساء، والنساء كن ثلاثة أمثال الرجال، والنساء لا يزلن أكثر من الرجال؛ وذلك لأنهم كانوا يقتلون بعد النصر جميع الفتيان ويسبون جميع النساء، ولا سيما من هن من حسان الباهيما؛ ولذلك كان النساء في أوغندة أرخص، دوما، مما في أي مكان آخر ، فكانت الواحدة منهن تساوي ثلاثة ثيران، ثم أصبحت الواحدة منهن تساوي ست إبر أو حذاء واحدا.
وكانوا قليلي الولد، فإذا ما وضعت المرأة للرجل ولدا آخر حق له أن يطبل أمام بابه مدة شهرين داعيا بذلك أصدقاءه إلى الشرب معه، وكانوا من مشاعر الليق والذوق كما يقول جونستن عنهم: «إن جميع الباهيما أماجد مولدا.» وكان الباهيما يرسلون مرطبات إلى السائح الذي يمر ويدعونه يستريح تحت الخيمة قبل أن يزوروه، وهم لا يزالون يستعملون صيغا غريبة في أثناء الحديث كقول بعضهم لبعض: «أشكر لك ترويحك لنفسك، أشكر لك إعجابك ببيتي، أشكر لك ضربك ولدي.»
تلك هي مشاعر وأعمال شعب لم يؤثر فيه اعتقاد معين أو مذهب خلقي، تلك هي الحال التي كانت عليها حوالي سنة 1860 حضارة أولئك القوم الذين زعم توحشهم.
والملك هو الذي كان حاميا لهم، والملك هو الذي كان له حق الحياة والموت عليهم، والملك كان محاطا بحاشية كحاشية الكارولنجيين
21
مؤلفة من وزير وساق وعازف وزمار وحاجب وحامل غليون
22
وجلاد وطاه وصانع جعة، وكان لأحد أولئك الملوك أكثر من سبعمائة ولد، وكان لديه - عدا زوجاته - مئات من البغايا اللائي أرسل منهن نحو ألف وتسعمائة إلى لبيعهن، فكان له بذلك أسلوب طريف لجباية الأموال بمنح رعاياه ملاذ حسية، وكان الملك صاحب الأطيان والقطعان فيقطع «كونتاته» الإقطاعات كما كان ملوك الغرب في القرون الوسطى يشرونهم بتمييزهم من سواهم على حساب الفلاحين مع إثارة تحاسدهم.
وكان الملك على الذروة من هرم الدولة، وكان الفلاح قاعدة له مع عطل من الأرزاق كما في عهد قياصرة روسية، وكان الملك يفرض ضريبة على البقر فيجعل «الكونتات» مسئولين عن كل واحد منها، وكان هؤلاء «الكونتات»، عند ظهور أسد، ملزمين بتنظيم موكب صيد إنقاذا لها، كما أنهم ملزمون بالقتال عندما يغير جار على البلد.
وكان متيزا الذي هو آخر ذوي السلطان من أولئك الملوك (1840-1884) يتصف بجميع صفات نظرائه من البيض في أوروبة مع حكمة أكثر مما لدى الكثير منهم، ومما حدث أن استقبل الغرباء الأولين في بهو قصره البالغ طوله ثلاثين مترا على صوت الصنوج
23
محاطا بالأعلام وبحملة الرماح مظهرا عزة العاهل الأكبر.
ويظهر ذلك المدير مدثرا بنسيج من حرير الهند قاعدا مادا ساقه أمامه كملوك الغرب في الرسوم القديمة، ويعامل أولئك الرجال الذين بدوا له من الآلهة بلطف ومن غير فضول، فأجارهم بدلا من أسرهم أو قتلهم، ومن أين تعلم أن الكرامة والكياسة من صفات السيد الحقيقي؟ وكان البهو من لقاط سوق النبات، ولكنه من الاتساع كإحدى الرداه في رومة، وكان الملك يأكل محاطا بالنساء والندماء، وكان الوزير وحده واقفا عند الباب إبعادا لعين السوء من الأطباق المغطاة، وللوزير وحده أكل الفضال، والملك إذا تكلم آنئذ صاح الندماء بعد كل جملة قائلين «نيانزي - جه»؛ أي «حمدا! حسنا!» وليس سوى هذا ما يقال حول موائد البلاط في أوروبة.
ومن ذا الذي علم متيزا أن على الملك أن ينسج حول أبيه أسطورة من الخيال قبل كل شيء؟ ومن قول متيزا: «مرض والدي في مشيبه فكان يذبح في كل يوم مائة غلام تسكينا للأرواح الشريرة، فلما استرد صحته وخرج كما في الماضي راكبا متن وزيره الأول وقع ميتا، وقد خيط ضمن جلد بقرة فترك يعوم فوق بحيرة مدة ثلاثة أيام، إلى أن دبت عليه ثلاث ديدان، وهنالك جيء به إلى البيت حيث تحول إلى أسد. وأما جدي فقد كان من القوة ما كان يمكن عيشه مخلدا لو لم يفر من هذه الدنيا كساحر بعد أن عمر فاسحا في المجال لابنه الذي طال انتظاره.» - ومن كان جد آلك؟
قال الملك متيزا: «إنني الابن الثامن عشر من السلالة، وكان مؤسس بيتي صيادا مشهورا جاء من مكان بعيد، وكان من البأس والجمال ما عشقته الملكة من فورها فسمت زوجها وجعلته ملكا وأبا للملك التالي.»
وروى الرواد ثلاث قصص طريفة عن متيزا، ومنها أنه ود مرور غنيمة له من بلد معاد فأرسل إلى الملك الزنجي مائة معول ومائة نبلة، وأرسل إليه قوله: «إذا كنت تريد السلم فخذ هذه المعاول لحرث الحقول ، وإذا كنت تريد الحرب فخذ هذه النبال فسوف تحتاج إليها.» ويأخذ الملك المعاول ويلقب بالملك ذي المعاول المائة.
ويستقبل متيزا إنكليزيا، ويعتذر له هذا الإنكليزي عن كون الهدايا التي أحضرها له قد جرفتها المياه، فاسمع جواب متيزا: «أجل، إن الأنهار الكبيرة تبتلع الأنهار الصغيرة، ولكنني لا أفكر في أمر آخر بعد أن رأيتك.»
ويوضح ستانلي
24
لمتيزا حركات المعصم وعضلات الأصابع على ألواح تشريحية فيصرخ متيزا قائلا: «أجل، إن هذا لأمر عجيب، ولا أستطيع صنع مثله، ولا ينبغي لي أن أتلف شيئا لا أقدر على فعله.» ولم يعتم متيزا أن صلم
25
أحد رعاياه لأنه لم يرقه!
ومن الغريب أن يعبد أهل أوغندة الإله النيل مع أنهم لا يعرفون غير طفولته الوحشية، وهم يجهلون مآثره ومصيره بعد ألف فرسخ من بلدهم.
ومن النفوس الشريرة من هم في جزيرات البحيرات، فمما حدث أن الملك أراد سفر رحالة أمريكي آمنا فأمر بقطع رءوس سبعة سحرة رئي أنهم عفاريت البحيرة.
ويتوجه متيزا إلى منبع النهر ابتهاجا بمهرجان النيل الأكبر، وتقدمه فرقته الموسيقية الكبرى مع مزاميرها المصنوعة من القصب وأبواقها المصنوعة من قرون الوعول وقيثارتها المصنوعة من الخشب وجلد الحيوان وأوتار المصران، وفيما يرقص ألوف الناس على صوت هذه الموسيقى يجاوز الملك البحيرة محتفلا فوق السفينة مستصحبا نساء كثيرا، وخمرا، وذلك بعد أمر المجذفين
26
بأن يخفضوا رءوسهم لكيلا يروا النساء، وذلك هو نبه ملك أوغندة متيزا، ويشابه قبره لحد بطل لإحاطته بالحراب والرماح والسهام.
وهكذا تبصر شعبا فطريا موهوبا يثبت بعاداته وبما له من نظام حكومي فردوسي ارتقاءه إلى طور من الحضارة لا يكاد يكون في الأساس أدنى من الذي بلغه البيض بعد تطور صعب، وما يعانيه البيض من صراع ألفي بسبب الدين فيفزعنا عنادهم في ميدانه، وذلك عند نظرنا إلى زنوج أميين عاطلين من كهان يؤمنون بكائن إلهي خلق العالم، ولكن مع دراية يقصون بها كل طقس ديني، وما كان جوابهم عن سؤال الرواد الأولين إلا قولهم: «إن الله هو من العلو ما لا يبالي معه بأعمال الإنسان.»
ويدل ذلك الإيمان المكنون
27
عند شعب فطري في معزل عن الأجانب، وصاحب لنظام وأدب لا جدال فيهما، على نكد
28
أديان الأمم المستعمرة العظيمة، التي تدعى بالمسيطرة، في إثارة حس النظام وشعور الجماعة، وإذا كانت الهمجية تدفع إلى الحرب فإن الكسل لا يوجب القسوة، ولا مراء في أن أولئك الناس يعيشون عيش الجنة، وأنهم لم يرتقوا إلى غير الدرجة الأولى من الحضارة، ولكن مع بقائهم أسعد مما يكونون عليه لو عرفوا عجائب البيض التي لا تنال بلا عمل، ومن السود أناس خضعوا منذ قرون لتأثير الحضارة الأوروبية وأديانها فظلوا في حال من الحيوانية. وما هي المنافع التي نالها شعوب أوغندة السعيدة من وصول البيض المتأخر إلى منابع النيل؟
الفصل الثامن
تقوم منازل جميلة الألوان على شاطئ بحيرة فيكتورية الشمالي كالتي جاءت في صور بوفيس دوشافان،
1
وذلك في حديقة عميقة مخضرة لا يعرف الجفاف إليها سبيلا، وذلك تحت ظلال أشجار الجميز وبين بساتين مزهرة على الدوام.
ومن بين تلك المنازل وعلى طرق حمر معبدة يحيط بها سنط ذو عناقيد صفر تبصر سيارات تنحدر نحو الخليج، وتبصر زنجيين يسويان الأرض راكبين عربة مقرنة بقرة فيها، وتبصر مجز
2
الكلأ القصير وهو يطقطق، وتبصر لهذا المجز مقبضا ذا انعكاس فضي في يد قائده السمراء اللامعة.
وهكذا يعيش سادة الدنيا في عنتبة التي هي وشنغتن الصغرى في أوغندة، كما أن كمبالا الواقعة في شمالها القريب تعد نيويورك أوغندة لحركتها التجارية، وتنتصب على سبعة تلال كنائس بعدد المذاهب النصرانية تقريبا، وتحفظ الخوذ رءوس الإخوان البيض الألاحي
3
ورءوس الراهبات اللائي يضعنها على عصائب هاماتهن، واللائي لا يدعن واحدة من نقبهن
4
في بيوتهن، وهنالك تهبط طائرة بيضاء آتية من لندن في كل أسبوع لتذهب إلى الكاب، ويهتف لها الإنكليز بحماسة، ولا يكاد سكان البلاد الأصليون يلتفتون إليها.
ولا يقيم الزراع بشواطئ البحيرة وحدها، بل تجد لهم في مكان بعيد جدا، في سواء الغابة البكر - في فوربورتال - بيوتا استعمارية جميلة، وينبت في حدائقهم، كما في ديفونشاير،
5
الشلك
6
والبنفسج والنرجس والزعفران، وهنالك، في جنوب بحيرة ألبرت، وعلى حدود الكونغو، وحيث ملتقى الطرق الكبرى، تتلاقى السيارات والفاتحون وسكان البلاد الأصليون بالسوق في أيام معينة.
ويصل الأوغنديون مدثرين بنسج زاهية الألوان وفق الزي الإغريقي حاملين على رءوسهم قرعا ذات أعناق أنيقة أو أوعية خزفية على الطراز الكريتي، ويظل كثير من النساء ساكنات كالتماثيل مضفورات الشعور أو مزرفناتها
7
كقيصرات الرومان مثيرات فينا ذكريات القرون الغابرة، وبالقرب منهن يتكئ رعاة عراة على عصيهم متخذين وضع الأجداد من الرعيان منذ ألوف السنين، ويمد أقزام عراة ذرعانهم الشعر نحو صرر من الملح فيعرض عليهم أخذها مقايضة مع تردد.
والهندي الصامت الساحر النظر يسيطر عليهم كلهم في أكواخ مصنوعة من نسيج القنب حيث يعرض للبيع ذخائر أوروبية، ويمد الزنجي إليه نقودا إنكليزية كسبها في مزارع البيض بمشقة، ويقدم إليه بدلا منها مصابيح بترول وأباريق شاي ومظال وطنابير
8
ودبابيس شابكة وأطر قديمة، ولكن الإنكليزي يعلو الهندي، والإنكليزي هو الآمر المسيطر، وهو يلبس ثياب الاستعمار البيض ويركب سيارته، وهو لا يزال يبدو نصف إله، وإلى متى؟
كيوغا والنيلوفر.
وتمضي ثلاثون سنة على اكتشاف الإنكليزي الأول لأوغندة في سنة 1860، ويبدأ الإنكليز حوالي سنة 1890 باستغلالها رويدا رويدا، ويسير كل شيء في البداءة سيرا حسنا، ثم يثور الزنوج على المبشرين، ولم لا يؤذن لهم بأكثر من امرأة واحدة بدلا من ست؟ ذلك تدبير حسن للفقراء الذين لا يستطيعون أن يشروا بما لديهم من الوسائل أكثر من واحدة، وهل في ذلك ما ينافي الأدب؟ وهم يجهلون أن الرجل في أوروبة لا يحق له أن يتزوج أكثر من امرأة واحدة، ولكنه ينال زوج جاره بلا جزاء، على حين يمكن الزنجي هنا أن ينكح عدة أزواج، ولكن من غير أن يأخذ زوج الجار بلا عقاب.
والزنوج عرفوا فقط أن القوم أرادوا تحريم عادة يقوم نظامهم الاجتماعي عليها، ومن ثم كان عصيانهم وقتالهم، ويأسف الملك متيزا في آخر عمره على أنه ترك المبشرين يدخلون بلاده، وينشأ أسفه عن تنازع الإخوان الفرنسيين الكاثوليك ومرسلي الإنكليز ، وينفر الشعب من بعض الشروط التي فرضتها الحكومة الإنكليزية على ابن متيزا في معاهدة سنة 1890، وتشتعل الحرب ويقهر الملك وينفى، ويشابه ابنه بمظاهر الملك أجداده مشابهة نسر أسير لرفقائه الطلقاء، والسكون يسود البلد منذ سنة 1905.
ولم يحتفظ الإنكليز بذلك القطر الفاخر بلا قتال حقيقي إلا باحترامهم للأسماء والأشكال على قدر الإمكان، وتركهم للرؤساء قضاء سطحيا وشعورا بالاشتراك في الحكومة، والإنكليز مع ذلك قد ضمنوا لأنفسهم حق الرفض في تعيين أحقر رجال الشرطة كما كان الإمبراطور الروماني المقدس يعترض على تعيين الأساقفة في القرون الوسطى، والإنكليز - فضلا عن ذلك - يؤزرون سرا - كمؤازرة الملك متيزا لرجاله في كفاحهم - جهود مرسليهم الذين حظر عليهم كل عنف في حمل الآخرين على انتحال دينهم، والذين يعلمون السود قواعد الصحة وينشئون المدارس، وما تذرع به الإنكليز من رشد وعناد فقد عاد عليهم منه أجر كبير، والإنكليز يقبضون بذلك على ناصية بلد متم لخطوطهم الجوية والتجارية، والإنكليز في الحرب العالمية (الأولى) قد جمعوا مائتي ألف مقاتل زنجي حاربوا بهم جيرانهم ألمان أفريقية الشرقية، والإنكليز قد وجدوا سوقا جديدة لسلعهم، والإنكليز يبيعون تسعين في المائة من أهم محاصيل أوغندة بمليوني جنيه في الإمبراطورية البريطانية. وقد بلغت الزيادة في ميزانية ذلك البلد السنوية مليون جنيه منذ بضع سنين.
وهنا يسأل: هل استرقوا ملايين الزنوج الثلاثة؟ كلا، وإليك قائمة ما ربحه الزنوج من اكتشاف بلدهم والاستيلاء عليه:
يتعلم السواحلية
9
والإنكليزية وإحدى الحرف مائتا ألف ولد؛ أي ما يعدل عدد الجنود الذين قدمهم الزنوج في أثناء الحرب، ويغدو الكثير منهم سائقين، وينقذ الطبيب الأبيض كثيرا من الفتيان والصبيان من المنون،
10
وتحيا مساحات واسعة من الآجام، ويمنع دخولها، ويسلك ذباب تسي تسي
11
سبيل الزوال فيزول معه مرض النوم ويقل الموت، وإذا أراد الزنجي ترك القرية التي هي مسقط رأسه طلبا للرزق حملته باخرة الأبيض بأجرة زهيدة إلى الطرف الآخر من بحيرة كيوغا ثم عاد الزنجي مع قليل مال، ويندر أن تستولي جماعات الفيول على الحقول فتأكل غلالها في ساعة أو ساعتين، وتنظم الحكومة أمور صيدها وتنقيص عددها وترقبها وتكافح غزوها.
وتصفى حياة الزنوج وعملهم، فتصنع أكواخهم من الصلصال بدلا من الليف، وتعرض فرشهم، وتنمو الفواكه كما في كل وقت، ولكن السود فيما مضى كانوا يكسرون قطعة من قصب السكر في أثناء مرورهم ويبزمون
12
عليها ويمصون عصارتها ويرمونها، واليوم يقطع السود قصب السكر في الحقول المزروعة بانتظام ويأتون به إلى مقطورات صغيرة تحت سقف معمل السكر المصنوع من الحديد المصفح المتموج، وينشئ لهم صاحب هذا المعمل حجيرات قريبة منه إغراء لهم على العود في الغد أو بعد الغد، وكان السود يدخنون تبغا بريا فيما سلف، والآن يزرعونه وفق الأصول، فيشترون بثمنه سغاير أوروبية تسحر الأفئدة، وكان السود يجمعون البن البري الأحمر من فوق الأرض ليحمصوه ويشربوا محلوله بعد نقعه، والآن يجلسون القرفصاء تحت شجره الصغير المغروس على أسطر لجنيه في سلال ثم وضعه في أكياس تحملها عربات نقل بعد الوزن.
وكان أجدادهم يشقون سوق الشجر ذي الزهر الإكليلي الأخضر نيلا لعصارة لزجة، وهم في ذلك كانوا كالكهنود الحمر الذين أبصرهم كريستوف كولنبس يلعبون بكرات كبيرة سود نطاطة فقضى منها العجب، فتعلم الأوغنديون زرعه في الوقت الحاضر على صفوف كما تعلموا تفريضه
13
بمباضع
14
مسنونة جيدا وعلى عمق مقرر واتجاه محدود وفي ساعة معينة، وذلك على أن يرجعوا وقت الفجر حاملين دلاء صغيرة؛ أي حينما تسيل العصارة بغزارة، ويشاهد السود في المصنع المجاور سرعة تجميد هذا اللبن الذي يقطع عصائب أو صفائح ثم ضغطه، فيعجبون بروح البيض المبدعة وبكل شيء جديد يجدونه في بلدهم القديم.
وإذا كان السود ينتفعون منذ زمن طويل بالحديد الخام في صنع سهامهم فإنهم اليوم ينشدون فيجدون معدنا أحسن من ذلك، يجدون معدنا يلمع على نور الشمس، ويظهر البيض، الذين يأمرونهم بالبحث عن الذهب في الجبل، راغبين في الزيادة منه مقدارا فمقدارا ويلقي البيض، أيضا، عين طمع على شجيرة خضراء، ذات ثمر على شكل الكبب، أحضروها من مكان قصي فكثرت بالملايين، وقد هيأ الأبيض للسود أراضي تترجح بين فدان وخمسة أفدنة وأعطاهم بذورا مجانا غير مطالب إياهم بسوى حسن العناية بالنبات مجزلا لهم الثمن عندما تأتي عربة النقل لأخذ المحصول، والنيل يشاهد القطن على ضفافه للمرة الأولى ثم يشاهده فوق السفن، والنيل قد جهل القطن في قرون، وهذه هي فاتحة محتومة يجهل الآن نفعها أو ضرها.
وقد حول ذلك الإنتاج المفيد للبيض نصف مليون من السود إلى عمال؛ أي ثمن سكان البلاد الأصليين الذين يقطن بالمدن منهم تسعون في المائة، ومن رشد الحكومة منع السخرة، ويعمل معظم السود لحساب أنفسهم، غير أن مشاريع البيض جعلت من الرجل الفطري عاملا يكسب اثني عشر شلنا في الشهر، والصناع والسواق وحدهم هم الذين ينال الواحد منهم أربعين شلنا في الشهر، ويكلف بوشل
15
الموز أربعين سنتا،
16
ويكلف بوشل الفول وبوشل البطاطا الحلوة عشرين سنتا فيبقى للعامل أربعة شلنات في آخر الشهر إذا ما عملت المرأة قليلا، ومما يتعذر على العامل أن يكسب أكثر من ذلك ما دام المطاط خاصا بالأبيض وما دام معظم البن وقصب السكر خاصا بالهندي، وما دام ربح القطن يقل مقدارا فمقدارا، وإذا أراد العامل إرسال ولده إلى مدرسة عالية ابتلع ذلك جميع مكسبه تقريبا، ومع ذلك إذا عمل للعامل نساء كثير أمكنه أن يقوم ببعض الأشرية، وذلك كأن يذهب إلى شارع القرية فيجد زنجيا جالسا أمام خياطته فيأخذ له هذا الخياط قياس قميص أو سروال، ثم يجلس القرفصاء على درجة منتظرا إياهما، وكأن يشتري قلنسوة أو فانوس جيب، وكأن يشرب قدحا من راح الويسكي متغفلا الشرطي.
ولكنه يقتطف القطن في ساعات ثمان تحت وهج الشمس، ولكن زوجه تظل ساعات عشرا بجانب محلجها
17
وهي تبلع النقع
18
فلا يكون هنالك وقت للصيد الذي دخل في ذمة الماضي، وإذا أراد العامل أن ينام مخمورا متأخرا نبه أو عوقب، ومما لا ريب فيه أنه حر، ولكن أين الدور الذي كان يبذر فيه شهرا ويغتذي فيه من الغلة خمسة أشهر؟ والآن يبصر العالم حافلا بأشياء كثيرة، والآن يبصر أنه ينحط إذا ما اقتصر على قطع قطف موز وقت الصباح، ويزول غفول آبائه الذي كان لا يقطعه غير الحرب، ويذكر القس النصراني له وجود آلهة، وكان جده يقول له إن الآلهة وجدت في كل وقت كالقهوة، ولكن كل أمر أحسن ترتيبا في الوقت الحاضر، وبناته، بالعكس، يصنعن كل ما يردن، ويحظر بيعهن لمنافاة هذا للأدب، ولا يعدن بضاعة غضة مريئة يجب رقوبها، وتحتشد الأسرة في كوخ واحد لفرض الأبيض ضرائب على الأكواخ بدلا من ضريبة الرءوس القديمة، ولا يعرف أحد من هو ضجيعه.
والأبيض قد أيقظ الأسود، وصوابا ما صنع، ومن المحتمل أن يكون قد أفاق بأسرع مما كان ينتظر، ويمثل حفيد الراعي الذي لم يدر ما الكتاب ولا الخط، دور هوراسيو
19
في عرض مدرسي بكمبالا فتصفق له الإنكليزيات في القاعة، وما الذي يمنعه من مطالعة الصحف؟ هو قد تعلم المواقع من دروس الجغرافية فيمكنه أن يدل عليها، هو يفكر في أمرها فيوضح لأبيه الجالس أمام كوخه مساء سبب ما يساور البيض من ضجر منذ زمن؛ وسبب نقص الغرس وقلة الأجر، وسبب ما يصيب البن من العفن على الأرض، وسبب عود شجر المطاط إلى نوع بري، وسبب التفاف النبات المعرش حول المقر،
20
وسبب طغيان الغاب منذ بضع سنين على الأراضي التي استؤصلت آجامها
21
منذ ثلاثين عاما وبدئها بالرجوع إلى سابق عهدها، وهلم جرا.
ذلك ما يفصله الزنجي الشاب لأبيه الشائب، والشاب الزنجي هذا قد تسلم من مكتب البريد كتبا وقرأ صحفا فعلم تضاعف صادرات أوغندة في عشر سنين وتناقص ثمن ما يصدر إلى نصف ما كان عليه، وهل ضجر البيض من ذلك؟ ومما قرأه أيضا أن العامل الأبيض يكسب أربعين جنيها في كل شهر، وأن زميله الأسود الذي يقوم بعمل مماثل تقريبا لا ينال غير أربعين شلنا، والأبيض هو سيد العالم، واحتياجات الأبيض أكثر من احتياجات الأسود لا ريب، ولكن هل لديه منها ما يزيد على ما لدى الأسود عشرين ضعفا؟ وكيف لا يشعر كاتب البريد الأسود بقدره حينما يخدمه الأبيض واقفا في مخزنه فلا يروق الأسود نسيجه فيعرض عنه فيجذب الأبيض إليه نسيجا آخر راجيا أن يقدم على ابتياعه؟ وهذا الأبيض هو الذي يأنف من الجلوس مع الأسود حول مائدة واحدة أو أن يلعب معه لعبة كرة القدم.
وقد يأتي يوم على كاتب البريد ذلك يجرب فيه عن كثب مسدسا علمه أخوه الشرطي كيفية استعماله، ويمكن ذلك الكاتب أن يحسب وجود ألفي أبيض في هذا البلد الواسع مبعثرين بين ثلاثة ملايين ونصف مليون من الزنوج الذين يعرفون كيف يصطادون الفيل والنمر والذين كان آباؤهم أهل قتال، ومن المحتمل أن يضع شعب فطري - له مثل تلك الحيوية ومثل تلك الحضارة الطبيعية التي هي على شيء من النمو - يده ذات يوم على الزراعة التي أدخلها البيض إليه، وأن يسترد أولاده كالأيكة البكر تلك.
الفصل التاسع
في منبع النيل وبالقرب من المساقط يوجد عمود من صوان رمادي يحمل لوحا مكتوبا عليه: وجد سبيك منبع النيل هذا في سنة 1862، وإلى ذلك اللوح تؤدي طريق طويلة من خلال غابة التاريخ البكر.
وما أكثر الأمم التي جدت في رياد هذا النهر! ومن الرواد الخمسة كان سبيك وغرانت
1
وبيكر
2
وستانلي من الإنكليز، وكان أمين
3
من اليهود، ومن بين أولئك الذين تقدم على يدهم تخطيط النيل أشاد اختصاصي بذكر ستين اسما من أربع عشرة أمة، وما أعظم ما بذله هؤلاء من نشاط وما احتملوه من ألم، وما قضوه من أعوام حياة خارقة للعادة وما لاقوه من تعس وصولا إلى قليل سعادة!
ومع ذلك ترى في جميع من خاضوا غمار ذلك الكفاح حنينا إلى تلك المخاطر والأوصاب
4
وإلى الإياب إلى أفريقية على الأقل، ويلوح وجود قدرة ساحرة في هذه القارة، ويظهر وجود قوة مغنطية خفية تجتذب ذوي الإخضال
5
من الرجال، وليس جميع من قصدوا أفريقية من الكارهين لأوروبة، ولا تجد أحدا رجع إلى أوروبة من الكارهين لأفريقية، ومعظم هؤلاء قد فتن بالحرية الفردية التي لم يكن ليجدها في أي بلد غربي، ومن هؤلاء عدد غير قليل سحرته الحرية الجنسية التي لا تذكر إلا نادرا.
جبل رونزوري.
والفرق كبير بين الأجوال التي جعلت من أولئك الرجال رواد النيل، وبين أخلاقهم والعوامل التي دفعتهم، وبين أهدافهم والمجد الذي نالوه، ويتماثلون آلاما وجهودا، وكانت هذه الآلام التي عانوها والجهود التي بذلوها في انفرادهم أكثر صعوبة وأشد قتوما في زمن لا برق ولا لاسلكي فيه مما يعانيه ويبذله رائد في أيامنا، وما لدى أولئك الذين كانوا أقل نجاحا من ميل إلى الكفاح ورغبة في المغامرة فيعدل ما لدى أولئك الخمسة العظام، وإذا ما هجر رجل أسرته وبلده ومهنته وثروته ابتغاء ارتياد مجاهل أفريقية والبحث عن منابع نهر مجهولة فإن كل شيء فيه يسترعي التفاتنا، وإن دواعيه والغاية التي يسعى وراءها وسره وجهره ومزاجه وإدراكه للحياة ووضعه تجاه البيض والسود وتجاه المبشرين والشرقيين وتقاريره التي يكتبها فيما بعد أمور تنم على أخلاقه بما يربو على ما يريد إنشاءه.
وحب السياحة هو الذي حفز هذا، وحب الاطلاع هو الذي حفز ذلك، وآخرون قد دفعوا عن طموح واستياء ورغبة في مشاهدة ما هو مجهول من نبات وحيوان، وبعضهم قد حرك عن كره للناس لا يسكنه سوى الاتصال بالسود؛ وذلك لأنهم قد بدوا جميعا مدافعين عن الزنوج خلا ستانلي الذي كان وحده يفضل مجتمع البيض على مجتمع السود.
وهل يعجب من فقد أولئك الرجال لشعور القياس في أثناء تلك الريادات الطويلة المثيرة حينما يغدون منفردين بلا رقيب ولا اتصال بمسرات أمثالهم وآلامهم فلا يبالون بغير هدف خفي في ناحية من الغابة البكر؟ والعجيب هو محافظتهم على ذلك الشعور، وهم إذ كانوا مضطرين إلى مدح أنفسهم دوما فإنك ترى أحسنهم هم الذين يضيقون ذرعا عندما يكتبون ولو لم يبالغوا في بيان مغامراتهم، ولم يكن الكتاب الموهوبون منهم هم الذين يدبج يراعهم خير اليوميات، ويظل متهكم إنكليزي مثل سبيك فذا في البساطة التي يعبر بها عن مشاعر يحولها الآخرون إلى بطولة.
هم يخطئون الهدف، ويشوه أعمالهم ضرب من الخنزوانية،
6
وما أشد المرارة التي تمازجهم عندما يجادلهم بعد العود علماء في الغرفة حول النتائج التي انتهوا إليها! وهم قد عاشوا سنوات بين الوحوش والحيوانات وهم قد احتملوا خرافات أحقر رئيس لقبيلة، وهم قد استهزئ بهم لتعريض أنفسهم لبؤس كثير في سبيل اكتشاف منبع ومجرى نهر وشكل بحيرة، وهم إذا ما عادوا صدموا بمثل ذلك الجحود، وقد وجد سبيك نفسه أمام أساتذة بينوا له استحالة كون منابع النيل حيث وجدها، وألفت جمعيات لمناهضته. أجل، كرمته صحيفة البانش، ولكن الحكومة لم تنعم عليه بمقام، أو مال، أو بما كان يتطلع إليه من لقب، وكل ما أذن له فيه هو توسيع شعار أسرته بأن يضيف إليه بقر ماء وتمساحا، وهذا وحده هو ما كوفئ به مكتشف منبع النيل!
وبيكر هو أكثر رواد النيل حظوة من قبل الطبيعة والطالع، وهو الوحيد الذي كانت له بنية عملاق استطاع بها أن يطيق جميع المتاعب، وهو ما انفك يذهب إلى الصيد في إنكلترة حتى بعد مجاوزته السبعين من عمره، ويلزم بطل مكافحة الاسترقاق الكبير هذا جانب الصمت مع ذلك عندما عاد النخاسون الذين كان يطاردهم إلى سابق سيرتهم بعد انصرافه.
وما أشد خيبة أمل ستانلي الذي حقق أعظم الفتوح! وهو لما وجد ليفينغستن
7
عد دجالا، ويشك في صحة الرسائل التي أتى بها، ولما غدا اكتشاف الكونغو أمرا لا مراء فيه بكت هذا الصحافي الكبير على قسوته خفضا لمجده فقط، ولم يكن لدى ستانلي الذي هو أكثر الجميع طموحا صفاء سبيك حتى تكون له راحة بال في شعوره بمآثر، وقد مات خائبا غاضبا. وقد أبصر أولئك الرواد ما تم من تصحيح دائم لخرائطهم على يد سياح آخرين، وما فتئت خريطة البحيرات ومنابع النيل تتحول بين سنة 1850 وسنة 1877، وكانت هذه الخريطة تري بعض تلك الأماكن بعيدا من بعض، ثم صارت أصغر مما كانت عليه فتدانت كما يقع بالمرقب
8
الذي يقوم رويدا رويدا.
وأين صيت أولئك الرجال في الوقت الحاضر؟ يعرف كل بلد اسم أبنائه الذين أنجزوا الكثير، ولا شيء غير ذلك تقريبا، وكل خلود حقيقي يمكن الرائد أن يناله هو أن يذكر اسمه في الخرائط ، وهم لم ينالوا ذلك في غير زوايا صغيرة مستورة، لا بحروف من نار على المنابع والبحيرات والأنهار. ومن الرواد من ودوا ضمان أنفسهم من النسيان على مقياس ضيق فأطلقوا أسماءهم الملتنة
9
على أنواع جديدة من الحيوان والنبات، وما كان لأكابر الرواد أن يصنعوا مثل ذلك، فقد اختاروا لذلك أسماء الملوك والملكات وأسماء رؤساء الجمعيات الجغرافية التي أرسلتهم إلى الخارج، وبدا ستانلي وحده ساذجا مختالا فسمى الكونغو حينما اكتشفه بنهر ليفينغستن كما سمى جبال القمر بسلسلة غوردون بنت فلم يلبث الاسمان أن تواريا.
وأطلق الشهم دوك أبروزي،
10
الذي كان أول من تسلق ذرا تلك السلسلة، على هذه الدرا أسماء الرواد الثلاثة العظام الذين اكتشفوا منابع النيل، ولكنك لا ترى هذه الأسماء على الخرائط العامة، ولكن أحدا لا يعرفهم لذلك، وتحمل مدينة في الكونغو اسم ستانلي، ويحمل خليج في بحيرة فيكتورية اسم سبيك، ولا شيء يذكر باسم غرانت أو اسم بيكر، وتمحي بالتدريج ذكرى الملوك الذين تحمل البحيرات أسماءهم، فإذا ما تحدث الطلاينة عن بحيرة ألبرتو قصدوا بهذا الاسم كارلو ألبرتو البيموني؛
11
وذلك لأنك إذا استثنيت إنكلترة وجدت الجمهور يجهل ألبرت جهلا تاما.
ألم يقم أولئك الرواد العظماء بمغامراتهم في سبيل الجمهور والبشرية بأسرها؟ وإذا عدوت العلماء لم تر أحدا يجد معنى لتسمية منبع النيل ومسقطيه الكبيرين باسم الوزير ريبون والأستاذين أوين ومرشيسن.
ويجب أن تقرأ يوميات هؤلاء الرجال لتمثل ما لاقوه، ومقابلته بالحوادث الخفيفة التي تقع في مبارياتنا من خلال الغابة البكر والسهوب حيث يعد عدم إصابة الهدف ونوبة الحمى مسألة حياة وموت، وإذا جسمت هذه العوارض تجسيما لا حد له تجلت لك جهود أولئك وآلامهم، وما أدراك ماذا كان البحث عن منابع نهر في ذلك العرض؟ أتظن أنه كان مقرونا - كما يقع اليوم - بالمال والسلاح والزاد والهدايا وأدوات القياس تبينا لطريق ورسما لها بعد دراسة جميع الكتب الخاصة درسا عميقا؟
كان ذلك يتطلب في كل صباح جمع الرائد لرجاله، وتوزيعه الأثقال بين مائة من الحملة والحيوانات وتأكده من أمر جميع السيور
12
وسهره على جلب الماء ودلالته على الطريق، وتحريكه الزنجي الذي يخيفه أقل الأشياء وإغراءه على السير أو إكراهه عليه. وكان على الرائد أن يظهر رئيسا لمائة رجل بسيط تقوم إطاعته على نظرة الأبيض وحركته، وألا يبدو تعبا مع الحرارة أو الزوبعة أو أذى الحشرات، وأن يعنى بالمرضى، وأن يدفن الموتى، وأن يحتفظ بالقيادة ولو مرض، وأن يمسك الفارين من الحملة ويجازيهم، وأن يفاوض الرؤساء الخبثاء من أجل الدخن
13
ويلطف طمعهم.
وكان عليه أن يرضى بالأسر، وأن يعرف كيف يخلص نفسه، وأن يكافح النهر الزاخر ظهرا، وأن يصارع الأنمار في المعسكر مساء، وكان على الرائد عند عبوره النهر وإضاعته صناديق الرصاص التي تتوقف عليها حياته أن يبعث من الرسل من يبحثون له عن أبيض انتهى إليه صيته، فلعله ينجده، وكان عليه أن يعيش سنوات بلا نساء أو أن يقتصر على زنجيات وأن يظل محروما كل نبأ عن وطنه.
تلك هي أحوال أولئك الرجال الذين كان عليهم أن يكافحوا الإنسان والحيوان والعناصر دوما، أولئك الرجال الذين هوجموا وعدوا من الآلهة في الوقت نفسه، أولئك الرحال الذين جابوا في شهور وسنوات غابا وسهوبا لم يدخلها أحد قلبهم، فكان عليهم أن يبصروا كل شيء، وأن يتداركوا كل شيء باستمرار، فالمنازعات والآلام وسعادة البلاد المتوحشة وخيبة الأمل في العودة إلى الوطن أمور اقتضاها ذلك النهر العجيب الذي ضحوا بحياتهم في سبيل اكتشافه.
الفصل العاشر
يهيمن نجم الصباح ذو النور اللطيف على مرآة بحيرة ألبرت الضاربة إلى صفرة حيث تضيق فتتحول إلى النيل، وتكون الأنهار التي تجري من بحيرة إلى أخرى أكثر إمتاعا في أثناء انقباضها مما في أثناء اتساعها الزاهي الذي يعشي عيون الجمهور، ونيل فيكتورية - ويأتي من المساقط الكبرى - لا يجوب غير طرف قصير من بحيرة ألبرت، وهو يجر بكل ما في الشباب من قوة مياها غزيرة، فيتضاعف نشاطه فيسرع متوجها إلى الشمال.
والنيل في ظل السحر
1
الذي يسبق الفجر يلوح ساكنا، وعلى أمواج النيل الزيتية الساكنة تنعكس سدوف
2
سيفه،
3
وفي الشرق وباتجاه المساقط تبصر جدارا ورديا لطيفا ينتصب عند الأفق، وتبصر بعض السحب الخفيفة الذهبية تصعد في السماء الخضراء الزرقاء، ويشعر بصمت وبانتظار راب
4
وبارتجاف تلك الساعة الصباحية كما يشعر به عند وصول رجل عظيم، وذلك حين يرى في الغرب نحو الكونغو وميض رمادي دري ساتر للسماء حتى سمت الرأس،
5
وإن الأمر لكذلك إذ يرتفع في بضع ثوان وبسرعة الضياء الاستوائي ونحو الشرق لهب ضارب إلى حمرة، ويتحول إلى لون أرجواني من فوره فيظهر جدول نار خلف خطوط سنط متوترة.
ويضع النور حدا للصمت، وفي الشرق تصوت بضع إوزات وتطير من كثيب إلى طرف البحيرة، وتظل البلاشين البيض ساكنة على الشورى،
6
ويبدأ بلشون أسمر قضى الليل على ساق واحدة بالانتقال هنالك، ويعطف عنقه ويقدم منقاره الحاد وينشر جناحيه ويطير على مستوى الماء، ولا يلبث كل شيء أن يتحرك، وتهز بعض الرءوس السود قرونها المكورة جانبيا على حين تستبر الأفق عين متحرزة وترتج خصل شعر إلى الخلف، فتلك هي جماعة جواميس ذات جباه عريضة مخملية متوعدة.
وبالقرب من هنالك، وفي طرف الغاب تبصر الكركدن، وهو ثالث عفاريت الأيكة البكر، نصف مستور بأطول الأعشاب، تبصره يبتعد متئدا عن النهر، هو رمادي لامع، هو يعدل الفيل الصغير ضخامة، هو أشد من الفيل وبقر الماء توحشا، هو ذو حركات بطيئة، وله بقرنيه المنحنيين إلى الوراء والمحيطين بفمه ضرب من التاج المخيف كتيجان الغيلان لكوابيس صبانا، والكركدن ذكي نشيط مع ما ينم عليه مظهره كالفيل من بلادة وقلة حيلة، والكركدن يلوح أنه من عالم بائد برأسه شبه المنحرف
7
وبأذنيه العظيمتين كأذني الخنزير وبمنخريه الواسعين وبالحدبة التي على رقبته الضخمة وبقوائمه الحادرة
8
وبعينيه القصيرتي البصر واللتين هما أصغر من عيني الفيل. والكركدن إذا ما انصرف مكردحا
9
على مهل تحت أوراق السنط الغضة لاح ظل جهنمي يحيط بروح غضة نحيلة؛ وذلك لأن هذا الوحش لا يغتذي بغير الأشياء اللطيفة، بغير الأغصان والكلأ وقشر الشجر.
وكلما ارتفعت الشمس عاد سماط الماء غير ساكن، والنيل في حال بحيرة وفي حال نهر كبير جديد يغادر ذلك المنبع الثاني، والنيل شاعرا بقوته يجاوز أكثبة كبيرة تحاول وقفه فيظهر كالرجل الذي يجلو سلاحه استعدادا لقتال جديد، والنيل في الغرب يبصر آجاما واسعة في أراضي الكونغو، والنيل في الشرق يبصر سهوبا صفرا ذات سنط مغروس فيها، ولا ينشب مجرى النيل أن يتوطد فيشتد بعد خمسة عشر كيلومترا في مجرى عريض هادئ سائرا حرا.
والآن يحمل النيل اسما ثانيا؛ أي يحمل في مسافة مائتي كيلومتر اسم نيل ألبرت لدى كثير من الناس؛ أي يحمل اسما يلائم مجراه الهادئ الصالح للملاحة من خلال بلد له منظر الحديقة، والنيل حتى عند مهاجمة البطائح إياه من الجانبين يحافظ على حرية سيره، وتضحي ضفتاه متماثلتين شيئا فشيئا، ويسترهما قصب السهب، وفي البعد ترى سطور خضر تنم على سواعد غارقة في غدران عاطلة من مصاب، وإذا كان النيل يضيق أحيانا فإنه لا يضل أبدا.
ومن ينظر إلى الزرع على طول النهر يظن نفسه حول التيمس، والنهر ضارب إلى زرقة مع أشعة خضر وجزيرات وخلجان، والنهر حين يتسع يتحول إلى بحيرات صغيرة يحيط بها القصب مع زاوية من غابة ظليلة وراءها حيث يكون شكل الأنيس
10
والقاوند والجميز غير غريب، والمادي، وهم رجال يجيئون إلى شاطئ الماء، قوم عراة، ولمعظم هؤلاء حق في ذلك لاتصاف أجسامهم بجمال كلاسي
11
كأجسام فتياتهم، ولهؤلاء الفتيات زي عجيب، فلا وزرات
12
لهن، وهن يربطن طاقة أوراق رطيبة من الوراء ويجددونها كل يوم فتهتز نظيفة كريش نعامة، والفتيان إذا ما أتوا إلى الضفة معهن وضعوا عنهم رماحهم وجلود الحيوان التي يحملونها على ظهورهم وأبعدوا الأعشاب المائية جانبا وبلوا الجبين والفم بحركة دينية ودخلوا الماء واغتسلوا من غير ضوضاء كالبيض في الحمام، واتخذوا وضعا كهنوتيا، ثم خرجوا واسترجعوا جلودهم ورماحهم وانصرفوا.
وتدنو نسوة مع جرار، وتمضي أحر مع سمك، ويركز زنجي تام العري رمحه في زورقه المقعر من ساق شجرة، ويستند راع إلى شجرة تين صامتا، ولكن ماشيته ليست من ذوات القرون الطويلة كما في أوغندة، وما يرى من أكواخ فأكثر هزالا ، وما يبصر من شجر موز فأشد تفرقا، وفي الشمال حيث تقرب الغاب من النهر، وحيث يرتفع التراب بلطف نحو الغرب باتجاه الخط القاسم لمياه الكونغو تبصر مجيء الوعول لترتوي من النيل، وتبصر قطاع الكونغوني السمر تعدو على طول الضفاف.
ويضيق الوادي بغتة، ويبدو الصوان الذي هو أكبر عدو لحياة الأنهار الواسعة الطيبة مجددا، وتتوارى السفن ويتقبض النيل الرضي بفعل الصخور في مضيق يبلغ عرضه سبعين مترا، وينحني النيل فجأة من اتجاهه الشرقي إلى الشمال نحو تسعين درجة بفعل الصخور أيضا، وينقض النيل نحو سلسلة من الدوافع ويتحول إلى سيل كما في طفولته، ويأتيه سيل آخر من الشرق فيعززه ويثيره، وتعلو ضفتاه عمقا كمجرى نهر جبلي، وهو يحمل هذا الاسم؛ أي بحر الجبل، بعد نموله، وهو يظل صاحبا لهذا الاسم مسافة تزيد على سبعمائة كيلومتر، وهو يبقى كذلك حتى الدرجة التاسعة من العرض، والنيل يضغط من جديد في مساقط ذات عرض عشرين مترا، فلا يكون له أكثر من 150 مترا في الشلالات التالية، والنيل في عزلته الصائلة المؤثرة يظهر كأنه رجل يقاتل نفسه فينزل إلى السهل نهرا معربدا.
وقام في نموله جسر طبيعي إعلاما بذلك التحول. وذلك الجسر - الذي لا ترى مثله في مكان آخر على ما يحتمل - مصنوع من النباتات المائية، وهو من الإحكام ما يستطيع معه فيل أن يمر عليه من إحدى الضفتين إلى الأخرى، وقد بلغت جذوره من التأصل ما عاد به من تلقاء نفسه إلى ما كان عليه بعد أن خربه فيضان.
وتلك الامتدادات الجبلية التي يأتي النيل منها هي آخر الجبال التي يراها، وبذلك ينتهي شبابه الهائج الطائش، ويبدأ العقل والاتزان والسهل بتعيين سيره، وينتصب في رجاف، في المكان الذي يصبح النيل فيه صالحا للملاحة، تل مخروطي منعزل صعب وعر كهرم تذكارا لجبل ورمزا إلى أفول فتاء، ويفسر سكان البلاد الأصليون بأسلوبهم الزاهي أمر الزلازل التي تهزه فيقولون: إنه كان على المجرى التحتاني فحملته الريح إلى محله الراهن فهربت البهائم ودفن الآدميون، ويتحرك هؤلاء الناس بين حين وحين رغبة في الخروج وبحثا عن القطاع.
والسودان يبدأ هنا، وما يبدو هنالك - في سفح ذلك الهرم - من بقايا جرز
13
الزبد فيذكر بدرجة هيجان النيل في جريانه حتى هذا الحين، ويحمل النيل غرينا
14
من الجبال فيضعه الآن على الضفاف ويرفع ذلك مستواه، ولكن مع احتمال الخطر وقت المطر ومع احتمال حدوث طوفان وترك غدران، والحق أن ذكرى الماضي العاصف تشتد على النيل الحاضر.
ويصبح النيل صالحا للملاحة من رجاف وجوبا، ويظل النيل كذلك بين الدرجتين 5 و18 من العرض؛ أي نحو ألفي كيلومتر، ويتطلب ذلك ربابنة ماهرين، وقليل ما هم، وعلى الربابنة أن يتبعوا الأضواج
15
من بين البطائح والضحاضح
16
والجزيرات والكثبان، وأن يوجهوا الزوارق المربوطة بالباخرة من كل ناحية وثلاثا من سفن الأوساق
17
التي تتقدمها أو التي تجرها؛ أي أسطولا صغيرا يبدو ضربا من الأطواف
18
العظام، وبعض أهل دنقلة أو بعض نوبيي الشمال من أهل أسوان هم الذين يقدرون على ذلك ليل نهار.
ويمكن الموج الذي وثب صباحا من مساقط عطفة نموله المفاجئة أن يمر مساء أمام هرم رجاف الأول، وهنالك يشاهد الشمس العبوس بدخان السهب المحترق متواريا وراء السحب البنفسجية ليظهر تحتها نارنجيا، ويتناوب السماء والماء نور وكدرة
19
ينظر إليها مصور بندقي بعين الحسد، ويتحول اللون بعد أن يكون أزرق ورديا مشوبا بالأسود إلى أخضر واضح قصديري فإلى بجلي،
20
ثم إلى أسود مخملي، ويحيط بالشمس حلق من دخان أسود كما يحيط بزحل وتلقي آخر شعاع لامع لها، وتسابق الموج، كما في الفجر، فتطير عبر قرصها عصائب من البط البري، وتحول حول النهر الهادئ بلاشين بيض مادة قوائمها وراءها، ويأخذ الإبيس في الطيران غامسا رأسه في السماء ذات الأشعة الصفر الزعفرانية التي تكتسب ظلا ضاربا إلى زرقة رويدا رويدا، ويرجع الإوز إلى وكره صائحا تحت شقرة السماء، ويبدو نجم السماء الأول مع الغبس.
21
ويرتفع النسيم قليلا، ويتموج كلأ الرعاء القصير أكثر من قبل، وتنق الضفادع نقيقا موزونا، ويخور بقر الماء في الظلام أحيانا، ويبرز بدنه الغريب من النهر لحلول وقت القوت، وأخيرا يرخي الليل سدوله وتعم العتمة وتصدر الأوعال عن المناهل ويصل الأسد بلا زئير، ويشرب من ماء النيل ضاربا الهواء بذنبه الطويل.
الفصل الحادي عشر
يعود النهار، والنهار إذا ما عاد جر النهر إلى الصراع الذي بدئ في الليل بين الأرض والماء، ويدخل النيل منطقة المناقع التي تعين مصيره وتقرر مصير البلد بأسره، ويكاد النيل يكون من الدرجة الخامسة إلى الدرجة العاشرة شمالا شريانا أساسيا لغدير أكثر من أن يكون نهرا.
وما كان لأحد أن يعجب لو اضطر النيل إلى إتمام جريه حول الدرجة العاشرة من العرض الشمالي، ولكن النيل لم يكن مجاوزا سوى ثلث مجراه حين مغادرته الغدر،
1
وما فتئ يكون كامل الفتاء، وتلك هي أعظم مغامرة له في مكافحته العناصر، والناس مؤخرا، والناس في قوة مشيب النيل، سيستفيدون منه، وإذا كان السد وليد النبات هنا فإن الناس سيصنعونه من الحجارة.
وللريح ضلع في هذا الصراع بين الماء والأرض، ولا تكون الريح حليفة لهما أبدا، والريح تحرضهما، وهي تغري العداوة بينهما، وتصعب معرفة البادئ حتى في هذه الحال. وهل تسهل الأضواج التحول إلى بطائح؟ وهل تكره الأحوال النهر إلى التجمع أكثر من قبل؟ والذي لا ريب فيه هو أن النيل يترك ضفته الشرقية بضغط من الرياح الموسمية ويضيق من فوره في سلسلة منحنية من الأقماع،
2
ويزول كل انحدار من الناحيتين، ولا تجد الروافد لها منفذا فتتألف منها أحواض وبحيرات، ويتحول النظام النهري الذي وجد حتى الآن إلى عالم مائي غير ملتحم، غير جار تقريبا، متروك إلى الريح متوار في قنوات لا يحصيها عد.
وكما أن الفوضى تنتشر وتشتد بنفسها إذا وجدت دعامة لها ترى اصطراع الماء والأرض يستقر بالجزر الجديدة التي هي مزق تراب، وإذا غاب نهر، كان يقضي حياة منتظمة بين ضفتيه، في قني لا تحصى كان أمره كأمر بحر يلغى كل ما ينظم صلاته بالأرض من قوانين، والمناقع توجد في حمى من العشب والقصب وتكون هذه النباتات سردا
3
يزيد زيادة لا حد لها فيغدو مع الأيام والأعوام متعصيا ، وهذا هو أمر النيل الأعلى منذ قرون، والأيكة البكر البارزة من الماء تبدو حاجزا مانعا لكل قارب مثلما تقف هذه الأيكة أي فارس، ولم يعد أحد ما هلك من الرجال والحيوان في مكافحة البطائح.
ولا ريب في أن مصدر هذه البلبلة هو انبساط النهر الأصلي الذي لا ضفاف له وانبساط رافديه العظيمين: بحر الغزال وبحر الزراف، ويستر الماء جميع هذا البلد في معظم أيام السنة على مساحة نحو ستين ألف كيلومتر مربع، وذلك في مثلث متساوي الأضلاع تقع منغلة في جنوبه وملاكال وملتقى الجور وبحر الغزال في شماله، وما في الخرائط من عدم صحة فيدل دلالة كبيرة على فوضى العناصر في تلك البقعة التي تزيد مساحتها على مساحة سويسرة مرة واحدة ونصف مرة، ولا ينفك الجغرافيون يعدلون من سنة إلى أخرى خطوطهم بين الدرجتين الخامسة والسادسة من العرض الشمالي؛ أي بين لادو وبور.
ويتساءل هؤلاء الجغرافيون تجاه مجاري النهر المتحولة باستمرار عن وجود مصب ثان لبحر العرب، أو عن كونه بحر الحمر الذي يشك فيه كثيرا، أو عن كون بعض الجزائر ثابتة أو متحركة، وهنا الجدل حول أنهار وجزر على طول المئات من الكيلومترات، وبعض القنوات يفتح أحيانا وبعضها يسد بالنبات أحيانا، وبعضها يغيب تماما وينتهي إلى إحدى سواعد النيل، ومن المسافات العظيمة ما يتعذر قطعه، والآن لا يمكن بغير الطائرة التقاط صورة لقناة كبيرة تتغير في عشر سنين.
وإذا هجم الفيضان على التراب الرخو وفصل منه قطعا حاولت هذه القطع أن تستقر بمكان آخر وكافحت الماء وردته عند انهيار الشفير
4
مثلا، وإذا لاقت تلك القطع ترابا صلدا
5
لا يحفره الماء تكون غدير من الأعلى ومن الأسفل كما في الغابة البكر، ويتجمع الطحلب
6
في بعض الحفر، وتستلزم رطوبته تكوين طحلب آخر فتمتزج به أعشاب نابتة في وسط هذه البرك، ويغوص هذا النبات المتكاثف بالتدريج في الأرض ويثبتها فتطرد الماء وتتوارى البركة.
وتسد تلك الكتل النباتية العائمة، وتلك الحواجز أو الأسداد - كما يسميها العرب - المضغوطة بقوة الجريان والمجرورة حتى الممرات الضيقة ، حتى المنعطفات، مجرى النهر وتحمله على الانحناء والانعطاف غير مرة بقنوات جانبية قليلة العمق وتقف المجرى الأصلي، ثم يحيط الطين بالجذور التي تأخذ في النمو والتكاثر نحو كل جهة، والآن أين النهر؟ والآن أين النيل؟
والنيل كالرجل المسحور، موجود هنا وهنالك في آن واحد، ويتشعب ماء البحيرات الكبيرة في بلد جبال القمر ويتشتت في قنوات ملتوية وفي خلجان وبحيرات وبرك وأحواض، ويبلغ من العرض خمسة وعشرين كيلومترا ويتكمش أخدوده فلا يزيد على ستة أمتار، ومن مجاري الماء المستورة بالعشب المشتبك تتألف مسارب بالغة من اللين ما لا يتحرز منه الحيوان، والحيوان كلما كان ثقيلا اغترز بسرعة، وتسفر دقة أفخاذ الأوعال وأبقار الماء عن هلاكها، وعلى ما يتصف به الفيل من حذر بالغ يضل أحيانا فيزل، والنمل وحده هو الذي يجتنب الخطر لارتفاع قراياه
7
ثلاث أقدام فيحفظه ذلك من ارتفاع المياه، والزنجي يرد الطريدة إلى هذه البقاع كما يجتذبها الصائد الشمالي إلى المناقع.
وتذكرنا أخلاط النباتات هذه، وتذكرنا أنواع البسط المتلبدة هذه بحقول الخث
8
الخرافية التي حكى عنها كريستوف كولنبس، أو بجليد الشمالي الذي يتفتت ويتكسر ويتجمع عند حواجز الأنهار حتى تذيبه شمس الربيع، وفي بعض الأحيان تكفي هنا هبة ريح لفك كل شيء، وما أكثر ما هلكت قطاع على مثل هذه القطع، حتى إن بقر الماء يهلك أحيانا جوعا فوق هذه الجزر النباتية الخادعة.
ذلك هو عمل الريح الثورية التي لا تكل، والتي توقد بلا انقطاع نار الحرب بين الأرض والماء، والريح هي من القوة ما تقذف معه من مجرى النهر الأصلي، وذلك في ليلة واحدة، كتل أحد الأحواض العشبية، فإذا حلت الليلة التالية هبت الريح الأخرى، التي هي أخت عدو لتلك الريح، من الجهة المعاكسة ومزقت كل شيء إربا إربا واسترد النيل حريته، وإذا ضغط النيل عائم الجزر وأراد استقرارها دفعتها الريح إلى الخلف، وتزيد سرعة النيل في الجبال عشرة أمثالها في بعض الأحيان، ومن ثم تنشأ فيضانات النيل وروافده، وأمس كان بحر هنا، واليوم تبصر مرجا هنا، ومن المحتمل أن تجد في الغد بحرا من جديد هنا.
ولا تموت كتل النبات تلك، وهذا الحاجز هو مصدر حياة جديدة للنهر، وعندما يكثر البردي في مكان ما من الأعلى ومن الأسفل، وعندما تقف الحمأة
9
والصوالة،
10
المنحلتان المتجمعتان بين الجذور، كل جريان فتقضي عاصفة على هذا الحاجز فجأة، تجر الأنقاض بعنف إلى الحاجز التالي وتقويه، ومما لا يحصى عدد الأسماك والتماسيح وأبقار الماء التي أخذت وخنقت في هذه الأشراك الواسعة، ولدى النبات كما لدى الإنسان تحدث بلية بفعل الفوضى فتفسد الطبقات العميقة على حين تظهر الطبقات العليا وتسير كما تريد، وقد تبلغ هذه الكتل العشبية من الارتفاع خمسة أمتار في بعض المرات، ولهذا الصراع المضني ضد هذه الألوف من صغار الأعداء نتائج خصيبة مع ذلك، فالنهر يثير الأرض فتسقط أجزاؤها اليابسة دوما وتستر مجددا، وما يتم لمجرى النهر من تبديل هنا، في النيل النهري، وهو الذي لا يتفق للأنهار الأخرى إلا في قرون، فيقع بسرعة ومن غير انقطاع.
غابة استوائية.
وكسرت قوى الإنسان تجاه العناصر مدة ألفي سنة، ويبدو الأعداء - الريح والماء والتراب - متفقين سرا على إقصاء الإنسان، ووقفت تلك الحواجز النباتية جميع الغزوات التي جردت منذ عهد نيرون، وحول النيل الذي لا يقهر مجراه في تالي القرون طليقا كما نظم حوضه على مراده.
ولكن الأبيض في زمن أمين باشا هيمن على النيل، فقد وفق النمسوي مارنو لاختراق ذلك السد في ستة أشهر وبمائة عامل، وهذا بعد الأمطار التي غمرت الخرطوم وخربت مصر في سنة 1878، وهذا بعد أن قطعت الأسداد النباتية ذلك الاتصال مدة سنتين، ولم يأت الإنكليز على آخر السد الأصلي إلا في سنة 1900، وكان لا بد من تعاون المدفعيين وبواخر المبشرين، ومن اتحاد القوة والدين الذي هو طليعتها لجعل النيل صالحا للملاحة وللانتصار على عالم الطين والنبات هذا.
ويبحث المهندس الذي يسير نحو منبع النيل بعد الخرطوم عن مكان النهر وعن ضفافه قبل كل شيء؛ وذلك خشية خلط الجزر والشفير، ويريد المهندس حرق كلأ الجزيرات، ويعن له إمكان دوران الريح وإحاطة الخطر بسفينته، ويرى اتخاذ خطة الهجوم بغرز الأوتاد في الأعشاب وربطها بالحبال ووصلها بالسفينة المتجهة نحو منبع النيل، وتسير الآلة رويدا رويدا، وتسرع الآلة مقدارا فمقدارا، ثم تتقدم بجميع قوتها، وتقوم بنصف دورة مقتلعة قطعا من السد كما كانت تقتلع الأسنان فيما مضى، ويظهر النبات أقوى من الأوتاد أحيانا ولو أمسكها ثمانية رجال، وهنا تتجلى المهارة في معرفة شد الحبال وإرخائها.
وإذا كان الجريان المعاكس غير كاف وكانت الجزر قديمة مستعصية أو كانت المناقع عميقة قسمها المهندس إلى مربعات وجز العشب بسيوف قصيرة وقطع الجذور، ويدخل مائة زنجي في الماء حتى الصدور، ويرشحون عرقا وطينا، ويهاجمون النبات بالسكاكين من الأعلى وبالمعاول من الأسفل، ولكن السيل إذا ما اشتد تعلقوا بأقوى سوق للبردي وربطوا القلوس
11
بها، وهنالك تقتلع السفينة تلك المربعات نصف المفصولة، وذلك على حين يحل الرجال أوتادهم بسرعة ويصعدون المركب ويرتمون على ظهره منهوكين.
ويأتي الليل بالأخطار، وفيما يغرق كل في بحر من الراحة؛ إذ ينفصل مربع مرتخ ضد التيار فتسوقه الريح نحو الباخرة ويحصر الحصن بذلك، ومما يحدث أحيانا أن يشعر النيل بقوته بغتة فيقلع قطعا صغيرة من الجزر ويصدم بها الباخرة ويطرحها على الزوارق وراءه وتكسر المراسي وتقصم السلاسل وتعوج العجال ويحاط بسكان
12
السفينة في بلد لا توجد فيه قطعة غيار، وتلتقي في مرات أخر بعض الحواجز فتتألف منها كتلة كما في السياسة، والإنكليز قد طهروا ثمانية كيلومترات في ثلاثة أشهر بخمس بواخر وثمانمائة أسير نوبي مع عدم فحم وعدم اتصال وبين قبائل هائجة وعلى الرغم من الأخطار والبعوض والحمى.
واليوم أيضا لا يمكن البصر بأهواء النهر في أثناء ذلك السير الطويل من غير صلة بضفافه، ومنذ بضع سنوات مضت فصل فيضان مفاجئ مقادير كثيرة من النباتات ذوات الجذور القصيرة من أهوار
13
فدفعها إلى أضواج فحاصر النيل بالقرب من شامبه مدة ثلاثة أسابيع وعلى طول ثمانية كيلومترات، وماذا وجب أن يعمل؟ حفرت قناة طولها مائة كيلومتر لوصل النيل ببحر الزراف وتقليل ضياع الماء في المناقع ، وبلغ النبات من التفريخ ما لم يبق معه غير مجرى عرضه ثمانية أمتار صالح للملاحة. وأما القنوات الأخرى فقد تحولت إلى بطائح في أقل من عشرين سنة.
ولم قامت غابات صغيرة مقام بعض الشجيرات المنعزلة بعد جفاف عام واحد؟ إن بذور الكلأ في الأراضي المجففة، ولكن مع بقاء هذه الأراضي مغطاة بأهوار أو ماء جار على العموم، نمت وبلغ النبات من العظم بسرعة ما جاوزت معه في أدوار الفيضان مستوى الماء فداومت على التنفس والحياة، وهكذا تعارض الملاحة في كل سنة أسرار نمو النبات، بيد أن قوة النهر الحيوية التي لا تفنى تنتصر على الألوف من أعدائها الصغار كما تتغلب على أخطار المناقع، وإذا كان النيل لا يغلب، وإذا كان النيل يجد سلامته في الصحراء، فإنه يترك مع ذلك ماء غزيرا في هذه الإسفنجة فيعين هذا الضياع مستقبله ومستقبل مصر في الوقت نفسه.
الفصل الثاني عشر
منطقة الضحاضح النيلية منعزلة، ولا يدنو الإنسان من النهر إلا في أماكن نادرة حيث تكون الضفة جافة تماما، وهذه المياه الجارية الراكدة لا تزعج بعض جماعات الحيوان وبعض أنواع الحيوان في عاداتهما، وتستمر هذه الجماعات والأنواع على العيش في تلك المياه، فتجد الأسماك والطيور والزحافات مكانها فيها.
وترى في القسم الجنوبي الممتد إلى شامبه مساحات واسعة من الأرض الثابتة مسكونة نسبيا، والنيل - مع جريه القوي بعض القوة - يظل ضمن مجراه الكثير العرض حتى حين الفيض، والنيل تبصره بعد ذلك مرصعا بجزائر رحبة ومنخفضة، ويتحول البلد المجاور إلى سهب، ويغدو النخل نادرا على عجل فيشار إليه في الخرائط المفصلة ثلاث،
1
ويؤلف النيل بجوار بور من ناحية الغرب أضواجا في واد يترجح عرضه بين خمسة كيلومترات وعشرة كيلومترات، ويستغدر المجرى والوادي، وفي الغرب يبتعد بعض التلال عن بعض، وتصبح الجزر أوسع مما كانت عليه، ويكون ظل السنط والدوم
2
ورأس الجميز المغيال
3
آية الأمكنة الجافة، وتلمع البقع الصفر على أكواخ الزنوج بالقرب من الضفاف طورا وفي داخل البلد طورا آخر، وتساق القطاع إلى الماء ، ويصطاد الزنجي سمكا ويخطف ويعلق تحت الشمس لحم بقر الماء المذبوح.
وفي المجرى التحتاني من بور تسيطر الغدر والعزلة التامة حتى بحيرة نو، حتى الكيلومتر 500 من الشمال، وليس الأثر واضحا ولو نظر إليه من عل، ومن الطائرة يرى وجه متموج أحمر آجري
4
محاط بطين أبيض مخطط بأذرع جانبية وببحيرات وغدر ضاربة إلى خضرة، يرى بحر يثيره القصب والبردي إثارة خفيفة. وفي الغرب، وعلى بعد عشرة كيلومترات من النيل، حيث تنخفض الغدران أكثر مما في الشرق، يفصل ضرب من السنام
5
هذه المناقع عن مناقع بحر الغزال الآتية من خط المياه القاسم بين حوض النيل وحوض الكونغو، ويئول هذا الخط الجوهري لنصف القارة إلى منحدر مترين من العلو.
وتلك الأرض النفطية المسمدة برماد حرائق السهب السنوية وبالنثارات الفحمية هي بلد الكلأ.
والصدارة للبردي، وقد أنعم ليفه على الفراعنة بالخلود، وتمر ستة آلاف سنة ولا يزال البردي يقاوم كمقاومة صخور الغرانيت التي نقشوا عليها مآثرهم ومساوئهم، وكان يسمع حفيف سوق تلك الشجيرات التي يمر من ظلها فراعنة مصر فيما يجدفه العبيد من قواربهم الحربية، وكان عبيد آخرون يقطعون لب ذلك النبات في عصائب يشبكونها ويشدونها ويصقلونها ليجعلوا منها أوراقا ليفية. ومن العبيد جماعة عالية تسجل في تلك اللفائف مجد الفراعنة، ومن العبيد طبقة رابعة تنقل تلك اللفائف إلى بيوت الأموات التي أسفر فضول البيض عن نبشها، ثم حلها بعبقريتهم في نهاية الأمر، وهذا النبات منح - إذن - أولى الأوراق الصابرة التي أراد أقوياء هذا العالم أن يطمئنوا بها إلى جاه أبدي بعد تعب من الملاذ اليومية.
ويبلغ ارتفاع البردي ستة أمتار، ويؤلف البردي غابات صغيرة مدهامة يوجب تموجها الدائم منظرا لطيفا منسجما، وعندما تخرج الأشطاء
6
الخضر اللامعة على طرف الماء وتحت قديم النبات متصلة بهذا النبات في ظل الغابة البكر وقت الشفق غير مظهرة رءوسها على شكل سنابل بعد يشعر ببروز حياة نباتية تخرج من تلك الكتل التي ترتج وتدوي وتصوت دوما عند أصغر هبة ريح.
وإذا قيس بالبردي كلأ الفيل ذو السوق الكبيرة كالخيزران وجد عاطلا من الروعة رجوليا مثيرا ناصبا أوراقه المذربة
7
وأزهاره السمر كالمتحدي.
ويكسو الأرض بين مكان ومكان فرو أخضر منير ذو شعور طويلة وظروف معقوفة غير قصيرة، وهو الذي ورد ذكره في التوراة باسم أم الصوف، وهو الذي يسميه الزنوج أم القطن، وينمو هذا النبات في الماء الذي يكون على شيء من العمق حيث تكون الأرض مستوية.
ويسيطر على جميع ما ذكر نبات مائي رابع، ويظهر هذا النبات شجرا صغيرا أكثر من ظهوره كلأ، ويتألف من هذه الشجيرات غيضات حقيقية سريعة النمو تسبق فيضان النيل سرعة، تجاوز مستواه ستة أمتار، تبرز في كل وقت فوق أعلى المياه، ولهذا النبات ثخن عضد الإنسان، وهو يستدق كلما زاد ارتفاعا، وهو ذو خشب إسفنجي ولب ليفي، وهو ذو أشواك خفيفة الانحناء وأوراق مبعثرة كما في المستحية،
8
وتحيط به المعرشات ذات الأزهار الزرق من كل جانب، وهذا هو العنبج الذي ينشئ الزنجي منه طوفه البالغ من الخفة ما يستطيع الرجل الواحد معه أن يحمله على كتفه والبالغ من القوة ما يحتمل معه خمسة رجال.
وأضيفوا إلى ذلك عالم نباتات الضحضح العائمة أو الثابتة، والمصقولة أو المفرضة، والمتصل بعضها ببعض بالنيلوفر الأزرق وبالبجلة ولقمة القاضي الصفراء وحي العالم الشمعي الشكل والأشنة المائية فتتحول بها الأحواض إلى مروج والأنهار إلى شرط مخططة بنجوم.
وفي هذا المنظر المستوي استواء نمطيا يستوقفكم صوت العصافير وغيرها من الحيوانات أقل من حفيف الكلأ وقضيضه، وفي مدخل المناقع بالمجرى التحتاني من منغلا تبصر جزيرة يسكنها زوجان من الأفيال منذ خمس عشرة سنة ليسا من الشجاعة ما يعبران معه النهر في هذا المكان على ضيقه، ولذينك الزوجين صغيران، وقد التهما وداسا كل شيء، وهما يشاهدان البواخر التي تمر من هنالك مرة واحدة في كل أسبوع، فكأنهما أسيران متطوعان في حديقة حيوانات فريدة في الدنيا.
وكلما أوغلت في المجرى التحتاني لم تر في منطقة الضحاضح غير أنواع قليلة من المخلوقات، ولكن مع طبائع غريبة.
فهنالك النمل الأبيض الذي تسوغ أعماله تلقيبه بالمقدر كما في اللاتينية ، فهو يقرض كل ما يجد، وهو يكدره قبل أن يمسه كما يصنع بعض محترفي السياسة، وهو يحفر دهاليز تحت ما يود هلاكه نفعا له أو يستره بالتراب، والرزم فريسته فضلا عن الشجر والسلال والصناديق، وتحفظ بقاياه في تلال يبلغ ارتفاعها أربعة أمتار أحيانا فلا تنسف إلا بالمتفجرات، ولا يقضى على هذا النظام إلا بقتل ملكته، فإذا ماتت تفرق شمل تلك الأرض
9
تفرقا تاما.
ومع ذلك ترى لتلك الحيوانات عدوا أقل منها ذكاء وأعظم منها مكرا، والعدو هم الزنوج الذين يقيمون الولائم أكلا لها، والزنوج يعرفون أن الأرض تخرج من قراياها عند المطر، فيطبلون بلطف فوق التل، فتظن هذه الحشرات سماعها نزول المطر وتخرج ويلتقطون الألوف منها، وينتهي الأمل في حال إلى قدر أسرة زنجية تتذوق الحساء.
ويعيش دبيب الحوت في الثقوب على ضفاف النهر، وهو إذا ما حفر له ممرا في الطين انقض على الإنسان والحيوان وفح
10
كالثعبان، ولا يعرف العلماء ولا الزنوج هل هذا من الأسماك أو من الحشرات، وعلى أنوف الأرض الجافة تبصر الضبان الضخمة تدفئ تحت الشمس وتبصر الأفاعي تلقي الرعب في الإنسان والقرد، وإن كانت ضحاياها أقل عددا من ضحايا التماسيح التي يبارك البلد لها.
والتمساح - كعضو في ناد محافظ - يقضي معظم حياته ناعسا في الحر على شفير ناتئ، ويكون التمساح جبانا في البر مرهوبا في الماء مستعدا في كل حين للزلوج
11
فيه، وتفتح التماسيح فكيها، ويظل رأسها الحاد دقائق طويلة مستندا إلى الأرض، وتبدو عيونها نصف مستورة بأجفانها الثقيلة، ويستلقي بعضها بجانب بعض كما لو كانت جلاميد.
وإذا ما ابتعد التمساح عن شاطئ النيل مصادفة وطورد اتجه إلى النيل على خط مستقيم بأسرع من تطارق
12
الإبل وتهيأ للدفاع، والتمساح أشد حذرا من الحشرات الأخرى؛ لأنه أدق سمعا منها، وفي هذا سر طول عمره ما يحتمل، ومن فضل الخالق عليه امتداد أجله ونموه بما يتفق له من الزمن على مهل لا يتصوره خيال، فبينما يبلغ الإنسان ثلاثة أضعاف قامته فقط بعد ولادته يكون طول التمساح عند ميلاده ثلاثين سنتيمترا ثم يبلغ ثلاثة أمتار طولا، ويحقد الزنجي، حتى الكلب، على التمساح أشد الحقد، ولا عجب، فالتمساح عدو جميع الحيوانات وجميع الناس، والتمساح يصطاد ويذبح الجمال والحمير، والبلاشين أيضا، وغيلان ما قبل الطوفان الثلاثة وحدها هي التي لا تخاف التمساح، ولكنها لا تؤذيه لأنها تأكل الأعشاب، والتمساح لما لا يشعر به من النخز والنهش،
13
ومن الجمر، تجده لا يجرح ولا يفنى.
وادي بحر الجبل.
وأبو مركوب طير نفور أيضا، وهو أكثر الطيور غرابة، وهو يسكن تلك المستنقعات ويسكن منابع النيل، وهو رمادي فضي مع انعكاسات خضر وبيض، وهو ينصب رأسه ذا المنقار الزائد على الحد فوق عنقه المعطوف ويقف على رجل واحدة كجميع طيور الغدران، ولهذا الطائر الكئيب الشكس - المعتزل دوما - حركات مفاجئة، ويلوي هذا الطائر رأسه 360 درجة وينشر جناحيه الثقيلين ويفتح ذلك الجيب الواسع كغدة في العنق فيصلح له منقارا، ويألف في كل وقت حياة المناقع المتعوقة التي تنعشها نفحات الريح.
وفي أثناء هذا الصمت تبصر اهتزازا، تبصر تشنجا مستمرا، وتلك هي أصوات مخنوقة توحي برائحة البلد، ويهيمن على طنين الهوام التي هي سيدة تلك البقعة، وعلى حفيف العشب، صحل
14
باشق كبير فوق البردي أو غقغقة صقر، ومن هذه الغابة ذات السوق الخضر يتصاعد نافذا مرهقا ما ينبعث من الجذور والأسماك الفاسدة.
وتهب ريح الجنوب مساء وتنتشر حرائق السهب حتى السد وتنير الأفق، وتغيب الشمس الحمراء الكدرة تحت السماء الوزينة،
15
وتتحرك الطيور المائية وترتاد المستنقعات، ويهبط القاوند والقاق، وتثب أسماك كبيرة فضية خارج سماط البحيرة الأرجواني، وتطير جماعات الإوز نحو الشمال، ويتضح خوار بقر الماء، ويستعد بقر الماء هذا للبحث عن مرعاه في الأرضين، وترى عشرات الألوف من الدود اللامعة تضيء أيكة البردي.
وعلى نور الشفق البنفسجي، وفي الغدير، يتساوق الليل والضفادع رويدا رويدا، ويتحول حفيف أوراق البردي المتجعدة إلى جرس
16
سري يضفو عليه إيقاع
17
هوام الليل ويذكر بصوت الجن، ويبدو البعوض ضبابا كثيفا على آخر ضياء لأول الليل المرسل سدوله
18
ضارب إلى صفرة ، وتمر الوطاوط، وترى الخطاطيف المتأخرة وهي تزقزق بقلق باحثة عن مأوى لها في الليل، وتظل البلاشين ساكنة على ضفة النهر الوعرة، وأين تنام الجوارح؟
19
أفتجثم على الأشجار اليابسة في المستنقع الواسع؟ أفيجب أن تعود إلى الجبال البعيدة؟
والآن تنعكس أشعة الهلال على ماء النهر الهادئ، وتجري النجوم هنالك في الأعلى وفوق البردي المتحرك وفوق لهب السهب الأفريقي الأمغر.
الفصل الثالث عشر
يقف أولئك الناس كالطيور، ويكيف أولئك الناس أنفسهم منذ قرون وفق مقتضيات المحيط كطيور الغدير، وأولئك الناس كاللقالق
1
صغار الرءوس نحاف الأعضاء طويلو الأفخاذ فيظلون عدة ساعات وقوفا في البطائح منفردين واضعين فخذا على ركبة الفخذ الأخرى.
ومن هو الزنجي؟ أو يمكن أن يسأل: من هو الرجل الأبيض؟ تجد لأخلاق الشعوب والعروق السود من الأشكال والأنواع كما لجلودهم التي تترجح ألوانها بين القطراني ولون القهوة مع اللبن، ويلوح - مع ذلك - أنه يمكن أن يعين الفارق بين السود والبيض على ضفاف النيل، والزنجي الوثني في النيل الأعلى هو الذي يصلح لهذا البحث، والزنجي الوثني على ما كان من اتصاله بالسياح والفاتحين من البيض حافظ على توحش لم يحافظ عليه، بالقرب من خط الاستواء، زنجي أوغندة المتمدن منذ قرون، ويوجد حول النيل وروافده، وبين الدرجة الثانية والدرجة الثانية عشرة من العرض، وفي بلد تزيد مساحته على مساحة فرنسة، شعب مؤلف من ملايين كثيرة احتفظ ببعض الخطوط الأساسية التي لم تقدر على محوها الملاحة ولا الإدارة ولا التبشير ولا النخاسة أيضا، وتوجد هذه الخطوط بفعل الزمن في العالم بأسره، ولدى جميع زمر الإنسان المتماثلة لونا، كما توجد حروف ورسوم منقوشة في أصل كل حضارة.
وترد القبائل التي نعالج أمرها إلى أرومة زنوج السودان النيلية؛ أي إلى العرق الخلاسي،
2
وتلك القبائل هي اللوري والمادي والباري بين الدرجتين الثانية والسادسة؛ أي بين بحيرة ألبرت وأول المناقع، والدنكا والنوير والشلك في مجرى النهر التحتاني وحول الدرجة الثانية عشرة ونحو كوستي.
ويكشف لنا جميع أولئك الوثنيين - الذين هم أخلاط أملاط
3
متحللون بسطاء مع قليل تأمل وكثير انفعال، عما في الطبيعة الإنسانية من نواح صالحة ونواح طالحة، وتلك هي غابة الروح البكر التي لم يشقها ولم يعزقها
4
حديد الحضارة في غضون القرون، وفي هذه الغابة البكر الخالصة تنمو المشاعر الفطرية تحت الشمس والغيث، وبين السماء والسهب والنهر، وضمن حرارة شديدة كالتي يتطلبها النبات، فتتعاون وتتنازع مثله، وتبدو الغرائز البشرية أعظم وضوحا، وتظهر الأصوات أكثر حياة وبروزا مما لدى البيض الذين اتفق لها عندهم صقل غير قليل، وذلك هو الرجل الفردوسي المندفع الخلي المتصلب السائر عن رغبة ساذجة وعن أثرة والشاعر بقدرته، والذي لا يرد جماحه غير خشية الأرواح ورئيس القبيلة، وهذا إلى ما لا تقصه أساطير البيض من عطف وكرم يوحيان إليه بمحبة القريب.
قال العارف بأحوال أهل النيل أحسن من سواه بيكر: «أجل، إن الزنجي غير صالح، ولكنه ليس من السوء ما يكون به الأبيض في أحوال مماثلة. أجل، إن الشهوات الملازمة للطبيعة البشرية هي التي توجهه، ولكنه عاطل من عيوبنا التي لا تطاق. أجل، إن القوي يسلب الضعيف والقبائل تقتتل، ولكن أترى الأمر غير هذا في أوروبة؟ أجل، يستعبد بعضهم بعضا، ولكن منذ كم عدلنا وعدل الأمريكيون عن امتلاك العبيد؟ أجل، إن الزنوج ناكرو الجميل مثلنا في أوروبة وإن الزنوج غدرة كذبة، ولكن أترى الفضيلة سائدة لأوروبة؟ أجل، إنهم أكفاؤنا بدنا، ولكن لم لا نرفعهم إلى مستوانا ذهنا؟ ولدى الزنجي الصغير ما ليس عند أولادنا من سرعة الفهم، ثم يغدو أرعن بليدا، شأن الفلو
5
الذي لا يروض.»
وكما أن الرجل لا يخسر طهره بالحقيقة، عن عرفان بالجنس الآخر، بل عن علم بالمال، يسفر حب الربح والبخل عن حرمان الزنجي الغني بساطته، والأسود ولوع باللعب منذ أيام الصبا فيلعب بالحصباء
6
على الرمل، ثم يبدو ولوعا بماشيته وكوخه وحريته، ولكن مع بقاء مرحه. والرجل - قويا كان أو غنيا - لا يلعب بالحصى ولا يرقص ولا يضع قرون العفاريت على رأسه، وهو وحيد حذر خبيث محب للانتقام، وهو حريص يخاف القتلة كالطاغية الأبيض، غير أنه لا يعطي القساوسة - ولا الأساتذة الذين يكلفون بإثبات أهدافه القومية - شيئا، ورئيس القبيلة هو كالطاغية في الغالب، فلا يزيد عن العبد ثقافة، وهو على العموم لا يمتاز من هذا بغير فن الكلام.
وكل واحد يود أن يكون رئيسا لمثل الأسباب التي تساور البيض، فإلى الرئيس تقدم الجعة كما يريد، وإليه يقدم بعد الصيد أطيب قطعة من الصدر وجلد نمر، وناب فيل على الخصوص، وهو إذا ما ارتحل أخلي له كوخ أينما حل، وتبدو بلية الغنى حتى في هذه المرحلة التي هي أدنى دركات نزاع الطبقات، والغني أي الملك، عاجز عن التمتع بكل ما يملك، وهو لا ينفك يبذل جهده في خدع الموت بتوريث سلطانه، وهو إذ كان كثير الأزواج عن طمع حملا للعمل وفق فائدته وعن جهل لمذهب ملتوس،
7
وهو إذ كان ذا ولد كثير، تراه يؤدي إلى قتل الأخ لأخيه بين ورثته، والأسر تتذابح والقبائل تتقاتل وصولا إلى مرور بضع مئات من الأنعام
8
من قرية إلى أخرى، ومما ورد في تاريخ النيام نيام الذين هم من أكلة لحوم البشر ذكر رئيس قتل الغنباري ستة إخوة له وذكر رئيس آخر كان له من الحفدة واحد وعشرون بعد المائة.
ووجد أبناء أولئك الملوك وحفدتهم، وصانعو المطر أيضا، صيغة مهذبة لكي يتخلص منهم، وهي أن الملك إذا ما أصيب بصداع أو مغص أعلنوا أنه من سمو المقام ما لا ينبغي أن يمرض معه وقتلوه، وإذا ما دافع الملك عن حياته وحاول أبناء وحفدة له أن يحموه عرض هؤلاء أنفسهم للذبح، وزنوج النيل ألفوا
9
رمزا صالحا للسلم، وهو أن يخدش كل من الأميرين ذراعه، وأن يمتص كل منهما دم الآخر كما كان الألمان يصنعون.
وفي مثل هذه الفوضى التي يلطفها الرق وحده ترى عيش الراعي أسهل من عيش الفلاح الذي لا يدري هل يحصد ما بذر، وهكذا تبصر مناحي البدويين الشيوعية تستحوذ على قوم مزارعين أيضا، ويعد أولئك من بعض الوجوه عبيدا لا مال لهم ولا حقوق، وهم يمثلون دورا كجماعة - مع ذلك - لكون المراعي والصيد أمورا خاصة بالجميع، ومتى ذهب أهل القرية للبحث عن أرض بكر فيما وراء السهب تألف ضرب من القطاع تحت سلطان الملك وخارجا عنه كما في عهد قياصرة روسية.
وأكلة لحم البشر هم الأكثر تمدنا، وهذا الأمر الذي يثير الهواجس فينا هو من تحقيق الرواد في الكونغو ولدى القرايب، وللنيام نيام في الجنوب الغربي من بحر الغزال وجه مدور وعيون كبيرة متباعدة وأهداب متكاثفة وأنوف مستقيمة وأفواه صغيرة وشفاه غليظة. وهؤلاء السود الذين يعدهم جيرانهم من النهماء هم من الصيادين الذين لا يمسون أي حيوان أهلي كان، وهم يرغبون في لحم الحيوانات البرية فيشوي كل واحد منهم حصته على ناره الخاصة كخبير يريد أن يشبع، ويحسب هؤلاء خير حمالي تلك المنطقة، ويصورون بالمغرة
10
أزهارا ونجوما على أجسامهم ويجددون هذا الدهان مرة في كل يومين، ولهم نظام من أقدم النظم، وتراهم كثيري الاكتراث لأوروبة، ويتصفون بوقار طبيعي وبصدق العلاقة ويشتهرون بالقرى.
والملك يستقبل الغريب في بيت أبيه المتوفى ويضع على قدميه حزمة رماح كتحية من الميت ويدعوه إلى مائدته ولا يذبحه أبدا، والنيام نيام يكرمون الأم الولود ويحترمون الموتى، ويفرضون عقوبات شديدة على السارقين ويقطعون بنان
11
الزوجة الزانية، وثلاثا من سلاميات
12
من يغوي بكرا، وطبائع أكلة لحم البشر أولئك دقيقة، فلا يدركون السبب في أنه لا يحق لهم أن يأكلوا رجلا حكم عليه عراف بالموت أو عدوا مقهورا، كما أنهم لا يدركون السبب في أنه لا ينبغي لهم أن يقدموا إلى ضيفهم رجلا بشرية مسلوقة مع توابل وفطاير.
وقال الفرغوم لرائد إنكليزي، والفرغوم أكلة لحوم البشر في أفريقية الغربية: «النانغ في كل موضع، هو فينا وفيك، هو الروح الخفية التي تنتقل بعد الموت إلى حيوان لنا، لا إلى إنسان، نحن لا نذبح بقرة، ولكننا إذا ما أكلنا إنسانا لم يكن هنالك ما نخشاه من أكل نانغنا الخاص.»
ولم نلوم أناسا ذلك مدى ذوقهم وكرامتهم على قسوتهم؟ أفلم يكن أكل عدو أكثر ملاءمة للطبيعة من أكل دجاج أو خنزير مدة سنوات؟ ألا تبقى حية تلك المناظر في أخيلة هؤلاء النصارى الحاقدين الذين تحول العادات الحاضرة وحدها دون افتراسهم من يؤدي تعذيبهم إلى تمتعهم بأعظم اللذات في الزمن الراهن؟
الفصل الرابع عشر
لم تكد عادات زنوج النيل تتغير مع الاتصال بالبيض والأحباش، وبتلك العادات ننفذ في غابة المشاعر البشرية البكر، ومن غير استبعاد لتناقضها باسم الأخلاق نرى هذا التناقض هو من تعذر التفسير كالتناقض في أخلاق الإنسان الأبيض.
وهم إذا ما عزوا إلى عجوز تصرفا سيئا نزعوا المرارة
1
منها عن جهل عادين إياها مقرا للسحر كما كان يصنع أغارقة العصر الأوميري البعيدين من أولئك ألوف الفراسخ والسنين، ولا يذبح أولئك الناس أنعامهم مقدسين لها مع ذلك، وإذا هلكت بقرة لدى الدنكا فطبخت ابتعد صاحبها ولم يشترك في الطعام منها، وإذا تم لهم نصر أفرطوا في الأكل وانهمكوا في السكر، ولكن مع العناية بالأسير، ومن الرجال كثير يتركون لنسائهم كل حرية في عالم الغرام، لا في حقل العمل، وهم لا يضربونهن إلا عند رداءة الطحن، لا بسبب عشاقهن، ولا يحق للرجل من البونغو أن يتزوج أكثر من ثلاث نسوة، وهو إذا ما تزوجهن ظل وفيا لهن، وإذا وضعت بنت ولدا للمادي وجب عليه أن يتزوجها، والمرأة من البانجورو هي - بالعكس - تشتري من يزني بها بجرة جعة، ومن الزنوج قبائل تحكم على الغاوي بغرامة تعدل قيمة المرأة.
وهذه هي عادة لا يوصى البيض بها كثيرا، وهنا تبصر السود أعلى ذوقا من البيض، فبينما ترى نساء الوجهاء من البيض في أوروبة يفعلن ما يردن تبصر الزنوج - حتى ذوات الأخلاق الهينة من قبائلهم - لا ينظرون بعين التسامح إلى من يكن غير وفيات من أزواج الرؤساء وذوي الجاه منهم.
ويحمل الشلك بعد وضع الولد الأول نساءهم على بيان أسماء من كانوا يعاشرونهن، فيلزم كل عاشق بتقديم بقرة إلى الزوج تكفيرا عن خطاياه وحلا جديدا للشرف الجنسي، وإذا كان للمرأة عدة عشاق وكانت جريئة أخذت قبضة من التراب ونثرتها في الهواء وقالت صارخة: «هذا هو عدد من كان منهم.» وهنالك يشتم الزوج أمها معاقبا على سوء تربيتها لها.
ومن الزنوج قبائل قليلة تقتل العجائز لعدهن من السواحر، ومنهم قبائل تبجلهن، ومن ذلك أنه يقام احتفال في آخر الصيد الأكبر فترقص أم الصائد الظافر وحدها عارية بين الجمهور فيهتف الجمهور قائلا: «انظروا إلى الجسم الذي حمل الصياد الأعظم.» ومن الزنوج قبائل تضع أحد الأولاد على المنضاج
2
وتبدأ بشيه، فيتوقف إيقادهم نار الحرب على حياة هذا الولد أو موته، ومع ذلك يحب هؤلاء الناس أولادهم ويجعلون من أنفسهم مهودا
3
لهم، ومن هو الأوروبي الذي يحمل ولده الفتى على كتفه ست عشرة ساعة كما شاهده سائح لدى الدنكا؟
وإذا حدث أيام الجدب أن صانع المطر - وهو شبه رئيس للقبيلة وشبه ساحر - لم يرفع مستوى ماء النيل ذبح لما سبق من افتخاره بسلطانه على العناصر، ونيله حصة كبيرة من الغلال والفراريج، وهم - بالعكس - إذا ما احترموا رجلا أبيض كبيكر رموا في النيل ما وهبه لهم من خرز تسكينا لبقر الماء الذي يمكنه أن يقلب قاربه، وأحب إخوانهم من أهل تنغانيقا ليفينغستن فجففوا جثته بعد موته وملحوها وحملوها تسعة أشهر مجاوزين بقاعا غامرة
4
معتقدين وجوب جلبها إلى الساحل وتسليمها إلى البيض.
ولم يحدثهم ليفينغستن عن المنقد قط، بل كان يحدثهم - فقط - عن الأب القادر الذي يجعل جميع الناس إخوانا، وقد أراهم ساعته وبوصلته بدلا من أن يعلمهم أساطير غريبة، ومن قوله: «لا يؤثر في السود بالبنادق والآلات البخارية، بل يؤثر فيهم بدوام اللطف والإحسان، ويؤثر بذلك في بعضهم وحده مع ذلك.»
ومن النادر أن كان يجازيهم، وما كان يوحي إليهم باحتياجات جديدة، ومن نتائج تحبيبه نفسه إليهم جعلهم نصارى، ولم تكن رسالته التي أملاها فؤاده عليه ضارة كرسالة أناس كثيرين متعطشين إلى الذهب والسلطان عن غير شعور أحيانا، ولم أجمع جميع العارفين بالسود على الارتياب من المبشرين؟ وأولئك أناس يجهلون الكتب والصور، ولا يكادون يحوزون بضعة أفكار دينية انتقلت إليهم من آبائهم، وعلى أولئك أن يؤمنوا بإله البيض رفعا لثمن القطن ولسندات مصانع القطن، وكان ليفينغستن خاليا من التعصب وروح التجارة، فكان يعامل الزنوج كما يعامل الأولاد، وكان ليفينغستن يستند إلى الخرافة بدلا من مكافحتها لما أبصره من كونها مصدر سرورهم كما في كل مكان.
وهل تجد عالما أبيض اكتشف عن القرد أكثر مما اكتشفته القبائل الجنوبية من أهل النيل الأعلى الذين يحكمون بقتل كل إنسان يقتل الشنبنزي
5
لسابق انتسابه إلى الجنس البشري؟ ومن الزنوج قبائل تحترم الأفاعي فتكتفي بطردها من الأكواخ من غير أن تقدم على قتلها، ومن الزنوج قبائل كثيرة لا تقتل الحيوان الحامي لها ولو كان أسدا أو نمرا.
ويعتقد الباري أن كثيرا من الأموات يتحول إلى أنمار، ومن الزنوج أناس لا يطلقون النار على بعض الضباع ليلا معتقدين أنها تكتسب شكلا بشريا في النهار، وتلك القبائل - كمعظم الوحوش - تخشى الأرواح الشريرة التي توجب المرض والموت والعاصفة والجدب، ولكنها لا تعرف الأرواح الطيبة، وليس لتلك القبائل أصنام كما في أفريقية الغربية، ولكنهم ينحتون أحيانا آلهة بيتية لهم من خشب، وهم يسمون السعادة والشقاء لوما وإن شئت فقل القدر الذي يعزى إلى سبب خارجي. فيقولون «لوما أمرضه»، أو يقولون عن الصائد عند عودته صفر اليد: «لم يكن له لوما.»
ويحتاج الهمجي - الذي هو عرضة للعناصر والمرض أكثر منا - إلى ساحر يعزو إليه كل قدرة ويرجع إليه في كل حال. وصانع المطر هو طاغية مدبر أو مرهب لرئيس القبيلة كما يشاء، وهو يهدده بالجوع والجدب والحرب نيلا لجعل أجزل من قبل، وهو يرقص الجمهور، ويقدم إليه جعة، وهو يرأس العروض الرسمية حيث ينضج بالدم بعض الحجارة السحرية، وهو يفتن ببيانه، وهو قد يقول الصدق في حضرة صانعي المطر الآخرين، ومما قاله أحد هؤلاء لبيكر: «ولا يعن لي أن أصنع مطرا قبل أن يعطوني حبوبا ومعزا ودجاجا، وهم قد هددوني بالقتل. والآن لن تنزل قطرة ماء على أوبو، وسأجفف حصادهم وسأسلط الوباء على قطاعهم.» وهكذا يباهي الساحر الزنجي بقدرة لا يؤمن بها، ولكنك تجد بين السود أناسا يمجدونه ولو تخلصوا منه كما تجد شعوبا بيضا يشابهونهم ، فإذا حدث أن المادي حرقوا صانع مطرهم جمعوا ما يسيل من شحمه ليكون علاجا لجروحهم.
والحق أننا لا نزال قريبين من عالم المشاعر لدى هؤلاء الوحوش، ولكن الزنجي إذا لقي أبيض عشي
6
كما لو دخل رواقا باهر الأنوار، مع أن أفريقية تبدو للبيض شمسا تجتذب من يقيم منهم بها زمنا طويلا أكثر من تعطشهم إلى السيطرة. وأفريقية للبيض جنة يلقي جوها المنعش سلوانا في نفوسهم. أجل، إن متاعب أفريقية وأمراضها تقصر آجالهم، ولكن مؤالفة قواها الطبيعية تقوي أرواحهم، حتى إن اعتزال العالم والشاعر، العانيين بالمسائل الخالدة، لضوضاء العالم الأوروبي والعالم الأمريكي وحماقاتها أقل سهولة من اعتزال الرائد أو الصائد أو الغارس في أفريقية الاستوائية، ولا يأتي النفوذ المطهر من الخطر اليومي ومن مكافحة العناصر فقط، بل يأتي أيضا من عيون الزنجي ومن وضوح أوضاعه التي تنم على ما يدور في خلده، ومن فضوله الطفولي ومن وقاره وواقعيته ولاشعوريته.
وشبه السود بالأولاد، والسود على شواطئ النيل أولاد فرحى مرحى تسفر سذاجتهم الكلبية عن قسوة في بعض الأحيان. نعم، يمكن الزنجي أن يقتل خصمه في سورة غضب، ولكنه يجهل الخبث وكل شيء يسود حياة البيض، ولا يحفزه الحقد والحرص والحسد وحب الذهب إلى الإجرام، ورؤساء القبائل وحدهم هم الذين تساورهم هذه المشاعر، فهم كبعض رؤساء البيض يثيرون في نفوس رعاياهم روح الانتقام والحقد ضد القبائل الأخرى فيدفعونهم إلى الحرب والموت.
وكان الأبيض لا يجلب غير الخرز إلى الأسود في مقابل عاجه الذي يسلبه إياه، والأبيض قد نزع منه عمله اليدوي لما أدت إليه العجائب التي أطلع عليها من تقليل غريزة التقليد فيه، ولم يبذل كبير جهد في شحذ نصل ما دام الأبيض يعطيه سكينا رائعا في مقابل قطعة من المطاط؟ وعامل المصريون من بلغوهم من زنوج النيل الأعلى كما عاملت الكنيسة عامة الناس؛ فلم يعلموهم حتى استعمال إطار الفخار، وغابت صناعة مطل
7
النصال وهاجرت إلى المناقع البعيدة المنيعة، ولا يوحي البيض إلى الزنجي بتذوق العمل إلا بإشراكه في ملاذ غير معروفة عنده واجتذابه بذلك إلى مغريات الحضارة، والأبيض - لكي يكسب مالا - يحتاج إلى عمل يدوي رخيص، فتراه يخرج الزنجي من جنة البطالة.
وسهل الرق الذي يعانيه فريق من الناس ذلك العمل، والعمل لا يقوم به النساء وحدهن، بل يقوم به أيضا أسرى الحرب ومن ألم بهم الفقر، ولا تجد بين السود فروقا موغرة لفقدان الملاذ الغالية والثياب الفاخرة والبيوت والأغذية الأنيقة تقريبا ولما لا يبدو به أحد أكثر مما هو عليه خلافا للبيض، وعلى الأبيض يتوقف الربح والخسران، والزنجي - لحرمانه حق الكسل - ينال آلات الخياطة والمصابيح ورحيق الويسكي مقايضة، وهذه هي خاتمة حياته النباتية ونهاية سلامة طويته، وهو يفيق ويسعى ليستقل ويبتغي وجها آخر من الحرية؛ أي حرية ظاهرة كالتي تتمتع بها الأمم المتمدنة، ومن العبث في الساعة الحاضرة أن تجعل دولة أوروبية من الزنجي عبدا، والزنجي يغدو عبدا للحضارة من تلقاء نفسه.
الفصل الخامس عشر
من ينظر إلى أجسامهم يعرف هل هم من الرعاة أو من الفلاحين، والأبيض بجانب الفتى الشلكي يبدو ثقيلا بليدا على الدوام، وارجع البصر إلى الشلكي تجده يذكرك بتمثال باخوس
1
البرونزي بجماله وإغوائه كمراهق إغريقي ومده ساقيه الدقيقتين الطويلتين وسكونه وزهوه وعريه ووضعه جلد حيوان على كتفيه وجلال يديه وشعوره بحسنه، وتظل العروق الجميلة في أفريقية الوسطى كاملة العري كرعيان أوغندة، على حين ترى الزراع الصغار والربعات
2
لابسين ثيابا ولو كانوا من الفقراء.
وما عند الرعاة - الذين لهم رفعة شأن بصبرهم وخلو بالهم - من ظرف طبيعي فقد زاد بعري القبائل النيلية وبفضولهم الذي يتعقبون به حركات البيض، وهم لا يشوهون أنفسهم بقضيب الفم ولا بحلق الأنف، ولا تجد فيهم حتى وشم
3
عشيرتهم، ولخيالهم الطفولي غنى في كون شعرهم على شكل المغفر،
4
ولا بد من انقضاء أشهر على اللاتوكي، واللاتوك هم أجمل عرق على شواطئ النيل على ما يحتمل، حتى يصنع مغفرا طبيعيا من شعره الجعد ومن الخيط والقشر مع إمساك مخدته الضخمة الدنيا بصفائح من نحاس وإدماج صدف وريش نعام فيه، وهو يري أسنانه الجميلة عندما يتأملها أجنبي مبهوتا.
وانظروا إلى رئيس العشيرة الذي يدخن تجدوه متخذا وضعا خاصا، فهو يضع مرفقه الأيمن على متكأ ويقعد الأربعاء،
5
وهو يمسك قصبة غليونه بيده اليسرى ويتنفس طويلا، ثم يسلم الغليون إلى العبد عن خيلاء ويرد الدخان إلى أسنانه رويدا رويدا في نهاية الأمر.
وما لنا بالملوك حاجة، ولنا بالرعاة مظهر لا يوجد في غير أفريقية، وتبصر من الدنكا فتيانا عراة ظرافا كالأوعال التي يلبسون جلودها معلقة على أكتافهم، غيدا
6
كالفهود التي يقتلونها، غير مبدين هنالك حراكا تقريبا، ويقدم الأصغر إلى الأكبر سيغارة لا يعرف مأتاها، ويمد الآخر يده إلى هذا العشب السحري المشتهى كثيرا بسهولة مترهلة كالتي ترى في صور الفراعنة المنقوشة على الجدر، وتبصر في الخلف آخر لابسا جلدا مدبوغا بلون أحمر، كما لو كان مدثرا برداء إغريقي، متوكئا على عصا طولها ثلاثة أمتار منتظرا صامتا، ويوحي وضع هؤلاء الثلاثة بوضع جمع من النبلاء الذين لا يرفعون أيديهم للعمل، بل للصيد إذا ما هددوا أو جاعوا موجهين ضربة رجولية.
وهم إذ كانوا لا يعرفون الحياء يبدون أبدانهم دوما ويباهون بذلك كما يباهي الأبيض بثيابه، بيد أنهم لا يهدفون أبدا إلى أن يكونوا أقل سوادا، ويترجح لونهم بين سواد القطران وسمرة الحديد، وترى منهم من هم بلون الشكلاتة والقهوة وتبغ الهوانة
7
ومن هم صفر الجلود، ومن القبائل عدد قليل يدهن بالرماد أو بالمغرة فلا يحسن الدهن، وهم يميلون إلى الجماجم المستطيلة فيضغط ملوكهم رءوس أولادهم ويحيطونها بالعصائب وصولا إلى هذه الغاية، ومن الأمور الكريهة وشامهم؛
8
أي سمات عشيرتهم أو علامات شجاعتهم التي تذكر بأنداب
9
طلاب الألمان، وتفاخر النساء بأنهن خططن بحديد حام ليكون ذلك آية على لواعج الحب، ولا يحمل الزنوج قلائد من غير أسنان ما ذبحوه من الحيوانات، وهم يسخرون من البيض الذين يشرون منهم هذه القلائد أو قواري
10
رماح.
وهم يفوقون البيض بسالة ووقارا ومهارة في الصيد أيضا، وهم قلما يستعلمون الأسلحة النارية، وعليهم، إذن، أن يكافحوا كفاح حياة وموت ضد الأسد والنمر وضد الحيوانات الثلاثة التي هي من حيوان ما قبل الطوفان، وهنالك لا يزال الصيد، الذي خفض الأبيض منزلته بجعله رياضة بلا خطر، كما كان في أزمنة ما قبل التاريخ، وهم يحفرون قعورا يقع فيها الكركدن، وهم لكي يصموه يرون مهاجمته من الأعلى بالرمح أو من القرب بالسيف، والنار والضوضاء مما يبعد بقر الماء، فيجب لصيده أن يرمى بالكلاليب والنبال، وهم يخافون التمساح ويمقتونه أكثر من مقتهم الضواري لما يوجبه من جذب الحيوانات والآدميين إلى النهر، وهم يتغلبون عليه بالخطاطيف
11
وبمجموعة من الخيوط كما في مصر قديما، ومن الزورق، على العموم، يصيبه الصائد بضربة مميتة؛ أي بضربة سهم في ظهره تعد دليلا على شجاعة لا تقاوم، وهم بعد القنص يتهافتون على العدو الميت تهافت الوحوش، ويقطعون هذا الصيد
12
إربا إربا بأسنانهم كأنهم ينتقمون منه للمرة الأخيرة.
ولا يبدي معظم هذه القبائل كبير حماسة في اصطياد الفيل، ومما يحدث أحيانا أن يوقدوا غابات بأجمعها فتحترق إناث الفيل وصغارها، وإذ إن الفيل لا يهاجم الإنسان أبدا، وإذ إن الأراضي المزروعة في هذا العرض قليلة فلا يستطيع أن يعيث هنا كما يفعل في أوغندة، فإنه لا يقتل عن حقد، ولا عن انتقام، بل عن طمع رئيس في العاج إرضاء لمحبي النفائس من المتمدنين.
ولا مناص لهم من الاستعداد المستمر لمكافحة الضواري، ومن ثم كان إبداؤهم ما عندهم من براعة في صنع السلاح، فاخترعوا سهاما مسننة لأقواسهم البالغة من العلو مترا ونصف متر، ولديهم رماح مذربة، وهم ينتفعون بلبن نوع من اليتوع
13
في سم نبالهم.
والمرأة لدى جميع القبائل هي دون الرجل جمالا وقواما وذكاء، والمرأة عند هؤلاء السود ليست غير آلة للعمل من دون دلال، ولا يبالي كلا الجنسين بالهندام أو بالأناقة، ومع ذلك لا تجد سوى نساء يشوهن شفاههن بمخاصر
14
أو عقاص،
15
ومع ذلك لا يسوغ للأوروبية التي تنزع أهدابها وحاجبيها أن تهزأ بما تزين بها أختها الزنجية من الوشم ومن زرافين
16
الحديد، والحب هنالك أكثر ملاءمة للأخلاق مما عند البيض؛ وذلك لأن الفتاة تختار الرجل؛ لأنه يروقها، لا لأنه غني، واللوري يدعون الفتاة وحدها في خيمة مع الفتى الذي ترغب فيه بعد أن يصبح ثدياها بمقدار جمع كفها، فإذا أضحت الفتاة حاملا حمل الفتى على ابتياعها، والفتاة عند الباري لا تعرف زوجها إلا يوم الزواج، والأم تدخل الكوخ في أثناء مأدبة العرس وتسأل الرجل عن سروره بالمرأة فيبلع ذلك بصراخ ينم على الارتياح.
وحشمة نساء السود أسمى من حشمة نساء البيض اللاتي لا تمنعهن السن من كشف أعناقهن، والفتيات وحدهن هي اللائي يظهرن عاريات على ضفاف النيل الأعلى وعند معظم القبائل، وتلبس المرأة البارية وزرة بعد أن تضع ولدها الأول، وهنالك نسوة أخر يضعن خلفهن ذنبا من خرز أو طاقة من أوراق غضة تغير كل يوم، والعرب يدعون نساء الجور بالمذنبات لوضعهن على سترتهن ذنبا من أهداب الجلد الناعمة، وإذا كانت المرأة عاقرا أمكن طلاقها واسترداد مهرها، ويحق للمرأة في كثير من القبائل أن تترك بعلها عند وجود معايب كبيرة فيه.
وإذ تمثل المرأة رأس مال تتجلى فوائده في عمل يمكن بيع ثمراته فإنها تعدل لدى الزنجي على ضفاف النيل سندا تجاريا عند الأبيض تقريبا، وإذا ما زوج الرجل عشر بنات ولدن من امرأة واحدة نال مائة بقرة يحفظها أولاده الآخرون، ولذا يرحب الباري بالبنت أكثر مما بالابن، والباري يتطيرون
17
من التوائم فيعدونها ذريعة للطلاق.
الفصل السادس عشر
يقطن المراد
1
في المناقع، وهم لا يبعدون من الأقزام أكثر من بعد نيويورك من وشنغتن أو بعد زوريخ من ميلان، وهم يظهرون على ضفة النيل اليسرى بالقرب من بحر الغزال، وينزلون على الضفة اليمنى حتى الدرجة الثانية عشرة، ولكن المستنقع وحده هو الذي يجعل لوجودهم معنى، وكما أن أقزام رونزوري قصروا بعيشهم تحت دوح الأيكة البكر منذ مئات السنين أصبح الدنكا الذين هم سكان تلك البلاد الأولون أطول رجال الأرض بعيشهم كاللقالق في الضحاضح وعلى رءوس الغدران، وبينما ترى أولئك لا يزيدون طولا على متر وثلاثين سنتيمترا يبلغ الدنكي من الطول مترين، ويقدر معدل الطول المتوسط لدى الدنكا بمتر وتسعين سنتيمترا ، وإذا نظرت إلى هذه القامة مع استواء أرجلهم وامتداد أعقابهم
2
وأعناقهم أبصرت درجة تماثل أحوال العيش وتقاربها في الإنسان والحيوان، وقد يرى البحث هنا عن مصدر الأسطورة الأوميرية حول اصطراع الطوال والأقزام.
ويظل الواحد منهم ساعات بأسرها واقفا على إحدى ساقيه اللتين لا حماة
3
فيهما، وذلك مع وضع الساق الأخرى فوق ركبة تلك الساق وعقدها بها، وذلك مع استناد إلى منسأة،
4
ومع عطل من شرك وشبك، ومع بعد من مواشيهم.
وهم أيقاظ غير رقود، وهم يرقبون ماذا يقع بلا حركة ولا بغية ولا فكرة ولا رغبة ولا كبير عاطفة في الظاهر، وهم يرون فوق ذلك السماط المائي الواسع من فراسخ بعيدة، فيبدو تضاد دائم بينهم وبين الأقزام الذين يعيشون كالنمل على منحدرات البراكين حذرين خافين فاعلين مترقبين، وفيما هم يشابهون البلاشين بنحولهم واستواء ظهورهم ودقة قاماتهم واستطالة جماجمهم وانحناء أنوفهم ورقة شفاههم ولطف مفاصلهم يذكرنا الأقزام بالمناجذ.
5
ونحافتهم سبب ظهورهم أكثر طولا، وهي تناسب كسلهم الذي لا يعدله كسل شعب آخر، وهم لكسلهم يفضلون تناول حساء من كلأ على إتعاب أنفسهم بصيد السمك، حتى إن النوير الذين هم أشدهم كسلا لا يدفنون موتاهم، ويحاول البيض مكافحة هذه السجية باسم الأخلاق ظاهرا، وعن احتياج إلى عملهم باطنا، راجين أن يحملهم الذباب الذي يهلك قطاعهم على تعاطي الزراعة. والحق أن الأراضي الخصيبة هنالك هي من الاتساع الكبير ما يمكن تحويلها إلى أراض صالحة للفلاحة «لو انتهى الزنجي إلى تقدير قيمة العمل»، ولكن الحاجة إلى الذراع تقل في العالم بأجمعه، ولكن الدنكا يكونون من أصحاب الحظ إذا ما فروا من تلك التصاريف واستمروا على عيشهم الفردوسي الذي نفر منه إخوانهم حديثا بعد ألوف السنين.
وأكثر الدنكا من الرعاة ومن الذين يعنون بتربية المواشي، فتجد لأفقرهم أربع بقرات وتجد لأغناهم ألف بقرة. ومن القطاع ما يشتمل الواحد منها على ثلاثة آلاف من النعم،
6
والبقر يقدس له، والبقر يعبد، وهذا أفضل من عبادة البيض للعجل الذهبي، ويوصل الحيوان الذي يتقدم القطيع بدعاء في الصباح، وتلك بقرات جميلة سمر نيرة قصيرة القرون ذات حدب كبير، وهي تزين بالأزهار أيام الأعياد، وهي ترش بالماء وقت الحلب حفظا لها من الذباب، وهي تحفظ ليلا بين سياجات شائكة أو بين يتوعات حماية لها من الآساد.
وينام الرجل بجانب فرائه
7
المفضل الذي يفصده بقاريته
8
مرة واحدة في كل شهر، وقد استغل النخاسون هذه العاطفة نحو الحيوان الذي يقايض بالناس، وإذا بحثت عن جميع الحملات وجميع الحروب في ذلك البلد وجدت سرقة الحيوانات سببا لها، والسرقة تملأ أقاصيص الدنكا وأساطيرهم، والدنكا يؤمنون بالبقر المقدس الذي يحفظه غول النيل والذي يرعى ليلا مقرونا بأوتاد عندما يستر الضباب ضفاف النهر.
وإذا كان الموسم جافا وارتم
9
ما على السهب نقلت الماشية من ضفة النيل اليمنى إلى ضفته اليسرى، ويظل النساء والأولاد في هذه الناحية من النهر في أكواخهم الخفيفة، ويعبر الرجال نهر النيل في سوق مجوفة من الشجر جارين وراءهم عجالا
10
مربوطة بحبال، وما يصدر عن هذه العجال من خوار هول فيحمل أماتها على اتباعها سابحة فتلحق الثيران هذه الأمات، وينقل الضأن في زوارق، فترافق الكلاب القطيع عائمة مع ما في هذا من خطر، ويتم انتقال كل أسرة في يومين، وفي تلك الأثناء يقف الساحر على شفير
11
الوادي معزما
12
على التماسيح التي لا تفوتها غنيمة مع ذلك.
وللدنكا بضعة مخيمات مجاورة لإخوانهم النيام نيام على ضفاف بحر الغزال، وهكذا تبصر كلا من النباتيين وأكلة لحم البشر يرقب الآخر ويحتقره؛ وذلك لأن أحد الفريقين لا يغتذي من الدخن واللبن وحدهما، كما أن الفريق الآخر لا يغتذي بلحم الإنسان فقط، فما تحملون من حقد على رجل نصف خصم لكم فأكثر من حقدكم على رجل يخاصمكم أشد الخصام، ويهزأ أحد القبيلين
13
ب «البطين»، ويهزأ القبيل الآخر ب «الرجال القصب»، وذلك للمنسأة التي يحملها الدنكا في كل وقت تقريبا، وإذا ما واجه رجال هذا العرق، الذي هو أسود عروق أفريقية الوسطى مع شراريبهم
14
الكريهة الحمر ومغافرهم وريش قلانسهم
15
وأسنانهم المشذبة بالمنشار، أكلة لحوم البشر الذين هم أكثر تمدنا منهم غدا رأينا في القيم الخلقية من المضحكات.
وإذا كان أكلة لحوم البشر يزدرون الدنكا الذين هم وحوش يعبدون البهائم ويكرهون الصيد ويجهلون آداب السلوك، فإن الدنكا من ناحيتهم يزدرون الجور الذين يجهزونهم بالحديد، والجور يتبعون النيل ومناقع النيل المتقلبة ومناجم الحديد فيعبرون ذلك النهر في الربيع ويعمرون البقاع الغامرة، والجور يركمون فحم الغاب والمعدن الخام المحطم في مواقد ابتدائية، ولدى هؤلاء الحدادين سندان
16
من حجر ومدق حديدي مربع الزوايا عاطل من مقبض وقطعة خشبية مشقوقة على شكل الكلابة
17
فيطرقون بهذه الآلات حديدا متينا، وتصنع نساؤهم قراطل
18
وسلالا كما يصنعن قرعا وقلالا
19
ويقوض مخيم أولئك النور العراة في الغاب إذا ما جمعوا من الحديد ما يكفي لصنع نصال ونبال وخلاخل وأسورة للدنكا.
وهكذا ترى قبائل السود حول النيل يحاولون رفع قيمتهم بتحاسدهم وازدراء بعضهم بعضا كالأوروبيين.
الفصل السابع عشر
وفي أقصى شمال المناقع، ونحو الدرجة العاشرة من العرض، يمتد هور
1
واسع مماثل للأهوار الأخرى، ولكن من غير أن تبصر غايته، وذلك الهور هو بحيرة نو التي هي نقطة انطلاق جديدة للنيل، والنيل بذلك يبلغ الحد الغربي من مجراه في الدرجة الثلاثين من الطول الشرقي التي تبلغ مرة أخرى بالشلال الثالث، وبالقرب من هذه البحيرة وإلى هذه البحيرة نفسها تنتهي الروافد الثلاثة التي تعين نظام مياه النيل، ويرى مسير النهر في هذه البحيرة التي يحدث فيها عطفة مباغتة نحو الشرق حيث يداوم على اتجاهه 120 كيلومترا إلى أن يبلغ ملاكال فيسلك سبيله الطبيعي من الجنوب إلى الشمال. وهكذا يلوح أنه يشتد على مجراه العادي نيلا للسواعد الثلاث التي تهب له حياة جديدة.
ويتغير المنظر رويدا رويدا بتغير اتجاه النيل وسجيته، والآن تغدو الضفاف أكثر وضوحا وأعظم عرضا عن يبس، ويصل النهر إلى اتساع مائة متر أو يزيد، ويكون النهر أقل ازدحاما بالبردي ويتسع شجر السنط مظال، وتتجمع الأكواخ الصغرى المدورة على شكل قرية، وتشرب الماشية الرمادية اللون من النهر وتحافظ عليها كلاب صغيرة، ويدخن الدنكا جامدين بالقرب من النار وينظرون إلى نسائهم اللائي يسرن في الوحل حتى الركب ويملأن جرارهن الزرق من ماء ضارب إلى صفرة، ثم يحملن هذه الجر
2
على رءوسهن بجهد ويرجعن إلى القرية فارهات،
3
وإذا ما وقف الدنكي على ساق واحدة منفردا ظهر كالطيور الخواضة التي يقف بعضها بجانب بعض فوق مستنقع.
ذلك هو منظر المكان الواقع في غرب بحيرة نو الأقصى حتى يلتقي بحر الغزال وبحر الجبل، وعلى ما يعد به بحر الغزال من روافد النيل تراه عملاقا، فيمتد حوضه على الدرجة العاشرة من العرض والدرجة التاسعة من الطول وفيما وراء صحن البحيرات الاستوائية التي يولد النيل منها، وكما في تاريخ البشر يثور الذهن أحيانا ضد المبدأ القائل: إن دافع الإتاوة
4
أقوى من الذي تؤدى إليه، وإذا لم يكن الأقوى غير رافد فإن الذي تكون حيويته أعظم من سواه هو الذي يظل منصورا، ويعاني بحر الغزال مصيرا مؤثرا، ويكابد بحر الغزال مغامرة مسرحية قبل أن يدنو من النيل، وبحر الغزال أكثر ماء وأشد كفاحا من كل نهر في أوروبة، ويحيا بحر الغزال بسواعده الخاصة وحدها حياة نهر كبير، ويبصر بحر الغزال عند انصبابها فيه سباسب
5
ذات أدواح
6
ثم يبصر الأيكة الكثيفة البكر حتى الخط الفاصل بين مياه الكونغو، ثم يبصر في مجراه الأدنى اصطراع الماء والأرض كما هو أمر النيل.
والآن ظهر أمر الأقوى، وعندما يخسر بحر الغزال مجراه واتجاهه وسجيته وتربكه الأسداد النباتية وجزر الكلأ والشعب والجداول يضحي عرضة لفوضى المناقع ويضيع سلطانه، فيترك هنالك ضعفي ما يترك النيل. وبحر الغزال بعد أن يغدو عاطلا من الضفاف ويدخل دورا كبيرا من الانحلال لم يبق له غير مضيق فيلاقيه هذا المضيق الذي قاوم مثل تلك المحن ويقبله مترفقا وينتفع به.
ولبحر الزراف الذي ينصب في النيل بشرق بحيرة نو، وعلى ذلك العرض مغامرته أيضا، وهو يخرج من مناقع واقعة «في مكان ما من مجرى أواي التحتاني» كما يقول الجغرافيون، وكما يحدثون عن لقيط يجدونه، وتوحي أضواجه في بلد الأهوار بالافتراض القائل إنه تكون في مناقع زائلة، وتوحي شباه ضفافه المؤلفة من جذور متراكمة قديمة، وإن شئت فقل شعبه الممتدة إلى كل ناحية كشعب الرية،
7
وذلك عند النظر إليها من الطائرة، بفكرة عن مرض كريه يقضم لحم ذلك البلد.
والسوباط أكثر الثلاثة وقفا للنظر، وهو يصب في النيل حيث يسترد النيل مجراه إلى الشمال قريبا من بحر الزراف التحتاني، والسوباط هو الرافد الأول الذي يحمل إلى النيل غرين الحبشة الذي يتجلى به شأنه القادم، ويمثل السوباط حوضا عظيما، وهو لا يتناول من هضبة البحيرات الكبيرة غير جزء من مياهه، وهو يتلقى بقية مياهه من جبال الحبشة العالية التي تبلغ ذراها الجنوبية الغربية من الروعة الشيء الكثير على رواية العارفين بها، ويسير السوباط على غرار أنها الحبشة الأخرى المتوجهة إلى النيل فيقوم بجولة طويلة في الجبال فلا يجري في السهول غير زمن قليل لملاقاة الأنهار الآتية من البحيرات الكبيرة، ويشق السوباط طريقا لنفسه بحزم في جريه الصائل، ويتغلب السوباط على مغريات حياته المقبلة بقوة شبابه الراهن.
وعلى ما يتفق للسوباط من ابتعاد عن أخطار المناقع أكثر مما يتفق لبحر الغزال تراه يترك هنالك كثيرا من مياهه، وبما أن ضفافه أكثر ارتفاعا من جوارها لا تجزر
8
مياه الفيضان إلى السوباط بعد موسم الأمطار، بل تظل راقدة مدى العام ما لم يجرها الزنوج نيلا للسمك، ويمثل السوباط - مع ذلك - 14 في المائة من مياه النيل في الخرطوم.
وفي ملاكال، وبعد تلك الملتقيات الثلاثة، وحين ينحرف النهر نحو الشمال، يحمل هذا النهر اسمه الرابع، وكان هذا النهر قد دعي نيل فيكتورية ونيل ألبرت بعد اجتماعهما ببحر الجبل، وتبصر النيل الأبيض بعد الآن، وسيجري هذا النهر مستقيما نحو الشمال بلا روافد، وذلك إلى أن يبسط اسمه أغرب التقاء مرة أخرى.
الفصل الثامن عشر
قطعت المنطقة الاستوائية، وانقضت مغامرات الشباب، ويسير نهر متزن كهل إلى مصيره.
ولدى النهر فيما بعد من الوقت ما يذكر فيه مباغتاته من بحيرات ومساقط ودوافع ومخاطر من كل نوع من المناقع وكفاح ضد الأهوار، هو ليس عميقا، هو يبلغ من العمق خمسة أمتار على العموم، ومترين في بعض المرات، فتنشب حتى البواخر المستوية القعر في الرمل أحيانا، وهو في الغالب يكون عريضا كإحدى البحيرات، وهو بانحداره مليمترين في الكيلومتر الواحد يبدو ساكنا غير جار مرارا، ويمتد السهل الواسع الذي يتحرك فيه النيل بلا خطر ولا مانع 1200 كيلومتر بين سفح هضبة البحيرات والخرطوم فيحده من الشرق منحدرات جبال الحبشة، ومن الغرب جبال نوبة وتلال كردفان، وما في ضفتي النهر من تموجات أرضية خفيفة فيحول دون الفيضان ويمنع من نشوء الغدران ويكفي لضبط النهر في مجراه وجعله صالحا للملاحة، وهذه هي النقطة التي انتهت إليها معرفة بعض شعوب الأمم القديمة عن النيل.
والصقع الذي يقيد جميع ذلك هو السهب الذي هو للنيل نذير الصحراء، وآية البقعة تتجلى في السنط ذي الألوان، في السنط الأخضر والفضي والرملي الأصفر والضارب إلى البنفسجي، وترى أمامه نطاقا من الحصائد الذهبية، وترى بالقرب من الضفاف حرفا من العشب الأخضر الأسود وقليلا من البردي وكثيرا من أم الصوف، وترى أمام هذا الحرف وعند الماء وبين مكان ومكان صفا من الطين الأسود، ومما تراه في شهر مارس على الخصوص ظهور السهب مسودا، والسنط وحده هو الذي يبدو منفصلا عن السهل المحترق، ومن عادة القبائل المنتشرة على الضفتين حرق السهب، وهذا مع استثناء القبائل التي تتمتع عند خط الاستواء بوابل يومي، وما في هذه العادة من خطر على شجر السهب تجدها متأصلة، وهي تفسر بعجز المواشي عن قطم أطراف العشب اللذيذة إذا ما ارتفع كثيرا وزاد كثافة.
وليس للسهب سوى ضرب من النعاس الشتوي، فالماء يغمره وقت ارتفاع المياه على عرض خمسة كيلومترات، ويقل المطر في أثناء السنة حتى كوستي، وكلما نزل إلى الشمال توجع السهب من الحر، ويفر الحيوان ويزحل
1
حد الصيد.
وتنتشر على طول النهر مرتفعات صغيرة، ويبلغ السهل من الاستواء مع ذلك ما يكفي معه ارتفاع مترين لتعيين مقر للإدارة، ولا يزيد ميل النيل على اثني عشر مترا في ثمانمائة من الكيلومترات.
وتبدو أشجار جديدة حول الرنك؛ أي حوالي الدرجة الثانية عشرة من العرض الشمالي، واذكر من شجر السهب الباوباب، النبات الثخين القشر، ويزيد عرضه على علوه، وهو بين النبات تجويفا كالخطيب الشعبي بين الدهماء تأثيرا، وينتفع بقشر ثمره الضارب إلى خضرة في إعداد شراب تافه.
وفي هذه البقعة، وفي مستقبل جرية النهر حول تونغة، تبصر ألوف الأكواخ متراصة في صف، وهذه هي مساكن الشلك الذين دحروا منذ نحو مائتي عام إلى الشمال، إلى مناقع بحر الغزال، ثم أسفر فيض السكان في تلك المنطقة الضيقة الخصيبة عن هجرة قاموا بها حتى بحيرة ألبرت في الجنوب منتشرين تحت كل اسم، وهكذا ألقي رعاة النيل البدويون هنا وهنالك بين الجفاف والفيضان في صراع أبدي بين النهر والأطيان.
ويذكرنا ذلك العرق الأصيل بما في القبور الفرعونية من المثال المصري مع الأنف الأقنى المنفصل عن الجبين بأخدود أعمق من أخاديد جميع الزنوج الآخرين ومع الأسنان الجميلة والأرجل الصغيرة والحركات البطيئة كالدنكا، ولكن أولئك القوم يشوهون أنفسهم بدهن أبدانهم وشعورهم بالسناج
2
حتى يصيروا سمرا حمرا ككلابهم السلوقية، وهم من المهرة في صنع أوعيتهم وأكواخهم، وهم ينتفعون بالسنط، الذي يشتمل السودان منه على أحد عشر نوعا كما يروى، انتفاع إخوانهم من سكان خط الاستواء بالطلح، ومن السنط يصنعون زوارق ودواليب ووقودا ودباغا وصمغا وعلفا.
وللمرة الأولى ترى الجمل، الذي هو حيوان السهب والصحراء، يأتي ليشرب على ضفاف النيل، وترى رجلا معه يدنو من النهر فيهيمن عليه بأحسن مما يمكن أن يفعله أكثر الزنوج تفكيرا، وتقوم الأكواخ المكعبة مقام الأكواخ المستديرة، ولم تلبث البيوت المكلسة أن تنعكس على النيل، ويختفي الرجال العراة المطليون، وتغسل نساء لابسات ثيابا ملونة ملابسهن في ماء النيل، وتجوب العذراء شاطئ النهر راكبة حمارا محجبة بخمار
3
أزرق، وتبصر إبراهيم ويعقوب بجانبها، وتسطع خيمة بيضاء تحت وهج الشمس ويخرج منها رجل، ولا يزيد لونه رونقا عن لون آخر من لاقيناهم من الزنوج، ولكن مع لبسه برنسا، وتشاهد بجانبه غلاما يسوق حصانا أدهم ذا سنابك بيض.
وتتوارى أفريقية الحقيقية، أو أفريقية الوحشية، مع انتهاء فتاء النيل، ويلوح فجر بلاد العرب في الأفق، وتظهر نوبية مع كثير زيغان، وتبدو ظافرة بوجودها الألفي فيما تقدم من الحضارات وما تأخر، ويبرز بقر الماء من خلال الأمواج، ولكن على قلة، وهنالك حيث يستقي الحمار والفرس والجمل من النهر، وحيث تنتشر الأشرعة
4
المثلثة تتقدم روح آسية المجاورة إلى النيل.
ويزيد النيل عرضا مقدارا فمقدارا، وتلمع الأشرعة البيض فوقه شيئا فشيئا، وتكدس البراميل والصناديق في المحطات، وتنتظر الباخرة ألوف أكياس القطن، وتخبر عوامة لماعة بقهر النهر، ويظهر جسر من فوره بعد عطفة خفيفة، ويظهر قطار فوق الجسر، وهذا هو أول جسر، وهذا هو أول قطار، وهما يعبران النهر منذ منبعه الذي يبعد ثلاثة آلاف كيلومتر من الجنوب في خط الاستواء، وهنالك منازل من ألواح حديد مغضنة وسقف من حجر وصفارات الشرطة وطقطقة العجل ورائحة الزيت وعرق العامل وحركة تذكرنا بمرافئ البحر المتوسط، وهنالك - في كوستي - ينبئ كل شيء بإمبراطورية استعمارية جديدة، وذلك مع مشاهدتنا عمود المئذنة الأولى الأهيف الرائع بدلا من برج جرس الكنيسة.
وهنا - وفي كوستي وبعد كوستي - يقع فردوس جديد للطيور.
وهنا - في منتصف مجرى النهر - ترى الجنة الثانية للطيور. وأما الجنة الأولى ففي منبعه. وأما الجنة الثالثة ففي مصبه، وهنا يختلط الغرباء من الطيور بأهل البلاد من الطيور أكثر مما في أية جهة أخرى، وذلك لما تجده الطيور المهاجرة من الشمال من مسكن شتوي كبير بين الخرطوم وكوستي، وترى فوق الأرض والماء ما لا يحصى من ذوات الريش الأسود والأبيض، وتستر ذوات الأجنحة الساكنة على مدى البصر الضفاف الخضر والأجرف
5
الصفر وصغرى الجزر وصغير الخلج
6
ومخاوض النهر ومعابره، وتملأ الآذان والعيون بما يصدر عنها من أصوات الاستغاثة وحفيف الأجنحة، ويحول صغار الطير عن كباره الأسماع والأبصار كما تحولهما الفرقة الكثيرة الأفراد بآلاتها ذوات الأوتار عن صوت الصفر.
7
ولا يفد أولئك الضيوف جياعا فارين من الشمال، ولو كان نزوحهم عن برد وجوع لوجدوا الدفء والطعام فيما هو أدنى من هنا، وما كانوا ليغادروا المكان الحار الذي يعيشون فيه، ولم يظل السنونو المصري، الذي يبني وكره في يناير، حيث هو على حين يطير السنونو الشمالي بعيدا وبعيدا حتى خط الاستواء؟ ومن البط بمصر الدنيا أنواع تهاجر حتى بحيرة فيكتورية، حتى خط الاستواء، بالغة في طيرانها ما يعدل سدس استدارة الكرة الأرضية، ومن البجع
8
أنواع، كالصفرد
9
تركض من الشمال، وفي جميع الطريق، على أرجلها ما لم يكرهها البحر على الطيران، وما الذي يدفعها إلى ترك غاب الزين
10
والصنوبر قاصدة شجر السنط والطلح؟ وما هو السبب في هجرة الجميع وعدم رخمه؟
11
إن الراحة مع الطعام هدف أولئك، وإن الحب مع الزواج خاص بالشمال، ويرى أولئك - مع ذلك - أن إخوانهم من طيور البلاد الأصليين يقترنون ويحتضنون ويطعمون صغارهم.
وتثير زيارة هؤلاء الأقارب الأباعد حذرا كبيرا لدى الطيور التي تأتي إليها ألوفا مؤلفة كما يثير تزاور الآدميين فيما بينهم، ولا يختلط الصرد
12
المرتعش ريش رأسه، والعسلي الساطع ريشه كالحلي، والشحرور الذهبي، والخطاف الليلي، بطيور البلد، ولا تهاجم طيور البلد تلك الطيور، ولكن مع ابتعادها عن هؤلاء الدخلاء من أبناء عمها. ومن المحتمل أن يدهش الشاهين من صغر أخيه الصقر النوبي ذي العنق الأحمر. واسمع ما هو أعظم من ذلك، فما في البلد من لقلق ونورس
13
وسنونو فيخلي مكانه مع الحذر لإخوانه الآتين من أوروبة ذاهبا إلى الجنوب، حتى إن ذا العرف من الكراكي لا يسر وقت الخريف بورد الكراكي الرمادية اللون التي تأكل من الحبوب ما لا تسمعه أذن بحجة نسل الريش، حتى إن الفلاح يفضل عليها الباز الذي يسير سيرا معقولا فيغتذي بالجراد.
وهكذا تعيش هذه المليارات من الطيور - التي هي شعوب حقيقية للقامات والقوات - بلا كفاح على مجرى النيل الأوسط وعلى مسافة ضيقة ضيقا نسبيا، وتلك هي حال فردوسية لدى الحيوان، ولدى الزنجي جزئيا، مفقودة لدى الإنسان الأبيض، ويذهب عن بال أنبياء حرب البطولة الذين يدعون طوعا إلى التنازع في سبيل البقاء ضمن الطبيعة أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يحارب جنسه الخاص على مقياس واسع، وهنالك يمكنهم أن يروا ما يسود تلك الأمم المحلية والغازية من اتفاق ومن بقاء اغتذاء بعضها بجانب بعض.
البردي.
والبجع مسل، فهو يصطاد ويأكل ويهضم مشتركا، والناظر يظن أنه يرى سورا أحمر أصفر من حجارة مدقوقة دقا غريبا، وهذه هي أصول بجع شبه نائم شبه جامد ملتوي العنق، ثم يتجلى لك بها حال أساتذة شيب بدن
14
يأخذون في الرحيل متمايلين، فطورا يبدون فلاسفة صامتين، وطورا يبدون مجادلين صاخبين، ويرفع البجع أكفه الكبيرة التي لها لون اللحم فيقترب من مكان يكون عمق الماء فيه قليلا ليدخر كتائب من السمك في حوصلته العظيمة تحت منقاره، شأن الأولاد الذين يجمعون توتا في جيوبهم فيأتون به إلى بيوتهم.
وينتصب الطوال
15
على أرجله وقورا في وسط النهر على رمل الجزيرات الذهبية أو على كلإ الضفاف، وإنه لكذلك إذ يتحرك تبعا لإشارة لم نشعر بها، وهنالك تحدث ضجة فيرتفع كسحاب ذي صوت لطيف، فتتألف خطوط مائلة ميلا خفيفا وتغيب داخل الأرض، ويتسلل خفية فوق رءوس السنط وفوق ذرا القصب اليابسة ويعود كما ذهب ويدور على محاله المفضلة ويهبط، والآن يظهر منتصبا على أرجله مجددا ساكنا كتماثيل من برونز.
وتصل الكراكي الرمادية من الشمال ذات رءوس صغيرة متعاظمة ومناقير قوية فعالة، ويستر ريش أسمر لامع حدبة ظهرها المنسجمة ليصل إلى ذنب أشد اغبرارا، وتنزل باتزان وتكتنفها أجنحتها الواسعة، وتظهر اللقالق بجانب الكراكي حضريين صغارا سودا وبيضا، وهي جليلة في طيرانها وإن لم تكن باهرة الجمال، ويبدو أبو ملعقة منهمكا بالقرب من الماء فيعبث بينه زمار الرمل والمطوق عن مرح، ويطير أسرابا فوق النهر مع انحراف عجيب لا يعدله أبدا، ويقال إنه يأتي من بروسية، وترى على حجارة أمام الكثبان ذعرة رائعة تشرب على جرعات صغيرة فيسبح أمامها إوز النيل ثقيلا غير ظريف كالمربيات الشائبات اللائي يتقدمن الطالبات من الفتيات.
ويستمر الإبيس المقدس على الدور فوق النهر ناشرا جناحيه نشرا ظريفا مادا عنقه مصوبا منقاره الأحجن
16
إلى السماء، وتبصر لدجاج الماء وللبط من كل لون ونوع مخابئ بين الأسل
17
على الضفاف، وتسبح هذه الطيور هادئة بين ذوي الوجاهة من أسرتها، ويطير الخطاف الذي لا يكل فوق الماء والحقول طول النهار مرتفعا بسهولة في السماء الزرقاء الفيروزية حيث الباشق يرتقب ساكنا إلى أن ينقض كالقضيب على فريسته، وتمر صقور صغار كالسهام الفضية فوق طاقات السنط على حين تصعد قرقرة القمر البرية من بين الغياض التي تحيط بها.
ويكردح
18
الشنقاب والنباح - وهما ذوا صوت مسل - على الأكثبة الضيقة حيث لا مكان لكبار الطير، ويخرج الهدهد من دغل
19
ويقف على الأرض ويبسط عرفه الدقيق وينشر ذنبه ويعرض هيفه، ثم يطير لبضع ثوان وقفا للنظر في مكان آخر.
الفصل التاسع عشر
يظهر الإله الجديد من بين الأقواس المغربية ويدنو من النيل، والعابد في طريقه إلى الشرق وقبل عبوره النهر يركع على العشب الأخضر لابسا ثوبا أبيض وعمامة بيضاء، ثم يغسل رجليه في النيل، فيبدو وحيدا أمام هذا المنظر الصحراوي الأصفر والأزرق الذي يميز بوضوح في الهواء الشفاف الصافي، وتخيم زمر من الناس على ضفة النهر العالية. وبين الكثبان والتلال ترعى الوسمة
1
الخضراء قطاع من المعز الأبيض بقيادة بضعة رعاة لابسين جلابيب بيضا، وفي النهر تستقي مئات الإبل من الماء حتى الركب، وتنتظر نوبتها جمال أخرى بحراسة رعيان ركبان خافضة رءوسها غير متعجلة حائرة على النمط الشرقي، وتشرب بجانبها أفراس حرسها من ذلك الماء الأصفر. والماء هو هو على الدوام، وضيوفه هم الذين تغيروا، والخيل والإبل هما آية مجرى النيل الأوسط، وهنا يلوح كل شيء مطمئنا هادئ البال، وفي النهر ترتفع الجزر المستورة بغابات كثيفة كإلهات ساكنة فتزيد ما توحي به الحياة الواسعة المتريثة الشعرية.
ولا يزال الماء يجرف أكداسا من البردي، وتبدو أكداس البردي هذه كجزر عائمة وكآخر شهود على اعتراك المناقع وكأسارى حرب كبيرة يعودون إلى عالم تسوده سلم فلا يستطيعون أن يجدوا لأنفسهم نافذة يلائمونه بها، ولا تقدر تلك الأكداس على معرفة نهر مضطهد كانت عالمة به، أو على تبين نهر يسير الآن جليلا بين حقول الذرة القريبة من أهرام الحب المركوم، والتي يفصل الماء الصافي بين تلمها
2
الأخضر والسهب ذي الرمل الأصفر.
ويظهر كل شيء من شجر ودار وإنسان وحيوان منفصلا بعضه عن بعض في النور الباهر، ويظهر كل شيء بذلك رمزا أو فكرة أو صورة عن جميع الأشجار والمنازل وعن جميع العباد والإبل في عالم الضياء والرمل ذلك، وهنا يسير كل شيء على رسله،
3
والسفن الشراعية وحدها هي التي تسرع بفعل الرياح، ولا مناص للرجل المدير لدفتها من أن يكون شديد اليقظة اجتنابا للضحاضح الكثيرة المتنقلة في النيل، والشاطئ أقل حرارة مما ينتظر، فمن خواص انحدار الماء على شكل سماط أن يرطب ريح بلاد العرب المحرقة.
وفي حياة الأحلام هذه، وفي رواية الناس والطيور هذه، يلوح كل شيء سعيدا خلا خالق هذه الحياة، خلا النيل، والنيل مغموم، والنيل يشعر بأن قوة تقفه، والنيل لا يعرف أية قدرة خفية تقاتله، وكلما امتدت مياه النيل صيفا قدس له أهلوه، فإذا حل فصل الخريف وتقلص النيل ألقى أولئك السكان حبوبهم وحصدوا ما زرعوه بعد ثلاثة أشهر، ويجهل النهر ذلك، وكل ما يعرفه هو أن نظام جريته يقضي عليه بأن يداوم على النزول، وهو - مع ضعف انحداره - يحاول أن يتغلب على القوة التي تقاومه، بيد أنه يتسع بنسبة تقدمه، فيتحول البلد إلى بحر صغير، لا إلى غدير، وتنتصب على بعد جدر وأبراج أعلى وأوسع من جميع ما لاقاه حتى الآن، وهو يدنو من مدينة، وهو ينطلق ليرى أمورا أخرى.
وتزيد المقاومة، وينقص ضغطه الخاص مقدارا فمقدارا، وتعظم الأبراج والصروح،
4
ويزيد عدد الرجال والجمال والأحمال والزبن، ويشعر النيل بهدير لا ينفك يكبر، وهذا هو أشد من كل ما سمعه، وهذا هو صوت نهر يساويه.
ويجاوز النيل جسر ذو سبعة أعمدة مضاعفة مغروزة في مجراه فتهتز هزا خفيفا إذا ما طقطقت عربات القطار فوقه، ولا تزال ترى أمواج قليلة، ثم يهجم على النيل من ناحية اليمين نهر يعدله عرضا ويفوقه صولة، وذلك النهر الهمجي القاتم الباسل المزبد هو الذي كان يقف جريه منذ زمن!
وينطلق النهر الغريب من تحت جسر طويل عال كالذي له، ويضغط النيل الأبيض العريض في مضيق ضيق على ضفته الغربية وينقض على جزيرة دائمة الخضرة ذات حفيف، ثم يقذف الآخر أمام لسانها الغابي
5
بأمواجه الهائلة، وما كانت مياه أحدهما لتمرج
6
في مياه الآخر بعد، فالجري السريع القاتم يهيمن على النيل حينا من الزمن، وما كان ذلك رافدا عاديا ينتهي أمره في مصبه، بل هو قرن
7
يعامل النيل معاملة النظير للنظير عن زهو وغريزة لكي يجوب العالم معه جوبا مشتركا، وهو يأتيه بذكريات جبال شبابه الذي لا يزال خافيا، والذي سيغدو مولدا للحياة عما قليل.
وهكذا يلتقي النيل الأبيض والنيل الأزرق تحت نخيل الخرطوم، وهكذا يوجدان بعناقهما الأخوي مكانا من أروع بقاع الدنيا، ويسفر اتحاد مقاديرهما عن وجود مصير مصر.
الجزء
أوحش الأخوين
ذهاب إلى الصيد.
بيد أن الوادي الوارق
1
لا يقفه، بل يقذف السهل بمجراه الملتوي، وتضم الجداول أمواجها إلى أمواجه، ويعتز بفلاكه
2
الفضية فيدخل السهل، ويعتز السهل به وتحييه أنهار الريف وجداول الجبال فرحة وتهتف قائلة: أخي! أخي! خذ إخوتك معك وأت بهم جميعا أباك الشائب: المحيط الخالد.
غوته
الفصل الأول
الرياح سببه! ومن أين يأتي المطر لولا وجود الرياح الموسمية ولولا وصولها في الوقت المناسب وفي الاتجاه المرتقب؟ والنيل الأزرق وليد المطر والجبل، وما مصدر معجزة هذا النيل الثاني إلا تنازع العناصر والبراكين وما عليها من سحاب مزدحم، ولولا جبال الحبشة الشواهق - ولو لم تكن هذه الشواهق براكين تتحطم عليها الرياح وتصب عليها سيول الماء - ما تكون هذا النهر منسابا كالحية نحو السهل، آخذا من الحواجز الصخرية أجزاء معدنية تؤدي إلى إحياء الصحراء بعد ألف ميل.
وتتحول تلك الأجزاء إلى غرين، والغرين إلى واحة، ومصر - حين تئن من الجدب البعيد المدى في المكان والبعيد الأمد في الزمان - تراها مدينة في كيانها للبراكين والسحب والأمطار والرياح، وإذ إن عمل العناصر ذلك يتجدد بانتظام في غضون القرون وتحت أعين الناس في كل عام فقد أسفر تناسق المد والجزر هذا عن معرفة الشهور ومنازل القمر للمرة الأولى، وعن أول دراسة للشمس والسيارات، وعن أول تنظيم وأول حق، والفلاح - كما في كل بلد آخر - يرقب المطر، وكان رجال الصحراء أولئك ينتظرون واقفين في مجرى النهر ورود الفيضان الحبشي الذي لولاه لهلكوا، ولا يزالون يصنعون ذلك حتى الزمن الراهن.
ومن أين تأتي تلك الرياح؟ يجب أن تتصادم هي ورياح أخرى، وأن تذعن لها جلبا للمطر، والمقاومة وحدها هي التي تجعلها ملائمة. وفي الشتاء تأتي رياح الشمال الشرقي الموسمية بالمطر من آسية إلى البحر الأحمر ما دامت الريح الشمالية تهب، ولكن مع جفافها تقريبا حين بلوغها الهضاب العالية في الحبشة، وفي الربيع، حينما تهب الريح الجنوبية الغربية من جنوب الأطلنطي وفوق أفريقية، تضيف إلى ندوة البحر جميع رطوبة الغابة البكر في خط الاستواء، وهكذا تجوب السودان مثقلة حتى تلطم الجبال التي تنتصب أمامها وتفرغ ما يحمله البخار من ماء منقول في ألوف الكيلومترات عند مس تلك الجدر الوعرة، ويقول الفلاح الحبشي: إن المطر يأتي عندما تهب الريح من تلقاء الصحراء، ومثل هذا ما يقوله مهندسو دلتا النيل الذين يستندون في حساباتهم إلى تلك الرياح.
وهكذا تؤدي رياح أفريقية إلى وجود النهر الأفريقي في المكان الذي ينعم فيه على التراب بالإخصاب، ولا تتخلى هذه الرياح في غير الخريف عن موضعها لأخواتها العدوات؛ أي لرياح الشمال الجافة المرسلة من الهند، وتؤثر كل من الرياح والجبال في الأخرى، ويوجب ارتفاع هذه الجبال ووعورها امتداد فصل الأمطار وإن ساعدت الرياح على شكل ذرا الجبال الغريب، ويقلب المطر المواسم رأسا على عقب حين ينظمها؛ أي إنه يتفق للهضاب الوسطى العالية، التي يترجح ارتفاعها بين ألفي متر وثلاثة آلاف متر، شتاء كز
1
من غير أن يكون باردا أبدا، وذلك لعدم ميل أشعة الشمس كثيرا في الدرجة الثانية عشرة من العرض، ولأن المطر يلطف حرارة الصيف من ناحية أخرى فتتوازن أحوال الجو التي لا يزيد اختلافها على سبع درجات في السنة.
ويفرح الفلاح المصري بنتائج ذلك المطر في شهر أكتوبر، ويفرح بها الفلاح الحبشي قبل ذلك بقليل وقت، ويكتسب ذلك المطر شكلا هائلا للحبشي مع ذلك، فتسفر الأعاصير التي يكثر وقوعها هنالك بأشد مما في أي مكان آخر، ويسفر المطر الجارف والبرد اللذان يأتيان ويتواريان بغتة ككل شيء في ذلك البلد العجيب، عن هلاك كثير من الإنسان والحيوان والمساكن، وتقتل الصواعق مئات من الآدميين في كل عام، وبلغ ما ثار من العواصف في سنة واحدة أربعمائة، ولما يمض زمن طويل على أمر النجاشي بإقامة الصلوات العامة بسبب كثرة الأشخاص الذين قضت عليهم الصواعق.
ويصل المطر في الوقت المعين دوما، وتسبق المطر همرات
2
خفيفة، ويبلغ المطر أقصى قوته في وسط شهر يونيو كما تدل عليه سجلات المصريين منذ ألوف السنين، ولكن مع كبير اختلاف بين مقادير ما ينزل منه في كل سنة.
والجبال - وهي عنصر التذكير في هذا الاقتران - تقف رواسخ، ومن المحتمل أنها لم تتغير في ملايين السنين القليلة الأخيرة، والبحر والغابة البكر، وهما عنصرا التأنيث في هذا الاقتران، وهما أقل ما يعرف عنه الإنسان في الكرة الأرضية، يحملان الرياح كثير رطوبة أو قليل ندوة، وما أكثر الشعوب المصرية، وما أكثر أجيال المصريين، التي درست هذه المسألة الحيوية من غير أن يمكن البصر بمقدار ارتفاع الفيضان في العام القادم، وكان أحد الفيضانات ضعفي ما للآخر في أربع سنوات متوالية؛ أي بين سنة 1904 وسنة 1908.
والنيل الفائض في مسقط رأسه ليس منقذا كالنيل الفائض في مصر، والنيل والمطر في الحبشة إلهان هائجان، ويخرج من منطقة بحيرة طانة، حيث ينال النيل منبعا له، رافدان مهمان من روافده كما يخرج منها عدد من سواعده الصغيرة. والعطبرة وحدها هي التي تجري نحو الشمال، وتظل جميع المجاري النهرية تلك جافة بعض الجفاف في فصل الشتاء، وتكون الروافد رملية في الغالب، وتكون العطبرة مرملة على الدوام، وتفرض البداوة على شعوب ذلك البلد إذن، وتقضي هذه الشعوب أشهر الجفاف التسعة بالقرب من الأمكنة المشتملة على ماء قليل والتي يمكن الإنسان والحيوان أن يعيشا فيها، وتكثر إحاطة الآجام بالأنهار والضفاف المغمورة الدنيا، ويجري النيل الأزرق والعطبرة في مضايق عميقة، وهما لا يفيضان تقريبا، وهما ينفصلان عن السهب أو الصحراء بطرائد
3
ضيقة، وينبت السنط على شفير
4
الجداول الأقل مياها كما تنبت النخل، وما تحت الأرض من مياه في أفريقية فمدين في الغالب للأنهار بوجوده، وتمد هذه المياه كثيرا من الآبار.
ويفضل أهل البدو من العرب أن ينصبوا خيامهم في العدوات
5
المرتفعة، ولا سيما القريبة من المجاري حيث تكون الينابيع أكثر مما في الصحراء التي يأتون منها، وهم يحلون مع نسائهم وأولادهم وجمالهم ومعزهم، وهم يقتطفون ثمر الدوم
6
ويستخرجون منه طحينا علكا يخلطونه باللبن ويصنعون منه أقراصا، وهم يختبطون سنوف
7
السنط فيكون لأنعامهم بها طعام زيتي على حين يكتفي الجمل بالفروع الشائكة اليابسة، وهم يرتقون - أخيرا - خيامهم المصنوعة من أوراق النخل، وهم ينتفعون بليف النخيل في صنع حصرهم وحبالهم، ولهم ببرك الماء الموجودة هنالك عنصر أساسي في حياتهم.
والتماسيح في هذه المغايض
8
تنسى الجفاف، فتقضي الشتاء نائمة، وتشرب الألوف من القمر والقطا، غير خائفة، من الجداول التي تنام التماسيح فيها، حتى إن الغزلان التي هي أكثر الحيوانات نفورا ترد قبل طلوع الشمس وقبل غروبها بساعة واحدة ذلك المورد الهزيل الذي يتركه النيل وراءه.
والأحفار
9
مصدر الأخطار لما تجتذبه من الضواري فضلا عن الإنسان والمواشي، والعربي يصدر
10
أنعامه عن الأحفار وقت الغسق
11
مخليا المكان للأسود والأنمار، والقردوح
12
وحده، وهو الذي يجب أن يكون أكثر حذرا من سواه، هو الذي يكون من الغفلة أحيانا ما يمسكه به الإنسان؛ وذلك أنه يسكر ببقايا جعة الذرة التي تترك هنالك، فيغدو غير قادر على الفرار، ولكن أليس هذا الرباح
13
من شباه البشر؟
وفيما تكون السماء زرقاء صافية إذ يسمع من بعيد قصيف رعد، فيدوي من كل ناحية صوت قائل: «البحر!» وهنالك ينطلق ألوف الرجال والنساء المخيمين في الوادي حاملين خيامهم ومتاعهم لائذين بالفرار.
وأولئك الأعراب الكسالى الجبريون، وإن كانوا يحسبون الزمن تبعا للقمر والنجوم، يباغتون في كل عام بانحدار النهر من الجبل الشاهق في وسط شهر يونيو ، وفي بضع دقائق يتحول الهدير إلى زئير يعد إشارة مرجوة مرهوبة، وفي مصر - وعلى بعد ألوف الكيلومترات من المجرى التحتاني - يطلع المهندس برقيا، وبين ساعة وساعة، على تقدم الفيضان وارتفاع الماء وعلى ما يحتويه من غرين، وذلك مع عدم وجود راكب جمل مهري
14
يخبر ساكني الوادي أولئك عما يقع بعد دقيقة، وهزيم الرعد وحده هو الذي ينبئهم بذلك.
والبحر ثائر! والبحر سور سائر يبلغ من الاتساع خمسمائة متر، والبحر يدحرج أمواجا سمرا ويجحف
15
أشجارا ويجرف خيزرانا ويجلب غرينا.
وإذا ما وصل النهر بغتة بعثت الحياة على الضفاف من فورها، والغيث هنالك، وتنمو البراعم
16
وتنبسط الأوراق، ويؤدي فتاء النيل إلى ظهور بلد مخضر كان يلوح هلاك كل شيء عطشا فيه، ولم تكد بضعة أيام تمضي على الوقت الذي كانت الطيور تبل فيه حلوقها في مناقع فقيرة حتى صرت تبصر الإوز البري يرتع
17
ويلعب ويتزاوج ويبني أوكاره هنا، وجميع الحيوانات تشرب وتمشي في الطين وتفوج
18
عن نفسها، ويصحو التمساح ويظن أن كابوسا كان جاثما عليه.
وترى في الهضاب العليا ألوف الناس يغادرون منازلهم ويقصدون الجبال فرارا من ذلك الطوفان، ويقف كل جولان في موسم الأمطار، ولا يستطيع أحد جوب السيول والأنهار، حتى إن الفقير الذي يذهب إلى القرية المجاورة يكون لديه معطف من البردي يلجأ إليه كما يلجأ إلى خيمة عند حدوث طوفان جديد، ويتعذر عبور الأودية، وتكون الخيول العارية من السروج في الأكواخ بجانب أصحابها الذين ينتظرون صابرين، فرحين أحيانا، نهاية المطر عارفين عدم دوامه زمنا طويلا.
والأعراب وحدهم لا يستطيعون أن يتريثوا، فإذا ما عادت إلى البطحاء خضرتها تحولت إلى غدير وارتفع سحاب من الهوام وغدت القطاع في خطر، والجمل الذي هو أوفى رفيق للإنسان يتعثر أيضا، وذلك عندما لا ينتظر سائقه أن تجفف شمس الصباح وجه الأرض بعض الشيء، وترى الإنسان والحيوان يوليان وجوههما شطر البقاع العالية، والنيل يسير أهل البدو، ويهطل جميع مطر العام في ثلاثة أشهر تقريبا ويسفر عن الفيضان.
ويأخذ الناس في النزول بعد أن يبدأ الماء بالانخفاض، ويعد سبتمبر شهر بركة، ففيه تبصر جميع البلد مخضرا، وتصبح الحبوب التي بذرت بالعود في تراب ناعم ذي غرين صالحة للحصاد في بضعة أسابيع.
وفي حوض النيل الأزرق ذي الانحدارات القوية تتعذر الفيضانات القوية المشابهة لفيضانات النيل الأبيض، فقد نحت المطر أخاديد عميقة في الصخور البركانية، ومن هذه الخنادق الضيقة تجري سيول نحو الغرب، نحو النيل، وترى داخل الهضبة العليا متمزقا بأسره، والنهر - في مجراه التحتاني، وحينما يبلغ الحجار الرملية - يشق هذه الحجارة شقا خفيفا ويلاقي الصخور الأبكار، وهنالك، حيث خد
19
مجراه عموديا في الأراضي البركانية كما خده على الهضبة، يفصل جوامد فيخلطها بتراب صالح للنبات في أثناء جريانه، وهكذا يتألف الغرين من مجموعة منحلة الأجزاء من الفلسبار
20
والميكا
21
والرخام الملون والتراب الكلسي والحديدي متحولة بين عام وعام مختلفة في النيل الأزرق عما في العطبرة، وهذا ما يجعلنا نفترض وجود أنواع كثيرة من الرواسب والمتحولات في قوة النهر.
والإنسان له عمل في تلك الفيضانات أيضا، ومما لا ريب فيه أن ماء قليلا وغرينا ضئيلا كانا ينزلان من الجبل في أزمنة ما قبل التاريخ حينما كان البلد بأجمعه مستورا بالغاب. ومما يرجح أن كان النيل الأزرق لا يصب في النيل الأبيض في الدور الذي كان يستر فيه خليج من البحر المتوسط صحراء مصر، ومما لا مراء فيه أن حرق الإنسان - قديما - سهبا وغابا لينال لقطاعه كلأ غضا، والإنسان - إذن - قد أباد آجاما كما في الوقت الحاضر فجعل الحقل منطقة حرة للأمطار والأنهار التي تأتي بالتراب الصالح للنبات، والآن تنتصب الجلاميد السود الجرد نحو السماء، ومن هذه الجنادل
22
يفصل الهواء والماء ملايين الأجزاء التي يتألف الغرين السنوي السخي منها.
وهكذا جعلت الأحوال الفريدة من الحبشة «سقف أفريقية الشرقية» الذي يبلغ من العلو ما يعد معه السهل المرتفع 1800 متر من الأراضي المنخفضة، وفولكن
23
هو فاعل ذلك، ولا يشتمل بلد على براكين هامدة مثل اشتمال الحبشة، وتبدي بقايا الأزمنة الأولى هذه للسماء أشكالها الغريبة والطريفة دوما. واليوم لا تزال المخروطات الرمادية والحجارة البركانية والينابيع الحارة والأبخرة الكبريتية شاهدة على ارتجافات الأرض، ويمكن الحبشة في ملايين السنين القادمة أن تمن بالمواد الأولية التي يجرها النيل ويحطها فتتحول إلى تراب جديد.
ورياح الحبشة وأمطارها وجبالها تحدث تلك الواحة العجيبة في الشمال البعيد بفضل رسولها النيل، تحدث «مصر».
الفصل الثاني
يخرج النيل الأزرق من بحيرة كأخيه الرزين، ولكن من المحقق أنه ينصب في تلك البحيرة كنهر قصير ويجاوزها، وأنه يحق للأباي الأصغر أن يكنى ب «أم النيل الأزرق»، ومنبع الأباي في جبال عالية، وهذا هو أول توافق أصوات من بعض الوجوه.
ويقع ذلك المنبع في جنوب بحيرة طانة بوادي غيش على ارتفاع 2700 متر؛ أي على ما هو أعلى من معظم أنهار أوروبة، وتقطع تسويات بركانية نصف مستورة بتراب أحمر غابة زاهية من الأرز والعرعر
1
والتين واليتوع، وليس للخلنج هنا ثمار كما في خط الاستواء، ولكنه ذو أزهار وافرة، وبجانبه ينشر شجر البلسم الأبيض والوردي أغصانه الحمر، وتوجب أزهار الكريوبسيس
2
الذهبية وأزهار الأقنثا
3
الأرجوانية فرحا في هذه الغابة الخضراء.
والغابة تنعشها الطيور أيضا، ويقطع صوت السبد
4
سكون الليل ويخرج الخوذي
5
صوته البوقي قبل طلوع الشمس، ويجرب الزمار
6
مزماره، ثم يأتي دور الزرازير فتصوت حين يغرد الخطاف صباحا، وتصيح الصراصير كذلك، بيد أن صخب الغرغر
7
والببغاوات لا يعتم أن يضفو على هذه الألحان الرقيقة.
وفوق انحدار متوتر، وفي وسط غدير، يحيط سياج من الخيزران بمنفذ تزيد استدارته زيادة قليلة على متر مربع، ويجري بهدوء، ومن بئر ذات عمق متوسط، ماء صاف بارد خال من حبب
8
إلى خندق ضيق ويتوارى وراء الأيكة نحو الشرق، وهذا هو منبع النيل الأزرق، ويوضح أصله البركاني هذا الوضع الغريب. ولنقابل صغره وسكونه وروقه بالمسقط القاصف كالرعد والذي يلد به النيل الأبيض لنبصر درجة اللغو في الحكم عند أول نظرة على مصاير الموجودات، فالمنبع الصاخب ينال صفة الاتزان والوقار، والجدول الصغير النزير
9
يكون له من المغامرات ما يقضي العالم منه العجب.
ويجري النيل الأبيض ألف ميل قبل أن يمجد كإحدى عجائب الدنيا، وعكس هذا أمر النيل الأزرق الذي يعبد صبيا في المهد كعيسي، وهنا لاح نجم لأحد ملوك الشرق البعيد، ويخبره هذا النجم بمولد إنسان قوي في الجبال هنالك يحمل سلطان الرب وعزته من بين الصحراء حتى شواطئ البحر.
والنصارى والوثنيون يصلون في ذلك المكان، والأكواخ ذات السقوف القصبية
10
الفائضة الواقعة بالقرب من هذا المنبع ومن منبعين أقل منه أهمية هي كنائس حبشية رسمية، والرجل اللحيان
11
الأمي المنتصب أمامها هو كاهنها.
والوثنيون الذين يعيشون بجانب النصارى هنا لا يدخلون النهر إلا حفاة. والوثنيون هددوا أحد السياح بالقتل؛ لأنه أراد غسل ردائه فيه. وفي كل عام، وبعد أحد عشر يوما من أيام طلوع الشعرى
12
وغروبها مع الشمس، يجتمع رجال القبيلة في ذلك المكان المقدس، ويضحي الكاهن بعجلة سوداء، ويلف رأسها في جلدها ويغطس في المنبع، ويغسل الشيب اللحم بالماء العجيب الذي يجلبونه بباطن أيديهم، ثم يقطعونه أجزاء بعدد القرى، ويوزعون القطع التي يأكلونها نيئة شاربين من ماء النيل، ثم يكلسون عظامها، ثم يقومون في كهف واقع تحت المنبع بقداس وفق طقوس غير معروفة، ويقدس هؤلاء المؤمنون للنيل الذي هو «نور العالم وعينه»، ويدعونه بإله السلام، وذلك لما يقسمون عليه في المجلس من المحبة والوئام، فإذا قضي ذلك تقاتلوا بعد قليل كما يقع بين البيض المتحالفين.
وينقض الأباي الأصغر بدوافع كثيرة نحو الغرب ثم نحو الشمال، ولما يقيد مجراه تماما، ولم يكن النيل الأزرق - من الساعة الأولى - أحسن حرسا من أمير أو مليك قادم، وهو يقوم غير مراقب بجولات طويلة من خلال بقاع غير معلومة تقريبا لوقوف المطر، الذي فيه سر شأنها، حيال ريادها، وذلك كالأنبياء الذين يعتزلون الناس في الغالب قبل دور حياتهم الحاسم.
وتلحق بالنهر الصائل جنادل بركانية ذات طبقات أفقية مع أثر نشاط جديد فيكون لها منظر جبال ذات غابات تقطعها روافد صغيرة كثيرة، ويبلغ عرض ذلك النهر ستين مترا فوق هضبة خربها السيل، وتظهر بحيرة كبيرة في نهاية الأمر، ويصل الأباي إلى شاطئ بحيرة طانة الجنوبي الغربي حيث لا يلبث زمنا طويلا.
وتقع هذه البحيرة الضاربة إلى خضرة - والتي لها شكل القلب - على ارتفاع 1800 متر كبحيرات إنغادين،
13
وتحيط بها بضعة جبال صغيرة، وسهل مستور بالسنط على الخصوص، والنخل مع أكواخ هزيلة من حصير، ويبدو أكبر هذه الأكواخ في كل قرية تحت شجر العرعر، وهو خاص بالأمير (الراس)، أو يستعمل كنيسة.
وتقرب بحيرة طانة من بحيرة ألبرت اتساعا، ومن المحتمل أن كانت ضعفها ضخامة، وبيان ذلك أن المطر فك الحمم
14
فجرفت الجداول أجزاءها منذ أقدم العصور ووضعتها على شواطئ بحيرة طانة وضيقت نطاقها وتنم الحمم والنسف
15
على أصل الشواطئ البركاني، ومنها يتألف الغرين الأول الذي يأتي به النيل، وتصب أنهار وجداول ثلاثون مياهها في تلك البحيرة، وجميعها أصغر من الأباي، وإذ كان الأباي الوحيد الذي يخلص من بحيرة طانة كانت هذه البحيرة منبعا مهما للنيل، ويراها مهندسو النيل أهم من الأباي الأصغر الذي لا يسفر تواريه عن ضياع كثير مياه منها؛ ولذا عد المنبع جغرافيا أكثر من عده إيدروغرافيا.
16
ولا يصل التمساح إلى البحيرة، ولكن أهل البلاد إذا ما سافروا على البحيرة في قواربهم المصنوعة من البردي والقصب حق لهم أن يخافوا بقر الماء الكثير، ويبلغ صيد هذا البقر المغري من الإغلال ما ينقش معه الصائد سمة عشيرته على كلابه، وإذا حدث أن قذف جريان الماء القنيصة إلى مكان بعيد من الشاطئ كانت من حقوق أول من أصماها، وهكذا كان أبطال أوميرس
17
يتعقبون الخنزير البري الكليدوني،
18
ومن شأن سمة كسمات بحيرة طانة أن كانت تؤدي إلى عدم شجار أتالنتة.
19
وفي المكان الذي يجوب الأباي فيه البحيرة متوجها إلى الجنوب توجها منظورا، ومن غير أن تختلط مياههما (وهذا هو جري اثني عشر كيلومترا، وهذا الجريان من القصر ما يعدل جرية النيل الأبيض في أقصى بحيرة ألبرت) بالقرب من شبه جزيرة جرجس، في خليج واسع عميق، يبدأ النيل الأزرق جريانه الحقيقي، وفي الحقول تبصر أشجار بن ذات ثمار حمر وشبه برية. والحبشة هي موطن هذه الأشجار، ومنها هاجرت إلى بلاد العرب، وفي الحقول - وبالقرب من شجر البن - تبصر بهارا أحمر، وتبصر برديا على مساحات واسعة حتى في الأرض الجافة منها، ويستر المنحدرات الوعرة زهر أصفر على شكل النجوم، وهو ضرب من شوك الشيطان الذي ينشب في الثياب والجلد فيسبب للسائح آلاما لا تحتمل، ويكسو الجزر الصخرية صدف وسراطين، وتبني البلاشين والشفانين
20
أوكنها
21
هنالك، ويكون ماء النهر البالغ من العرض مائة متر صافيا عند خروجه من البحيرة متدحرجا من غير انحدار كبير.
ويدل جريان النيل الأزرق على الوجه الذي يبلغ النهر فيه مصيره - كالإنسان - مقتحما مجاوزا جميع الحواجز مدركا مكان نهايته وزمان غايته وفق السنة المفروضة عليه، ومع ما في الخرائط الطبيعية - التي يبدو الجبل لنا بها سبب كل التواء - من وضوح كيف تنكر القوى السحرية التي تجر نهرا إلى نهر آخر على الرغم من كل مقاومة تنشأ عن الشلالات والصحراوات والمنعطفات المستمرة المستغربة؟ ولو أمكنت دراسة حياة رجل بأسرها على خريطة أو البصر بها من طائرة لبهرتنا السنن التي تهيمن عليها، ولا شيء يثبت القدر أحسن من وقائع هذه الحياة الظاهرة، والرجل الملحد وحده هو الذي يرد إلى الطبيعة مدار ارتيابه العقلي.
وفي البداءة يبدو الأباي الأكبر مبتعدا ابتعادا تاما عن اتجاه الأباي الأصغر، وهو يجري نحو الجنوب الشرقي وصولا إلى الشمال الغربي؛ وذلك لأن الجبال التي ولد فيها تسد طريقه، ويدور الأباي الأكبر بانحناء منسجم حول جبال غوجم منعطفا مرتين ليصل إلى النيل الأبيض الذي كان أقرب إليه في منبعه، وتجري عليه سنة الأقوى من حين دخوله في السودان. فمع أنك لا ترى جبلا يقفه تبصره لا يسلك أقصر السبل، بل يتجه إلى الشمال الغربي مثل اتجاه النيل الأبيض في شبابه ومثل اتجاه جميع روافده الشرقية.
والحركة الأولى للنيل الأزرق - عند خروجه من بحيرة طانة - تكشف عن عبقرية في سجيته، تكشف عن عنف ممزوج بسخاء، فهو يجوف لنفسه ممرا عميقا في الصخر، وتبلغ أمواجه الفائرة من سرعة الاندفاع ما تهبط معه 1300 متر في ثمانين كيلومترا، ويحمل عنصر عمله المقبل، يحمل الغرين مبديا حيويته وإنتاجه من أول الأمر.
وتكون الصخور عارية قبل المطر ولدى التقاء الجلاميد والماء عند الشلال الأول، وحينما يزلج
22
الموج ويدخل النهر في مجراه تظهر الصخور مستورة بالخث،
23
أي بغثاء
24
أحوى،
25
أو بنبات مائي ذي سوق متقشرة وجذور جوية تجف أزهارها الخضر والوردية من الأسفل بالتدريج وتظل هكذا حتى نزول أمطار العام القادم، وتصاد الأسماك الصغيرة باليد على طول تلك الصخور، وتظل هذه الأسماك جماعات متراصة خائفة من الأسماك الكبيرة التي تترصدها من الأسفل فتلتهم جميع ما تجرحه الحجارة منها.
وفي ذلك الصقع
26
البائر وغير البعيد من البحيرة يقوم جسر حجري قديم ذو أقواس كثيرة، وبهذا الجسر يكتسب المظهر منظر نقش روائي ويذكر بالحضارة الأوروبية الأولى التي يجهلها النيلان في شبابهما مع استثناء هذه النقطة، وهذه الحضارة من فورها تغيب هنالك مرة أخرى مع ذلك، ويجب أن يتم النيل جولته في هذا البلد الخرب وأن يلحق بالسهل حتى يلاقي جسرا مرة أخرى، حتى يلاقي جسرا عصريا كريه المنظر جدا. والبرتغاليون هم الذين أنشئوا الجسر الأول من حجارة بركانية في القرن السادس عشر، وهذا الجسر منحرف، والنهر يمر من تحت القوس الأوسط حتى يتسع حالا.
ويضيق المجرى على بعد خمسين كيلومترا من بحيرة طانة، ويحمل النيل الأزرق على المغامرة بتجربة مسقط كبير كالنيل الأبيض في أقصى الجنوب. وهذه المغامرة هي الوحيدة في حياة كل من النيلين، ويطلق أهل البلاد الأصليون اسم تيزيتات «النار الزائرة»
27
على هذا المسقط كما تسمى مساقط فيكتورية في روديسية ب «العثان
28
الطنان»، وللمسافة الضيقة التي تتكسر فيها الأمواج المزبدة منظر ثقب عميق، والناس يتساءلون عن الكيفية التي يمكن كمية الماء العظيمة الآتية من البحيرة والمطر أن تمر منه، ومما يقص هنالك أن رجلا في أثناء قتال استطاع أن يثب من إحدى الضفتين إلى الأخرى وأن يذبح عدوه وأن يرجع واثبا.
والنيل - إذن - سجين الآن في عقيق
29
ضيق منحوت في حجارة بركانية ومحدق بجبال شاهقة، والنيل منيع في ثمانمائة كيلومتر تقريبا، ويبلغ عمق الوهاد
30
1500 متر، والعقيق مهجور، ويبتعد الناس عن العقيق ويبتعدون - أيضا - عن المرتفعات المجاورة حيث ترصدهم الحمى وترقب قطاعهم، وحيث جو تلك الأجمة ودخان الكلأ المحترق خانقان فتنشأ الحمى عنهما، وتكون الحياة أسهل والتنفس أيسر في ارتفاع يترجح بين ثلاثة آلاف متر وأربعة آلاف متر. وقد أضاع الرواد القليلون الذين حاولوا النزول إلى العقيق معظم حماليهم بفعل الحمى فاكتفوا بزيارة قصيرة له أو بالإشارة إليه على خرائطهم بخطوط منقطة.
حسناء.
والحيوان وحده هو السعيد في ذلك الجزء الجنوبي من النيل الأزرق، ولا تهدد الكلاليب ولا المزاريق ولا البندق
31
أي بقر ماء أو تمساح في مجراه، كما أنها لا تهدد الأسد والنمر على ضفافه، فهنالك جنة هذه الحيوانات، وتعيش الضواري هنالك أخلاطا أملاطا
32
بعيدة من محاولات الإنسان أكثر مما في أي مكان آخر بأفريقية غير مبالية بالحرارة التي لا تنزل حتى في الليل إلى ما هو أقل من الدرجة الأربعين نائلة في الغابة البكر ما لا ينفد من الحيوان والنبات الكثير.
والنيل في الدرجة العاشرة من العرض الشمالي يكون منيعا في فجوته
33
على ذلك الوجه فيرسم قوسا واسعا من الشرق إلى الغرب، فلا يبصر في هذا الجزء من جريانه وجها بشريا، ولا يشق سطحه مجداف، ولا تنزع صنارة سمكا منه، ولا يجرؤ إنسان على السباحة في مائه.
الفصل الثالث
هنالك، في العدوة، تسقي الحيوان مئات الجداول والأنهار قبل أن تضيع في المجاري العميقة التي تأتي بها إلى النيل، وفي ذلك الصقع الممزق يحبس البرذون
1
عن الإنسان خدمه، فيضطر الرائد إلى الهبوط والصعود 1200 متر لدراسة مجرى أحد الأنهار الأسفل، ويكون النيل في الغالب غائبا عن الأبصار من عل، ويلوح غوره في فطور،
2
ويحسب وجود مجرى له تحت الأرض، فإذا ما ظهر ثانية لم يبد موسعا حتى في فصل الأمطار، وما تجلبه إليه الروافد غير المهمة فيفقده بالأبخرة والمساقط والقضاض.
3
والغرين هو الذي يزيد، وبما أن معظم روافد النيل تجيء إليه من داخل الجبال التي يحيط بها يؤدي ما ترد به عليه من المواد المعدنية إلى جعل مائه شديد الاسمرار بعد خروجه من بحيرة طانة كثير الصفاء، ولا يدل تسمية العرب إياه بالبحر الأزرق على كونه نهرا أزرق فقط، بل يدل على أنه أغبر، وعلى أنه أسود أيضا، وينخفض ماؤه في الموسم الجاف فلا ينقل أكثر من اثنين في المائة من المواد فيبدو في الغالب أزرق صافيا تحت سماء خالية من السحب، فإذا ما حل فصل ارتفاع مائه حمل 17 في المائة من الغرين وظهر أسمر قاتما ويعزز هذا اللون بما يجلبه من مليارات النمل الأبيض، ومن الإنكليز رواد ذهبوا حديثا إلى النظرية الطريفة القائلة: إن هذا النمل الأبيض هو الذي يقضم التراب فيجر معه، وإنه هو العامل الحقيقي في وجود غرين النيل.
وفي الهضبة العليا العامرة بالناس تضخم جميع المواد المعدنية البركانية بفيض من النباتات الاستوائية، وعن تلك الهضبة قال بلوندل الذي هو من البيض القليلين الذين زاروها: «إنها أجمل بلد رأيته.» والحق أن الجفاف في جنوب الحبشة أقل ضررا مما في الشمال حيث يتعذر في شهر فبراير وضع إنسان جنة عدن في صقع صاد كذلك، والمطر في شمال الأباي يوجد غابة ذات ألوان فتانة.
والأحمر والأصفر هنالك يبهران الأبصار، فتهبط طاقات العنم
4
الأرجوانية من شجر الخيزران الجسيم على استدارة عشرين مترا، ويتشعب اليتوع كالشماعد
5
وتتموج خصل كثيفة لألوف الأزهار الصفر البارزة من العليق المعروف بالأبريقم، ويتدلى الياسمين البري الأزرق الشاحب من الأثل،
6
وتستر مساقط من القويسة
7
الزرقاء الحية وتخنق أحيانا ما يعيش تحتها، ويسطع البيلسان
8
بين الخضر، وتكسو ذوات الفلقتين غابات بأسرها، وينحني الشيح
9
العطري ظهرا وبطنا فيؤلف أنفاقا
10
أرجوانية تبلغ من غنى الأزهار ما «قد تدفن فيها قافلة».
والزنجي في قرى الجبل العالي يزرع الذرة والبر
11
بلا عناء، وله كل العون بالتراب والمطر، والقطن أقل من ذلك نجاحا، ولا يفلح شجر البن إلا في حال برية كالكرمة فيما مضى، ولم تنل يد التغيير شيئا من المحراث الذي يستعمل بلا روية، كالخنازير البرية، منذ عهد المحراث الذي صنعه آدم بعد إبعاده من الجنة.
وتعيش تلك القبائل الحبشية المتأخرة كثيرا عيشا ابتدائيا كزنوج النيل الأبيض الأعلى، ولكنك تجد عندهم حيوانا أهليا يعاملونه معاملة الضيوف من الأمراء، وهل هو ساحر أو حكيم أو أبيض هذا الذي كان عند ذبح سنور الزباد
12
أول من كشف الرائحة الزكية التي تسطع من إحدى غدده؟ إن المحتمل أن ادهنت بها إحدى سراري النجاشي الثلاثمائة إغواء لسيدها.
ومهما يكن الأمر فإن جميع الشرفا ودوا ذات يوم حيازة سنور الزباد، فحملوا عبيدا لهم على البحث عنه، فوجده هؤلاء على أبعد شواطئ النيل جنوبا، ويمسكه السود بحبالة
13
ويؤنسونه في أكواخهم ويغذونه بالبيض وقت الظهر وبحساء اللبن وقت المساء، ويوقدون النار شتاء لكيلا يبرد، ثم يقشطون بملعقة خيزران ضربا من الرغوة في غدة منه لها رائحة المسك ويحفظونه في قرون البقر، ويبيعونه من التاجر الذي يأتي من المصر
14
في مقابل ثياب وقصبان ملح أو نقود فضية، وهكذا ترى سودا لا يعرفون سوى الجوع والصيد والحب في جبال الحبشة الموحشة يغتنون بفضل نفائس بلاط بعيد، ويزيدون قطاعهم وحقولهم من غير أن يكونوا في نهاية الأمر أكثر سعادة من إخوانهم الذين لا يقشطون غدد سنانير الزباد.
ومن الحيوان ما هو أقل أنسا، ومن ذلك القردوح
15
ذو الذؤابة الرمادية الذي يتخذ في كبره سير الأفاق المنبوذ المتوحش، والقردوح يغزو الحقول، وإذا ما منع فلم يدخلها إلا بعد الحصاد استعد كالآدميين ووضع من الأرصاد ما يحمي به صغاره تجاه الأنمار، والأنمار تخافه فلا تدخل القرية إلا بعد انصرافه.
والفيول هنا - كما في كل مكان - تسير بحذر كبير، والفيول تعرف متى يضع السود في قراهم برهم على ظهور جمالهم، والفيول تواثبهم في ذلك الحين فتضع الجمال أثقالها وتنال الفيول ما تريد، وتقول القصة: إن أحد الملوك أراد ذات يوم إخضاع زنوج ذلك الصقع، ويجده هؤلاء الزنوج من الخبث والهول كنهاب غلاتهم البغيض ذلك فيصيحون عند وصوله بقولهم: «يان هوي! أنت فيل!» ويسأل الملك عن معنى ذلك، ويدرك الدعابة كشرقي ويضع حدا للغزو ويعد بإنصاف كل من يدعوه على هذا الوجه، ومن ذلك الحين يركع كل سائل ملحف أمامه وهو يقول: «يان هوي». واليوم تجيء هذه الكلمة بمعنى «أيها الملك! يا صاحب الجلالة!» وهكذا يحمل نجاشي الحبشة العادي اسم أقوى وأنبه حيوان في الكون.
وفي الشتاء يعود الفيل إلى بقاع الجنوب المهجورة متسلقا منحدارات تتحدى الإنسان، وتجتذبه غابات الخيزران حول مصب نهر ديدسا في النيل الأزرق من الناحية اليسرى، وهنالك ترى مطروحة على الأرض مئات من الشجر الكبير الذي يحب الفيل النهيم ثماره السرية الصغيرة، والفيل يهز الأشجار بخرطومه ويجندلها عند عدم فائدة الهز، ويجمع تلك الثمار السكرية واحدة بعد الأخرى باعتناء.
وفي أقصى عقدة النهر يمهد البلد رويدا رويدا، ويغدو المضيق أشد أنسا، ويبدو مجرى النهر أكثر ظهورا، فإذا قطعت أميال قليلة لاح سهل الفنج ولاحت تلال متفرقة في سهب السودان، ويشهد النيل - قبل مغادرته الحبشة - منظرا غريبا يوحي بمصير هذا البلد.
وفي مصب ديدسا وغيره من روافد النيل، وبالقرب من حدود السودان، يجلس القرفصاء بضع مئات من الزنوج عراة في السعير الذي يفرون من حمياته عادة، ويخرج أناس آخرون من الغابة ممسكين بضرب من صولجان الكرة وصحفة مسطحة من الخشب، وحاملين في أعناقهم قرعة صغيرة مربوطة بسحل،
16
وهم ينحنون في الماء الأدنى ويبحتون بين الحجارة ويرمون معظم الحصى، ولكن ما يضعونه في صحافهم يسطع تحت الشمس، وإذا ما مر النهار صبوا في القرعة ما وجدوه وحملوه إلى رقيب يزنه بميزان أوروبي صغير.
ويقرض الحجر الناري الأعلى قرضا عميقا، وتظهر طبقة بلورية وتغشى حصباء المرو
17
وشظاياه بقاعا بأسرها ويكتشف الذهب في ذلك منذ القديم.
ويقوم نصيب ذلك البلد على البحث عن الذهب والعبيد، وفي غير مكان خلط إله النار الذي تحت الأرض عنصر الذهب بالمواد التي كان يحركها باليد، وبما أن هذا المعدن يعرف بسهولة في الأنهار بحث ملوك البلد عنه منذ أقدم العصور، حتى إنه ظن أن بلد الذهب أوفير
18
هو هنا، ومما يروى أنه يستخرج منه ثمانون ألف جنيه في كل عام، ولكن هل من عادة الملوك المطلقين بيان الرقم الصحيح لدخلهم ؟ والنجاشي يأخذ نصف ذلك رسميا ضريبة.
ويجمع ذلك في قوادم،
19
ويصنع منه خواتم ويباع، وماذا ينال مقابلة؟ يؤخذ سلاح وآلات. ومن يستفيد من ذلك؟ إن الزنوج الذين يغسلون ذهب النجاشي قاعدين القرفصاء في الماء عشر ساعات يوميا هم من الغلا أو من العبيد، فلا يعطون ملحا ولا نقدا ولا قلائد ولا بقرا! والذهب قد ذهب من هنا إلى أديس أبيبا حيث يحول سائل سنور الزباد الغدي إلى عطر، وفي ردهة مغطاة ببسط يلمع الذهب في جيد سيدة ذات لحاظ يتقد شهوة أو تستبدل به سيارة إنكليزية أنيقة يركبها منتفخا راس مزينة أصابعه بالخواتم تواق إلى المطامع مشتاق إلى الانتقام، كما هي الحال منذ ثلاثة آلاف سنة.
الفصل الرابع
في ذلك الدور تزين أجمل ملكات إثيوبية وأشهرهن بالذهب والحجارة الكريمة لتزور أورشليم (القدس) وتتعرف بالأمير الذي يملك هنالك فيعدلها جمالا وصيتا. ومن الحق أن كانت ملكة البلد الذي حمل بعد زمن اسم اليمن، ومن أورشليم جاء تجار إلى اليمن ليشروا منها حجارة بناء رائعة بأي ثمن كان وليأتوا بها إلى مولاهم الذي كان يقيم هيكلا عظيما تمجيدا لإلهه يهوه.
وكان ذلك الملك ينطق بما لا يحصى من الأحاديث والأمثال وأناشيد الحب، ولم يعرف أحد أي الأمرين كان يتغلب عليه: الحكمة أم حب النساء.
إذن، ذهبت ملكة سبأ إلى الملك سليمان، وشعر كل منهما بميل إلى الآخر، وكان عندها مثل ذكائه فامتنعت عن إلافه
1
في بدء الأمر ولم تقم بقصره، ولما تملقها سليمان خاطبته بالحكمة، فاضطر طوعا أو كرها إلى نقاشها في الفلسفة ليالي بأجمعها لما كان عليه من النبل. وتحين ساعة الرحيل وتعد القافلة مثقلة بالهدايا التي تنم على بذخ الملك اليهودي ذلك، وتبصر الملكة نزق الملك الذي كان غبيا مع حكمته فسكنت وساوسه بأن أجلت سفرها إلى الغد. وتقدم فتبلغ سليمان أنها تقضي تلك الليلة الأخيرة في قصره إذا أقسم بألا يمسها، وتقابل ذلك بتعهدها ألا تأخذ شيئا مما هو خاص بها، ويدرك سليمان بحكمته معنى كلماتها المضاعف، ولكن سليمان يعوذ بطاهيه ويأمره بأن يعلل طعام الوداع بالتوابل والأفاويه ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
وهنالك رأت الملكة أن مضيفها أدرك أمرها، فلما اختليا كانت الأفاويه والخمر من شدة التأثير فيها ما اكتفت معه بقولها: «أحلك من عهدك أيها الملك إذا ما أسقيتني.»
ويروي الملك الغنج غلتها بشتى الأوضاع، ويؤخر السفر، ولا يريد الملك أن يدعها ترحل، وتلوح موافقتها على ذلك، ولما حملت منه وشعر جميع البلاط بذلك مع الوقت عزمت على الذهاب، ويظهر أن قريحة سليمان انطفأت مع نشيد الأناشيد أيضا، وتضع في الطريق ولدا فتسميه منليك بن حكيم، وكان هذا باهر الجمال.
ويصبح الغلام ملكا، فيزور أباه في أورشليم ويتقبل بقبول حسن، ويعود مثقلا بهدايا من أسباط بني إسرائيل الاثني عشر، ويصحب مقاتلة وكهنة لتعليم الأحباش دين اليهود، ولم يكد منليك يتوارى حتى أبصر سليمان مذعورا اختفاء تابوت العهد أو الألواح النحاسية التي نقش موسى عليها وصايا الرب فكانت أقدس ما لدى اليهود، ويؤكد منليك فيما بعد أن كهانه سرقوها من غير أن يعلم ذلك متبعا في تصريحه سنة ما يفعله الملوك في مثل هذه الأحوال. ومهما يكن الأمر فقد تذرع سليمان بالحكمة فأمر الحبر الأكبر بأن يلزم جانب الصمت، وتعقب القافلة بنفسه على غير جدوى، فقد حفظت الملائكة اللصوص كدأبهم في ذلك الزمن، فجاوز اللصوص البحر الأحمر بأنفاق وبلغوا القصر الملكي، ويوفق سليمان لصنع مثل تلك الألواح مستعينا بعامل ماهر فلا يعرف عبري أنه يعبد تابوت عهد كاذب.
من الشلك.
وأحاط العرب والربانيون ملكة سبأ بأساطيرهم، وجعلوا منها بقليس أو عرافة تحل الألغاز وتعرف حتى خشب الصليب الحقيقي، ويتمسك الأحباش بأحدوثتهم، ويصورونها على جدر كنائسهم، وتنسخ هذه الصور في باريس ولندن رسوما شعبية وتوزع بين أهل ذلك البلد، ويرى فيها كل من العاشقين على فراشه الخاص، ثم يظهران على سرير عريض ذي منظر عصري، ومع ذلك يبدو نشيد الأناشيد للأحباش من فرط المغامرة ما لا يطبقونه معه على ملكتهم. والأحباش يقولون موكدين: إن سليمان وضع نشيد الأناشيد هذا في حضن ابنة أحد الفراعنة فيحاولون - عبثا - حظر قراءته على الفتيات وعلى الكهنة الذين يقرءونه مجتمعين.
وهكذا ترى الغرام يسفر عن إيجاد أسرة ملكت ستة عشر قرنا؛ أي ما بين سنة 800 قبل الميلاد وسنة 800 بعد الميلاد؛ أي مدة طويلة لم يتفق مثلها لأية أسرة مالكة ظهرت على شواطئ البحر المتوسط. ولا نعجب - إذن - من ظهور أمير ماكر يريد في أيامنا إقامة عرش له في ذلك البلد فيعلن انتسابه إلى تلك الأسرة المالكة من آل سليمان منتحلا اسم منليك.
ولا يفسر جميع ما وقع منذ ذلك الحين في ذلك القسم من أفريقية بغير اختلاط العروق والحضارات التي كانت تتصل بالحبشة بطريق البحر الأحمر والصحراء النوبية، ويعرف الأحباش ذلك فيسمون بلدهم بالحبشة؛ أي بالخليط، وهذا ما يمكن إطلاقه على جميع شعوب أوروبة.
وكانت الأمم الفاتحة والأمم التاجرة تنجذب بلا انقطاع إلى البلد الذي يشتمل على الذهب والعاج والرقيق، وأي العرقين دحر الآخر؟ وما هو مدى دحر الشعوب الحامية للشعوب السامية نحو الجنوب؟ ذلك ما لا يعرف معرفة تامة ولا يعدو حد جدل الأساتذة. ويظهر أن الإثيوبيين لم يأتوا بغير غزو واحد لحضارة أجنبية، وذلك قد تم حوالي سنة 730 قبل الميلاد حين فتحوا مصر وأتوا بمقدار من الآلهة والعادات المصرية، وبالعناصر اليهودية والعربية اختلط الأغارقة الذين أطلقوا اسم إثيوبية الراهن على ذلك البلد وعلى المناطق المجاورة، وكانت أكسوم، التي أسفر الحفر الحديث في شمال الحبشة عن إبراز أطلالها للأعين، مسيطرة على بلاد العرب، ونحن لكي نضع حدا لارتباك الحضارات هذا نقول: إن أحد أولئك الملوك اليهود العرب تكنى بابن الآرس،
2
وكان ابن آلهة اليونان هذا أول من تعمد تكفيرا عن السيئات، وهكذا لبس ابن الآرس هذا خواتم الأسطورة الثلاثة قبل أن توجد، وكان الأحباش نصارى قبل معظم البيض بزمن طويل، وما كان من تمتع هذه القبائل بتربية نصرانية بالغة من القدم خمسة عشر قرنا فيمكننا أن نسأل معه: هل يفوق أدب هؤلاء النصارى أدب جيرانهم من الوثنيين أو المسلمين؟
وترتج هذه النصرانية الجديدة التي هوجمت من جهتين في عام مولد محمد، وبيان ذلك أن نصارى الحبشة كانوا قد توعدوا مكة فردوا على أعقابهم في ذلك العام، وهم لم يلبثوا أن أكرهوا على الجلاء عن جنوب بلاد العرب بفعل الجدري، وهذا الأمر من الأمثلة النادرة التي يكون بها لإحدى الجوائح
3
نتائج سياسية في تاريخ العالم، وفي تلك الأمكنة يبدأ الصراع بين الديانتين، ويختلط بهذا النغم اليوناني العربي النصراني صوت اليهود الذين تسربت معتقداتهم في الحبشة مرة ثانية منذ القرن السادس، وذلك لما يروى من انتحال أغارقة الحبشة لليهودية بتأثير بدويين جلبوا عاداتهم إلى بدويين آخرين، لا بتأثير البعثات التبشيرية، وفيما يدعو هؤلاء أنفسهم بالفلاشا (أي المفهوم خطأ) يتقوى اليهود.
ويتخذ مجرى الحوادث سيرا سخريا ثابتا أمره في القرن التاسع، ففي ذلك الحين طردت أميرة يهودية من الحبشة آل الملك الذين ينتسبون إلى سليمان، وانتحلت النصرانية، وتحكم هذه الأميرة في شمال البلاد حاملة اسم الملكة يهوديت، وكان لا بد من مرور أربعة قرون حتى يدعي أمير من أمراء الجنوب بأنه من سلالة سليمان ومنليك فينتصر على ذرية يهوديت، ويستتر تحت شتائم هذا الملك اللاسامية تعطشه إلى السلطان وحسده كما لو كان قد ظهر بعد سبعة قرون.
ويتلقب هؤلاء الملوك النصارى بالقمامص،
4
ولا يبدون أصلح من الملوك اليهود، فيدل منظار تاريخهم في القرون القليلة القادمة على صور ومناظر مذهلة؛ وذلك لما يرى من تقطيع ملكات مغلوبات إربا إربا ورمي هذه القطع للكلاب واحتفال الرهبان بقتلهن في موكب عام، ولما يرى من قساوسة أطهار يولعون بالخمر وبرخاء العيش فيرحبون برؤساء وثنيين ويقصفون
5
معهم، ثم يحملون عبيدهم على ذبحهم، وأولئك من النصارى المؤمنين الذين يباهون بانتسابهم إلى أقدم المذاهب.
الفصل الخامس
رئي في بدء الأمر أن الحبشة هي الفردوس في الأرض، وعد يوسف
1
النيل أحد النهرين التورائيين، وفي الحبشة بحث الناس عن الذهب والعبيد منذ إخراج آدم وحواء من الجنة وتوجيه الذهب والسلطان للرجال في أعمالهم. وللحبشة منعة بجبالها ومطرها، مع أن مغازي الفاتحين في سهوب السودان أسفرت عن قهر الأسر المالكة المحلية في قرون كثيرة، وقاومت الحبشة جميع الغارات كما قاومت سويسرة؛ لأن المطر فيها يكنس الطرق والجيوش، وإذا عدوت مكانا واحدا بدا لك الجبل قائما حتى البحر الأحمر الذي تسير منه تجارة العالم في كل زمن. وهكذا، لا ترى من الدول التي ازدهرت في أفريقية - بين الدرجة العاشرة والدرجة الخامسة عشرة من العرض الشمالي - غير دولة واحدة ظلت باقية، غير بلد النيل الأزرق الذي هو حصن طبيعي.
وكان قدماء المصريين، كتجار اليوم، يذهبون إلى هنالك طلبا للبان والعاج والذهب والرقيق، حتى إنه يعثر في مصر على عاج إثيوبي من عاج ما قبل التاريخ، وأدخل أولئك التجار ثلاثة أديان وأربع حضارات أو خمس حضارات وجلبوا معهم أنوارهم واضطرابهم إلى تلك الأودية الضيقة الوعرة، ولكن الجنادل والجبال والأنهار والأمطار كانت تحالف الإنسان على دفع الأجنبي إذا ما أراد الاستيلاء على البلد، ولكن هذه العناصر تفرق تلك الدولة إلى أجزاء كثيرة لا يستطيع أي أمير أن يسيطر عليها كلها، تفرقها إلى أجزاء تتقابل دوما فتحفز كل إنسان إلى أن يكون محاربا، وكما أن الأجنبي لم يقدر على فتح ذلك البلد لم يسطع أحد من أهله أن يهيمن عليه، وهذا الحصن الطبيعي الذي يصعب قهره والذي يسوده الشقاق هو عتبة القارة، فتطمع فيه دول البيض التي تملك البلاد المجاورة لاشتماله على منبع النهر الحافل بالأسرار، وسنبين في مطلب آخر من هذا الكتاب أن هذا البلد ليس من الشأن ما تعزوه إليه القصة.
وبعد ألوف من السنين تبين الآثار عدد الفاتحين الأجانب الذين طردوا من بلاد الحبشة، ومما انتهى إلينا ما ذكر على البردي من غزوات المصريين وحملاتهم في البحر الأحمر، ومما انتهى إلينا مما أحصي على الحجارة المنحوتة من معاهدات ملكة سبأ، ومما انتهى إلينا مسلات الإثيوبيين التي نصبت قبل الميلاد بألف سنة بعرفان لم يدرك أمره، ومما انتهى إلينا روايات هيرودوتس عن كنوز ذلك البلد، وكان أباطرة الرومان يحملون على صيد صغار الأفيال هنالك ليتلهى بها الشعب، وكان قياصرة بزنطة يأخذون الذهب من هنالك في مقابل أدوات لا قيمة لها.
وترى منذ القديم سلسلة متصلة من الأمم البيض قد انقضت على هذه البقاع العاطلة من الطرق والبعيدة المنال، ولا ترى واحدة من هذه الأمم ظلت هنالك، وإنما ملك البلاد أمراء من أهلها بلا انقطاع تقريبا، وذلك من عهد ابن سليمان حتى الزمن الحاضر.
وأخيرا لم تسطع الشعوب البحرية الكبرى غير الاتجار هنالك، والبندقيون
2
طردوا العرب من شواطئ البحر الأحمر، وحملوهم على نقل الذهب والعاج من الحبشة فوق الإبل من خلال البادية، ولم تترك أكبر دولة بحرية في ذلك الزمن غير أثر، غير ألواح رديئة لأفاق انتحل هنا وضع تيسيان
3
لمجيئه من البندقية، ولا يزال الطراز الإيطالي في ألواحهم الدينية الغليظة يقف نظر السياح.
ويشعر نجاشي الحبشة وبطركها بخطر الكفرة فيذكر نصرانيته فيستصرخ البابا، ويكتفي البابا بإرسال كتاب باللغة اللاتينية إليه لم يقدر أحد في الحبشة على قراءته، وبمنح هؤلاء الزنوج الأتقياء كنيسة في رومة لم تنفك تسمى سان ستيفانو دي موري منذ ثمانية قرون، ويعرف حجاج من الأحباش في القدس بعد مدة أن ملك البرتغال هو أقوى ملوك النصرانية، فلما أتى بلاطه وفد حبشي بهي ولى هؤلاء الزنوج - الذين لم يعتقد نصرانيتهم - ظهره، فهذا هو الجهل السائد حول الأحباش بعد منحهم كنيستهم في رومة بثلاثمائة سنة.
ووقع بعد قرن فقط تعانق الإخوان في يسوع المسيح ووعد القوي بمساعدة الضعيف، وكان البرتغاليون قد علموا أن ذلك القطر الافتراضي ذو أرض ثلثها من تراب وثلثاها من ذهب فضلا عن احتوائه عبيدا وعاجا كما يراد، وعلى ما وجده الملك من مبالغة في ذلك ظن أن العكس هو الصحيح فأمل - على ما يحتمل - أن يكون ثلث الأرض من ذهب وثلثاها من تراب، والمغامرة تكلف البرتغاليين ثمنا غاليا في بدء الأمر، فلما خفوا لنصر ملك البحر الأحمر على العرب الآتين من مصر والسادة لنصف الحبشة الذي أكرهوه على الإسلام غلب ابن فاسكودوغاما، غلب هذا الفارس الذي هو من أنبل فرسانهم، وعذب وقطع قاهره رأسه بيده وخصي جميع أسارى النصارى، وحدث هذا سنة 1541، وكان لا بد من مرور قرون قبل أن ينتقم أحد ملوك النصارى وفق سنة الثأر، وينتصر البرتغاليون بعد عامين ويعيدون الملك الحبشي إلى عرشه، وكيف يبدي الملك كلوديوس شكرانه الآن؟
عزم على انتحال المذهب الكاثوليكي الروماني فأثار بذلك منازعات جديدة، واستقر البرتغاليون بالبلد مع علماء وتجار، وكان من عادة الملوك السابقين ألا يدعوا السفراء يعودون وأن يغمروهم بضروب الثراء والنساء لما يبدونه من حسن النصح، وأن يبقوهم أسرى بمثل هذه المغريات، وفي هذه المرة أقام البرتغاليون في شمال بحيرة طانة مدينة غندار وحصنها مع أبراج مدورة ضخمة وأسوار مهمة كأسوار طليطلة؛ أي أنشئوا الأثر الوحيد الذي تركه الأوروبيون خارج أديس أبيبا بين الأكواخ الزنجية في تلك المملكة.
وكأنه قدر على ذلك البلد الجبلي أن يفك بالمنازعات الدينية التي تقضمه كما يفك بالمطر والنيل، ومن اليسوعيين الرومانيين أناس أرسلهم البابا لم يألوا جهدا في توطيد سلطانهم هنالك، وفي عتبة العالم النصراني وبين شباه الزنوج تبصر الصراع حول تعاليم يسوع قد ثار حين ثار في أوروبة وبمثل الحميا التي هاج فيها لدى الأوروبيين، ولما عاد المسلمون لا يهددون النصارى عزم النصارى على التذابح، ولم يتقاتل رؤساء القبائل العربية اليهودية أولئك مع أن معابدهم كانت من أكواخ وكانت طقوسهم قائمة على الطبل والنداء؟
المسيح ممسوح بالروح القدس، ولكنه لا يحتاج إلى ذلك! وكان الخصوم يصرخون قائلين: هذا ضلال! وإنما يجمع هذا المسح بين طبيعتيه، وآخرون يصيحون قائلين: هذا أعظم بهتان! ولا يتم فداء البشر على يد المخلص إلا بالروح القدس، وفي الحين بعد الحين تتفق هذه المذاهب الثلاثة على القول بأعلى صوت: اقتلوا اليهود! وذلك على أن تعود إلى سابق انقسامها.
وفي سنة 1630، حينما كانوا غوستاف أدولف وفلنشتاين وتيلي يحولون النصارى بمدافعهم، كان قساوسة الأقباط والكاثوليك بالحبشة يسلحون رعاياهم بالسيوف والرماح نصرا لمثل ذلك المذهب.
وخرت المملكة في أثناء اصطراع المذاهب ذلك كما حدث في ألمانية وقتئذ، فمن الجنوب أتى الغلا الوثنيون الذين هم مزيج من الزنوج والحاميين والعرب واستولوا على البلاد، وتنقل العاصمة بلا انقطاع في أثناء الفتن وتغيير الملوك، وصار نجاشي غندار لا يتمتع بغير سلطان صوري، وكان كل أمير يسيطر بالقوة أكثر مما بالعقل، وتحل سنة 1850 فيضع مغامر حدا لتلك الفوضى التي دامت قرنين، فقد تلقب كاسا الذي كان رئيسا لعصابات، كأبطال أوميرس وكالطغاة المعاصرين، ب «نيجوس نيجستي»،
4
وحمل في الوقت نفسه اسم تيودور.
وكان هذا القمص النصراني في بدء أمره يبيع الكسو
5
الذي يصلح علاجا للتينيا،
6
ثم أصبح رئيسا لجماعة من قاطعي الطرق، ولم يمض عليه زمن حتى ارتقى إلى العرش كنابليون الذي صار إمبراطورا بعد أن كان ملازما، ويذكرنا هذا الملك بكثير من أولياء الأمور في زماننا أيضا، فهو قد أضاع اتزانه لما وصل إلى أوج المعالي وبدا وحشا ضاريا قاتلا لكل من يعارضه، ولكن مع حمله البطرك بالقوة على منحه البركة، ويسفر موت زوجه الثانية عن اكتئابه كثيرا، ويتزوج ثالثة تتجلى صفتها البارزة بأنها بنت لأمير قوي، وهو يرى العوض في تمتعه بامرأة غلاوية جميلة، وكلتاهما ترافقه في الحروب، فتنصب لكل منهما خيمة على مسافة متساوية من خيمته الملكية القرمزية، وهو إذا ما سار جعل إحداهما في الطريق بعيدة من الأخرى نصف ميل.
والإنكليز وحدهم هم الذين كان تيودور يدنيهم منه، لاعتماده على عونهم ضد المصريين، وقد بلغ من الصداقة لاثنين منهم ما انتقم معه لقتلهما في إحدى معاركه بقطع رءوس مئات من الأسرى، وهو - بعد هلاك الصائد الإيرلندي والقنصل الاسكتلندي على ذلك الوجه - لم ير كفوا له غير شخص واحد، غير الملكة فيكتورية التي غدت أيما منذ وقت قصير، وهو قد أبصر أن سلطانها على كثير من الشعوب السود يزيد لا ريب إذا ما تزوجت «ملك الملوك» بأفريقية، ففي سنة 1862، وبلا واسطة، عرض عليها الزواج به.
وحدث ما لا يصدق، حدث أن ظل كتابه من غير جواب، ويوغر هذا الاستخفاف صدر أقوى الملوك فيقف الوزير الإنكليزي كميرون ويقرنه بالأغلال مع أحد المجرمين، وتنظم إحدى الدول العظمى للمرة الأولى ؛ أي في سنة 1868، حملة تأديبية ضد الحبشة، ويوغل الإنكليز في البلاد ويحاصرون «ملك الملوك» في قصره الحصين، ويطلبون إطلاق الأسير، ويذكر المغامر تيودور نشأته الأولى الباسلة ويقتل نفسه، وينال بعمله هذا احترام الأعقاب وتقديرهم للثمن الغالي الذي أداه.
الفصل السادس
جعلت الجبال من الحبشي محاربا، وكان المطر يقطع كل حرب منذ ألوف السنين، ولا تؤتي البغضاء أكلها إلا بين أكتوبر ومايو، ولذينك العنصرين لم يغلب هؤلاء القوم الذين هم من شباه الهمج تجاه أساليب الحروب الحديثة، بل انتصروا في سنة 1870 وسنة 1890 على شعبين ذوي أسلحة جديدة وطردوهما من بلادهم: انتصروا على المصريين ثلاث مرات، ثم غلبوا إيطالية. وفي سنة 1885 كانت مصر تعالج فتنة المهدي الذي كان السودان قبضته، والذي كان يهدد الحبشة، وتحدث إيطالية نفسها بأنها تستطيع أن تظهر حامية لهذا البلد ظافرة في الساعة الأخيرة بحصتها من الحلوى السوداء الكبرى، ويلوح أن مصير الحبشة أمر مفروغ منه، وما كان أحد ليعتقد بقاء كيانها.
ويقتل آخر نجاشي على الحدود في أثناء محاربته المهدي، وينادي أحد أتباعه الأقوياء بنفسه نجاشيا، ويرى هذا النجاشي الجديد في ذلك الحين الذي استفحل فيه أمر أنصار المهدي أن يقطع الطلاينة منطقة من الأراضي، وأن يرضى بحمايتهم صورة، ويعلم ذلك النجاشي الممتاز من البيض أن على ولي الأمر أن يثبت صفاء أصله، فيتسمى بمنليك الثاني، مدعيا أنه من ذرية منليك الأول الذي ورث حكمة سليمان وجمال ملكة سبأ منذ ثلاثة آلاف سنة.
وكان منليك الثاني ماكرا أكثر من أن يكون حكيما، ولم يك جميلا، ولكنك تجد في سيره ما يحكي صورة الأسد، ولا تبصر سمة السامية ولا الحامية لدى هذا الملك ذي الشقرة التي هي آية آدميي الشمال، ولو أخفيت شفته السفلى الغليظة في صوره لبدا عصلبيا
1
اسكندويناويا ذا عينين عسليتين، وكان أقل قسوة وأكثر صوابا وأشد قروية من نظرائه الأمراء الآخرين، وكان رزينا مع دعابة، وكان ذا طباع تختلف اختلافا كليا عن طباع أسلافه، وعدت يداه وخطه ضربا من الجمال ضمن النطاق الذي يحكم به في أمر الخط الأمحري.
وهو إذ كان ابنا لأمير قوي لم يدخر وسعا في توطيد سلطانه بأية وسيلة كانت، ولما قبض على زمام الأمور في الخامسة والأربعين من سنيه سالم منافسه فزوجه ابنته، وركن إلى رجال الدين مع عدم اغترار بهم، وبما أن النجاشي هو المتصرف في أموال رعاياه كلها وفق شيوعية معكوسة فإنه أباح للأمراء نهب ما يودون كما في الماضي، وما بدأ به من تغيير قليل فقد أملاه العقل عليه أكثر من أن يمليه عليه البيض الذين لم يقتبس منهم سوى نظام الجيش، وما كان ليرضى بالسجون، فقد قال: «لا أريد أن يغذى المجرمون ويحرسوا على حساب أهل الصلاح والفضل، ولا ينبغي أن يروا، بل يجب أن ينسوا بسرعة.»
والجلد جزاء أخف الذنوب، والجدع والصلم،
2
أو الخصي، جزاء الإجرام، لما في فرض هذه العقوبات من عار وعبرة، وكان في كل أحد يقري
3
في عاصمته الجديدة أديس أبيبا «الزهرة الجديدة» ما بين ثلاثة آلاف رجل وأربعة آلاف رجل فيعطون، ويعطى الجنود منهم على الخصوص، عشرة آلاف رغيف وأربعة آلاف لترة من البتع
4
ومائتي ثور.
ولا شيء يؤثر فيه مثل الأعمال الصناعية الفنية، شأن البرابرة ومعظم البيض، ولكنه ينظر إلى تلك الأعمال ببراءة الولد أو الجندي، ومما حدث أن عرض عليه نموذج جسر فأنكر متانته وأيد إنكاره بكسره هذا النموذج بجمع كفه، ويعرض عليه نموذج ثان أكثر مقاومة فيرضى به لعجزه عن رضخه،
5
وتضرب النقود الذهبية الأولى المشتملة على صورته فيمسح آلة الضرب بالدهن، ويصر القطع الأولى في منديله ويأتي بها إلى زوجه، ويعتمد على منظاره أكثر من اعتماده على جواسيسه، فلما طلب إليه أن يأخذ حذره من مؤامرة صعد في برجه ورقب بمنظاره الطرق والميادين ثم نزل مطمئنا، ويوضح له ذات يوم بدمى
6
تأثير الألغام المتفجرة بفعل الكهربا فيطير طائره
7
قائلا: «أذلك هو الأسلوب الذي تريدون الحرب به؟ وما نفع الشجاعة الشخصية إذا كان أحد الأنذال يستطيع أن يبيد ألوف الناس من بعيد بضغط إصبع؟» وهكذا ترى محاربا أفريقيا باسلا يبين فساد نظرية البيض حول البطولة.
ومن المحتمل أن كان أحسم عمل في حياته نتيجة غلط، وهو عندما عاهد إيطالية أخطأ تقدير قوة هذه الدولة في ذلك الحين جاهلا - تقريبا - أمر منافساتها من الدول العظمى التي هي أوفر منها حظا بأفريقية. ومن الممكن أنه كان ينتفع بإيطالية زيادة في سلامته وكسبا للوقت في تسلحه، ومهما يكن الأمر فقد أعلن حريته في معاملة الدول الأوروبية الأخرى لنص المعاهدة على أن من حقه أن ينتفع بإيطالية كوسيط بينه وبين الأمم الأخرى، ويتمسك الطلاينة بأنه ألزم نفسه باتخاذ إيطالية واسطة اتصال، وبأن كلمة «الحق» شيء عقيم يحاول به منليك أن يفلت من المعاهدة، وكان جيشه مستعدا، وكان خطر المهدي زائلا، وكان معقله الطبيعي مع جباله ومطره من المنعة كما في دور ظهور البراكين، ويحاول مبارزة إيطالية إذن، وينال نصرا حاسما عزيزا إذن، وتعد هذه مقابلة للهزيمة التي وقعت منذ ثلاثة قرون ونصف قرن، والقصة القديمة تقول: إن نجاشي الحبشة النصراني كان قد أمر بخصي كثير من أسراه النصارى.
ولكن تلك الإهانة لم تحرك ساكن وزارات أوروبة، وقد قيل: إن الوزير الذي يفكر في مصير جنوده لا يشهر حربا أبدا، وقد أوجب عدم وجود مثل هذا الخيال هلاك الملايين من المؤمنين بالمثل الأعلى الذي يلوح لهم به، والذي يرون أن من مقتضيات الواجب والشرف أن يضحى بالحياة في سبيله.
وفي سنة 1896، وبعد معركة عدوى، يكتئب أذكى الأوروبيين فلا يعرفون أين كانوا، فقد هزمت دولة أوروبية عظيمة من قبل قبيلة لونها كلون القهوة مع اللبن، وهل كان ذلك نذير ارتقاء الشعوب السود وعصيان الزنوج؟ وهل كان من الواضح أن الطبيعة تحمي الحبشة تجاه كل غزو كحمايتها لروسية؟ وهل نجا منبع النيل من أوروبة إلى الأبد مع أن مستقبل بلدين كبيرين يتوقف على امتلاكه؟ لا يزال رجال المهدي يمسكون السودان وإن ضعفوا، ويمكن «مفتاح النيل» الأسطوري، الذي يتحدث عنه جميع العالم من غير أن يعرف أمره، أن يعين السيادة هنالك وفي مصر، ويؤثر بطل عدوى في زملائه البيض لما كان من عدم مطالبته إيطالية، حين إمضاء المعاهدة، بغير الاعتراف بسلطانه، كما طلب بسمارك من النمسة بعد معركة سادوه.
ويضحي منليك، الذي هو أقوى أفريقي في عصرنا، ضحية امرأة أراجة
8
اسمها طيطو «رهج
9
شعاع الشمس»، وكان الأمير منليك زوجها الخامس، وكانت ظريفة هيفاء، وكان يرغب فيها لبياض بشرتها، وهي لا تمت بصلة إلى الأم السمينة التي نشرت صورة لها في أوروبة، وكان اقترانهما عقيما، وهو لعطله من وارث لعرشه عين ابن ابنته وليا للعهد، وتود طيطو أن يكون أخوها نجاشيا حرصا على حفظها قسطا من السلطة، وتلجأ إلى وسيلة شائعة بين أشراف الحبشة، تلجأ إلى السم، ولم يسفر السم عن موت منليك وإن ناهز
10
السنة الخامسة والستين من عمره، ولكنه يصاب بغبش ذهني وشلل بدني، ويدرك في فترات صحوه ماذا وقع ويعين ولي عهده مرة ثانية.
وتلقي دسائس البلاط رداء من الكآبة على أواخر أيام منليك، ويتوفى منليك سنة 1913 في السبعين من سنيه، موحدا الحبشة بعد فوضى دامت أكثر من قرن، جاعلا جسما واحدا من سبع ممالك ومستعمرات واسعة.
الفصل السابع
رجلان يسيران في مرتج
1
على طول نهر نصف جاف، وكلا الرجلين على سفر، والذي يتقدم الاثنين هو الرسول بطرس المشابه الذي يبدو على فسيفساء رافنة،
2
فهو ذو رأس أسمر يحيط به شعر طويل ولحية قصيرة سوداء، وهو ذو عمرة
3
لا شكل لها ولا لون، وهو أسود العينين حامل بيده سيفا مجردا ذا مقبض على صورة الصليب كأنه من جنود الحروب الصليبية، ويبدو خلفه عبد جاف ذو رداء رمادي واسع عاري الساقين حاسر الرأس حامل حملا ثقيلا على ظهره خافض الرأس خفضا يحول دون تبين ملامحه، وهكذا يسيح الحبشي البعيد من عاصمة بلده على جباله، راكبا ظهر بغل أحيانا ماشيا غالبا، وذلك في سنة 1930 كما لو كان في سنة 1130.
ويتعذر في داخل البلاد تمييز مختلف الأمثلة البشرية، فبينما ترى العرق العربي غالبا في الساحل يبدو العرق الزنجي غالبا في الجنوب؛ ولذا يكون الجنس الحامي الأصلي قد تغير تغيرا تاما باختلاط العروق، وما نشأ عن هذا الامتزاج من شعب فيرجع اسوداده إلى فعل الشمس، وإلى ما فيه من دم زنجي، وليس إلا ضربا من الرموز أن تكون تلك القبائل ذات أظافر صفر بيض وملتحمات
4
صفر، ومن صفاتها التي لا تجد لها تفسيرا هو أنها عسر
5
بأسرها تقريبا، فهي تحمل أسلحتها وآلاتها باليد اليسرى، وهي لا تستعمل اليد اليمنى إلا في حال تعدها شاذة مقدسة كعد النقود والنزول من ظهور الخيل.
وللأشراف مشية الرسل، وإليك القديس مرقص اللابس حلة بيضاء، ذات كمين واللابس سروالا ضيقا، وله طور بزنطي حين جلوسه على كرسيه المنسوج وغسل عبد لقدميه.
وآخرون يستقبلون الضيوف في أكواخهم المصنوعة من صلصال، وهم، بأوضاعهم وملامحهم ولونهم البرونزي وسناء ثيابهم الكثيرة الوشاء،
6
يذكروننا بزمر تنتوريتو،
7
وإذا أضفت ذلك إلى عيونهم السود وصمتهم الناطق والأسلحة التي يحملونها دوما أبصرت فيهم منظر الأنبياء المثير للحنان ويلبس الراسات - الذين هم أقوى أولئك - معاطف ذات قبات
8
ضيقة مع حواش بيض فيشابهون بذلك أعيان تيسان لو كانت شفاههم رقيقة، وترى في الظل وراءهم ترسا محدبا وسيفا قصيرا ورمحا ساطعا، وتنم قدودهم ولونهم على حسن صحة أبدانهم في الغالب، ويطيلون الإقامة بالجبال في الهواء الطلق.
والحشمة سمة نساء الطبقة العليا، ويندر أن تراهن في الطرق، وإذا ما أبصرتهن في البيت - والبيت وحده هو الذي يحق لهم أن يجتمعن فيه بالرجال - بهرتك عيونهن اللوزية والعناية العظيمة التي يبذلنها في زينة رءوسهن والوقت الكبير الذي يقضينه في هذا السبيل، وهن - لما يشددن بعض ضفائرهن الصغيرة المجدولة جدلا فنيا ببعض - يظهرن قصيرات الشعور بعض القصر على حين تبدو شعور الرجال طويلة بعض الطول، ويبلغ النساء من الزهو بعملهن هذا ما يضعن معه رءوسهن على قطعة خشب في أثناء نومهن وصولا إلى دوام أثره، والزهم
9
هو الدهان الذي يستعمله كلا الجنسين.
وهن كالباريسيات المتبربرات ينزعن حواجبهن، ويخططن أقواسا سمرا بدلا منها، ويدهن الأجفان بصباغ أسود، ويدهن الأيدي والأرجل بصباغ أسمر وأحمر.
والحبشة دولة كهان بلا تدين حقيقي ، وكل شيء هنالك خاثر
10
في شعائر كئيبة عاطلة من التصوف خليقة بالقرون الوسطى غائرة في الخرافات فاسدة بالتجارات، ويرى الرواد أن خط الأدب الخلقي هنالك يصعد من النصراني إلى المسلم فإلى اليهودي فالوثني.
ويجوب البلاد مئات وألوف من القساوسة والرهبان، ويعرفون بلحاهم الطويلة السود أو الرمادية وشالاتهم البيض فوق رءوسهم وأحذيتهم الناتئة الطرف وبصلبانهم الذهبية أو المعدنية المتدلية على صدورهم، وطبقة الكهنوت العليا مؤلفة من العلماء، وهم كمعظم الأقباط عارفون بعض المعرفة بالدنيا، ولكنهم يظلون في برجهم العاجي ويهددون بالقتل كل من يود ترجمة التوراة من الإثيوبية القديمة إلى الأمحرية الحديثة، وهم إذ يلجئون إلى الحرم وما إليه من الوسائل، غدوا أصحاب أملاك واسعة يؤجرونها أو يستغلونها بواسطة العبيد، وهم - كأساقفة القرون الوسطى - يعيشون بما لهم من نفوذ في الأمراء، ويحمل البطرك لقب «بابا الأقباط والأحباش»، وهو ينتخب من قبل المجمع الروحي القبطي في الإسكندرية، ويجب أن يكون دوما علمانيا من الطبقة الدنيا، وهو كلما زكي ظهر مختارا من الرب، وهو يعنى بتربيته ويكرس باحتفال ويرسل إلى الحبشة فلا يحق له أن يغادرها بعدئذ، وأطيب من ذلك حياة سجين الفاتيكان.
ولا يصعب على جماعة القسيسين أن تخفي حكمتها عن الشعب، وهي التي لم تتعلم شيئا، وهي التي لا يعرف أكثرها حتى القراءة، وإن الشاب الذي يكون من الفقر ما لا يستطيع أن يعيش معه وجيها إقطاعيا، والذي يكون من الكسل ما لا يتعلم معه استعمال السلاح ينال - عن قرابة أو بوسائل أخرى - حظوة لدى قسيس عال فيصلب
11
له هذا القسيس ثلاث مرات وينفخ عليه فيصبح قسيسا مصنفا كأمراء الألمان الذين كانوا يغدون من قواد الجيش فيصير بذلك في حمى من حدثان بقية أيامه، ولا مناص من إطعامه لما يتمتع به من حق منح البركة وغفران الذنوب، والناس يزدرونه مع ذلك، والناس يخشونه مع ذلك، ويحق للقسيسين المرءوسين أن يتزوجوا مرة واحدة، فإذا ما آم
12
أحدهم من زوجه لم يحق له أن ينكح امرأة أخرى.
ويعيش الرهبان والراهبات في فقر وبطالة وعبور سبيل فاقدين كل كرامة، ومن هؤلاء أمراء مخلوعون وأغنياء محرومون ومجرمون سياسيون باحثون عن ملجأ لهم في دير وأناس أفزعتهم ضروب الوعيد، وشغل جحفل هؤلاء الرهبان المتسولين الوحيد هو أن يجادلوا على مدى البصر مبشري الأجانب حول طبيعتي يسوع ليعين أمر تعميده مرتين أو ثلاث مرات.
ويقوم القس بالقداس في أكواخ الجبل العالي مزملا
13
عادة بجلد ضائن
14
لخصره
15
حاملا بيديه الغليظتين صليبا وسبحة وردية، ولا ينبغي له ولا لأحد من المؤمنين الحاضرين أن يمس امرأة بعد هزيع
16
من الليل ولمدة أربع وعشرين ساعة. ولكن صراخ الذكور والإناث وما يمازج درداب الطبول وصوت الدفوف من نهيق الحمير وخوار البقر أمور تثير في النفس منظر العربدات، ولو قيست التقوى بعدد الأعياد الدينية ما وجدنا أمة أتقى من أقباط الحبشة، ولا عجب، فأعيادهم تعدل ثلثي أيام السنة، وتعد أيام الأربعاء والجمعة أيام صوم، وإذا ما فكر فيما يسود الناس هنالك من كسل شامل سئل عن العلة والمعلول.
وهكذا يعيش معظم الأحباش في غسق
17
ذهني، ولا يعرف عددهم معرفة تامة ويزعم ثلاثة، أو أربعة، ملايين من الملايين العشرة أنهم من «الخلص»، وأنهم من نسل النصارى الأولين، ومستواهم دون ما عليه زنوج بحيرة فيكتورية الذين لا يدرون ما الدين ولا الإيمان، وليس عندهم حتى براءة الدنكا العجيبة النابتة تحت الشمس، وما يبدون من اعتقاد كاذب بالرب فينعم عليهم بالغرور ويحرمهم نعمة الحرية.
والمسلمون أكثر عملا، ويبلغ عددهم بضع مئات من الألوف، ويعيش أكثرهم في ولاية هرر الشمالية، ولا يساوي ما يحوكونه من نسج كبير شيء، وهم أهل كد، وهم، وإن كانوا لا يحسنون إدراك تعاليم دينهم الصحية، يراعونها على كل حال، ويسمى بقر الماء عندهم «خنزير النهر» فلا يأكلونه لتحريم لحم الخنزير عليهم، ويستعملون مع الفتيات طريقة خاصة اخترعوها، أو انتقلت إليهم لوجودها في المجرى الأوسط من النيل الأبيض، وهذه الطريقة أشد فعلا من نطاق الطهر لدى الصليبيين، فهم يلفقونهن
18
بسبائب
19
الخيل ليكن أبكارا يوم الزواج. ومن الأزواج من هم غيارى فيلجئون إلى هذه الوسيلة مع زوجاتهم إذا سافروا، وهي أرخص من حراستهن بالخصيان لما يكلفه الخصيان من أجر عال.
وليست لدينا معرفة تاريخية ثابتة عن اليهود، عن الفلاشا، هنالك، ويبلغ عدد هؤلاء نحو خمسين ألفا؛ أي تعدل نسبتهم بين السكان واحدا من مائتين تقريبا. وهل جاءوا الحبشة حينما دخلها دينهم قبل الميلاد بألف سنة أو بعد الميلاد؟
وقد انجذب العرب مبكرين إلى التوحيد اليهودي الذي كان وحيدا في ذلك الحين فاعتنقه أمراؤهم، والآن لا يعرف هؤلاء اليهود العبرية ولا يؤمنون بمسيا (المسيح) ولا يزاولون أية تجارة كانت، وهم من الناحية الجثمانية يشابهون الأحباش الآخرين، فلهم أنف أفريقي وفم أفريقي، مع أنك ترى اليهودي في الناحية الأخرى من البحر الأحمر، وعلى درجة العرض نفسها، يختلف عن العربي اختلافا تاما، ويمتاز اليهود من أهل البلاد الآخرين بما يعترف لهم به النصارى والمسلمون من ذوق وخلق.
ويرى رائد ألماني: «أنهم أنفع سكان ذلك البلد.»
ويقيمون بجوار العاصمة وحول بحيرة طانة، ويظهرون أمر صناع الحبشة وأحسن حداديها وبنائيها وصيدلييها وخزافيها وصائغيها، وقد يملكون أطيانا، ولكنهم ليسوا من الأغنياء، وهم لا يؤجرون خدما ولا يقرضون نقودا، وتكاد صلواتهم
20
تشابه بيع
21
النصارى، ولكنهم يكتمون طقوسهم الدينية ورموزهم وكتبهم المقدسة التي هي بالأمحرية، ويحافظون على سنن الأكل وقواعد النظافة ويتوضأون إذا ما مسوا من ليس يهوديا، ولا يعرفون غير قليل من التوراة كالنصارى.
وعلى ما هو واقع من نقص عدد اليهود كثيرا لا تزال عاداتهم ذات نفوذ كبير في الطقوس النصرانية كما في الماضي، فمما اقتبسه النصارى منهم ختان الجنسين، وتقديس السبوت مع الآحاد، واتخاذ خلق العالم مبدأ للتاريخ، ورقص القسوس حول قدس الأقداس، وشيد الكنائس المهمة على طراز هيكل سليمان، وتفضيل العهد القديم، واعتقاد العود إلى أورشليم (القدس)، وتحية «ليكن السبت معك!»
والغلا الوثنيون، الذين يقال: إنهم هاجروا إلى البلاد في القرن الرابع عشر نتيجة لعدم المراعي في منطقة جبل إلغون، كثيرون بين الأرقاء والشرفاء، ويعدون أحسن جنود البلد، وهم سيافة
22
ونبالة
23
ماهرون، وهم فرسان ممتازون، وهم لا يستعملون الأسلحة النارية مع ذلك، ولا ينفك الأمراء ينتفعون بهم في حروبهم الطاحنة كمرتزقة، ويقال: إنهم يمتازون من النصارى بأعمالهم ونشاطهم وقناعتهم، ولكنهم كالنصارى قسوة وتعطشا إلى الانتقام، ومن المحتمل أن تكون عادة المثلة
24
بالعدو وخصيه وحمل قضيبه على الزنار
25
كغنيمة أو تعليقه على باب القتيل من مبتكراتهم، وإذا عاشت زوجة المغلوب مع الغالب من غير مراعاة لهذه العادة طعنت فيها النساء الأخر، ويروى أن الغلا يقدمون قرابين بشرية إلى آلهتهم، وأن هؤلاء الضحايا يعينون بالقرعة وقت المجاعة، والغلا يخافون النيل (الأزرق) فيضحون عند منبعه بعجول وبقر، والغلا يعبدون الشمس والنار والأشجار والحجارة الثلاثة الكبرى التي سقطت من السماء بالقرب من النيل الأزرق، بيد أن عاداتهم تختلف بين قرية وقرية، وهم حين تظهر بينهم هنالك بقايا من التمدن المصري القديم مع الكاهن الملك والثور المقدس يبدو لأعيننا منظر شامل لحضارات لا يستطيع أن يحققها غير النيل في جميع العالم الغربي.
الفصل الثامن
ضيق الرتائج،
1
وظاهرة الأمطار، واتساع البلد الذي هو أكبر من فرنسة وإيطالية مجتمعتين، وتعذر مراقبته في مجموعه، ومشكلة حكومة في قطر يأبى المركزية وعاطل من أي شعور بالتضامن الاجتماعي كما في سويسرة، والغزوات التي تعرقل الصناعة، وجمهور القساوسة الذين يخشون العمل، واستبداد السلطة المركزية التي يحمل عليها الأفراد دوما، كلها عوامل تؤدي إلى الفوضى ولو لم يكن في الأساس عبيد، ولا يرجى إصلاح اجتماعي بواسطة العبيد، وقد حلت المعضلة الاجتماعية بأبسط الطرق، ولو لم يكن القوم نصارى ما اعترض على الحل، وليس الخلاف بين السلطان والإيمان أعظم مما عند شعوب أوروبة، وإنما هو أكثر منه وضوحا.
والنجاشي الشديد النصرانية هو أول من يتجلى فيه ذلك الخلاف، فمنذ ثلاثين سنة مضت كانت له خمسمائة سرية، وكان من هؤلاء السراري عشرون يقمن بجوار قصره المباشر، (وهذا ما يصعب تحقيقه الآن)، وتجد أصل هذه العادة في المبدأ الغريب السائد لجميع تلك القبائل، وهو أن على الملك أن يكون له أكبر عدد ممكن من الأولاد. وفي بلاد العرب القديمة، حيث تقترن الحظوة بالمنزلة ، كانت حظية السلطان تغمر بالهدايا كما في رواية ألف ليلة وليلة، واليوم يعد النجاشي مثل هذا الأمر من شدة القبول ما يجب معه على كل سرية أن تأتي بجهاز جميل، أن تأتي بالبقر والخيل والعبيد والفراء، ومما يضيفه العقد إلى ذلك أحيانا إحضار اثني عشر هرا لإبادة الفئران، وهذا إلى وجوب اعتناق السرية للنصرانية.
والسرية إذا وضعت ابنا غير شرعي كانت أوفر حظا من الإمبراطورة التي يسجن أبناؤها على العموم عند تغيير ولي الأمر، والقرآن ينظم هذا الوضع بأحسن من ذلك، وأكثر من ذلك ملاءمة للفطرة وضع الزنجي الوثني الذي يعد المرأة أداة للعمل فلا يفرق حتى بين الولد الشرعي والولد غير الشرعي الذي كان اختراع البيض لعدم شرعيته أعظم الأمور مخالفة للأخلاق!
وتوج النجاشي الجديد سنة 1930، ويلوح أنه عصري أكثر مما يود أن يبدو به، ولكنه يسيطر كأحد الخلفاء، والخط الحديدي الوحيد في بلده هو الذي يصل الساحل بالعاصمة التي لا تحتوي غير هاتف واحد، وبالقرب من بحيرة طانة ترى أعمدة مقلوبة لخط برقي خرب، ويأكل النجاشي على أطباق من ذهب، غير أن أكثر مساكن مدنه الثلاث من الوقش،
2
وهو قد دعا مجلسين ليقوم عملهما الوحيد على الموافقة بهز الرءوس، وهو مع ذلك قد كان من النباهة ما زوج معه أحد أمرائه بقريبة لملك ياباني في سنة 1932 حين منح اليابان امتيازات عظيمة.
وإذا ما أقام النجاشي مهرجانا ترويحا لحرسه فصلته هو وحاشيته ستائر مسرحية كبيرة من الرواق الذي يعيد فيه ألفا جندي، وترى بجانب من الستار منظرا من مناظر القرون الوسطى، ترى ضباط القصر جثيا، وترى ملكا يأكل ويشرب ويسمع لمغن ويهيمن. وترى في الجانب الآخر جمهورا جالسا القرفصاء حول موائد منخفضة صاخبا مصفقا لينسجم هو وجوقة مؤلفة من دفوف وطبول، وبين الصفوف تبصر مئات العبيد يحضرون ضأنا كاملة وأرباع بقر فيمكن كل مدعو أن يقطع حصته بسكينه، ثم يؤتى بطسوت
3
مملوءة ماء وبمناشف لغسل الأيدي القذرة بعد المأدبة، ثم يجلب شراب العسل في براميل والجعة في دنان
4
فيملأ عبيد آخرون أكوابا وقرونا للشرب، ويرفع الستار في آخر الأمر فيخر الحضور للنجاشي ساجدين، وهكذا تشد في يوم واحد مشاعر ثلاثين ألفا من الرعايا الأوفياء.
ورئيس التشريفات أكثر رجال الحبشة هما؛ وذلك لأن الألوف من كبار الموظفين هم في دور الانتظار بحكم المقام والوسام، وإلى أي مدى يكون صدر النجاشي مجردا، وما هو المقدار الذي يجب أن يكون به بدن الأعيان كاسيا؟ وما هو عدد الدفافين
5
والطبالين الذين يجوز أن يتقدموا أحد الموظفين في الطريق؛ أي إلى أي مدى يحق لموسيقاه أن تكون صاخبة، وإلى أي درجة يجب أن تكون موسيقى الموظف التابع أقل ضجيجا؟ ومن ذا الذي يحق له أن يلبس سروالا كسروال النجاشي أو مماثلا لسراويل الوزراء؟ ومن ذا الذي يكون على مقبض سيفه شبه لوح معدني؟ ومن هم أصحاب الامتيازات الذين يستطيعون أن ينتحلوا بعض الألوان لمعاطفهم ومظالهم؟ هذه هي المسائل التي تشغل بال الأشراف في طول البلاد وعرضها، وهي مصدر كل سلطان، وبفضل علامات الشرف هذه يتمتع بملاذ الحياة.
وتبصر على ذورة الهرم الحبشي إمبراطورا واحدا، وتبصر ألوف العبيد دونه. والواقع أن الحجارة في الهرم يثقل بعضها على بعض، فعلى المرء أن يسعى ليكون فوق غيره إذن. على أن النجاشي إذا ما أراد أن يكون عادلا لم يسطع أن يرى كل شيء، فالجبال أعلى من هرمه، ولم يحدث حتى الآن أن بحث رجل أبيض بحثا عميقا عن لصوصية الإقطاعيين في المدن والقرى والمراعي وضفاف الأودية العليا، وعن الأساليب الجديرة بالقرون الوسطى فيعيش بها الأمراء والشرفاء والقساوسة على حساب مرءوسهم، وليس للضباط والموظفين شهريات أو لا يقبضون غير رواتب هزيلة فتجدهم ينهبون الشعب مع ازدرائهم إياه كازدراء الشعب لفقراء الضباط والقسوس، ومما يروى أن راسا أمر وهو يحتضر قائلا: «ادفنوني مع ترك ذراع لي خارج التراب حتى أستطيع أن أجبي ضرائب.»
ومن ذا الذي يشعر بحافز نفسي إلى العمل في هذه الدولة التي لا يكون غير الموظفين أصحاب مال فيها؟ وكل شيء هنالك خاص بالنجاشي، والنجاشي لا يقطع المقربين أرضا إلا لكي يجمعوا ضرائب عالية، ومثل هذه الضرائب لا تجبى في بلد سيئ الزراعة كذلك البلد إلا بالإغضاء عن اللصاص
6
والنخاسة، ولا تجد غنيا يشتغل هنالك، وتجار المسلمين وحدهم - وهم أوسع حيلة من النصارى - ينالون بعض الربح من السلع التي يصدرها النجاشي كالعاج والبن والشمع والجلود؛ أي ما تعدل قيمته ثلاثين مليون دولار
7
دع عنك حساب الذهب.
وليست النقود الذهبية هي التي يعرفها الجميع ويرضى بها، وإنما هي الدولارات الفضية الكبرى المشتملة على صورة عاهلة بعيدة يجهلها الناس في الحبشة جهلا تاما، فمما حدث منذ قرن ونصف قرن أن أدخل نمسويون من تجار الشرق الأدنى تالير ماري تيريز، فلم ينقطع ضرب هذه النقود منذ ذلك الحين لهذا السبب، ويستحب أن تلوث النقود قبل أن يتداول بها لرفض القطع اللامعة من قبل سكان البلاد الأصليين، وعند بيكر أن سبب حظوة هذه النقود هو وضوح نقوشها البارزة.
وليس لنصارى الحبشة - بعد اتصال قرون بالحضارة - حتى أخلاق الأوغنديين الوثنيين وأوضاعهم قبل وصول البيض الأولين، فالشعب يمزق اللحم التيء بالأسنان، وهم لا يختلفون عن الأنمار في ذلك إلا بتقطيعهم اللحم بسكاكينهم بين أسنانهم، والأغنياء منهم، ويلبسون قلائد كثيرة من ذهب وريش، لا يفكرون إلا نادرا في تعليم أولادهم شيئا غير القراءة والكتابة، وقليلا من تاريخ بلدهم وجغرافيته في بعض الأحيان، ومعارف ضئيلة عما يعيش فيه من حيوان ونبات، ولا ترى هنا شيئا من مهارة زنوج أفريقية الغربية، وتقتصر الموسيقى على الأوراد الكنسية المملة وعلى صوت الدفوف ودرداب الطبول، ولا تبصر رقصا قوميا، ولا تعرف الدمى التي هي ألعوبة جميع القبائل الزنجية، وتلعب لعبة الداما وضرب من لعبة الكرة والصولجان.
الفصل التاسع
وكيف يداوم شعب يرسل في كل سنة ألوف الحجيج إلى القدس على السكن مع الأنعام في أكواخ مصنوعة من سوق الشجر ومن العوسج
1
والعشب والبعر؛ أي يأتي أمرا لا يطيقه معظم الزنوج؟ وفي كل يوم، وباللاسلكي، تتصل العاصمة بأوروبة، ويصل العاصمة بالبحر خط حديدي، ولا ترى - مع ذلك - طريقا صالحا لمرور العربات، ويطفح البلد بالحديد والرخام، ولا يستطيع ابن البلد أن يجندل شجرة مع ذلك، وابن البلد يحرقها بالقرب من الأرض إسقاطا لها مع ذلك، ولا تقل إن القوم هنالك لا يزالون يعيشون في القرون الوسطى، فقد دخلت الحضارة والنصرانية في الحبشة قبل دخولهما في فرنسة بزمن طويل.
ومنذ نحو ثمانين سنة؛ أي أيام الحملة الإنكليزية في سنة 1862، اخترع الأحباش عذابا جديدا قائما على شد الأسارى بالوثاق
2
وقتلهم بإدخال مسامير طويلة إلى صدورهم، ولا ريب في أن جبلتهم مصدر هذه الوحشية، وأن المطر والريح والجبل والسيل مصدر هذه الجبلة.
ومن الطبيعي أن يظل عاطلا من الحراثة والثقافة ذلك البلد ذو الجبال الموحشة، والذي تتحول طرقه في كل صيف إلى أنهار، والذي يسيطر عليه أشراف متحاربون يحافظون على أنفسهم بجيوش من العبيد، ولا يطمئن الفلاح إلى الغد ولا يعرف مصير أرضه فيثير طرفا من الحقل متراخيا ويلجأ إلى أحد المخابئ التي تكثر في البراكين الهامدة، وتنمو البسالة والقسوة هنالك تحت ظل نصرانية مشذبة تشذيبا غليظا.
وما تبصره من ندوب
3
كي
4
كثيرة في الأولاد فينم على الأسلوب الذي يلقنون به الشجاعة، والبطل هو الذي يمسك في يده عصافة
5
ملتهبة أو خشبة مشتعلة في أطول زمن ممكن، وإن التينيا،
6
التي جعل الإفراط في أكل اللحم النيئ والقذارة منها مرضا قوميا، هي من كثرة الشيوع ما يعد بعض القبائل عدم وجودها أمرا مخزيا.
أجل، إن الزنجي يخشى المرض، ولكنه لا يسير على غرار كثير من القبائل الحبشية فيحرق بيتا يشتمل على مصابين بالجدري ويمنع هؤلاء المرضى من الفرار بقوة الحراب. أجل، إن الزنجي يعلق رأس عدوه المقهور في ميدان عام، ولكن الحبشي يحمل على زناره قضيب عدوه المقتول كحزام الفشك
7
وكآية على الخصاء الذي هو من خواص ذلك البلد. أجل، إن النصراني الأبيض يذبح بقرا أيضا، ولكنه لا يوجهه في بدء الأمر شطر القدس
8
صارخا: «باسم الأب والابن والروح القدس!»
أجل، إن الزنجي يأكل اللحم التيء، ولكن المسايي يحتكرون أفظع العادات الحبشية، فهم إذا ما أولموا
9
أتوا بثور إلى الردهة وقطعوه حيا من غير مس شرايينه لكي يموت بنزيف بطيء على أعين الضيوف وهو يخور،
10
ولا تزال هذه العادة قائمة منذ قرون وإن أنكر أمرها، وهي لم تزل، وقد وكد الرواد المعاصرون خبرها كما وكده الرواد السابقون، وأي الرجلين أكثر ضراوة: آلرجل الذي يأكل لحم إنسان ميت أم الذي يعضو
11
حيوانا حيا؟
ومن شأن الخرافات - التي يستتر الخوف تحتها لدى القساة - أن تزيد اضطراب المشاعر، ومن ذلك أن الحبشي يتلفف ليلا في نسائج خشية اللامة،
12
فالزوجان المزملان على هذه الصورة يشابهان الأجسام المحنطة.
وللغلاظ حركات جميلة أحيانا، والغلاظ يقومون بأوضاع فخمة تعويضا من أعمال أتوها منافية للأدب وإعادة لنظام قوضوا دعائمه، وإذا ما التقى رجلان راكبان بغلين ترجلا قبل أن يسلم أحدهما على الآخر، ورفعا من الصدر طرف نوع من الحلة يتخذونه ثوبا، وهما كلما تجردا كان ذلك دليل احترام عميق.
والنكاح سر مقدس يستطيع كل واحد أن يأخذ به ما طاب له من النساء، ويكون جميع أولاد الرجل شرعيين خلافا لأولاد النجاشي، وتنال كل زوجة ما تدعيه من نفقة، وعلى ما يقضى هنالك من حياة جديرة بالقرون الوسطى ترى الناس يتمتعون بنظام عصري تام الجدة، وهو الزواج التجربي مع الشعار: «لنبصر هل تحمل أولادا.» وترتبط البنات بأبويهن في الزواج الأول بين السنة الحادية عشرة والسنة الثالثة عشرة، ثم يصبحن حرات في الاختيار، وإذا لم تجد البنت الغنية زوجا اتخذت لها خليلا عاشقا فتدفع إليه جعلا وتعامله مثل خادم، وهو يدعى «فوتبيتا» أي «طاهيا»، ويلزم بأن يعيش في الجوار، وأن يظل وفيا لها مع احتفاظها بحريتها!
ولا يحق للخاطب أن يزور خطيبته، فإذا فعل ذلك وجب عليها أن تفر مذعورة عند وصوله مع أن من حقوقها أن تستقبل شبانا آخرين أفرادا، ويجهل الأحباش القبلة، وإنما يدلكون مقابلة ميامن أنوفهم بالسبابات،
13
وهم يشترون أزواجهم كالزنوج، وهم كالبيض يولمون ويقصفون
14
يوم الزواج، حتى إنه يدعى إلى المأدبة «تلقام»
15
يبتلع خمسا وعشرين لترة من الجعة، ويلتهم من الطعام مثل هذا المقدار، وتشابه هذه الجعة شراب العسل، وهي لا تشرف - كما في ألمانية - بأسماء الملوك والنسر والأسد، وهي تسمى شراب الغلا؛ أي «شراب العبيد».
والقس يمثل دورا مهما عند الولادة وإن كان غير ذي قيمة في حفلة الزواج، ويجتنب الرجال الآخرون بيت النفساء خوفا من التدنس، وهم يفرون تحت وابل من سخر صدائق الأم الفتاة، وليس للزوج غير حق ركز حربته في وسط الباب ليكون الوليد شجاعا، وينشأ عن اعتقاد دنس الزوجة، وهو اعتقاد غريب لدى النصارى، منعها من صنع خبز الذبيحة، والزوجات يخاطبن أزواجهم بصيغة الجمع المخاطب، والأزواج يخاطبون زوجاتهم بصيغة المفرد المخاطب، ويسهل حل النكاح كما يسهل عقده، ويمكن الزوج أن يبيع زوجته نيلا للمال، والزوجة تصنع ما ترى انتقاما لنفسها.
الفصل العاشر
ونوح هو مصدر الخطأ، ولا ريب في أنه كان نشوان حين لعن ابنه حاما وحكم عليه بأن يخدم إخوته، فصار جميع تجار الرقيق يستشهدون به، ولم يعرف ماذا كان يفعل، فما كان حام شرا من سام، ولم يقل ما أتاه اللاحاميون من ظلم عما أتاه اللاساميون. ومهما يكن الأمر - وعلى ما كان من اضطهاد اليهود - فإن ورطة اليهود دون ورطة حفدة حام الذين قضوا حياتهم موثفين بالقيود، أو عدوا سلعا وظلوا عبيدا حتى الساعة الحاضرة، والحق أن المضطهد يمكنه أن يصارع وينتصر، وأن قيمته الشخصية تزيد بمقاومته، وهو إذا ما قهر وذعر وصبر ووجد في الانتقام القادم سبب سرور له، والعبد مع ضياع الحرية يخسر أمل الانتقام، وإذا ما جر القيد جيلا بعد جيل ذبلت المشاعر كذبول الأعضاء المعطلة وزالت في نهاية الأمر. ويلوح أن نظرة الأسد الذي ولد في الأسر تنم على أنه يعلم فصل القضبان له عن الحرية في غابة آبائه، وعاد العبد لا يدافع.
وفي ذلك تفسير للسر في وجود عبيد منذ سبعة آلاف سنة وفي قلة عصيانهم، وتاريخ العبيد أطول من تاريخ الطوائف الأخرى ومن تاريخ الكهنة. وكان لأكابر محبي الإنسانية عبيد، وكان للحكيم سولون
1
وللعادل ليكورغ
2
عبيد. وكان قيصر يسيطر على إمبراطورية ثلثاها عبيد، وما كان المسلمون أحسن سيرا، ولكنهم كانوا أقوى دليلا، وكان محمد، كجوستينيان،
3
الذي عاش قبيل ظهوره، شاعرا بما بين مذهبه وبين الرق من تناقض، وهو لم يبد من الإقدام ما يدك به ركن الدولة ذلك مع ذلك مكتفيا بأمره بالرفق بالرقيق، وهو قد أخضع الكافرين من غير إكراه على اعتناق الدين. واليوم يمتنع المسلم في بلاد الرق عن حمل الزنجي على الإسلام لما يؤدي إليه إسلامه من إعتاقه، ولا مكان هنا لتصنع الحنان، ولا أحد يزعم تساوي الناس، الله أكبر، ودعنا نبيع الكافرين في دار الحرب إذن! ولم يعمل الخلف بما أمر به صاحب الشريعة من رفق بالموالي.
والرق في عهد أشد ملوك إسبانية كثلكة دام حتى القرن السادس عشر فدل ما ادثر به من رداء رثاء على درجة ابتعاد دين عيسى عن مذهب صاحبه أكثر من ابتعاد دين محمد عن مذهب صاحبه. ولما بدأ البرتغاليون، قبل كريستوف كولونبس، بتجارة الرقيق في الشاطئ الأفريقي الغربي كان لهم بلون جلود ضحاياهم راحة ضمير. ولما أخذوا يتصيدون الناس ويزربونهم بالألوف فوق سفنهم وينقلونهم إلى أمريكة الجنوبية اقتطافا لثمرات البلاد الحارة واستخراجا للذهب أوجبوا بذلك غزوا مصنوعا جاوز بنتائجه جميع ما تقدمه من المغازي، وتخلو أفريقية، ويصل الذهب من أمريكة ويثري الزراع ويفنى الزنوج.
وكما باع المسلمون النصارى يبيع النصارى الوثنيين في العصر الحاضر، وقد صرح أحد آباء الكنيسة العظام بأن الرق عمل صالح؛ وذلك لأنه يتيح لهؤلاء الكافرين من الحظ غير المنتظر ما يتنصرون به، ومن البابوات من قالوا موكدين: إن الرق نتيجة حتمية للخطيئة الأصلية، فكان موضع حمدهم، ثم جاء دور الإنكليز فأمضوا معاهدات لإمداد أمريكة بالعبيد. وإذا كان الأصحاب
4
الأولون من الإنكليز فإن شرف إيقاظ الضمير البشري يرجع إلى الولايات المتحدة. نعم، هز كلاركسن
5
شعور الإنكليز، ولكن الرأسماليين من النصارى استعانوا في القرن التاسع عشر بزملائهم من المسلمين في تجارة الرقيق، وما انفكت كتب الجغرافية المدرسية، حوالي سنة 1900، تعد العاج وريش النعام والمطاط والرقيق منتجات لبعض الدول الزنجية. والواقع أن كل من لا يحمل سيفا أو قلنسوة راهب في الحبشة يحسب عبدا.
بقعة ذات منافع.
وكانت الحبشة منذ القرن الثامن محاطة بمسلمين يستعبدون أسارى النصارى. وهل يوجد ما يوجب الشكوى من النصارى لسلوكهم هذا النجد بعد أن أتاهم السلطان؟ كان يجب أن يكونوا أرقى من إخوانهم البيض بأوروبة لئلا يفعلوا ذلك، وقد دام هذا أكثر من ألف عام، ومما رواه مبشرون حوالي سنة 1850 مشاهدتهم نخاسين من نصارى البرتغال هدموا قرى بأسرها وذبحوا 150 زنجيا ليغنموا 52 امرأة، وكانت الفتاة الغلاوية المليحة تساوي ثمنا يترجح بين 25 و0 تاليرا في أسواق الشمال.
وحاول بعض النظريين طويل زمن أن يدافعوا عن النخاسة، ومما كانوا يثبتونه خلو العهد الجديد من أي حظر لها، وكون مبدأ مساواة الناس أمام الرب ليس غير «تلطيف» للنص، وما كانت الثورة الفرنسية التي حاولت تطبيق هذا المبدأ في الحقل السياسي، ولا جهود الأصحاب، لتستطيع أن تقضي على النخاسة. وكان لا بد - لبلوغ ذلك - من سيادة النظام الآلي الذي يؤدي إلى بطالة كثير من الناس، ونقص قيمة العبيد في بعض الأصناف على الأقل، ويسفر نقص أثمان العبيد عن نقص في السخط، ويجد الرأسماليون البيض - ويتصفون بالحذر دوما - فرقا بين الرق والاتجار بالزنوج، فيحكمون على الأول مع الاستنكار (لخلوه من الربح) ويداومون على مزاولة الثاني.
وكيف يمكن الأحباش - الذين يجهزهم إخوانهم في المسيح بنعم الحضارة - أن ينالوا هذه النعم من غير بيع عاج وأناس؟ أجل، إن صيد الناس نقص إذا قيس بما كان عليه في القرن السادس عشر، ولكنه لم يبطل تماما، وللحل الحاضر من القيمة ما لمبدأ التسلح الذي يرثى له، ومن شأن إلغاء السلاح أن يؤدي إلى نظام أمور جديد. وعن العبيد قال سبيك: «إنهم مسحورون، فهم عاطلون من الشعور بقوتهم عطل الحيوانات الأهلية.»
ومن براهين البيض من النصارى أن الإعتاق الفوري يؤدي إلى تعس أناس غير أهل للحرية وارتباكهم بحس مسئولية جهلوها في كل زمن، ولا مراء في أن من المشاهد رجوع حيوانات إلى أقفاصها بعد أن سرحت ، ولكن صغارها التي ولدت حرة لم تفعل مثل هذا قط، ولا يصلح رفق بعض النخاسين - الذي يذكره المدافعون عن الرق - أن يكون دليلا مقبولا أكثر من تمجيد مروءة الطغاة. ومما يرى وجود عبيد يعاملون بأحسن مما يعامل به الخدم لما لا يعبر عنه الخدم بثمن. ومما يرى وجود قبائل كثيرة في الحبشة تعد من الجور بيع عبد أقام بينها زمنا طويلا، ولكن مثل هذا العبد يكون مهددا بالبيع على الدوام.
ويرى مع التوكيد أن المسلمين أكرم من النصارى في ذلك، ومن يكن له ولد من أمة يلزم بتحريرها مع أن قساوسة النصارى لا يعتقون عبيدهم. وبما أن القرآن يحرم الزواج بأكثر من أربع نسوة فإن من النادر أن يتزوج المسلم أمة كانت سرية لديه، والشريعة تكلأ
6
العبد في بعض الأحيان، فالعبد يحرر إذا ما فقأ سيده عينه، وهذه مبادلة جهنمية أدعى إلى الفزع من حق القتل!
وما هو مصير العبد بعد أن يحرر؟ هو يعد نفسه - من فوره - مساويا لأي شخص كان، وهو يدعو السود الآخرين بالوحوش، وهو إذا ما اكتسب - أو سرق - مالا اشترى عبيدا، وامتنع عن كل عمل وتعاطى النخاسة مفضلا إياها على غيرها. وإذ إن خوف الرب - لا السبب الأدبي - هو الذي أوجب تحريره فإنه يؤدي إلى أمور لاأخلاقية؛ وذلك لأن علل أعمال الإنسان تكون ذات رد فعل في نتائجها، فالعتيق الفاجر الكسلان المنتفخ يحاول كتم ماضيه ويفسد مستقبله، وهذا العتيق إذا ما أفلس عاد إلى مولاه القديم وركع أمامه، وتعدل الجناية القديمة في إبقاء الرجل عبدا بسبب مولده جناية حرمانه كل حق بسبب عقيدته. والرقية وحدها - لا المعذرة ولا المغفرة - هي التي تزيلهما.
الفصل الحادي عشر
كان يجوب أوروبة كردينال، حوالي سنة 1880، فينطق بمواعظ نارية ضد الرق، ويتبارى سادة الدنيا في تنظيم الولائم وفي إلقاء الخطب، ولكنهم لم يغيروا شيئا تقريبا، ولم يلغ الرق في روسية وفي الولايات المتحدة إلا منذ عشرين عاما قبل ذلك التاريخ، ويستفحل الأمر، ويتريب العالم النصراني من إمكان وجود عبيد من النصارى في الحبشة، وكان القمص النجاشي يوحنا قد حاول منع النخاسة، وقد كلم أحد السياح الفرنسيين منليك عن السخط الذي أثاره الكردينال لافيجيري ضد النخاسة، ويفكر النجاشي في الأمر ثلاثة أيام، ويصدر مرسوما ضد النخاسين المسلمين، ويأمر بتسريح كل أسير حرب في سبع سنين، ثم يذيع خبر تحرير بضعة آلاف من الآدميين، ويشترك رسميا في عهد مكافحة الرق ببروكسل الذي ينص في مائة فقرة على أمور حاول بعض الموقعين أن يتخلص منها.
ويمضي عام على ذلك المرسوم الأول الذي أصدره منليك فيبيح هذا النجاشي لجنوده أن يقتنوا عبيدا، ولما أيقن أمر تقديم أرقاء إلى بعض الضباط الأخلياء رضي بأن يهدى إليه عبيد مثلهم أيضا، وكان محتاجا إلى تجار من المسلمين لبيع الذهب والعاج فأغمض عينيه، ويبصر دوام «منافاة الأدب» في دولته فيود أن يستفيد منها، ويطالب بتاليرين عن كل عبد يباع، فيعيد الانسجام إلى عالمه بهذه العبقرية.
ومع ذلك يكون عمل جمعية الأمم شافيا إذا ما ألفت حلفا وأوجدت فيه شرطة أدبية فوق العروق والعقائد، وما الذي ظفرت به جمعية الأمم؟
حل اليوم التاسع من شهر نوفمبر سنة 1918 فرفع العلم الأبيض فوق ميادين القتال في العالم، وتخشى بنت منليك الإمبراطورة حدوث انقلاب عام فتذيع مرسوما تحظر النخاسة فيه فلم يعمل بهذا المرسوم كما أنه لم يعمل بالمراسيم السابقة، ويسخر الأشراف في أوديتهم العليا من تحريم يقل به دخلهم، ويجد تجار خشب الأبنوس طرقا ملتوية كما يجد المهربون في جميع البلدان الجبلية.
وإذا كان الرق مباحا فإن النخاسة محظورة، وإذ كانت بلاد العرب هدف النخاسة وجب على السلعة أن تجاوز البحر الأحمر، والبحر الأحمر مما تمخر فيه سفن البيض وقطع مهمة من الأساطيل الأوروبية. ومن الممكن - إذن - أن يؤخذ النخاسون متلبسين بالجريمة، وأن تراقب المرافئ الثلاثة التي يقومون فيها بمهنتهم، وكان النصر قد تم للنكولن في صراع أصعب من ذلك، ولم يصنع البيض شيئا.
وفي غضون ذلك تعلم الإمبراطورة من رسلها أو من بعض السياح أنه يجب على من يود أن يكون من العالم المتمدن أن يصبح صاحب مقعد في جنيف، وتكترث للمصالح التجارية أكثر مما للحضارة والدين، وتطلب رسميا قبولها في جمعية الأمم، وتصرح في طلبها بأن النخاسة محرمة في الحبشة، وأن الرق يزول بالتدريج فيها «مع استثناء حال الحرب»، وهذا الاستثناء مما يحدث في كل حين.
ويبحث الدبلميون عن «الصيغة» التي تنتسب بها الحبشة إلى جمعية الأمم بدلا من إقصائها عنها إلى أن يلغى الرق فيها، ولم ينفك الخبراء في ثماني سنوات؛ أي فيما بين سنة 1923 وسنة 1931، يبحثون عن تلك «الصيغة» في الاجتماعات واللجان والمشاورات والمناقشات والخطب والمحاضر والإفطارات والولائم، وهم يعجبون بوجهة النظر الحبشية القائلة: «حيث يوجد الرق لا يكون الأرقاء تعساء ولا يعاملون بسوء.»
وترى لجنة التحقيق «أن ذوي البأس من الرؤساء يمكنهم أن يحولوا دون إلغاء الرق، وأن يحرجوا الحكومة الحبشية بذلك»، وأن التحرير قد يؤدي إلى «نتائج جالبة للنوائب»، وما كان غير هذا قول وزراء القيصر، وقول ممثلي دول الجنوب للولايات المتحدة، وقول ذوي الأملاك الكبيرة، وقول أنصار سباق التسلح في الوقت الحاضر.
وتحذر اللجنة بلهجة ذات بهرج من المصاعب التي يؤدي إليها ذلك في الحبشة من الوجهة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمالية، «وفي غضون ذلك يتمنى من الدول ...»
ولم يكن لدى خبراء جمعية الأمم من الشجاعة ما ينشرون معه جميع التقرير الذي قدمه وكيلهم اللورد لوغارد والذي جاء مصدقا لما أبداه الرواد والسياح من ملاحظات قائلة إن مراسيم النجاشي التي يبطل بها الرق لم تكن غير حبر على ورق، وقد ألقى تقرير سنة 1925 مسئولية ما وقع من بيع جديد لألوف العبيد على كاهل الكهنوت، وصرح راس قوي لسائح: «نفضل الموت على العدول عن عبيدنا.»
وورد في تقرير قدم إلى الحكومة الفرنسية أن تجارة الرقيق في أديس أبيبا تتم على مرأى من السفراء الأوروبيين، ويضيف التقرير إلى ذلك من دون سخرية أن نخاسين شنقا، ويذكر كاتبان إنكليزيان مؤخرا أن الوضع زاد سوءا بالفتن الأهلية بعد موت منليك، ويقدران عدد العبيد هنالك بخمسة ملايين. وتمضي عشر سنين فيرى أحد هذين الكاتبين أن مديريات تحولت إلى خراب يباب
1
بعد ازدهار لبيع أهليها، وأنه أقام بأديس أبيبا فأخذ النجاشي في أثناء إقامته بها هدية مؤلفة «من 140 فتى وفتاة تترجح أعمارهم بيت ست سنوات وأربع عشرة سنة، ومن نساء كثير يرضعن طفلا.»
والسنون تمضي، ولا يبدي بلد حراكا، ونيوزيلندة وحدها - وهي قطر صغير - هي التي تحاول إنقاذ الشرف بما تصدره من احتجاجات شديدة. ويحمل نصف الشعب على اتخاذ وضع عبيد مصر الفرعونية، فيركع أو يسجد إذا ما أعطي شيئا ويشرب بباطن اليد (لحظر استعمال الطاسات عليه)، وهو يشد بالوثاق إذا حاول الفرار، وفي السفر يقدم سليل سليمان؛ أي مسيح الرب، عبيد حاملون مشاعل، أو يستمع إلى جوقة من الخصيان، وتكتب لجنة جمعية الأمم تقارير، وترى أن على الإكليروس أن يوجدوا جوا ملائما، وأن على رجال الدين أن يكونوا أول من يحررون عبيدهم، وتبحث تلك اللجنة عن حق السفن الحربية في تفتيش السفن المشتبه فيها، وتنكر حقها في الجواب مع إعرابها عن رجائها الحار في درس هذه المسألة العويصة.
وتثبت هذه الأساليب للحكومة الحبشية حاصل ما يبديه البيض النصارى من نشاط في الأمر، وتتلهى الحكومة الحبشية في إصدار مراسيم تنص على مجازاة كل من يبيع عبدا أو يهبه بمثل ما يجازى به تاجر الرقيق، ولا أحد يعاقب النخاس، ويقدم مفوض حبشي إلى جمعية الأمم بجنيف وثيقة تشتمل على تحرير 298 من العبيد في أثناء السنة، وأما ملايين العبيد الخمسة فقد ظلوا أرقاء!
وتوارت أسواق العبيد مع ذلك، وعاد لا يدفع نقد ثمنا لهم، وإنما يشرون ببنادق وقذائف، وينتفع في الخارج بما يوجه من اعتراض تقليدي فيقال: إن هم التفكير في مستقبل هؤلاء الناس هو الذي يحول دون تحريرهم، وإن الحركة الزراعية تقف في جميع البلد كما وقع في كوبا وهايتي، وإن المجاعة تعم كما وقع في أرترية عندما حررت إيطالية فيها موالي مصريين، ولا أحد يبصر أنه لا بد من وجود نهاية للمجاعة، مع أن الرق يهلك أجيالا في قرون، ولا أحد يعترف بأن النجاشي لا يدفع رواتب إلى موظفيه ولا إلى جنوده، وأن ضرائبه تجبى عبيدا لرخص هذه الوسيلة إذا ما حمل العبيد على التناسل الكافي، ولا أحد يذكر أن الشريف يصطاد ويحارب؛ لأنه لم يتعلم شيئا آخر، أسمر كان هذا الشريف أو أبيض أو أصفر.
وفوق البحر الأحمر الذي تشق عبابه سفن جميلة في كل يوم، ومن درجة عرض جدة المحرقة، وحين يريح النسيم الليلي على سطح المراكب حسانا من متاعب النهار، تبصر قلوعا
2
بيضا تجري على الموج، ويتعقبها ضباط بمنظارهم، ويتبسمون على ما يحتمل، ثم يحولون أبصارهم لما لا يجدون في ذلك ما يعنيهم، ومما حدث ذات مرة أن تتبعت سفينة حربية إنكليزية زورقا من ذلك الطراز، ويقذف الربان جميع العبيد من فوق المركب، ويحمل الإنكليز على إنقاذهم بذلك، ويفر بهذه الحيلة ويسأل بعد حين قائلا: «لم يبلغ الأجانب من حب العبيد ما ينقذون معه نحو اثني عشر منهم تاركين شراعا كشراعي الجميل يهرب على هذا الوجه؟»
غزلان في السهب.
وتلقي قوارب أخرى مراسيها بالقرب من جزيرات صخرية في البحر الأحمر، وتسلم حملها إلى قارب آخر ينقله إلى الحجاز، ولا يوجد للنخاسة سوق في جدة، ومثل هذه السوق موجود في مكة حيث يؤتى بمئات من العبيد على أنهم من الحجاج، وتعلم جمعية الأمم ذلك وتنظم تقارير فرنسية رائعة في سنة 1930 موكدة خبر ذلك، وتطلع جميع السلطات على حقيقة ذلك، ويعرف جميع القناصل في الساحل أسماء النخاسين، وهؤلاء لا يأخذون من المشتري زيادة على ثمن المبيع، ولكنك ترى في كل مكان سماسرة كثيري السخاء يدفعون نحو 120 جنيها ثمنا للغلام الجميل البالغ من العمر اثنتي عشرة سنة أو البنت البالغة من العمر أربع عشرة سنة، ويبدو ثمن المرأة الحبلى التي قد تعود جميلة بعد الوضع أرخص من ذلك لاتباع الولد للمشترى من غير زيادة في الثمن.
وكانت أسواق النخاسة علنية في أديس أبيبا حتى سنة 1913، والآن تقوم المستودعات مقامها في هرر على الخصوص، وهذه المستودعات تابعة للنجاشي رأسا، وهنالك قرى بأسرها تعيش بالنقود التي تدفع ثمنا لسكوتها، ولها أفانين من المعاملات مع رؤساء القوافل، ولا يبدو الخطر إلا بين الاختطاف ومجاوزة الصحراء، ويتخذ جميع المنازل مخابئ مع جباب
3
ينام فيها الأسرى وتظل مستورة حتى يسار إلى البحر، وفي الساعة الحاضرة - كما في الماضي - ترى الطرق الصحراوية مرصعة بجثث أناس هلكوا عن ضنى ونصب، ويروى أن نصف الأسرى يموتون مقدما بسبب الخصاء الذي يتم بقذارة ومن غير طبيب.
وما وجه من مغاز إلى الغرب والجنوب؛ أي نحو كينية والسودان، فقد نبهت السلطات الإنكليزية إليه من غير أن تقدر على منعه في كل وقت، ويجد الأحباش هذه الغزوات أمرا طبيعيا، وعند الأحباش أن هذه الغزوات تنطوي على معنى التعويض عن فرار عبيدهم إلى ما وراء الحدود ما دام الإنكليز والطلاينة لا يعيدونهم إليهم، ويحسن موظفو الإنكليز في القضارف - البعيدة من الحدود 130 كيلومترا - قبول هؤلاء الفارين، ويجدون لهم عملا ولنسائهم أزواجا.
بيد أن أصحاب العبيد يرون الضر قد مسهم، فيرسلون من يطالب برد بضاعتهم إليهم، وإليك نص أحد الكتب التي يخاطبون بها الموظف البريطاني في الحدود:
نسأل الله أن يلهمك العدل! إن الحكومة هي حامية الفقراء وحارسة أموالهم، وقد فر جميع العبيد في منطقتنا إلى القصارف، فأدى ذلك إلى خراب بيوتنا نحن المساكين الذين لا يقدرون على العمل بلا عبيد، وإليك أبعث ابني لتساعده في الموضوع، وإني لك من الشاكرين ألف مرة.
4
الفصل الثاني عشر
بلغ النيل الأزرق سهل السودان، ويتجه إلى الشمال الغربي، يتجه إلى هدف غير معروف، وتنتهي مغامرات العقيق، ولا تحميه الصخور والغابات، ويجري من خلال السهب الخانق ويهدأ، ولا يزال من الفتاء ما يحتمل معه السفن، ويكون في الرصيرص؛ أي على 650 كيلومترا من الملتقى، من شدة العمق والاتساع ما تزيد به مقاومته، وتعلوه باخرة بيضاء، ويحمل النيل النفور الجموح حملا، ومع ذلك تراه - بمجراه السريع ولونه الداجن وما يجر من غرين - يمتاز من أخيه الساكن مع تماثل في المظهر.
وتحف حديقة من حول مجراه، ولم تصده يد الإنكليز المبدعة تقريبا ، وتنم طريق السيارات فوق الضفة اليسرى على بلد جديد، ويمر النيل أمام سنغا التي تشابه القلعة، والتي يدل المدفعان أمامها على ما حدث هنالك منذ زمن غير طويل، وتتعاقب القرى مستديرة مسورة شبه متوارية بين خضرة الضفاف، وفي وسط حقول الذرة، وتسود السلم هنا، أو يسود السكون على الأقل هنا، وتعين الحياة بظاهرة جديدة في مجرى النهر التحتاني.
والآن يعاني النيل الأزرق مثل ما عاناه النيل الأبيض في المجرى الفوقاني بالخرطوم، فهو يلهث ويقف ويشعر بأنه يتمطى لعوق حاجز غير منظور جريه، وهو يصدم بغتة سورا حاجزا يبلغ ارتفاعه ثلاثين مترا ويبلغ عرضه ثلاثة كيلومترات تقريبا، وتقفه أيد خفية لأسباب مجهولة، ويمر مزبدا من أبواب حجرية تفتح له وتغلق دونه مناوبة، ويسيطر عليه سد سنار وينظم مجراه، ويا لها من تجربة مريعة! ويغدو الحصان السني طليقا، ولا يعتم أن يشعر بحبل حول عنقه، ثم يأتي مروض فيكرهه على السير بحركات مقيدة في أوقات معينة، وتكون المفاجأة من العظم ما تقف معه السفينة، وليس للسد ترع، وتنتظر باخرة في الناحية الأخرى.
وينضم إلى النيل من الناحية اليمنى رافدان من فورهما وعلى مسافة قصيرة بينهما.
والرهد والدندر أخوان حقيقيان مدى الحياة، ويقع منبع كل منهما على الهضبة الشمالية الغربية من بحيرة طانة، وتغذيهما جداول تعد قسما من شبكة لسيول كثيرة، ويتوجهان إلى الشمال الغربي في بدء الأمر، ثم يبدوان موازيين للنيل الأزرق، ويتساويان طولا وحجما تقريبا، وترى مجرى الرهد أكثر انخفاضا مع ذلك، وهو يجوب أرضا أوفر غرينا، وهو على ما يبدو من ضيقه يزيد على الدندر - الذي هو أعرض منه وأطول - احتواء للغرين، وكلا الرافدين يلاقي النيل في الصيف على حين تبصر رافدا ثالثا واقعا في شمال ذلك يقاسم العطبرة مصيره أحيانا.
ومنبع العطبرة واقع في منطقة بحيرة طانة وبالقرب من ذينك الرافدين، والعطبرة في البداءة سيل جبلي شفاف فوار صوال، ثم تغير الروافد الثلاثة التي تنضم إليه جبلته وتجيئه بمقدار كبير من الغرين يقرر مصيره. وأطول هذه الروافد يأتيه من المنبع البركاني الحار الواقع شرق بحيرة طانة، ويأتيه الرافدان الآخران من أخاديد الغرب العميقة الجبلية التي ينال بها اسم العطبرة العربي الذي يعني «الأسود»! ورافد النيل هذا مع رافدي النيل الآخرين مما يلقي في نفوس أهل البدو حيرة فاجعة.
ويجف نهر العطبرة في شهر يناير، ويصبح بائسا، وتبتلعه الصحراء، ولا يرى على مسافة ثمانين كيلومترا من مصبه غير مجرى من الحصى والوحل. بيد أن العطبرة في أشهر نشاطه وصولته الثلاثة يكون أنفع من الأنهار الأخرى في عام، وهو يلاقي النيل في المجرى التحتاني على بعد ثلاثمائة كيلومتر من التقاء النيل الأبيض والنيل الأزرق.
وسيكون لكلا النيلين أكثر من مغامرة سلفا، ويسهل على النيل الأزرق احتمال كراهة السد، وهو يشعر بأن قسما من مياهه يجري في قنوات غير معروفة، وهو لم يلبث أن يسترد عرضه وعمقه فيجري مسرعا هادئا بين ضفتين ثابتتين، وهو - مع ضعف انحداره في ذلك السهب - لا يكون له ما للنيل الأبيض من سير مكسال، وهو من بعد السد يبصر ويسمع عن شماله القطار الحديدي الذي ينقل القطن.
وهو يرى بعد ذلك أبراج الخرطوم التي أعجب بها أخوه، وهو يضايق ويستوقف بدلا من أن يضايق ويستوقف، وتكون القطاع في المراعي، في الحدائق الواسعة، ليل نهار، وتنذر أسداد خشبية خفيفة بانتهاء بلد البدويين، وتبرز في السهب بعض البيوت المصنوعة من الآجر لتكون طلائع المصر التي يبصر بالقرب منها شجر حديث تحفظه من المعز ألواح وصفائح، وتحدد أوتاد بيض بقاعا لكرة القدم، وتشاهد عرائش مصنوعة من جذوع
1
نخل على شكل أعمدة، وكل شيء يحير البدوي الذي يدنو للمرة الأولى من عاصمة كالنيل الأزرق الذي يمر من غابات في السهب.
وهو سيجد نفسه أمام جسر ذي أعمدة متينة وأقواس عريضة تمر عليه القطر
2
الذاهبة إلى الخرطوم، المدينة الرائعة في سواء
3
الصحراء، المدينة الخضراء ذات البيوت البيض والقصور التي تسيطر النخل الفريدة عليها فيبني على رءوس هذه النخل وكره الأنوق.
4
وبعد الجسر ينتصب قصر منيع على الضفة اليسرى فتبصر على أجنحته مدافع وجنودا ذوي بزات مختلفة الألوان كما لو كانوا حرس شرف لأمير إقطاعي كبير، وترى زوارق أنيقة وخيولا أصيلة مقرونة بعربات جميلة تنتظر أمام الباب. وهنالك وبعد مسافة قصيرة يفتح رتاج
5
فيتدفق منه بضع مئات من الشبان السمر لابسين بزات بيضا وذاهبين إلى الرصيف المستور بالنخيل ليتلهوا، وهذا هو قصر الحاكم الإنكليزي، وهذه هي الكلية التي يتخرج فيها ثلاثمائة نوبي، وسر ميلا يبد لك الجسر الثاني العظيم ويظهر لك تحته النيل الأبيض الواسع الرزين المتهيب.
أو يشعر النيل الأزرق الطائش الساذج في ذلك الحين بأنه ليس إلا جزءا من كل؟ أو يعتقد أن النهر المتثاقل الشاحب الذي يلاقيه هو رافد يجب عليه أن يقبله طوعا أو كرها؟
ذانك أخوان يتعانقان من غير تنافس، ولا يعد أحدهما أفضل من الآخر أو تابعا له، ويضاعف عناقهما قوة النهر - كما يلوح - يجمع جميع همته ليبدو جديرا بمصيره في أثناء النصف الثاني من حياته.
ولن ترى غير نيل واحد بعد الآن، وهذا النيل سيكافح الإنسان.
الجزء
مكافحة الإنسان
يفترسنا الرمل الغليل
1
في البادية الجديبة، والشمس في السماء تمتص دمنا، ويقفنا تل كسماط ساكن، فيا أيها الأخ، خذ إخوتك من السهل، خذ إخوتك من الجبل، وجئ بهم إلى أبيك.
غوته
الفصل الأول
طائرة تحلق فوق راكب قلوص
1
عصوف،
2
ذلك هو طابع بريد السودان، ولو سار ذلك الراكب عن شمال النيل منحرفا قليلا إلى غرب بحيرة نو لأمكنه أن يقطع عشرين درجة عرض؛ أي ألفي كيلومتر على خط مستقيم، وأن يصل إلى القاهرة من غير أن يلاقي مجرى ماء، وهو إذا ما انطلق من الضفة اليمنى، من مصب العطبرة، بلغ مصب النيل بعد جوب اثنتي عشرة درجة من العرض من غير أن يجد نهرا أو مطرا، وتمتد تلك البقعة العاطلة من الماء حتى شاطئ أفريقية الغربي اثنتي عشرة درجة من العرض ونحو خمسين درجة من الطول، وهذه هي الصحراء، وهي الصحراء نفسها في شرق النيل مع اختلاف الاسم.
ومع ذلك، وفي ذلك المكان حيث لا يعترض النهر جبل، يترك النهر اتجاهه نحو الشمال وينعطف، وهذه العطفة هي الوحيدة في حياته، وفيما يسير القطار والطائرة والجمال على قعوده
3
يمينا إذ يقف النهر عائق فيرسم
S
في رمل الصحراء الأمغر.
4
ولو نفد ماؤه، ولو مات ظمأ، ما قضى أحد من ذلك العجب، وليجب فارس سهلا خاليا من النبات، بالغا من الاتساع نصف مساحة أوروبة، وليكن ذلك الفارس عاطلا من أخ أو صديق يأتيه بماء، وليعرض ذلك الفارس يوما بعد يوم لسعير لا يخف حره إلا ليلا، وليقف ذلك الفارس حاجز من صوان بغتة، وليقض عليه لهذا السبب بأن يقطع دورة مئات الكيلومترات مع ضرورة إسراعه لبلوغ بلده أو لبلوغ البحر أو المرافئ، أفلا تهلك ناقته إعياء قبل الوصول إلى هدف الرحلة؟
والنيل - مع ذلك - يجري منذ ألوف السنين إلى البحر نفسه مارا من الصحراء المحرقة عاطلا من مطر أو صديق أو رفيق فيجد بأمواجه ما ينعشه، ويقف النيل حاجز من الصوان فيدور حوله ويسترد بهذا التماس قواه ونشاطه ويحتمل سفنا فيكافحها ويكافح الإنسان الذي يريد إمساكه، ويوفق في ذلك، ولا يخسر النهر بأسه ولا ينشف، ويشق لنفسه طريقا من بين رمال لا حد لها كما قهر المناقع، ويقاوم الجفاف كما قاوم الأهوار،
5
ويصل إلى البلد الذي أوجده والذي ما فتئ يرويه منذ الأزل، يصل إلى الدلتا، إلى الموانئ، إلى البحر، إلى مهد جميع الأنهار، ويا له من نهر!
وليس الذي يكافحه النيل هضبة أو جبلا، بل بلد أكثبة يتخلل السهل الرملي فيه تلال حجرية محرقة وخروق مدورة وأهرام وجنادل ذات زوايا مضرسة وأجواف مفتتة وقباب مقرضة؛ وما إلى ذلك من الأمور التي تنم على الريح؛ أي على موجدتها الغضوب، وكما أن عنصر التذكير العجيب يختلط بعنصر التأنيث في السجايا المتموجة تنتصب تلال صوان بين مساحات واسعة من الرمال المتموجة، فبعد أن يسيخ الجمل حتى الركب في تلك الرمال المتموجة يكاد يفقد رجله على تلك الزوايا الوعرة، وتشبه الصحراء بالبحر في الغالب، ولا بد من الرقية ليكون هذا العنصر المتحرك مشابها للصحراء الميتة، وفي أعماق البحر يقوم عالم خفي من النبات والحيوان لا تنفذ إليه غير عين الغواص، والحركة والتحول وفوضى الأشكال آية كل شيء فيه؛ أي ما يعاكس نكد البادية؛ وذلك لأن الجمود يعود إلى تلك الأراضي الميتة إذا ما كفت الريح عن كفتها.
والوهمي هو الأمر الوحيد المشترك بين البحر والصحراء، وبينهما وبين حقل الجليد، والإنسان - وهو الذي تعود الشعور بالحياة حوله - يذعر تجاه العناصر، فلا يبالي بكون البحر والصحراء وحقل الجليد أشياء تعيش حقا، ومن شأن البساطة التي تقوم مقام التنوع، والتنوع مما يزعج الجمهور، أن تفصل سكان هذه البقاع الثلاث عن العناصر الصامتة، وأن تجعل بعض هذه العناصر مشابها لبعض، وأن تعد الجميع ساكنا خاشعا.
وهل هي صامتة؟ يسمع ابن الجبل صئي اليربوع
6
حتى ذرى أعلى المرتفعات، وتردد حقول الجليد والبحار والقفار صدى الجوارح التي تحوم حول سمكة في الماء ونداء الرمة
7
في الرمل. ومن المحتمل أن كانت غاية هذا الصوت هي الدلالة على حياة تلك الأشياء، ويهيمن على العناصر الثلاثة هزيز الرياح
8
أو صوت العواصف، فتقشعر
9
منه جلود أكثر الناس إقداما.
ويا للتنوع في الصحراء! تقوم في سواء الأتاويه
10
الصخرية جبال من الصوان والرخام السماقي يبلغ ارتفاعها ألفي متر، ويقال إنها تكونت في شرق النيل حين هبوط وهدة
11
أفريقية الغربية الكبرى، ويعقب الصخور السود صخور نيرة من الرخام الذي إذا ما فصلت عنه قطعة بالمدق وجدت بيضاء كرخام كارارا
12
أو ذات عروق حمر وسود، وفي غرب النيل، حتى صحراء ليبية، تظهر أودية صخرية طويلة متمزقة أو أودية وأنهار متحجرة عن لعنة بعد أن كانت هذه الأودية والأنهار المرهوبة روافد نافذة إلى النيل على الراجح. والضياء هنا يتغير تغير الأشكال وإن لم ينخله
13
غمام، وفي أيام الضباب تنير شمس زرقاء شاحبة بحرا بلون الزعفران،
14
وهنالك يشبه الأعراب الشمس بالقمر في أغانيهم، وهذه الظاهرة هي طليعة الزوبعة في الغالب.
ويقتم نور النهار الذي يعشي الأبصار، ويعقبه وميض ضارب إلى صفرة، وتلوح أطواد
15
سمر كسلسلة يمكن لمسها، ولا تشعر بهبة ريح، ويضغطك صموت أو «ظلام كثيف» كما جاء في التوراة، ويدنو سحاب مغم يصحبه هزيم
16
بعيد، وتهب عاصفة محرقة متوعدة صاخبة قاذفة برمال وحجارة، ويستلقى على الأرض لما توجبه من خبط وقتل للإنسان والحيوان، وتقلب الخيام وتقطع الحبال من غير أن ينتبه أحد إلى ذلك، والجميع يرتجف فرقا من هذا الإعصار الذي يسود ويغمر كل شيء، ولو أنعم إله الرياح نظره في هذا المنظر لأبصر - لا ريب - أن أولئك النفر من الناس يضرعون إليه ساجدين، والعالم - وإن كان يفسر في مكتبه الهادئ بأكسفورد تلك الأعاصير الجنوبية الغربية بأنها صادرة عن التقاء السحب الباردة وحرارة الصحراء الشديدة - يذهب عند الوجل - كالعرب - إلى أنها من عمل الجن أو الأرواح الشريرة، التي تثير أعمدة الرمل.
وتزول الزوبعة - في الغالب - بسرعة كالتي تهب بها، وفيما ينهض الإنسان والحيوان سالمين حائرين؛ إذ يبصران بجانبهما طيرا ميتا على ما يحتمل، أو يبصران قنبرة من قنابر الصحراء التجأت إلى رفرف
17
خيمة مقوضة فعادت إلى الطيران مغردة، ولا شيء أكثر تأثيرا في النفس من تلحين القنبرة البعيدة من كل واحة، والتي لا يعلم الشيء الذي تعيش به سوى الله، والتي تشابه النورس
18
المرافق للسفينة مع ابتعاد عن البر أياما طويلة.
والماء في الصحراء أمر وهمي كالهواء، والآبار تهب الحياة للصحراء مع عدم بصر بها ومع عدم انتظامها، والآبار في الصحراء تبدو بغتة كالنجوم المذنبة فتحدث فيها بقعا خضرا ومراحل صغيرة. أجل، هنالك طرق قديمة تسير عليها القوافل بين بئر وبئر، بيد أن الآبار تظهر اتفاقا كالمجاري البحرية الواقعة تحت الأرض وكفلوع
19
حقول الجليد فتنتقل مثلها بين مكان ومكان وفي الحين بعد الحين، وينبع الماء المنقذ للحياة في قعر واد عميق، ولا يلبث كل شيء أن يخضر حوله، وتظهر بعض أشجار السنط الشائكة وبعض النخيل اليابسة كأنها هبة من الآلهة، ويطرح كل من الإنسان والحيوان نفسه لتذوق هذا الترياق
20
الذي ينجو به من الشمس المحرقة، وهلم إلى البحر!
ومما يحدث أحيانا أن يكون الجسم والروح قد سفعا
21
منذ أيام بريح خفيفة محرقة فتعوج عمد الخيام ويفلج
22
عاج مقابض السكاكين، وتفلع
23
ملفات الورق، ويلصق الرداء بالغطاء، ويخرج من القميص شرر إذا ما كشف كما يخرج من الشعر إذا ما مشط، وتلوح طائفة من شجر السنط لتغيب أخيرا مخبرة بوجود ما. وتبلغ، واها واها، لا تجد هنالك واحا،
24
ولا تجد هنالك ينبوعا ينقع
25
غلة المسافرين المنهوكين، وتحفر بئر على عجل كشفا لسماط ماء تحت الأرض يمن بالحياة على النبات، وفيما ترى المعازق
26
تجتاس
27
الماء في التراب؛ إذ تسمع صريفا
28
في الشجرة المتقشرة نتيجة لانفصال الصمغ عن الأغصان.
وكيف يحفظ ذلك الماء؟ لقد اخترع الأعرابي - ليعيش - أوعية ترابية ذات منافذ يعدها أثمن من جميع الترامس؛
29
وذلك لأن الماء الفاتر يصير فيها باردا نهارا، ويصير صاقعا ليلا، ومما يفزع البدوي والسائح الأبيض انسداد مسام تلك الآنية، وقد يحفظ ليمونا في علبة صفيح حفظا له من الجفاف فيقسمه أرباعا على أن يمص في كل نصف ساعة ربعا، وقد تبلغ أول واحة على هذا الوجه، ويقع قعود،
30
ويدل غقيق العقبان
31
على أنه لن يبقى منه غير الهيكل العظمي.
وعظام الإبل، كالصوى،
32
دليل على الدرب الصحراوي، وتبصر في كل ميل في الغالب ستة - أو ثمانية - هياكل عظمية متبيضة متنظفة بفعل الشمس والنسور كأنها أعدت لتكون نماذج في متحف، وترى الشكل على الأرض مع ذلك، وترى هيكل جمل كامل مع ذلك، وستحرق تلك العظام بالشمس، وستختلط بالرمل، وستتم دورة الكائن الحي: من هباء
33
إلى هباء.
وتهب ريح القرون فوق ذلك، ويمحو رمل العصور آثار جميع الناس، آثار ولاة الفراعنة وفاتحي الإنكليز، وآثار عباد الشمس والمؤمنين بنبيي شواطئ البحر المتوسط، وآثار سلسلة متصلة من الآدميين الذين ماتوا ظمأ فابيضت عظامهم تحت زرقة قاسية لهذه السماء ذات الابتسامة الكلبية، وبليت بالريح وتحولت إلى غبار بقوة الشمس واختلطت برمل برتقالي اللون يمر عليه الآن سليل أبناء الصحراء أولئك راكبا جمله سائلا في نفسه: هل يصل إلى الحد، إلى السهب والنهر؟
وهنا، ما أكثر ما ابتهل إلى الآلهة في أثناء الزوبعة! وفيما كان السكان الفطريون يجوبون تلك الصحراء ليأتوا بنبأ عن السهب أو ليسوقوا قطيعا حتى النيل جاهلين فاتحي الأجانب وآلهتهم كانوا يعبدون النجوم لاهتدائهم في الطريق بسيرها، ولا أحد يعرف عدد من غلبه النعاس منهم على قعوده فضل لم يغد غير عظام تذرو الريح رممها
34
مع رمم حيوانه، وحينما أوغل الفاتحون المبشرون بعقائد جديدة في السهب، آتين من البحر الأحمر فاعتنق أهل البدو دين اليونان ثم النصرانية ثم الإسلام في جمع غريب، ضرعوا إلى هركول
35
وبان
36
وإيزيس
37
ويسوع ومركور
38
وآرس،
39
ولكنهم من عباد النجوم في قرارة أنفسهم حتى الزمن الراهن. ويروي مؤلفو العرب قصة غريبة؛ يروون أن أبناء الصحراء والسهب يؤمنون بإله باق وبإله ثان فان لا اسم له.
سياح.
وكان عبيد الفراعنة يبحثون عن الذهب بين تلال تلك الصحراء فتقضي عواصف الرمل عليهم وعلى الأمراء الإقطاعيين والقواد والجنود، ويصيرون طعمة للعقبان، ولكنك لا ترى من جميع من لعنوا طمع ولي الأمر في السلطان وتعطشه إليه في آخر ساعة من حياتهم سوى اسم ابن لملك أو اسم وجيه كتب له البقاء بنقشه على جدار معبد في طيبة. ومن الأغارقة أناس نزلوا إلى هنا بأمر قمبيز،
40
ولم يغاثوا، وكل ما يعرف عنهم هو أن أحدا منهم لم يعد قط، وقد أزال الرمل والشمس كل أثر لهذه الحملة الرائعة، ولم يقم أثر لتخليد قصتها فيسفر عن تحويلها إلى قصيدة أبطال، وتغدو عظامها رفاتا
41
وأعفارا، وتمحي أسماؤهم معهم، وهذا هو جبروت الصحراء.
الفصل الثاني
تخفف جميع الأشكال في السهب، ويندر انتصاب الصوان والفتن،
1
وتلطف الخطوط والألوان، وتلك هي مملكة السنط، وهذا الشجر الشائك - حين يمر النور من خلال فروعه المجردة من الورق - ينعم على ذلك السهل المحرق المستور بسوق الزرع المقطوع منظرا خياليا لا يمن بمثله غير الصبير الجاف. وفي هذه البقعة التي تفصل - بلمعانها وبأسماء مختلفة - منطقة الصحراء العاطلة من المطر عن منطقة الأمطار الاستوائية، وعن الشلال الرابع حتى أول المناقع، وعن دنقلة مع الاتجاه نحو أعالي النيل حتى ملاكال ، تبصر البدوي يستغيث بالمطرالذي يمكنه - كشمس الصحراء - أن يهلكه هو وقطاعه عندما يأتي جارفا، ولكن المطر يتم في يومين معجزة العشب الذي يقيت مواشيه، ولكن المطر ينقطع بعد أن ينهمر ببضع ساعات؛ أي بسرعة كالتي ظهر بها. والعشب - وهو الذي يخنق النيل في المناقع تقريبا - يحسن إلى الإنسان والحيوان على ضفتي هذا النهر، وإذا ما نزل الغيث بضع ساعات تفتحت أوراق ريشية صغيرة على شجر السنط، وتنتظرها الجمال، وينقذ كل شيء، وتسترد ألوف الغصون قوتها في أسبوع، وتسمن أسنمة الإبل، ويتحول السهب الأصفر إلى سهب أخضر.
بيد أنه لا يعتم أن يدافع، فالكلأ الناضج ينخس ويبضع
2
ويمزق الثياب والجلود ويدمي كل مسافر. وإذا ما سمنت القطاع في الجوار انتظر الرائد الأجنبي من البدوي أن يوقد النار في السهب، وأن يبيد ما كان قد طلبه من الماء بحرارة، وذلك هو تناوب اصطراع العناصر العنيف في تلك البقاع التي قام الإفراط فيها مقام التوازن بين الشمس والمطر، كما هو الأمر لدى ذوي الخبل الذين يفنون في وجد من السراء والضراء.
وفي موسم الأمطار، تنبت الذرة ويخضر شجر الدوم ولا يلبث أن يؤتي أكله، ويهرس الأعراب حبه بالمدق ويصنعون منه نوعا من الدقيق إذا أتلفت الشمس زرعهم، ويقع ذلك في مئات من المناطق المتوسطة بين السهب والصحراء.
والآن يمثل دوح البوباب دورا مهما لم يتوقع عند الخلقة، ويتحول هذا الشجر العظيم، أو هذا الفطر
3
الهائل، الإسفنجي المقبب إلى برميل بعد موسم الأمطار، وذلك بأن تسقط أغصانه السفلى ويجوف وسط ساقه فيحتوي عشرين مترا مكعبا من الماء في قطر بالغ خمسة عشر يوما، وتدوم حياة البوباب مع بقاء جوانب رقيقة له. ومن العلماء من يقولون موكدين: إنه يبلغ من العمر خمسة آلاف سنة، وعلماء النبات أجرأ من المؤرخين في تقدير ذلك.
والجمل هو من الأشباح التي تجتمع حول السنط، ولا أحد يدرك كيف يكتفي هذا الحيوان الضخم بتلك الأشواك وتلك الأوراق، هو قنوع، ولكنه غير متواضع، هو صبور، ولكنه شرير جبان، هو غبي مناوئ ، هو هائل حين التعشير،
4
هو لا يعطف على غير صغاره كما يلوح، والجمل يخدم الإنسان، ولكنه لا يعرفه ولا يحبه، وما له من منظر غريب غير ظريف فيجعل له مكانا منفردا بين الحيوانات الأخرى، فيظهر أنه استعار رقبته من الزرافة ورأسه من الخنزير وذنبه من البقر، وسنامه وحده هو سمته الخاصة، ولم يدخل الجمل مصر إلا في عهد الرومان مع أن مصر عرفت الضأن والمعز والبقر والخيل منذ ألوف السنين.
ولا حيوان له في النفس من الأثر المروح المحزن كما للجمل، والجمل يترك ليحمل بعد كثير من الهدير والضرب، وهو يثني قائمتيه الخلفيتين ثلاثا كما لو كانتا لعبة آلية، وهو إذا سار صعب امتطاؤه لانفراده في الذمل
5
بين ذوات الثدي، وهو إذا ما عصف
6
براكبه هزه هزا شديدا لرفعه قائمته الخلفية قبل قائمته الأمامية بربع ثانية، ويحمل الظعون
7
القوي سبعة قناطير، ويسير البعير العصوف 150 كيلومترا في أربع وعشرين ساعة، ولا يركن إلى الجمل كما يركن إلى الفرس الأصيل، فهو يرغو
8
بغتة ويفور ويحاول أن يعض حتى صاحبه، وهو يخشى عواء الضبع من بعيد، وهو عند الهول يخرج من فمه ضرب من الحبب
9
كالذي يخرج من فم المحتضر لدى قدماء المصورين.
والجمل مقضي عليه بأن يقوم بحرفة الحمال مدى حياته، فيكون على كاهله - حتى في أسعد أوقاته - عروس وزخارف ثقيلة من سيور
10
سمر وصدف وجلاجل،
11
ومن المحتمل أن يكون أحد تلك الهياكل العظمية النظيفة، التي تظهر بيضا في الصحراء ذات الرمال، لبعير مر من شوارع الخرطوم ذات مرة إلى عرس أميرة مزينا بأبهى جهاز.
والنعامة أسرع من البعير، وتنم على صلة نسب به، وذلك بساقيها الطويلتين وسوء سيرها ورعن
12
ظاهرها، وتذكرنا النعامة بعنقها الدقيق ومنظر رأسها الأخبل بالخيالي المختل الذي يفر من العالم إذا ما عارض أحلامه.
وكانت النعامة تطير، ويرى الزنوج أن النعامة واعدت الحبارى
13
بالسباحة في النيل فنسيت أن تضيف إلى وعدها بالحضور كلمة «إن شاء الله»، فعاقبها الله في الغد على زهوها بأن شيط
14
جناحيها فخرت صريعة مثل إيكار
15
وصارت لا تطير بعد ذلك.
ولكن الله لم يحفظ النعامة من أهل البدو، الذين يتعقبونها فرسانا اثنين اثنين مناوبة مع إتباعهم جمالا حاملة ماء، وتهن النعامة إعياء، ويهلكونها بضربات عصي وينحرونها، لا حبا للحمها ما اشتمل أقل غزال يسهل صيده على لحم أكثر منها، بل طمعا في ريشها الأبيض الذي يترجح عدده بين اثنتي عشرة ريشة وأربع عشرة ريشة، والذي يتخذه نساء باشوات البيض مراوح لهن، وهذا الريش أجمل على النعام في الأسر مع ذلك، وهو كجمال بعض الطيور المغردة وبعض الشعراء، ويجتنب الصائد تلويث ذلك الريش بالدم. والصائد - لكي يتم له ذلك - يغرز من فوره أحد أظافر رجلي النعامة الطويلتين في الجرح درءا لإيحاء هذه الحلية بفكرة الموت، كما تدرأ فكرة الموت في الأناشيد الوطنية الحربية، وهكذا تبصر أسرع حيوانات العالم عدوا يصرع في الرمل لتميس
16
إحدى النساء في سان موريتز
17
حاملة مروحة، وهكذا تسقط نعامة في سبيل إوزة.
وأكثر من ذلك عدم فائدة صيد الزرافة لعدم ضررها، وهي إذا صيدت لا تعد غنيمة، والزرافة أبهج من جميع ما في الغابة، والزرافة حيوان لا عدو له، ويتساوى سمعها وشمها وبصرها حدة وتجاوز كل موجود حي، وتجاوز الفيل، عدة أقدام طولا، وتعدو الزرافى جماعة كما لو كانت في فردوس، وتقطم الزرافى أوراق الأشجار الطويلة وفروعها الطرية وتترصد دوما، ولكن من غير جبن، ومع اعتدال دم كالطوال الذين يشرفون على الآخرين.
وإذا ما شبك عنقا زرافتين - وذلك أحدهما بالآخر - بدت للناظر لعبة حية عظيمة، وإذا رفعت الزرائف رءوسها بدت آية في الروعة، وإذا خفضت الزرائف رءوسها بدت متحذلقة كأساتذة الفلسفة، وإذ تبصر الزرائف من عل فإنها شديدة حب للاطلاع فتود أن ترى ماذا يحدث فتلقي نفسها إلى التهلكة بذلك، وتسير الزرائف سيرا أخرق متئدا بعيدا من الرهو،
18
والزرائف دون النعام سرعة، ولا شبه بينها وبين بقية حيوان السهب عدوا، ويبلغ ارتفاع قائمتيها الأماميتين مترين في الغالب، فيمكن الرجل - غير الدنكاوي - أن يمر من تحت زورها
19
من دون أن يخفض رأسه .
وكيف يشرب من النيل حيوان يبلغ ارتفاعه ستة أمتار؟ لا توفق الزرافة لذلك إلا بمباعدتها ما بين قائمتيها الأماميتين مباعدة شديدة مع التواء؛ ولذا تفضل الزرافة لعق أوراق الشجر المبللة في موسم الأمطار، ولا تبالي الزرافة بالرجل الأبيض إلا قليلا، ولكن الزرافة سحرت بظاهرة من أطوار الحضارة، فقد ظهر منذ بضع سنين حيوان جديد في السهب له أربع قوائم مدورة، وهو أسرع من جميع الحيوانات، وهو أسرع من الزرافة، وإليك الزرافة تعدو بجانب السيارة وتسابقها، ولا عجب إذا ما لاح النصر بجانب سائق السيارة بعد نصف ساعة.
والوعول - لا تلك الحيوانات الثلاثة - هي التي تنعش السهب قبل كل شيء، وفي السهب تعبث ألوف الوعول طليقة غير خائفة على أعين الفارس، وهي تبدو كألوف نقاط صغيرة في سهب لا نهاية له.
وهي إذا ما شعرت باقتراب أسد من مسافة بعيدة أبصر الفارس فرارها هائجة عن غريزة أو بقيادة زعيم فيخيل إليه أنه يرى صفوف خيول هاربة، وتثب الوعول فوق العشب اليابس أو المحترق بين النعام والزرافى الراكضة باحثة عن ملجأ غير معروف احتماء من عدو غير منظور. وللوعول أنواع كثيرة وقرون متنوعة، ومن أنواعها الوعول السمر والبيض والمخططة والمنقطة، ويمكن متفننا أن يرسمها في يوم تجل فيبرز منها أيل آدم والغزال العوام وظبي القصب وتيس الغاب وأصنافا من الغزلان تقفز بقوائمها الرائعة رشيقة بادية العروق تحت جلدها، فيجد شعراء العرب بها معين مجاز واستعارة لا ينضب فيغترفون منه في التغني بهيف المعشوقة ولين ملمسها.
وما في السهب من طيور صغيرة فأقل كثيرا مما في منطقة الأمطار، ولكن السهب يشتمل على الهدهد الذي يعيش دوما في جماعة، فيهدهد
20
مع جيرانه بلا انقطاع، ويعد الهدهد وحيد الزوج ويصيح وينوح إذا صيدت أنثاه، وذكور الهداهد هي الأكثر قرقرة،
21
ويتلهى المرميس الطائر
22
كما يود، ولكنه اخترع نظاما خاصا لأنثاه ولصغاره، فهو يسور وكره بطين مبلل، ولا يدع منه غير ثغرة صغيرة يأتي إلى الأفراخ بالطعام منها حتى تقدر على الطيران، وإذا حضره الموت قبل سواه وجد العزاء في موت أنثاه معه كأمير هندي، وبين الطيور الكبيرة نذكر الباز ذا العنق الأحمر المحب للنخيل، والذي يبلغ من شدة الجرأة وسرعة الطيران ما يبلغه إخوانه من بيزان الشمال. ويقع النسر القنبراني على غصن السنط المجرد فينشر قنبرته ويجمعها غير مرة في عدة ساعات.
ولكن شرطي الهواء الأعظم، ولكن المسيطر الأكبر، هو الأنوق الذي هو نوع من العقبان، هو النسر ذو الأجنحة الواسعة الثقيلة الذي يحمل رقص الموت في الصحراء والسهب، هو الرخم
23
الذي يقبل مباعدا بين ساقيه مائل الرأس إلى الأمام حاد البصر مع خبث، وما كان علماء الصحة ليخترعوا وسائل أحسن مما عنده لمنع العفن وما يؤدي إليه من الغاز القاتل في ذلك الإقليم. ودليل العقاب باصرته، لا شامته، والعقاب - لما له من أجنحة قوية يستطيع أن يجوب بها مسافات كبيرة - لا يفوته جمل مطروح أو غزال هالك، وهنا لا تشم رائحة جيفة أبدا، فالعقبان تصل في الحال، والعقبان ترد بسرعة كالورثة، والعقبان تبحث بمناقيرها العقف
24
في الجيف وتقتتل وتتنازع القطع، ولا تكاد تمضي خمس دقائق حتى لا يبقى من الكلب المفزور
25
أثر، وعكس ذلك ما يقع في المتاحف حيث تنبعث من النسر رائحة كريهة عدة سنوات مع حشوه بالتبن وتطهيره، ومما يحدث - على الرغم من هذا - أن يأكل أرقاء أباق
26
من لحم العقاب عن سغب.
27
جماعة من الأفيال.
وفي المساء، وفوق السهل، وفوق النهر، تضاء قبة السماء بنور لطيف، وفي الغرب تبصر خطا أصفر فاقع اللون، ثم تبصر شريطا ضيقا لضباب ضارب إلى خضرة، وفي الأعلى يكون كل شيء بنفسجيا فلا يلبث أن يتحول إلى ليلكي،
28
ثم يتحول في سمت الرأس
29
إلى زرقة الحمام، وفي الشرق يظهر لمعان ضارب إلى حمرة ممزوج بلون أزرق براق وبلون بنفسجي رمادي وبلون وردي زاه، ويتحول جميع ذلك إلى لون أزرق فولاذي في دقيقة واحدة فيلطم هذا اللون آكام
30
رمل ذات لون صدئي، وفي الشرق يكون النور باردا والورد رماديا.
وفي الغرب - وبين الحين والحين - يكتسب طرف الأفق لونا أصفر كبريتيا كريها، فيصير النيل - الذي يحلق فوقه طير أسود - أصفر اللون، وذلك مع عبث ظلال وأنوار وأمواج ضاربة إلى زرقة، ويتحول وسط طرف الأفق الأوسط إلى لون برتقالي يطلي الشرق بالشهب
31
ويكدره، ويتسع في المكان الذي تغيب فيه الشمس مثل خليج ويعمق ويمتد على أمواج زعفرانية نحاسية، ثم يرخي الليل الذي يصعد من الشرق سدوله على تلك المنطقة النحاسية ويستولي على السماء، وتصير الألوان في خبر كان.
ويزيد خرير النهر، ويسير النيل في الليل إلى الشمال.
الفصل الثالث
البدوي وحده سيد الصحراء وسيد السهب؛ وذلك لأنه يعيش من مواشيه، ولأنه مكره على جلبها من مرعى إلى مرعى وفق هوى جو النيل وهوى المطر، وتمتد أمام البدوي ممالك، وليس البدوي ملك أحد، وإذا لم ير البدوي فتحها اضطر - دوما - إلى البحث عن غيرها قبل أن يعود إلى التي كان يشغلها سابقا.
وهو يوكد تقاليد الفلاحين القديمة الذين يريحون الحقل بها بعد الحصاد، وهنالك دور انتقال بين البداوة والحضارة، وعرب جنوب مروي هم من شباه الأعراب الذين يتسكعون
1
مع قطاعهم، ولكن مع بذر حبوبهم، وهم يرحلون بعد البذر تاركين حفظ حقولهم لله، ثم يرجعون لحصدها، ثم يطحنون الحب ويأكلون الخبز ويرحلون مرة أخرى. والذرة كالجمال لا تحتاج إلى عناية، والذرة تعطي خمسمائة ضعف ما يبذر منها، والذرة تستر نصف ما يزرع من أراضي السودان، وتترك قبائل أخرى بعض الأسر المختارة في الواحات لزراعة الحبوب، وتصير هذه الأسر حضرية، فإذا مرت بضعة أجيال انحطت وتعاطت التجارة.
والبدوي ملك في كل مكان، وليس الفلاح غير أجير ولو كان أغنى من الملك، وليسكن الفلاح شاطئ النيل، أو ليسكن واحات قد تبلغ من الاتساع ما يعدل ولايات في بعض الأحيان، ليرى أن عاصفة واحدة تكفي لإتلاف عمله، وهو يوجه بصره إلى الأرض مغموما، وهو يؤلف زمرا للدفاع عن النفس تجاه الضواري والعناصر، وهو - مع ذلك - لا يخاف أمرا كخوفه من البدوي الضارب خيمته على حدود السهب، والذي يعد الواحة طليعة معدة للحصار والانتهاب، والفلاح يحذر البدوي حذر المدني من الأفاق، ويستحوذ على الفلاح احتياج إلى أمن غير موجود، ويركن إلى قوانين مذبذبة، ويظل عرضة لما للنيل والمطر من أهواء لا يقدر أحد على البصر بها ويفقد روعته.
وبعض البدويين من الحسان، وللبدويين من الملامح ما هو مشترك بين جميع القبائل على الرغم من تفرقها في السهل العاطل من الأنهار والتلال، وقد أسفر توالد أولئك الإثيوبيين والعرب الذين جاوزوا البحر الأحمر منذ أربعمائة سنة عن جعل أولئك الأعراب أعرق سجية، وهنالك الإبل والبقر والضأن (ويبلغ عددها سبعة ملايين في السودان)، وهنالك الخيام والأكواخ والنساء والولدان والآبار، وهنالك تيه وتقلب في ساعات العمل وشيخ زعيم، وهنالك قتال يفصل الخصومات في الحال، وهنالك عدم أمن وإيمان وخرافة، وهنالك أرض بلا حدود وحرية لا نهاية لها، وهنالك حياة قال عنها غوته في «طلاسم
2
العرب»:
الرب هو المشرق، الرب هو المغرب! والأرضون في الشمال والجنوب ساكنة سكون سلم بين يديه ... دعوني أعيش كما أهوى فوق سرجي! الزموا أكواخكم، الزموا خيامكم، وأما أنا فسأذهب بعيدا مسرورا مع النجوم التي هي فوق عمرتي!
أفلا يدنو الإنسان من الله بتلك الحياة التي دامت ألوف السنين؟ أفلا يغدو الإنسان بذلك أكثر جمالا؟
وترى بدوي السهب واقفا بجانب جمله طويلا نحيفا بادي العظام لا يأكل عن جوع حتى الشبع، هو أسمر مع أشياء تلطف نضرة بشرته ومع مفاصل دقيقة إلى الغاية، هو ذو لحية قصيرة تحيط بوجه بيضي، هو ذو أذنين كبيرتين لاصقتين كأذني الوعل، هو ذو أنف يرتبط بقناه
3
في عروق الشمال الكريمة، هو ذو جبين مغضن
4
ناتئ فوق عينيه الغائرتين كعين الصياد، وهو ذو فم صغير كتوم محترز، هو ذو شفتين قويتين مع عدم بروز؛ أي ذو مجموعة تنم على الشجاعة والرزانة والكرامة، وعلى سجية فطرية لرجل ألقي حبله على غاربه وظل تحت رحمة أهواء القدر على الدوام، ويقضي البدوي جميع حياته كما يقضي الأبيض دور شبابه، وطبعته الشمس والنجوم بطابعهما، وكان هيرودوتس
5
يقول: «له هيئة الملفوح.» وهو شخص يوحي بدنه على اعتماده على نفسه، وهو شخص له من حدة البصر ما هو أقوى مما لدى الأوروبي ثلاث مرات فيدل على قوة نفسه، وهو رجل كان أجداده يختارون أجملهم ملكا لهم، فإذا ما عطل عمل عضو له ضحت بطانته بمثله، واسترابون
6
هو الذي روى لنا هذه العادات، ولا يزال كثير منها باقيا حتى الآن.
وظل القتال في ذلك الإقليم، وبين تلك القبائل، ضرورة؛ ومن ثم بقي رائعا، ويقع القتال مواجهة، ولا يزال الصراع والعفو والذبح أمورا مكتوبة في اللوح المحفوظ، والكرم فضيلة كالانتقام، ومن الإصابة أن استطاع هؤلاء الوثنيون أن يعتنقوا الإسلام، وما انفكت النصرانية تكون غريبة عنهم، وما فتئوا يحافظون على كثير من عادات أهل البدو الذين ورد ذكرهم في التوراة كالثأر واحترام المشيب ونثر الغبار وقت الخطر وشق الثياب، وترى حجاجا بين هؤلاء البدويين، ومن زنوج غرب أفريقية أناس يجوبون جميع القارة ليروا مكة ويعملون في الطريق ليعيشوا، ويقيمون - أحيانا - أعواما بأسرها بين النيل الأزرق والنيل الأبيض فيؤلفون أسرا ولا يبلغون قبر النبي إلا بعد عشرين سنة من مغادرتهم بلادهم عن إيمان عميق لم يرو مثله تاريخ أية فرقة دينية في الغرب.
ولكنك لا تجد مثل هذا المزاج النفسي لدى بدويي البلاد الأصليين، وهؤلاء لا يدرون ما القرآن ولا سور القرآن، وهؤلاء لا يعرفون من مكة غير قبلتها التي يوجهون سجادتهم نحوها قبل الصلاة واضعين إياها على الرمل.
ويدع البدوي للنساء من الحرية أكثر مما تسمح به الديانات والعادات المحيطة به، ويدرك البدوي معنى الغرام، وتنشأ عن عدم حجب النساء في دوائر الحريم مكايد ومنازعات، ومنذ مائة سنة خلت اكتشف رائد إنكليزي بين سنار وكردفان قبيلة بلغ سلطان النساء فيها من القوة ما يطلبن معه يوم زواجهن عهدا خطيا يكون لهن به حرية مطلقة يوما واحدا في كل أربعة أيام، واليوم لا يزال يوجد في تلك البقعة سواحر يصبن الرجال بالعجز فلا يعدن إليهم سابق رجولتهم إلا لمصلحتهن.
ويوكد أمر هذه الحرية في الغرام بالوجه الذي يحصر به أولئك البدويون ميراثهم في الإناث، وعن البشاريين الذين هم أجمل البدويين يقول كاتب عربي: «لا يطمأن إلى أن الزوج هو الأب، بل يطمأن إلى الأم.» وهم يرون أن البنوة بالبنت أو الأخت أصح فيحرمون أبناءهم الإرث في سبيل أبناء بناتهم أو أبناء أخواتهم عادين إياهم ورثة لا جدال فيهم من ناحية الدم، والأمومة هي التي كانت تعين الحق في وراثة العرش لدى ملوك آل سنار إلى حين انقراض هؤلاء الآل منذ مائة سنة.
والبدوي يطهر أراضيه مرة في كل عام، وهو يقلم غصنا على شكل الشوك أو القرن من «شجر الوقد» ذي السنوف،
7
ويحدث ثقبا في غصن آخر ويدخل إليه ذلك الغصن المشذب حتى يتكون ضرب من الغبار الذي يدخن ويحترق فيستعمله في إشعال العشب اليابس باتجاه الريح، والنار تعم السهب في نصف ساعة فتفر الظباء، ولا يفكر النمر في فريسته، ولا يفكر النمر في غير إنقاذ حياته، وتبحث الأفاعي عن ملجأ، وتغدو الحشرات التي تحاول الاعتصام بشجيرات طعمة للوروار
8
ويتصيد الباز ما يصل إليه من الطير، وكل شيء يهرب من السهب أرسالا.
9
والبدوي وحده ينظر إلى الحريق بعين الرضا، فقد تطهر مرجه.
الفصل الرابع
إذا لم نتقيد بحرفية مثل نطق به عالم عربي قديم أمكننا أن نذهب معه إلى أن النيل يجري أربعة أشهر من الصحراء (الغاب البكر والجبال والمناقع)، ويجري شهرين من بلد الزنوج وشهرا واحدا من دار الإسلام.
والمثل العربي يقول: «ضحك الرحمن حينما صنع السودان»، ونسأل في أنفسنا عن قسم السودان الذي ضحك من أجله؛ وذلك لأن السودان عالم قائم بنفسه يشتمل على نواح كئيبة وأخرى زاهرة، والسودان يمتد من الغابة الاستوائية إلى الصحراء ومن خلال أفريقية الشمالية الشرقية، والسودان يعدل فرنسة خمس مرات مساحة، ويشتمل على ستة ملايين من الآدميين، وللنيل والمطر في السودان طابع مختلف أشد الاختلاف، وفي الجنوب يرتفع السودان ألف متر، ثم يهبط رويدا رويدا ليغدو بلد تلال وسهل خلا منطقة دارفور البركانية. وتحف الجبال حول السودان من الجنوب والشرق وجزء من الغرب، ويرتفع السودان نحو الشرق؛ أي نحو الحبشة، ويخضع لحكم الأمطار في أدوار مختلفة على حسب الارتفاع؛ ولذا لا تجد في السودان أية مطابقة في الحيوان والنبات والإنسان.
وينزل من الماء متر في منطقة المناقع سنويا، وينزل من الماء متر ونصف متر في الخرطوم سنويا، ولا ينزل ماء فيما بين الدرجة الثامنة عشرة من العرض الشمالي والقاهرة؛ أي بعد بربر تقريبا، وفي جنوب دائرة السرطان، وعلى عرض الخرطوم، حيث سمت الشمس يقف الرياح الموسمية وحيث الهواء الصاعد يبرد الأحر، ينزل المطر بين يونيو وأغسطس لتقدم ذلك السمت وتأخره إلى أقصى حد في تلك الأثناء.
وتلك هي أمطار صيف خفيفة تنبت الكلأ والطرفاء والعليق والسنط، وفي الجنوب؛ أي على مسافة كثيرة البعد من دائرة السرطان، يكون للأمطار موسمان غير منفصل أحدهما عن الآخر انفصالا بينا، ويكون الجفاف تاما بين مايو وأغسطس، وفي شهر سبتمبر تجفف الشمس ما في الأرض من بلل فيخيل إلى الإنسان أنه في حمام تركية.
وليست بلاد النوبة غير جزء من السودان يمتد من الخرطوم إلى أسوان تقريبا، وتمتد نوبية العليا التابعة للسودان حتى وادي حلفا، والدول الأوروبية هي التي عينت الحد الغربي لاشتمال الصحراء على جميع القارة من هذه الجهة، وتستر الرياح والرمال ما غرز من الأوتاد على مسافات طويلة فصلا للأملاك الإنكليزية عن الأملاك الفرنسية في عالم الصحراء الواحد.
وكان المصريون يطلقون هم والتوارة على البقعة الواقعة فوق وادي حلفا اسم كوش، وكان الرومان يطلقون عليها اسم إثيوبية، واليوم لا نعرف من نواحيها غير كردفان التي تصدر الذهب والمطاط منذ زمن طويل. والعالم يعرف أيضا أن شمال السودان ظل نصرانيا قرونا كثيرة فأسلم في القرن الرابع عشر، وأن الساميين والحاميين المطعمين بدم زنجي يقطنون في الشمال، وأن الزنوج المطعمين بدم حامي يقطنون في الجنوب، وحافظت بلاد النوبة - وهي المنطقة التي نسمي بها قسم السودان الواقع في شمال الخرطوم - على عاداتها أحسن من محافظة مصر التي غمرها الأجانب، ولم تنفذ حضارة الشمال فيها إلا في أقدم الأزمان وفي العصر الحاضر ، وعانت بلاد النوبة في تلك الفترة سلطان العرب الذين أتوا من الشمال ومن البحر الأحمر والذين اكتشفوا زنجبار قبل الأوروبيين بعدة قرون.
وعين النيل تطور تلك البقعة التاريخي؛ لأنه غير صالح للملاحة صلاحا دائما، وينقطع عمل حضارة البحر المتوسط في أسوان عند الشلال الأول. وقد حاولت جميع السلطات المتمدنة أن تجاوز المساقط مولية وجوهها شطر منابع النيل في قوارب على طول ضفافه، وذلك بقوة الحراب وضرب السياط وبين أنين أبناء البلاد الذين عبدهم الفاتح من عهد الفراعنة إلى عهد محمد علي.
ولم يسطع أحد قبل مائة سنة أن يوحد هذا البلد الكبير، وهذا التوحيد من صنع عصرنا، ويمكن أن يقضى عليه قبل أن يوطد أمره ويحقق تحقيقا تاما. ولم يبق غير آثار وضيعة مما صنعه رجال القرون القديمة في النيل الأوسط، وقد قامت ممالك في داخل البلاد حيث فسحت الغاب للسهب مجالا، وحيث لا يستطيع الملوك أن يرقبوا السهب أكثر مما تستطيعه الزرافة، فيشترك الملوك والزرائف كلاهما في السهوب إذن.
ومن هؤلاء الملوك من ملك ما بين النيل الأبيض والنيل الأزرق، ومنهم من ملك دارفور على النيل الأبيض، فكان كل منهم لا يعرف من أمر الآخرين إلا قليلا، وكانوا يختلفون دينا ولغة فلا يربط بعضهم ببعض غير نهر يتعذر عبوره، ويقيم الفونج مملكة في عصر سرفانتس
1
وليونار دفنسي
2
فيحتفظون بقسم من نوبية العليا ثلاثة قرون، ويذكرهم التاريخ لما كان من اشتمال بلاطهم على علماء من بغداد وبلاد العرب، ومن المحتمل أن تتناول الأسطورة أمر ذلك الملك العملي الظريف الذي شاد ثلاثا وثلاثين غرفة لنسوته الثلاث والثلاثين، والذي جلب إلى قصره مقدارا كبيرا من الجعة و365 من المعز ثم انزوى فيه مستريحا سنة كاملة على ألا يدخل عليه وزيره سوى مرة واحدة في كل يوم. والحق أن هذا الملك - الذي عاش في القرن الثامن عشر فكان لا يقوم بشئون الحكم غير نصف ساعة من أربع وعشرين ساعة - جعل شعبه أسعد حالا من أسلافه الفاتحين، وأسقط هؤلاء الملوك حوالي سنة 1800، ولم يغب وارثوهم اللاصقو النسب إلا سنة 1916، وتعيش ذراريهم في سنغا الواقعة على النيل الأزرق بأكواخ حسنة الترتيب تحت نخيل، وهؤلاء الذين هم بقايا سلالة لملوك أقوياء يقدمون القهوة إليكم بوقار.
ويصبح مخيم بسيط عاصمة السودان منذ قرن، ويعرف أمير مصري فاتح أهمية هذا المكان الذي يلتقي النيلان عنده فيسميه الخرطوم بسبب شكل الجزيرة الموجودة هنالك، وتقع الخرطوم على الخط الذي يصل منبع النيل بمصبه وبين النيل الأبيض ومصب النيل الأزرق فتعد مركز النهر، ويقف مكانها نظرنا حتى عند عدم قيامها عليه، وتمتد الخرطوم من ضفة النيل الخصيبة إلى حدود السهب، وهي تصل الحدائق الاستوائية برمل الصحراء وفق خيال النهر الذي أبدعها، وبها تلتقي جميع الطرق التي تجمع في ذلك العرض بين البحرين المحيطين، وكان ألوف الحجاج والتجار - قبل إنشاء الجسرين بزمن طويل - يعبرون هنا ضارعين راجين محاولين الإفلات من التبع والالتجاء إلى الصحراء القريبة، ولو نهض جميع أشباح العبيد، ولو بعث من سيقوا من كردفان إلى البحر الأحمر فهلكوا في بلاد العرب المنيعة لدام عرضهم أسابيع كثيرة، ولو كدس الذهب الذي ربحه نخاسوهم لقام منه جبل يسد النيل فيؤدي إلى إغراق البلاد وإبطال الرق، ولكن مع موت مصر عطشا.
وفي المكان الذي يتعانق فيه النيلان عناق الأخوين، وبين شعبتي النيل الأزرق، تقوم جزيرة خصيبة وارفة
3
الظل ذات نخيل، فتنبت فيها الخضر والفواكه، وهنالك تدور الناعورة
4
بالقرب من الحسر حتى في أيامنا. وهنالك ترى الخطوط الحديدية والزوارق البخارية والطائرات التي هي آيات عصرنا.
وجزيرة توتي القريبة من الخرطوم هي أول أرض واقعة على النيل البيض يخصبها غرين النيل الأزرق، وتسقي مئات النواعير نخلا باسقات
5
وأشجار بوباب عظيمات أياما وأعواما وقرونا فتنتصب هذه النباتات في حدائق رائعة لحكام وموظفين عالين يمثلون إنكلترة في قصورهم وبيوتهم الحجرية المشتملة على وسائل الراحة، وهنالك مراق محكمة الدرجات تهبط من أولئك الكبار إلى اليونانيين والسوريين فإلى السودانيين الذين لا يبدو عليهم أنهم أصحاب البلاد مطلقا.
وفي المكان الذي تنتهي فيه تلك البساتين، وبالقرب من ملتقى النيلين ومن الجسر الثاني تجد أطرف حدائق حيوانات الدنيا المنسقة بذوق كبير فلا تحتوي غير حيوانات من السودان، وتجول الغزلان هنالك هادئة غير خائفة وتبدي ظرفا ودلالا أمام الأسد الذي ينظر من وراء قضبانه مغموما إلى حيوانات الصيد الأسيرة هذه، ويرى بجانبها أبو مركوب المضحك بمشيه، وتميس الكراكي وتغتسل البلاشين، ويجوب جمل عصوف فوق العشب، ويفغر فمه الوردي بقر ماء صغير خلف حاجز خفيف، كما لو كان جميع ذلك صورا غير ضارة عن الذي يطوف طليقا خارج سياج الحديقة، وكما لو كان ذلك عرضا جميلا بدلا من حرب.
وعندما يصل مدير الحديقة المحب للإنسان والحيوان والمتخصص في أمور هؤلاء الأحياء يهرع إليه الجميع من كل جهة، فينطحه الغزال نطحا خفيفا في ظهره لما يعلمه من امتلاء جيوبه بالطعام، ويتمرس
6
الفهد بقضبان قفصه كالهر، والمرء إذا ما أنعم النظر في أفريقية المصغرة مع حيواناتها المؤنسة أو المحظرة،
7
سأل في نفسه عن ملايين الأهالي السبعة الذين يدربون فينتقلون من دور الحياة الفطرية إلى عمال يشتغلون في حقول القطن مياومة
8
ويجعل منهم معلمين وموظفي مصارف من غير أن يقول إنهم لا يزالون يعدلون حيوانات تلك الحديقة همجية.
وعلى الضفة اليسرى من النيل الأبيض تقوم مدينة أم درمان الأهلية التي هي أكبر من مدينة الخرطوم البريطانية ثلاث مرات، وتبنى أم درمان منذ خمسين سنة على سيف
9
خال، فتبدو قلعة بيضاء مواجهة لمدينة الخرطوم ذات الآجر الأحمر، وهي مهدمة الأسوار الآن، ولكن جمهور السود يتهافت - عوضا عن ذلك - على هذه المدينة التي هي من أكبر مدن أفريقية، وهل يظل السود طوعا مع أنهم كانوا منذ نحو ثلاثين سنة يشغلون القصر الغوطي القائم على الضفة الأخرى؟
وفي تلك الواحة الزاخرة بالسكان تشع الشمس بما لا تأتي مثله في سوى حقول الجليد، والنور يغمر طرقا وشوارع تعج بجمهور من الصناع وأرباب الحرف كالمنجدين الذين يخيطون وسائد من جلد مختلف الألوان، ويدخلون مسامير لامعة إلى السروج، وكالحدادين الذين يكبسون على مرازب
10
بين أصابعهم المسلوخة، وكالصواغ الذين يحيطون بالفضة أكواعا دقيقة رافعين ميزانا يزنون الربيات
11
به، وتتم تجارة الخيل والإبل والحمير في داخل المدينة وتباع الزوارق والشرع
12
على ضفة النهر، ويتسابق الإنسان والحيوان في الصراخ، وتبصر عمائم وطرابيش، وذوائب
13
أعراب معتنى بها ورءوس تجار من المصريين محلوقة، وتبصر شماما مستورا بذباب كالذي يرى على اللحم وفي أسواق الضأن المشابهة للشمام الضخم.
وتبصر أولادا وقسانا
14
وأناسا يصيحون وآخرين ينحبون، وتبصر بائعي بسط وأصحاب مواخير،
15
وتبصر شيوخا ومشعوذين وموظفين وسائقين ومكارين،
16
وتبصر زنوجا شديدي السمرة مع ريش كثير الألوان، وتبصر سوريين زيتيي اللون ويونانيين هيفا لابسين ثيابا استعمارية، وتبصر كردفانيين طوالا مرتدين لباسا أحمر حريريا، وتبصر فرسا مربوعين حاملين فراء للبيع، وتبصر خلاسيين
17
ذوي شعور مجعدة وحواجب حمر وأنوف قنو كما لو كانوا من سلالة أمير إسكندري قبل ألف سنة أو من أبناء شريف إنكليزي معاصر، ويزدحم جميع هذا الجمع في شوارع ضيقة بيض بين صخب مصم وروائح خبيثة نتنة، ولا بد لسائق الترام من أن يكون ذا أعصاب حديدية حتى يستطيع أن يقود - وهو يدق الجرس، ومن غير حادث - مركبته المثقلة بالركاب داخلا وخارجا.
وهنالك - حيث تلقي الشمس أشعتها على الأمواج من سماء غير ذات سحاب - ترى شائبا يسير ببطء على الرصيف متوكئا على عصا ومعتمدا على صبي عار، وهو يسمع إخوانه، وهو يشعر بهم، غير أن الله نزع منه البصر، حرمه النور، الذي هو أروع ما في أفريقية.
الفصل الخامس
في قهوة صغيرة بباريس، بين خدم لابسين سترا بيضا، وبين رجال ونساء جالسين أمام قعب
1
جعة محاولين أن يتخاطبوا على الرغم من حاك
2
صاخب، يقف رجلان ذوا قنان
3
على نور مصباح أخضر معلق ويلعبان لعبة البليار ويتلويان كثيرا مدا لذيلهما الطويل على البساط الأخضر الناعم. ولا غرو، فهما اثنان من أبناء الطبقة الوسطى جمعا - أو نضدا - نماذج في النهار بأسره فيدفعان الآن صامتين كرة بيضاء نحو عصابة المنضدة
4
المطلية بالمطاط؛ لكي تمس كرتين أخريين وفق بعض القواعد. وفي العالم - في تلك الساعة - في القهوات والأنديات،
5
يلعب بضعة آلاف من الناس المسالمين الماهرين تلك اللعبة، وعلى ما كان من اختراع البليار في إيطالية منذ أربعة قرون ترى لعبته وقفا على أقلية، وذلك لما تقتضيه لعبة الذراع والرأس هذه من دقة كثيرة على جمهور يلعب لعبة الصولجان بذراعه ويلعب لعبة الورق برأسه.
ولصنع هذه الكرات الثلاث التي يدحرجها ذانك الرجلان على البساط الأخضر يضحى بأقوى حيوانات الدنيا الذي هو آخر جبابرة العالم الابتدائي، ومن عاجيه يعمل ثماني كرات أو عشر كرات؛ أي ما يجهز ثلاثة بليارات أو ستة رجال ذوي أكمام قميص تحت مصباح أخضر. وأما الأدوات الأخرى التي تصنع من هذا العاج (وقد كان الرومان يعملون منه أسنانا صناعية)، وذلك من أمشاط ومراوح وقطع شطرنج ومساطر وأصابع بيان ومقابض مظال وما إلى ذلك، فليست سوى نفاية مصنوعات، فليست سوى أدوات زينة ولعب يسهل استبدال غيرها بها، وما كان يوجد للكرات مادة لها ما للعاج من صلابة على حين كان يمكن صنع الأدوات الأخرى من القرون أو الخشب الثمين. والنساء حتى القرن الثامن عشر كن يضربن بأيديهن البيض على أصابع سود، فلما حملن على استعمال أصابع بيض خضعن لأمر صالح اقتضته الموسيقى، فالأصابع العاجية في البيان أفضل من غيرها.
وكان صائدو الفيل على ضفاف النيل يجهلون ذلك جهل الفيل له، وكل ما كانوا يبصرونه هو أن العرب والترك يجلبون على جمالهم وفي قواربهم أشياء جميلة من كل نوع فلا يطلبون غير عاج الفيل بدلا منها، ولا يعرف الزنوج حتى الساعة الحاضرة ما هو السبب في كون البيض يفضلون العاج على جلد بقر الماء الذي يصلح لصنع السياط والسروج، أو على قرون الكونغوني التي يسهل نحتها، أو على عصارة بعض النباتات التي تسم بها السهام.
أجل، إن الأبيض يأخذ من الزنوج هذه المواد أيضا، ولكنه لا يكترث لسوى العاج، ومما يروى أن رئيسا دنكاويا كان أبوه قد اطلع على ذلك الهوس فطمر عاجا احتياطيا في ضفة النيل فصار ابنه هذا ينال ما يود من ثمن لذلك عادا نفسه سيد الدنيا .
وكان الزنجي لا يصطاد الفيل إلا نادرا، وكان لا يصطاده إلا إذا خرب حقوله، لا من أجل لحمه ما دام بقر الماء أسهل منالا. وأما العاج فكان يتصدع سريعا ولا يستعمل إلا أوتادا لشد البقر. والفيل - مع ذلك - هو على خلاف الأسد والنمر والتمساح، فلا يهاجم الإنسان ولا الحيوان فيكتفى في بعض الأحيان بطرده من الزرع بالصراخ والنباح. وتقول الأقاصيص الزنجية: إن الفيل ذكي في الغالب، وإنه ليس شريرا.
وظل العاج - زمنا طويلا - لا يتخذ للزينة إلا من قبل بعض الملوك، وولع الرجل الأبيض بالعاج هو الذي جعل الفيل موضوع تجارة مهمة، وذلك منذ قرون في شمال الخرطوم؛ أي منذ وصول «التركي»، وذلك منذ مائة سنة في النيل الأعلى، وما كان يعرض على الزنوج من خرز وبنادق عوضا من العاج فقد أدى إلى الإقبال على صيد الفيل، ويضحي الفيل «عدوا تقليديا» فيوجه جميع الناس أسلحتهم إليه.
ولا يستطيع الإنسان أن يدنو من أقوى الحيوانات وأذكاها إلا بالحيلة والهول. والإنسان ينصب أشراكه بجانب الماء، ويسترها بثلط
6
الأفيال ويجهز على هذا الحيوان العاطل من السلاح بالحراب، ويحيط ألوف الرجال بالسهب ويحرقونه ويتقدمون ويضيقون الدائرة إلى أن يضطرب الفيل الذي أعماه اللهب، ويطارد الفيل مئات الناس ويحملونه على الفرار إلى حيث يرميه بنبالهم زنوج مستخفون في أشجار، وتمزق هذه النبال بدنه حتى يهلك في نهاية الأمر.
والبقارة وحدهم - ويقيمون بالمنطقة الواقعة في جنوب الخرطوم - هم الذين يحاربونه بنبل، ومن هؤلاء النوبيين يخرج اثنان مسلحان برمحين من الخيزران المتين ويعدوان فارسين نحو جماعة الفيول ويعزلان عنها أحسنها عاجا ويثيره أحدهما راكبا حصانه ويثب الآخر إلى الأرض ويطعن بطن الفيل برمحه طعنة نجلاء ويرجع راكضا تاركا لرفيقه إتمام الصراع بالعودة إلى مثل تلك الوسيلة.
وإذا ما خر الفيل البطل صريعا خرج الرجال من مكامنهم ودوت أصوات السرور في السهب ابتهاجا باغتنام عاجين رائعين أبيضين ثقيلين، وستتدحرج تسع كرات على بعد ألوف الأميال من هنالك، وفوق بسط خضر وأمام ستة رجال ذوي قنان.
7
ويصعب ذبح الفيل ، وحبت الطبيعة هذه الطرفة الرائعة بوسائل الوقاية في تلك القارة على الخصوص، فانظر إلى دماغ الفيل الأفريقي تجده قد بلغ من المنعة بلوح عظمي واقع فوق جذوره الضرسية العليا ما تزلق معه القذيفة عند رفع رأسه؛ أي عندما يأخذ هذا الوضع الطبيعي حين استفزازه ومواجهته العدو، وتستقر القذائف التي تطلق مجانبة في العظام والغضاريف
8
الثخينة حيث توجد جذور العاج التي ترسخ نحو متر عمقا حفظا لاتزان الرأس وقياما بالجهد وقت اتخاذ العاج عتلة
9
واقتلاعه شجرة.
والفيل الأفريقي أسمى من أخيه الهندي، ويساعد ظهره الأزور
10
وأذناه العظيمتان، اللتان تستران عنقه عند خفضهما وتوجبان ذعرا عند نصبهما، وجبينه المحدب وقحفه
11
النافر على زيادة قوة الدفع فيه، ويزيد ارتفاع الذكر من الفيلة على ثلاثة أمتار، وتعدل قامة الأنثى منها قامة الفيل الهندي، وعاج الفيل الأفريقي أقوى من عاج الفيل الهندي بدرجات، والفيل الأفريقي قليل قرطمة للأعشاب وكثير رم
12
للورق، وفي السودان تجتث الأفيال أشجارا يبلغ ارتفاعها ثلاثين مترا، وذلك بأن يدخل بعضها عاجه كعتل وبأن يجتذب بعضها الآخر أغصان الأشجار بالخراطيم؛ ولذا لا تقتل الفيول الأفريقية مواجهة لسلاحها ذلك، ولأنها أشد بأسا في السهب الطليق من الفيول الهندية في غابات سيلان، ويمكن تدويخها مع ذلك بإطلاق العيارات النارية الثقيلة عليها إطلاقا مستمرا.
والفيل الأفريقي أجمل من الفيل الهندي شكلا، ويبدو هذا الجمال كما في التماثيل المصرية، ويتألف من رأس الفيل السوداني وخرطومه وأذنيه كل كامل لا ترى نظيره في الفيل الهندي، ولا تجد مثل رشاقة هذا الحيوان الذي هو أثقل جميع الحيوانات وزنا، ويميل هذا الفيل إلى الجول عن هياج وقلة صبر، فيهز قوائمه الضخمة ويسير كالرجل الذي يثب على سواه مع بقائه سيد أعصابه، ومجمل القول كون الفيل عنوان الخفة والفتنة كالولد.
والآن ترى الفيل ميتا مطروحا فوق السهب، والآن تراه محاطا بمئات من السود يترصدون لحمه وعاجه، ويدل تكرش جلده على تاريخ السهب والسبسب
13
وعلى تاريخ الزوابع والحشرات، وهو مثل خريطة جغرافية مشتملة على أماكن ملس سالمة كما لو كانت على نفس رجل شائب.
وأخيرا ينزع السلبان
14
الأبيضان الأحجنان
15
من فمه، ولكنهما غير متماثلين. وفي الغالب تجد أحد العاجين أكثر استعمالا من الآخر كيد الإنسان اليمنى. ومما يرى أحيانا وجود كسر في العاج نتيجة لإصابة حربة أو قذيفة أسفرت عن إحداث ضرب من المقرنصات،
16
والعاج لما يقع من نموه، في أكثر من قرن، حلقات من الداخل إلى الخارج كما في الشجر، لا تبصر فيه طبقات، ولا لونا، على وتيرة واحدة، ويدور النقد والتحليل حول الفيل القتيل كما يدور حول رجل عظيم بعد هلاكه، وإن كان الفيل منذ هنيهة قائما قياما منسجما، وإن كان الفيل قبل ذلك مجموعة حية.
وعلى أثر ذلك - وفي الحال - يقطع الزنوج قوائم الفيل الأربع، فالرئيس يطالب بها كما يطالب بالعاج خشية الخداع.
وجمع كثير من ملوك الزنوج في النيل الأعلى كنوزا حقيقية من عاج الفيل كما جمع أسلافهم كنوزا من الذهب. واليوم تجد ثمانين في المائة من العاج من هذا النوع القديم. وقد قل طلب العاج لما حدث من صنع كرات من مواد تركيبية بلغت من الإتقان ما لا يعدلها معه متانة سوى الكرات المصنوعة من عاج أفريقية الغربية القاسي، فحافظت على قيمتها. وقد نظمت تجارة العاج - كما نظمت تجارة الألماس والراديوم - منذ اكتشاف أماكن جماعات الفيل الكبيرة في النيل الأعلى بالطائرة، ومنذ ادخار الإنكليز مقادير عظيمة من العاج وفرضهم ضريبة خمسين جنيها عن كل فيل يقتل، ومنذ صارت الأسواق العالمية ترقب ثمن العاج.
وفي سوق أنفرس
17
يصنف العاج على حسب لونه ومتانته وكثافته وحبته ويبيض العاج الذي تصنع منه أصابع البيان لندرة الأبيض الناصع في الطبيعة، ويزن عاجان 450 رطلا إنكليزيا فيقدمان إلى الملك جورج هدية عرس فلا يدري ماذا يصنع بهما، وتصنع الكرات من العاج، وتلقى نفاياته في وعاء، وتحول هذه النفايات إلى أسورة ومقابض وأدوات مرصعة ومساحيق جلاء وهلام
18
صالح للطعام.
وتصدر أفريقية في الوقت الحاضر عاجا ثمنه مليون جنيه، وليس ملك النيل الأعلى الزنجي الذي يملك ألف عاج أحسن وضعا من مدير أحد المصانع بلندن الذي لم ير النيل قط والذي يريكم - وهو جالس على كرسيه، وبما لديه من قوائم - أنه يملك في مخزنه ثلاثين ألف كرة بليار منوعة، وقد أهلك ثلاثة آلاف فيل لنيل ذلك، وكل فيل من هذه الفيول أجمل وأقوى من المدير ذلك!
الفصل السادس
يتحول صيد الفيل إلى صيد الإنسان، وما كان تاريخ النيل الحديث ونشوء السودان، كما عينتهما تجارة الرقيق، ليبدوا بحالهما المعروفة لولا اختراع البليار، ومن الآدميين ألوف كانوا يقضون حياة فردوسية فغدوا أسارى - أو خصيانا - لدى أناس آخرين؛ وذلك لأن رجلين من أبناء الطبقة الوسطى ذوي قنان كانا يحتاجان إلى ثلاث كرات على بساط أخضر.
وفي بدء الأمر يعن لتاجر عبقري أن يقايض بلؤلؤ زجاجي، ويفتن السوداني فيعطيه عاج فيل في مقابل خمسة لآلئ كبيرة، وهل كان هذا غشا؟ وهل كانت اللآلئ التي تساوي عشرة دوانق أقل جمالا من اللآلئ الحقيقية التي كانت تساوي مائة جنيه؟ أفلم تكن قيمة كرة البليار أمرا خياليا ما صار تقليدها في الحال ممكنا كما قلدت الدرر؟ وهل روعة الألماس أم ندرته هي التي تقرر قيمته؟ تجد من الحجارة العادية اللطيفة ما هو أكثر تأثيرا في النفوس من الألماس. ومما يلاحظ ما يكون للدرر من قيمة تابعة للهوى عندما تقوم سيدات لابسات قلائد من لآلئ ملونة بحركات موزونة كالرقصات الزنجية.
إذن، لم يكن الزنجي أضحوكة، وإنما كان مختبرا، وقد بهره التماع الحجارة والبزوز
1
الكثيرة الألوان التي كان يسحره بها عربي مكار فيطلب الزيادة، وتنتبه فيه روح المقايضة، ويكون هذا آية طرده من الجنة، ويقابل بين كنزه ودرر جاره، ويظل ساعات أمام صناديق التاجر، ويقلب بين أصابعه هذا النسيج، أو ذلك النسيج، الرائع الذي يقدم على سرقته لو كان التاجر أعزل من السلاح، ولا مناص له من اشترائه، ولكن بأي شيء؟ عاد غير ذي عاج، ويجب أن يمضي وقت كبير حتى ينظم موكب صيد جديدا لينال أربعة أنياب أو ستة أنياب من الأفيال، والموسم كان موسم أمطار، ومياه النيل كانت مرتفعة، وسواعد النيل كانت تعوق الصيد، وماذا يستطيع أن يقدم إلى هذا الباشا الكبير وهو رئيس قبيلة زنجية فقير لا يملك غير أنعام وعبيد؟
وهل يضارب التاجر على بضعة عبيد؟ ويومئ التاجر برأسه، وهذا ما كان ينتظره، أفلم يسلم أجداده، في قرن، سود الحبشة إلى العرب العطاش إلى العبيد على الدوام ويغتنوا؟ وتلك الفكرة رائعة إذن، وفي ذلك البلد الذي لا يعرف حقا ولا رقابة يمكن التاجر المسلح ببنادقه أن ينال في مقابل لآلئه وبزوزه أرباحا من الرقيق لا توجب ارتفاعا في أسعار العاج.
وكانت الفكرة جديدة لدى رئيس القبيلة، وكان يقتصر حتى ذلك الحين على اغتصاب الناس - ولا سيما النساء - من القبائل المغلوبة حربا لاستخدامهم في أعمال الحقول، وكان ذلك ثمنا للنصر، بيد أن تجارة الرقيق التي كانت تزاول في سواحل غرب أفريقية مما لم تعرفه شواطئ النيل، ويقبل عليها في هذه الشواطئ بعدئذ، ولا تعارض، وينتشر هذا الجور بمثل السرعة التي يعم بها حريق في السهب، ورئيس آخر كان محتاجا إلى ثلاثين امرأة للقيام بأمور الزراعة وإلى ثلاثين راعيا، ولكنه كان لا يريد الحرب عن خوف، أو عن بلادة، أو عن شيبة، ويبصر بضع مئات من الآدميين مزروبين في حظيرة صديقه العربي فيعرض عليه عاج فيل في مقابل ثلاثة عبيد.
والمعاوضة في القرن التاسع عشر، وبوجوهها المتقلبة التي يحبها الشرقي، حولت تاجر العاج إلى تاجر رقيق ثم إلى صائد رقيق ليعود تاجر عاج. وهكذا وقع سباق بين صيد الإنسان وصيد الفيل في النيل الأعلى، وكان يقيم بالخرطوم تجار من العرب، فعقد هؤلاء التجار معاهدات مع رؤساء القبائل مستفيدين من تنافسهم وصاروا يشترون أناسا من رعاياهم سالكين مثل السبيل التي سلكتها إنكلترة في سواء ألمانية في القرن الثامن عشر. ويا لها من ممكنات تصدر عن نفوس مبدعة لا ضمير لها! ووجد أحد هؤلاء طريق بحر الغزال المارة من المناقع فاكتشف هنالك قوما مجهولين فقبض عليهم وباعهم حائزا شرف رائد وشرف ممثل للحضارة! وغدا شرق أفريقية «دار الرق» أيضا، ولولا الطمع في العاج ما أقدم تاجر على السير حتى الدرجة الثالثة من العرض الشمالي، وما اقتحم مخاطر النيل وعانى أهوال الزنوج.
ومما كان يحدث أحيانا أن يقنع أفاق، أو شارد - نسميه عليا - أحد متمولي الخرطوم، بأن يقرضه مائة جنيه على أن يدفع صعفيها عاجا بعد ستة أشهر، ويغري علي هذا نفرا من المشتبه فيهم، ويشتري زوارق وبنادق وقذائف وبضع مئات أرطال من لؤلؤ فينيسية الزجاجي، ويدفع إلى كل واحد من أولئك رواتب خمسة أشهر مقدما (15 تاليرا)، ويعدهم بضعف ما دفع عند العود من الغزو، ويناولهم ورقة لتقييد حساباتهم، ويردون الورقة إليه؛ لأنه الوحيد الذي يعرف الكتابة، ويسار في شهر ديسمبر إلى جهة منابع النيل حيث يقيم الشلك والدنكا، ويرتبط علي برابطة الصداقة في أحد الرؤساء ويهدي إليه بضع بنادق، وينطلق هذا الرئيس إلى محاربة جيرانه وأعدائه، ويهاجم علي ورجاله قرية في تلك الأثناء ويحرقها ويقتل بعض أهلها الزنوج ويقطع أيديهم أخذا لأسورتهم، ويقتاد الناس والأولاد والمواشي ويعود إلى صديقه الأسود الجديد فيقدم إليه فتاة حسناء مع شيء من المواشي.
وتساور الملك الزنجي رغبة في أخذ كثير من القطاع، ويخرج عاجه من الأرض ويأتي به إلى ذلك الغريب الذي يعده من الباشوات أو من الآلهة تقريبا، ويأخذ الخفراء نصيبهم من الغنائم، حتى من العبيد، وتقام سوق، ويشري كل واحد أقصى ما يمكنه منها، ويقيد علي كل شيء حتى ينزله من أجور رجاله، ثم يعيد العبيد الموثقين بالأغلال إلى نسائهم البائسات أو إلى آبائهم في مقابل أنياب فيل جميلة.
ويختم ذلك باختصام الرئيس وحليفه وينهبه علي ويقتله ويقود نساءه وأولاده عبيدا، وتملأ القوارب ويستعد للرحيل، ويتخلف بعض الرجال إدامة للنهب وإعدادا لغنيمة أخرى في العام القادم، وبالقرب من الخرطوم تنزل هذه السلعة البشرية وتوزع بين الباعة خشية اطلاع السلطات على مقدار الثروة التي جمعها علي، وينقل العبيد بطريق الصحراء والبحر الأحمر إلى بلاد العرب، ويساق بعض العبيد إلى القاهرة، ويوضع حول عنق كل واحد منهم ملقط ذو مقبض طويل لامس لذراعه المبسوطة، فإذا ما أرخى ذراعه اختنق، ويأتي علي دائنه بالعاج الموعود، ويبلغ ما يجيء به من العاج في العام الجيد عشرة آلاف كيلوغرام؛ أي ما تساوي قيمته في الخرطوم أربعة آلاف جنيه إنكليزي، ويدفع إلى رجاله عبيدا فلا يكلفونه شيئا لهذا السبب، ويبلغ نصيب رئيس الغزوة بضع مئات من العبيد يباع كل واحد منهم بخمسة جنيهات أو ستة جنيهات، وهكذا يغتني علي بمحصول ثانوي ككثير من تجار البيض.
وهكذا صار النخاسون أصحاب سلطة سياسية فغدت في الجنوب أقوى من سلطة الحكومة لتحالفهم مع بعض الأمراء ضدها في الغالب، وكانت بعض الرواتب تدفع إلى الموظفين المصريين عبيدا، وكان كبار الموظفين وصغارهم، وكان باشا الخرطوم، وكان هؤلاء جميعهم، يضاربون كما في مصفق نيويورك عند ارتفاع الأسعار. ومما يروى مع التوكيد أنه بيع ما بين أربعين ألفا وستين ألفا من الآدميين في كل سنة مما بين سنة 1840 وسنة 1860، ولا يعرف عدد الموتى الكثير في تلك السنين. وأصبحت التجارة التي بدأت بالعاج في النيل الأعلى أمرا ضروريا للدولة، وأسفرت في نهاية الأمر عن أزمة سياسية وعن أفول السيادة المصرية.
الفصل السابع
مثل ذات يوم فرنسي - مثل الرحالة كايو - أمام والي مصر مع هدية غريبة، وذلك أنه جلب إليه من السودان كيسا مشتملا على بذور قطن وثماره، وأثار لديه فكرة تجربة زراعة القطن في دلتا مصر، ولم يقرأ محمد علي كتاب بليني؛
1
لأنه جندي من أصل ألباني. وقد سمع محمد علي عن القطن المصري لا ريب، وإذ كان محمد علي فاتحا، لا أميرا وراثيا، كان لديه من الذكاء ما يدرك معه أهمية هذه الإشارات التي سنتكلم عنها في مكان آخر. وفي سنة 1820 جاء تقرير الرائد متما لتقارير الضباط والموظفين، ويعلم الباشا من كايو أمورا طريفة جامعة بين الحقيقة والخيال كما في جميع الأقاصيص الشرقية، يعلم الباشا منه وجود ذهب في السودان، وأن الفراعنة كانوا ينالونه منه، وأنه يعج بالعاج والأفيال وأن كردفان بلد اللبان، وأن الألماس الذي يحدث عنه منذ أقدم الأزمان يوجد حوالي الدرجة الثانية عشرة من العرض لما يوجد منه في الأمكنة الأفريقية الأخرى الواقعة حول هذه الدرجة.
ومما جلبه كايو زجاجة ماء من ملتقى النيلين، وكان كايو عالما حمسا في آن واحد فأيقظ روح الإقدام في محمد علي على هذا الوجه، ويا للمجد الذي يناله ولي أمر يكتشف منبع النيل! وستخمد خصومة أوروبة ضد فاتح مصر إذا ما صار نصيرا للعلم.
ومن المحتمل قليلا أن يكون محمد علي قد أسر إلى كايو بما يضمر من أفكار سياسية. أجل، كان يعد الذهب والألماس معدنين مفيدين، ولكنه كان يرى أن الأفضل منهما أن ينقذ القاهرة من المماليك الذين كانوا قد ثاروا عليه، وأن يلهي كتائبه الألبانية والتركية، وأن يجتذب إلى مصر تجارة البحر الأحمر، وأن يجمع جنودا على الخصوص، ومن أحلام جميع الطغاة أن يجمعوا جنودا كثيرين، ولو بلغ جنودهم من كثرة العدد ما يصبحون معه عاطلين من العمل! والجنود عبيد حرروا لتفرض عليهم عبودية جديدة، ولم يدفع النوبيون ضرائب منذ سنين كثيرة، وأرهقهم الجباة عسرا، ووجد هذا سببا لجباية ضريبة منتجة، سببا لجمع جنود. وإذا كان القطن ينبت من تلقاء نفسه فلم لا تزرع منه مقادير كبيرة هنالك وينتفع به في مصر؟ وإلى هذا يضاف الذهب والعاج ومجد اكتشاف منابع النيل!
ولا يبدأ تاريخ السودان إلا بالحملات التي وجهها إليه محمد علي بين سنة 1820 وسنة 1840. وقد دفع هذا الرجل الممتاز ثمن إقدامه غاليا، فقد أخضع ابنه البالغ من العمر اثنتين وعشرين سنة قبائل السود حتى الدرجة الحادية عشرة من العرض فوقع في شرك؛ وذلك أنه طلب في شندي - الواقعة على النيل في شمال الخرطوم - من الملك نمر ألف بقرة وألف أمة فتاة وألفا من الإبل والضأن والمعز وألف حمل بعير من الحبوب، وألف حمل بعير من التبن.
وينحني الملك ويقول: «إن حسابكم هو من البساطة ما يوجب العجب، ويظهر أن الألف هو الرقم الذي تعرفونه.» ولما جمع كل شيء وكدس التبن حول المعسكر دعا الملك الغزاة إلى وليمة، ويتوارى الملك في ختامها ويحرق التبن، ويهلك الفاتح الفتى هو وضباطه بين اللهب، ويعقب ذلك انتقام هائل فقد أحرقت شندي وذبح ألف امرأة وولد على ضفاف النيل، ويوفق الملك نمر وحده للفرار إلى الصحراء.
وأعانت تلك الحملات على اكتشافات مع ما تخللها من فظائع، كأن ترسل إلى القاهرة آذان الأسارى، وكأن يعد ملك في سنار كبد الإنسان مع الجعة طعامه المفضل. وكانت الخرطوم تقام، وكانت تسير قوارب خفيفة إلى الدنكا الذين لم يصل إليهم أحد من قبل، ويذهب محمد علي إلى السودان بنفسه، ويخلد نفسه هنالك بابتكاره أسلوبا جديدا في جباية الضرائب، وذلك بتعليقه بشجرة في كل قرية كيسا محتويا بعر بعير آمرا بأن تدفع كل قرية تاليرات بعدد ما في الكيس من بعرات.
وأخيرا تسود السلم فيما يمكن أن يرقب من نواحي البلد، وتتمتع هذه النواحي بسكون المقابر، ويسير اللصوص على أثر الرواد في الجنوب كما يقع في كل زمان، كما يقع حتى الآن، ويبدأ ارتياد تلك البقاع بلا حرس، ويتجه خلف العلماء تجار من ذوي الجشع نحو منبع النيل، ويوغل المبشرون في السهب ويضطرون إلى الرجوع.
وتغدو أفريقية لدى البابا «وكالة»، ولدى قنصل سردينية «قاعدة». ويلاقي التجار والأشرار المصريون رهبانا نمسويين، ويحاول هؤلاء أن يكسبوا الزنجي ليسوع، ويحاول أولئك أن ينالوا عاجا، وتخفي دول في أوروبة ما تضمر من مقاصد وراء رسالة نبي، وتعتمد دول أخرى على رسالة نبي تسويغا لاصطياد العبيد، وفي تلك المجاهل يثير جميع ذلك حقد النوبي على النصراني، ويثير عطف النصراني على الزنجي.
وتمضي ثلاثون سنة أو أربعون سنة فيقاوم تجار الرقيق في قصورهم إسماعيل باشا الذي هو حفيد محمد علي، ولا يدفعون من الضرائب إلا بالمقدار الذي يناسب كتائبهم الشخصية، وعلى ما كان يساور إسماعيل باشا من أطيب النيات تقصر يده بسبب أعدائه وديونه، ويكون أول مصري يطلب من أجنبي أن يسرع إلى مساعدته في السودان، ويعض هذا الحاكم على الأمر بالنواجذ كحاكم وكنصراني وكإنكليزي، ونواجذ هذا الأجنبي كانت غاية في المتانة.
وكان صموئيل بيكر في الأربعين من عمره حينما حفزه نشاطه إلى قصد أفريقية، وكان بيكر هذا - حتى ذلك الحين - صائدا عنيدا في سيلان وجوابا وثابا في العالم، وكان هذا ممازجا لدمه، ولا عجب، فقد كان منذ صباه يبصر سفن أبيه ذات القلوع
2
تغادر جمايكا مع شحن
3
من السكر قاصدة إنكلترة، وهو ضرب من العمالقة ذو رئتين وعينين وعضلات تقاوم كل ابتلاء، وسيلان كانت أول ما ذهب إليه لصيد النمر، وهو عندما نشر قصة ذلك لم يشك أحد في صحة مآثره القريبة من الخيال، ويبدو هنالك نصف عار، ويبدو حاملا رمحا، فيلقي في النفس انطباع الرجل الفطري، ويدرك أمر احتياجه إلى «مدفعية بنادق».
وليست القسوة من سجيته، فكانت الحيوانات والأولاد أشد ما يحب ويفهم، وقد ربى عبدا صغيرا ودب اليأس في نفسه عندما فقد ثلاثة من أولاده في ثلاثة أعوام، وكان غضوبا مع سرعة رضا، وكان متجبرا مع كرم وقرى، وكان مستقلا بفضل ما ورثه من ثروة، وكان يطفح صحة فيلوح أنه خلق للمغامرات، والحرب هي التي كان يحتاج إليها.
ويصل إلى ميدان القرم الحربي متأخرا، ويجد بعد موت زوجه الأولى هنالك، شريكة حياته التي تصلح له، يجد حسناء مجرية يصطاد الدببة معها في آسية الصغرى، ويستحوذ السأم عليه بسرعة، وكان صيادو الإنكليز ومغامروهم في ذلك الدور؛ أي حوالي سنة 1861، لا يحلمون بغير النيل حيث الفيول والأسود التي تختلف عما في سيلان، وحيث لا حد لأراضي الصيد، وكان يوجد في ذلك الحين أمر يقيم العالم الغربي ويقعده، كان يوجد عمل يتطلب إنجازا، كان يوجد جهاد يتطلب جميع الجهود، كان يوجد كفاح ضد الرق؛ فالحرية والإنسانية والمجد أمور كانت هنالك.
ويبذل بيكر جهود بطولة ويجاهد بيكر ويعاني ضروب الحرمان مدة ثلاث سنين، وترافقه زوجه في أثناء ذلك على الدوام، ويكتشف منبع النيل الثاني، يكتشف بحيرة ألبرت، ويعم خبر مجد صائد الآساد صموئيل أرجاء جميع أفريقية الشرقية.
ويعود محب الزنوج الشهير ذلك موظفا كبيرا بعد خمسة أعوام، ويكون عرضة للحقد وسوء الظن. ولماذا يأتي ليكدر صفو تجار الرقيق؟ ومن ذا الذي أذن لهذا النصراني في التعرض لتعاليم القرآن التي يبيع المسلم تحت ستارها وثنيي الزنوج؟ وما هي علاقة حرب النصارى الأمريكيين ب «مسلمي أفريقية» الذين كانوا يبيعون كل واحد من عبيدهم بخمسة جنيهات؟ والحرب الطويلة بين الشمال والجنوب بأمريكة كانت تثبت مع ذلك ضرورة نظام الرق ورضا الرب عنه. وماذا كان في النيل الأعلى معنى البزة الرسمية الزاهية التي أنعم الخديو بها على بيكر في القاهرة؟
ومن المحتمل أن يكون بيكر قد وضع في نفسه هذه الأسئلة في أقتم الأوقات، ويأتي صائد الآساد والأفيال لذبح الأفعى العظيمة التي تهلك منطقة النيل الأعلى تلك، يأتي للقضاء على تجارة الرقيق، لا على الرق، ويهزأ بيكر بتبجح جمعيات مكافحة الرق في إنكلترة، ويوجه إليها سهام اللوم بقوله: إن على أعضائها أن يعنوا في بدء الأمر بآلام إخوانهم في مناجم الفحم.
وكان بيكر يحب الزنوج ولا يحسن الظن بالعرب، شأن جميع من خلفوه، ولكنه كان لا يحب العبد كحب تولستوي
4
له، ولكنه كان لا يريد تحريره كما كان لنكولن
5
يريد، وإنما الذي كان يوده هو مكافحة النخاسة، وكان للعبد في بلده نصيب العمال الآخرين، فإذا ما نقل إلى مكان آخر لم يكن غير سلعة، غير ثمرة ذات منظر سار أحيانا، ذات عيب خفي حقيقة، غير أداة تسلية وسخرية في دوائر الحريم. ويرى بيكر أن ينظر إلى كرامة الإنسان أكثر مما إلى سعادته، ويكره بيكر بيع الإنسان للإنسان، ويبصر بيكر في القاهرة باشوات سمانا يتنزهون في عربات يحف من حولها سواس لابسون سترا موشاة بالذهب فيخيل إلى الناظر أنه يشاهد ما ينتقل به إلى دور ألف ليلة وليلة. ومما سمعه هنالك ضجيج وشاة ماكرين مصانعين يرون سيدهم آثار إخوانهم الأباق
6
عارفين إياهم من شكل أباهمهم ومن رائحتهم.
ومما اطلع عليه بيكر بعينيه صبيان من الزنوج مستلقون على الرمل مخصيون بمبضع مع صب رصاص على الجروح قطعا لنزفها، وكان بعض الأديار القبطية يعتمد في دخله - قبل كل شيء - على صنع خصيان، والخصاء، وقد يؤدي إلى هلاك الخصي، هو من اختراع المسلمين والنصارى، والخصاء مما كان الزنوج الوثنيون يجهلونه.
وأثبت بيكر - الذي كان صائدا فغدا رائدا - أنه رجل حكومة، فقد جعل ولاية من المنطقة التي كان قد رادها منذ عشر سنوات، بيد أنه كان وحيدا، وكان النوبيون والمصريون الذين هم تحت إمرته يخدعونه، ومما ثبت عنده أن أعلى موظفيه كانوا متواطئين هم والنخاسون الذين كانوا يبدون ذوي سلطان لا يقهر.
ومن أولئك من كانوا ذوي عبقرية، فقد ظهر من النوبيين مغامر اسمه الزبير، وكان الزبير هذا جاهلا فقيرا فصار صاحب مقام عن فساد ورشوة، فأقام دار نخاسة في النيل الأعلى وجمع كتائب للمحافظة عليها، وأنشأ نوعا من القلاع مع عيشه في أكواخ ذات بسط وأدوات فضية، ويحرس مدخل القلعة أسد مقيد للتأثير في زائريه، وما كان ليخشى حكومة القاهرة الضعيفة ولا حاكم الخرطوم الإنكليزي، وإنما كان يخاف الشلك المقاتلين الذين يهاجمونه دوما كما كان يخاف السد الذي يمكنه أن يسد النيل ويقطع طرقه. وكان يستطيع أن يعلن نفسه ملكا، وقد صنع ابنه ذلك فتسمى سليمان، ونادى بنفسه ملكا لبحر الغزال وبور ومكاكا، وكان تاجر الرقيق بالجملة هذا معاهدا سرا لباشوات القاهرة وموظفي الخرطوم، وكل يكره الإنكليزي الذي جاء ليضع عراقيل في الدواليب.
7
وكانت الضغائن تسود جميع ذلك البلد، فكان الزنجي يمقت العربي الذي هو عين عليه فيأخذه غصبا ويبيعه، وكان العربي يمقت التركي ويقول: لا ينبت الكلأ حيث يمر التركي، وكان التركي الذي يود أن تجبى إليه ثمرات كل شيء يمقت الأوروبي لما يبصره من مطامع الأوروبي التي حملت الخديو على فتح أبواب بلده له تأدية لديونه الناشئة عن تبذيره. وكان الوثني يمقت المسلم الذي أباح النبي له استعباد الكافرين، وكان المسلم يمقت النصراني الذي حظر عليه نبيه تعدد الزوجات. وكانت هذه البغضاء العامة تتدرج من الأسود إلى الأسمر، ومن الأسمر إلى الزيتي وإلى الأبيض، ولا عكس. وكان الأبيض يشعر بعاطفة نحو السود، وهو في ذلك كالرجل الذكي الذي يفضل الأولاد على أنصاف العلماء.
كان بيكر وحيدا فوق هذا البركان كدعاة السلم في أيامنا، وأفنى هنالك أربع سنوات من حياته وعاد إلى بلده صاحيا عادا من المعجزات عودته من رحلته صحيحا سالما.
وتمضي عشر سنين، وتحتفل «جمعية مكافحة الرق الأجنبية» في لندن بعيدها الذهبي، ويدعى بيكر إلى أن يكون ضيف الشرف، ويرفض ذلك بما يندر صدوره عنه من غلظة فيقول في جوابه: «لا أجد ما يسوغ الاحتفال بهذا العيد الخمسيني في إنكلترة مع مزيج ممقوت بغيض من الرئاء والدناءة.»
وقول جريء فريد في بابه كهذا مما يجعل - في الغالب - للرجل الشريف مكانا في التاريخ أكثر دواما من جميع أعماله.
الفصل الثامن
كان خلفه على خلافه تماما؛ فبعد الصائد الضخم الشديد اللحياني، وبعد المحارب المسلح اللابس موقا،
1
يعين الخديو حاكما للسودان رجلا صغيرا نحيفا ماهرا أشقر الشعر أشيب الشارب دائم الحركة غير مقيد ببزة ولا بعمرة، وكان بهاء لونه وصفاؤه يتحدى شمس الصحراء، وكان محافظا على بساطة، على رشاقة، صبيانية تقريبا، وعلى غضارة
2
رجل رياضي، وما كان جميع ذلك لينعم عليه بسلطان كبير بين أولئك السود والسمر لولا عيناه الزرقاوان الفولاذيتان النفاذتان في الرجال كالنبال، وعنه قال صديق له: «إنه ذو بصر يثير العجب بنوره، وإن لم يمتد إلى بعيد في جميع الأوقات.»
ذلك هو أمر الجنرال غوردون الذي يشعله لهب باطني مع عطله مما كان يتصف به بيكر من بأس وبصر صرع بهما الفيول واكتشف بهما البحيرات ووفق بهما لمغادرة أفريقية، التي خسر غوردون فيها حياته، صحيحا سالما.
وفي الغالب يحاول رفع فضائل رجل ختمت حياته بفاجعة إلى أعلى مرتبة، وأفضل من ذلك أن يستعان بهذا الموت في إيضاح مزاجه، والحق أن غوردون ذهب ضحية خلقه، فالذي كان يمسكه ويشده مع تردده، والذي كان يمن عليه بذلك الحزم الذي يقرأ في نظره، هو اعتماده الروائي على الله، وهو في هذا يشابه كرومويل مع قلة كآبة، وإذا كان اتصال الرواد الآخرين الدائم بالمسلمين والوثنيين لم يؤد إلى تثبيت إيمانهم النصراني فإن إيمان غوردون لم يتزعزع قط، فغوردون - مع ليفينغستن - هو الإنكليزي الأفريقي الوحيد الراسخ الإيمان.
التقاء النيل الأبيض والنيل الأزرق.
وكان غوردون يستلهم النبي إشعياء إذا أراد أن يتقدم أو يقف، وإذا لم يجد في دارفور ماء أشار إلى نص في سفر الملوك الثاني، فيلوح أنه ظل يتلو التوراة في كل صباح أو مساء من كل يوم مرة مدة عشر سنين أو عشرين سنة، وما كان فيه من كرم صادر عن إيمانه فيدفعه إلى إطلاق خصم غدار كسليمان، وما كان يوزع به ماله من سخاء فيكفي وحده لتبديد شهرة الاسكتلنديين بالبخل. وحدث ذات يوم أن نفد عنده ما يمكن أن يساعد به مريضا من حاشيته فباع الوسام الذهبي الذي كان عاهل الصين قد أنعم به عليه.
وقائد هذا مزاجه كان لا بد من تقلبه تقلبا خطرا، فطورا يبدو راحما وطورا يبدو قاصما، فقد أعرب عن تحننه على أعدائه الذين خروا صرعى، وذلك في كتاب أرسله إلى أخته التي ما انفك يراسلها في أثناء نصف حياته، وهو؛ إذ كان يثق بسهولة، كان يقسو في معاقبة من يخادعه، وهو لم يتأخر عن إعدام من يرتشي من موظفيه، وهو قد جعل زنجيا نجيه
3
فداجنه
4
هذا النجي، وإذا ما وجب عليه في المعارك وحين المخاطر أن يقرر أمرا حظر دخول أحد عليه في خيمته يوما بأجمعه ليرجع إلى التوراة ويقلب الموضوع في قلبه ويسأل في نفسه: «ما هو الخلقي؟ ما هي حرية العبد؟ ما هو الصيت؟» وما كان من تفكيره في الصيت مليا ومن إنعامه النظر في المجد إنعاما عاطفيا، مثيرا للسخرية لا ريب، فيكفي وحده لجعله جذابا.
وكان هذا الاسكتلندي الجبلي الواضع في توراته شريطا أزرق أخضر أصفر رمزا إلى قومه، ضابطا مهندسا، ولكن التقوى كانت تقرأ على سيماه منذ صباه، فكانت له هيئة القديس ميشيل حين استناده إلى إيمانه وسيفه، حتى إذا ظهر مسيح جديد في الصين عين الكولونيل غوردون جنرالا وفوض إليه أن يقاتله، ويوفق في ذلك، ويقال مع التوكيد - مؤخرا - إنه أنقذ الصين، وكان - بين بعثاته إلى الآستانة والقدس - يعود إلى إنكلترة في كل مرة وينشئ حصنا، ثم يستأنف سفره إلى الخارج ويزهد في النساء ظاهرا على الأقل من غير مسح قديس، ولو كان أطول مما هو عليه قليلا لأوحى رونقه الوردي الحسن ومحياه
5
المشرق المتناسق وعيناه الرائعتان بمثال الاسكتلندي الجميل. وقد كان في الأربعين من عمره حينما وصل إلى السودان.
ومن يك ذا نفس نقية يبد أكثر تسامحا تجاه المجرمين من رجل الدنيا الذي لا يفقه سبب الجرم أبدا. وفي سنة 1874 يرسل إسماعيل غوردون حاكما للنيل الأعلى ويفوض إليه فتحه من أجل مصر، فيكترث لفتح هذه المنطقة أكثر مما لمكافحة الرق، ويفضل أن يكسب قلوب الزنوج أكثر من مقاتلة العرب. وما كان من عبوره النيل سابحا بالقرب من دوافع جوبا غير وجل من التماسيح ومن إمساكه بندقيته عاليا فقد نال به احترام الزنوج، وقد انتشرت على طول النهر قصة الأبيض السابح حاملا بندقيته بيده اليسرى.
ويمضي عامان فيصبح غوردون حاكما لجميع السودان، ويثير من الحقد مثلما أثار بيكر، وكان ملك الزنوج الزبير من القوة ما يستطيع معه أن يطرد ملوك دارفور الذين ظل الملك في آلهم خمسمائة سنة، ولكنه - ككثير من الأفاقين - لم يعرف أن يقاوم رغائب الخديو فانجذب إلى القاهرة حيث منع من العود. ولما أراد غوردون دعوة سليمان بن الزبير - الذي كان دون أبيه قيمة - إلى سلوك سبيل العقل لم يدعه إلى محكمته ولا إلى ضيافته، ولم يوجه إليه كتائب قوية مع مدافع ضخمة، وإنما استفتح التوراة وسار نصرانيا، لا حاكما، ويغامر في الصحراء مع مائتي فارس، ويحث بعيره، ويقطع كل يوم، وبين مرحلة ومرحلة، مائة كيلومتر، حتى يبرز وحده أمام عدوه، ويدخل مخيم الأشرار والزنوج رويدا رويدا متوكلا على الرب وعلى زرده
6
المذهب.
وهل كان من الممكن أن يعرف أناس من الهمج وضعه؟ هم لم يمسوه بسوء، ووعد سليمان بمعاقبة المذنبين. ولما أدرك الحرس غوردون دعوا إلى وليمة، وخيل إلى غوردون أن الحق ومقامه العالي انتصرا على الرذيلة. وما كاد غوردون ينصرف حتى عاد كل شيء إلى ما كان عليه، وهنالك أرسل الإيطالي الباسل جسي مع جيش حقيقي، لا مع زرد مذهب، فغلب جسي سليمان وقتله، وهنالك حرر الزنوج الذين لم يعتموا أن عتوا،
7
وطرد العرب الذين منوا
8
بالبطالة وملئوا غيظا وانتشروا في جميع المنطقة، وكان التحول مفاجئا إلى الغاية، وتلاشى النخاسون وتلاشت النخاسة من غير إلغاء للسبب، وقد نشأ عن مقاصد أولئك الرجال الرائعة إثارة جميع من يقبض في السودان على المال والسلطان ضد الحكومة المصرية التي أحالت سلطتها إلى هؤلاء الأوروبيين.
ويغادر غوردون السودان مغاضبا كما صنع بيكر منذ سبع سنين، ويضع مواهبه وخدمه تحت تصرف إنكلترة، ويترك غوردون البلاد بعد إصلاحات عشر سنين على السنة البريطانية، وما حدث من مكافحة العرب النوبيين في سبيل السود فقد ضاعف الفوضى بدلا من تنظيم البلاد وإمتاعها بالسلم. والسودانيون - مع السنين - يمقتون بالتدريج حكومة خلعت الملوك المحليين لتتمتع بأطايب النعم عند مصب النيل هنالك بفضل مظالم الباشوات. وكان الأغنياء يتفقون على الإفلات من الضرائب وعلى الإثراء بتجارة العاج والرقيق، وكان الفقراء لا يعرفون شيئا غير كون هؤلاء الكلاب النصارى يطالبون الخديو المديون بإبطال النخاسة، وكان ما في سبب تحريرهم من دنس يكفي لاحترازهم. وقد حظرت الحكومة المصرية على التجار بيع الشمع، وريش النعام، وجلد بقر الماء، والببغاوات، والعاج على الخصوص، محتكرة هذه الأشياء.
وكان جنود الخديو، إذا ما بلغوا واحة، يعسكرون فيها على حساب البدوي إلى أن يؤدي ما عليه، فإذا رفض ذلك ربط بنخلة أو جر إلى مجرى جاف حتى تأتي زوجه بمال أو أنعام. وعلى هذه الأساليب كانت تقوم أجرة الجندي الذي لا يدفع إليه راتب في سنوات وجعل رئيس القبيلة الذي يطالب بأكثر مما يطلب الجندي منه. وكان شباه الأعراب يتركون غلاتهم ويفرون مع أنعامهم إلى سهب منيع، وكان الفلاح المكلف بضريبة على حقله وعن كل واحد من أفراد أسرته يدع أرضه بورا ويتوجه نحو منابع النيل الأبيض ويقطع طرقا أو يبيع رقيقا، ويؤخذ من كل شيء خرج، يؤخذ من الناعورة التي هي مصدر الحياة في شواطئ النيل، ومن النخلة ولو عطلت من الثمر، ومن ختان الأولاد، ويعاد إلى الخرطوم باشا عابد للذهب كان غوردون قد عزله وكان يسير على غرار أسلافه، وينصب هذا الباشا مدفعا ويسميه قاضيا، فكان كل من يعاسره يقاد إلى هذا القاضي ويربط أمام فوهته ويمزق إربا إربا بقذيفة تطلق منه.
وحوالي سنة 1880، وفي أثناء ذلك الاستعباد العام بالسودان، كانت جميع الأحوال حبالى لتلد حزبا قوميا اجتماعيا، وكان لا بد من خطيب شعبي يجد كلمة السر حتى تتبعه ملايين الآدميين مع عمى كعمى بصيرة البيض.
الفصل التاسع
كان محمد أحمد فقيرا في صباه، وكان قد أذل في صغره، وكان له - ككثير من حديثي النعمة - حظ الحبوط في بدء أمره لما اشتدت به عزيمته وما اكتسبه به من عناد، وكان ابن فقير نوبي صانع لقوارب من خشب النخل بين الشلالات في دنقله، ويلازم شيخا فلم يستظهر سوى أسماء النبي التسع والتسعين، ويتعلم الكتابة والقراءة بعد حين فيبيع - ليعيش - قطع ورق مشتملة على طلاسم ضد السحر والمرض، ويلوم - ذات يوم - معلمه لمخالفته حكما دينيا ويغضب عليه معلمه ويعاقبه بوضع ملقط حول عنقه لامس لذراعه المبسوطة، ويطلب محمد العفو صاغرا، ويغدو خادما لدى مدير مدرسة لتعليم القرآن عدو أزرق لذلك المعلم.
ويقبل هذا الآبق بقبول حسن في المعسكر المقابل، ويبصر اتصافه بثلاثة أمور نافعة فيه: يبصر أن اسمه محمد، وأنه جميل العينين ناعم الشعر، وأنه أفرق الثنايا وذو خال على خده الأيمن، ويدرك أن قومه الساخطين اليائسين محتاجون إلى زعيم، ويفكر - وهو اللسن - في قدرته على تمثيل هذا الدور، ولكن كان يجب عليه أن يبدو ناسكا وليا في بدء الأمر، أو أن يعيش منزويا مع مشاهدة الجميع إياه، وأين يقضي حياة ولي ناسك مع توجيه الأنظار إليه؟
ويذكر أن أحد أعمامه كان يصنع زوارق في جزيرة كبيرة واقعة في مجرى النهر الفوقاني من الخرطوم؛ أي في مكان مركزي رائع مناسب لناسك مرئي من كل ناحية، وكانت جميع الزوارق تمتد على شواطئ هذه الجزيرة، وكان كثير من الزوارق يقف هنالك للإصلاح، وكان حجاج مكة الآتون من الغرب وتجار الرقيق الآتون من الجنوب يمرون أمامها، ويستقر محمد هنالك مثل ولي إذن، وذلك مع تقديمه زوجيه كغاسلتين عنده، وذلك مع اقتصاره في طعامه على الخضر والثمر، وكان يتلو القرآن ويعنى بشعره الجميل الطويل، وكان يتطيب بالعنبر الثمين فيثير برائحته الزكية حب الاطلاع لدى الجميع ولا سيما النساء.
ويمر بضع سنين فيعرف ولي جزيرة أبا في كل مكان، ويأتي الأولاد لمشاهدة خاله الجميل وتقبيل ثوبه الأبيض كالثلج، وتأتيه النساء بالمال، ويطلب الجنود والفلاحون طلاسم منه، يطلبها الجنود للوقاية من مزاريق عباد الأصنام، ويطلبها الفلاحون لحفظ مواشيهم من الأوبئة. وكان محمد يدعى بالزاهد لتوزيعه على الفقراء جميع ما يأتيه من الهبات، وذلك عن جهل بأن فقراء الجزيرة هم الذين يمونونه، وإذا حدث اتفاقا أن جاوز النيل وتنزه على ضفته هازجا
1
أو منشدا حاملا طاسا بيده سمي «الأب الأفلج»
2
وحياه الجميع.
وكان محمد ينتظر مجيء يومه مع صبر شرقي يكون به دبلميا أمهر من الغربي العصبي، وذلك مع ملاحظته صامتا ذلك الهيجان المتزايد الذي يصفه له الملاحون الآتون من جميع جهات السودان للرسو في جزيرته. وأخيرا ينبئ مريديه بقرب ظهور المهدي المنتظر؛ أي المسيح الذي أخبر به القرآن. والواقع هو أنه منذ قرون - وفي كل مرة يتمخض الإسلام عن ثورة - يخبر رجل بظهور المهدي، بظهور مرسل النبي الذي يتم عمله ويقوم مقامه، ويبلغ محمد أمر ظهور المهدي، وجميع الناس يقولون مرددين: «سيظهر المهدي، ومن يكون المهدي؟»
ولم يخامر السلطات شك في الخرطوم، وحظر الحاكم على بواخره أخذ حطب من جزيرة أبا، وحملها على التمهل عندها داعية المسافرين إلى الصلاة بصفارات بخارية، ويرد موظف قبطي عال إلى الجزيرة ذات يوم، ويقدم الولي الجميل إليه شرابا، وتظل الجرة المشتملة عليه مملوءة، ويقص القبطي على الباشا نبأ هذه الكرامة فيدهش الباشا.
ويبصر محمد رعن
3
أولياء الأمور، وتخاصم زعماء الأحزاب، وزيادة فاقة الشعب، ويرى أن عليه أن يؤمن بنفسه حتى يؤمن الناس به، ويعزم على إعلان مهديته، ويأتي بمريديه إلى تحت النخيل في جزيرته ويقص خبر رؤياه في الليلة الماضية، يقص عليهم أنه رأى كتيبة نيرة من الملائكة والأولياء والصالحين تحيط به، وأنه رأى النبي محمدا نزل إليه لابسا بردته الخضراء وقال: «هذا هو المهدي، فمن لم يصدق بمهديته فقد كفر بالله ورسوله.» ويركع التلاميذ أمام وليهم صامتين مرتجفين، ويقول المهدي لهم: «اعلموا يا أصحابي أنني المهدي المنتظر!» ثم يدعي أنه من ذرية محمد، وأنه سمي باسمه لذلك السبب، وأن الله جعل من السمة التي على وجهه آية على كونه صفيه.
أجل، كان المئات من الناس مستعدين للإيمان به، ولكنه كان محتاجا إلى مليون حتى يقود حزبه إلى النصر، وفي ذلك الحين يترك وضع الولي ويرسل أصحابه إلى أنحاء البلاد ليعلنوا ظهوره المعجز:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الولي الكريم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله مع التسليم، وبعد فمن العبد المفتقر إلى الله محمد المهدي بن عبد الله إلى أحبائي في الله المؤمنين بالله وبكتابه ... ثم تفضل الله علي بالخلافة الكبرى، وأخبرني سيد الوجود
صلى الله عليه وسلم
بأني المهدي المنتظر وخلفني بالجلوس على كرسيه بحضرة الخلفاء والأقطاب، وأيدني الله بالملائكة والأولياء ... ثم أخبرني سيد الوجود
صلى الله عليه وسلم
بأن الله جعل لك على المهدية علامة، وهي الخال على خدي الأيمن، وكذلك جعل لي علامة أخرى: تخرج راية من نور، وتكون معي في حالة الحرب يحملها عزرائيل فيثبت الله بها أصحابي وينزل الرعب في قلوب أعدائي فلا يلقاني أحد بعداوة إلا خذله الله ... ثم قال لي النبي
صلى الله عليه وسلم : إنك مخلوق من نور عنان قلبي، فمن له سعادة صدق بأني المهدي المنتظر، ولكن الله جعل في قلوب الذين يحبون الجاه النفاق فلا يصدقون حرصا على جاههم ... والسلام عليكم.
وهكذا لم يبتدع المهدي رسالته الربانية فقط، بل توعد باسم الله جميع من هم في شك من أمره أو ينتقدونه، وكانت سياسته تستند إلى عقيدته ما دام القرآن دستورا مدنيا أيضا ، وما دام الشيوخ مفسرين للشريعة وحماة لهذه الشريعة الجديدة معا. وكان لهذا الزعيم الجديد بالقرآن - الذي هو أيسر لأولي الأمر المطلقين من التوراة - ما يرغب فيه من حكم، وفي القرآن:
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ،
واقتلوهم حيث ثقفتموهم .
ظباء في الصحراء.
ويتدخل الحاكم المصري الجبان الذي خلف غوردون بعد الأوان، فيرسل مرافقه إلى الجزيرة ليدعو المهدي إلى الخرطوم، فاسمع تحاورهما: أنا المهدي، ويجب على الباشا أن يؤمن بي! - وكيف تثبت ذلك؟ - لما يحل وقت ذلك. - سيؤتى بجنود لمقاتلتك. - سيبتلعهم النيل.
وترسل باخرة مع ثلاثمائة رجل ومدفع لمحاربته، وإنها لترسو أمام الجزيرة؛ إذ يتنازع الضباط الثلاثة قيادة الكتائب، ولا تعرف الكتائب تلك الأرض فتسير قبل طلوع الشمس على غير هدى، ويباغتهم مريدو المهدي، ولا يجد المدفعي بارودا ولا قنابل على الضفة، ثم يطلق النار في الهواء إلى أن كسرت الحملة وعاد رجالها إلى الباخرة بعد أن هلك نصفهم، ويتحدث الناس في السودان عن انتصار المهدي العجيب.
والآن ينطلق الزعيم ليجمع في جميع الأوساط أكثر ما يمكن من الأنصار، وهو يبشر الفقراء بالشيوعية، وهو يقول بإلغاء الإتاوات والقضاء على كبار الملاك، وهو يشيد بفضائل الفلاح. وهذا ما أدى إلى انتهاب بعض الأغنياء وقتلهم، وهو في الوقت نفسه يجتذب أرباب رءوس الأموال ببراهين دينية ويصرح بأن الترك والألبان؛ أي الجباة والحكام، غير أهل ليعدوا مسلمين وأن إطاعتهم غير واجبة، ويخاطب هذا «الزعيم» مشاعر القوم الوطنية والاجتماعية على هذا الوجه فيجمع تحت رايته طبقات متعادية ومنافع متناقضة، ويضحك أغنياء النوبة منه ويسيرون معه لما يلوح من حمايته أموالهم ضد الفوضى، ويثق الصعاليك بكلامه الشيوعي الفخم، ويسر العرب بإمكان عودتهم إلى تجارة العبيد الذين لم يلبثوا أن تبرموا من حمل محرريهم الأوروبيين إياهم على العمل، والذين اعتقدوا خلاص أعدائهم الزرق، البقارة، من البيض، وهكذا كان جميع هؤلاء الناس يرجون إنقاذهم من وضعهم الموجب للقنوط.
ويحتاج المهدي إلى علم بعد الآن، وهو شبه الهمجي الذي يدرك قيمة العلم عند شباه الهمج، وتخفق أعلامه الخضر والحمر أمامه في أسفاره بين النيل الأبيض والأزرق أو في دارفور، ويزيد أتباعه بين يوم ويوم لوعده إياهم بما يودون، بيد أنه كان محتاجا إلى وكيلين، يضرب أحدهما بالسيف ويدعو الآخر إليه الناس، وهو - مع قيامه بالدعوة رأسا - وهو - مع عبادة ألوف الناس إياه - كان محتاجا إلى رئيس يدير أمر الدعوة.
وإذ إن المهن في السودان لم تدخل ضمن دوائر من الاختصاص حتى ذلك الحين فإن أعرابيا ذا أنف كبير وذا آثار من الجدري فيه صار عامل دعايته ورئيس حربيته، واسم هذا الأعرابي عبد الله (التعايشي)، وكان أكبر من المهدي سنا، وكان في سنة 1881 في الثالثة والثلاثين من عمره، وكان من البقارة التي هي أشد قبائل النوبة بأسا، وما حدث من فتن في السنين العشر الأخيرة فأدى إلى استئصاله هو وعشيرته، ويشق طريقه ويبدو مستعدا لكل شيء، ويهب نفسه لهذا الولي الجديد، ويقوم الحسام مقام الكلام، ويدوي طبل الدراويش الكبير في طول السودان وعرضه، ويكون آية انتقال طبيعي بين السيف والإعلان.
وهنالك يجب أن يعنى بالمظاهر والبزات التي هي أداة كل حركة شعبية لدى الهمج من البيض والسود على السواء، ويطلق اسم الدراويش على اسم الجيش الذي أوجده المهدي بسرعة، ويلبس الدراويش «الجبة»، وهي قميص أبيض مزين بقطع من نسج بقع، ويؤدي الدراويش يمين مبايعة المهدي بشبك الأيدي، ويرافق خليفة المهدي، عبد الله، زعيمه في كل مكان، ويتقدمه علم أسود ويصلي بصوت عال، ولا يبالي بغير أمر واحد، بغير محاربة «الترك» الذين أذلوا قبيلته، والذين نشأ عن دفعه ضرائب إليهم نزع قطاعه منه، ومع ذلك تدعو الطبول مختلف العشائر، خارج الأكواخ، فتتضخم الكتائب المقدسة بذلك، وتكاد تقطع حناجر الدراويش بفعل العدو والصراخ، ويصابون بضرب من الهذيان عند رفع أصواتهم بذكر أسماء الله.
وهذا الزعيم القومي، وهذا القائل بالعودة إلى العادات القديمة البسيطة، وهذا المهدي، كان يسجن جميع من لا يؤمنون به ويصادر أموال جميع من لا يمدونه بالمال، وكان ينصب المشانق على حين تشد مئات السياط المصنوعة من جلد وحيد القرن
4
إيمان الناس برسالته، وكان الولي مع ذلك، وكان المئات من الوعاظ يذيعون أنه الإمام الثاني عشر الذي أخبر به القرآن (!) والذي ينتظره الإسلام منذ اثني عشر قرنا لينقي الإيمان ويحمل الناس على مذهبه، ويعلن الجهاد، وتجد النساء على بيض دجاجهن رموزا، فيعلن الدراويش أنها الحروف العربية الأولى لاسم الزعيم الأكبر، وكان المهدي يعمل لإثارة زائريه بابتسامه ودموعه. ومما ذكره غوردون في يوميته أن المهدي كان يضع فلفلا تحت أظافره كما اكتشف ذلك أحد اليونان، فما كان عليه إلا أن يمر يده على عينيه حتى يبكي متى أراد.
وكان المهدي يجعل الأسطورة ملائمة له عند عدم انطباقها عليه. أجل، إنه كان غير مؤثر في الفرات فلم يجف عند ظهوره ولم يدل على الذهب في مجراه، غير أنه أبصر في إحدى الرؤى تحول جبل ماسه من سلسلة درن،
5
الذي كان يجب أن يخرج منه المهدي الجديد، إلى جبل قدير بالسودان، ويذهب محمد إلى الجبل غير الحقيقي محاطا بجمع عظيم؛ أي يرافقه جيش مع نساء وأولاد، ويعسكر هذا الجمع في السفوح ويوقد النساء والأولاد نار الحمية بأصواتهم بدلا من أن يكونوا سبب إزعاج، ويهب المهدي عباده أجمل بناتهم ليكن أزواجا له، وتنصب خيامهن حول خيمته في الجبل، ويداوم على تمثيل دور الولي مع ذلك!
وبعض مواعظ المهدي في الجبل شفهي، وبعضها خطي، ويذيع المهدي هذه المواعظ في بلاغات لاحقة تنقل بقنوات
6
الجنود، ويصر المهدي على أصله، ويوكد أن خال خده هو منبع قوته الأدبية، ويذكر أن جميع العلائم أصبحت واضحة، ويستبدل كلمة محمد أحمد بكلمة محمد في جملة: «لا إله إلا الله، محمد رسول الله» الألفية، ويحتمل أنه أول خطيب عصري أدرك أن الأكذوبة إذا ما كرر ت باستمرار اكتسبت مسحة من الحقيقة.
ويعين أربعة خلفاء كالنبي فيما مضى، ويضع تحت إمرة كل واحد منهم زعماء مساعدين، ويبتدع نظاما معقدا من الأعلام المختلفة الألوان، ويجمع الخليفة عبد الله جيشا عظيما من جميع السودان في أثناء هذه الاحتفالات والخطب ورفع الرايات.
الفصل العاشر
وضع الإنكليز في القاهرة حدا للهرج والمرج وفق مصلحتهم، وضرب الإنكليز الإسكندرية بالمدافع في أثناء فتنة وأعلنوا ضرورة إعادة الأمن إلى نصابه وقبضوا على زمام السلطة، ولاح - بعد هذا النجاح - استعدادهم لمغادرة السودان. ومع ذلك، وعلى الرغم مما حذر به الكولونيل الإنكليزي هيكس من قبل حكومته. وعلى الرغم من معارضة معظم الضباط المصريين، نظم هذا الكولونيل الذي كان مستخدما لدى مصر جيشا لمقاتلة المهدي وإنقاذ السودان.
ويعد هيكس للهزيمة منذ البداءة لجهله لغة البلاد، ولاتخاذه أدلاء من الأعراب يضللونه، ولاستعماله من الأسلحة العصرية ما لا ينفع في حرب العصابات وفي الصحراء، ويبدو عاملان متناقضان في المعركة الحاسمة، فمن جهة ترى المصريين مجهزين بأسلحة حديثة، ولكن من غير أن يعرفوا كيف ينتفعون بها في كل حين. ومن جهة أخرى ترى جيشا يجول في مقدمته رؤساء لابسون دروعا وزرودا وحلقا لوقاية الذرعان والسيقان كما لو كانوا من الصليبيين، وترى سودانيين صاخبين راقصين يتبعونه هازين مزاريقهم، وترى زنوجا عراة رامين أقواسهم في الهواء، ويسير ضابط إنكليزي لابس بذلة صفراء نظيفة وقابض على مسدس حديث نحو أمير نوبي لابس عمامة من حرير وبرنسا مختلف الألوان، ومهزهز سيفه الأحدب الكبير وهامز
1
حصانه العربي، ويكون هذا النوبي غالبا في كل مرة.
ويقضى على الجيش المصري في المساء، ويكون الكولونيل هيكس من آخر من يخرون، ويؤتى برءوس ضباط الإنكليز المقطوعة كغنائم، ولم يفلت من الذبح غير ثلاثمائة رجل على ما يروى.
والمهدي بعد النصر يصبح البطل الحبيب، والمهدي بعد النصر يصبح سيد السودان كله تقريبا، والمهدي يعبر النيل ويدخل الأبيض، ويتقدمه درويش حامل على حربته رأس الكولونيل هيكس المتحجر. وأخيرا - وبعد أسابيع - ينزل الدرويش هذا الرأس لكي يقبل التراب أمام حصان المغامر الماكر، وكان السيف الذي يحمل أمام المهدي خاصا بسلطان دارفور، وكان يشتمل على كتابة لم يسطع أحد حلها، وهي: «الإمبراطور الروماني شارل الخامس»، ومن المحتمل أن كان السيف لصليبي متعوق حارب قرصان الجزائر، فوقع السيف بعد موته بين يدي قبائل متوحشة، فانتقل من يد إلى يد حتى انتهى إلى الصحراء السودانية ، وهكذا يصير سلاح إمبراطور نصراني متدين آية انتصار المسلم النوبي.
وأضحى المهدي يؤمن برسالته بعد تلك الانتصارات، ويعبده الجميع، فيفقد رشده ويثقل فيزيد عدد نسائه مقدارا فمقدارا، ويلبس ثوبا حريريا أصفر وعمامة خضراء وتعتوره نوبات رحمة وجور، ويستولي عليه جنون العظمة فيعاقب رجلا جعل الله فوقه، ويقول إن الرجل - وإن كان صادقا فيما أبداه - فعل ذلك متهجما، ويغدو خليفته رئيس المجلس فيشغل باله - على الخصوص - بأجزاء النسائج التي تخاط على بزته الرسمية، ويتقدم هذا الخليفة - إذا ما خرج - رجل في صور
2
من عاج، ويذهب أحد الرجلين ضحية الملق العام، ويذهب الآخر ضحية عنفه، وكان المهدي صوالا ماهرا عند تطلعه إلى السلطة فاستفاد من ضنك شعبه وحنينه إلى وطنه، وهو قد خرج بذلك من الفقر والذل اللذين نشأ فيهما وملك بأسلوب استبدادي جمعا سحر بوعوده، وما كان من خفوق علمه ومن هتاف جمهور عن هوس ومن ركوع هذا الجمهور أمامه فقد أوجب إيمانه بأن رسالته إلهية، ويفقد اتزانه الباطني بذلك، ويقضي وقته في المظاهر والاحتفالات لذلك، وتساوره أهواء جامحة فينطق بأحكام قتل وتتراكم خطبه، ويميته الله عما قليل.
ويحل شهر نوفمبر سنة 1883، وكان غلادستن وبسمارك والملكة فيكتورية وولهلم الأول وكريسبي
3
والملك هنبرت
4
وفرنسوا جوزيف وليون الثالث عشر،
5
يسيطرون على أوروبة، ويكترث الجميع - ما عدا الروس - لتقسيم أفريقية التي كان جزء منها موزعا قبل ذلك. وكان انهيار مصر - كدولة حربية ومالية - نذير انقضاض على أفريقية الشرقية، وإذا عدوت الحبشة التي هي حصن طبيعي وجدت القارة بأسرها مفتحة الأبواب لدول البيض وطعمة لها، وليذهب إلى هنالك، وسيقتص من العرب والزنوج سريعا.
ويحدث أمر فظيع لن تسمع بمثله أذن، يحدث قهر ضباط من الإنكليز، وقهر فرق مصرية ألفها هؤلاء الضباط، مع ضرب أعناق وإهانة بعد الموت، من قبل أخلاط من الأعراب والفلاحين والنوبيين والزنوج، وتحاول إنكلترة - على غير جدوى - اجتناب مسئولية يفرضها ما تم لها من سلطان على مصر، ومصر قد أخرجت من النيل الأوسط والنيل الأعلى اللذين استقرت بهما مدة ستين سنة، ولم يصب الهمج أوروبة النصرانية بمثل ذلك الخزي منذ قرون، ويكره سلاطين ولبتن، وأحدهما نمسوي والآخر إنكليزي، وهما حاكمان لمنطقتين سودانيتين، وهما باشوان بفضل الخديو، على التسليم وعلى الركوع أمام المهدي للمبايعة وعلى الارتداد عن دينهما وعلى الجهاد ضد النصارى الكلاب. والآن يبدو هذان الرجلان، اللذان هما من أبناء الطبقة الوسطى بفينة ولندن، العبدين: عبد القادر وعبد الله، والآن يسيران حافيين من جهتي الجواد المطهم
6
المسرج
7
الذي يجوب المهدي به الطرق والسهوب، أفلم تكن هذه آية تدعى بها الشعوب والقبائل الملونة الأخرى إلى تحطيم الأغلال التي يقيدها السادة البيض بها؟
ولم تفكر أوروبة في الانتقام مع ذلك، فعدد الأسارى من الأوروبيين قليل، والأسارى من الأوروبيين نكرات، والحوادث عن الأسارى الأوروبيين غير واضحة، ولو نظرت إلى الأمر من وجهة المصريين، الذين يدير شئونهم بارينغ (اللورد كرومر) منذ عام، لوجدت الصحراء بين كتائبهم وبين الثائرين، وماذا كان أمر أولئك الجنود الذين غلبوا؟ كان سلاحهم سيئا سوء شوقهم وقوتهم الأدبية، وكان أحرار الإنكليز يرون تضييق نطاق الاستعمار فيؤيدون غلادستن الشائب الذي كان لا يبالي بأفريقية، ويقرر ترك السودان واسترداد حامية الخرطوم، وكان القيام بهذا العمل يستلزم وجود ضابط عارف بالبلد متصف بنصيب من الحكمة يستطيع به أن يحارب متقهقرا غير ساع إلى مجد، ولا ينتظر إنكار الذات هذا من صياد الآساد بيكر، ويبحث عمن هو أخبل منه، ويعثر على غوردون.
ولكن غوردون، كهملت،
8
لا يكون مجنونا إلا إذا هبت الريح من الشمال والشمال الغربي، وما كان يعرف ماذا يعمل في الساعة الحرجة، وما كان يعرف هل يعمل بما يؤمر به، وهو لذلك يصلح لحكومة متنافرة ورأي عام متردد، وما كان الجلاء عن السودان ليلوح في برنامج غوردون، وغوردون كان قد صرح ذات حين ب «أن السودان امرأة بانت عن بعلها المصري، فإذا أرادت أن تتزوجه ثانية فدعها تفعل ذلك، ثم يمكن أن يكون لنا شأن معها هنالك.»
وكان قد أسدل على غوردون ستار النسيان منذ عودته من الخرطوم؛ أي منذ خمسة أعوام، وغوردون قضى هذه المدة في الصين والهند والكاب وجزيرة موريس، وغوردون قضى من هذه المدة عاما في الأرض المقدسة (فلسطين) إنماء لقوته الأدبية، وغوردون زار بلده استكلندة مرات كثيرة في أثناء ذلك، وغوردون نال بذلك تجارب باطنية، لا تجارب ظاهرية، كما تشهد بذلك رسائله، وغوردون أوشك أن يعود إلى أفريقية ليخدم الملك ليوبولد البلجي في الكونغو التي أبدى ستانلي غضا في ارتيادها، لا ليخدم إنكلترة.
ويدعى غوردون من بروكسل إلى لندن، ويقلع عن خطته في الذهاب إلى الكونغو، ويقبل وكالة الأمة في أثناء مقابلة. ولم يكن غوردون من القائلين بالجلاء، ومن قول غوردون: «يعني وجود المهدي في الخرطوم رجوعا إلى الهمجية وتهديدا لمصر.» ويعين غوردون - مع ذلك - من قبل وزراء يرتابون منه، ويذعن اللورد كرومر مع اعتقاده أن حاكم الخرطوم السابق ذلك لا يوافق على الجلاء عنها، ويبدو الرأي العام - المسيطر على إنكلترة - بجانب غوردون، ويظل الشائب غلادستن وحده في الظل، ويجيز الأمر برقيا بعد إصرار ثلاثة وزراء على ذلك الأمر المهم، وتكلأ الأمة غوردون برغائبها كما لو كان ذاهبا لفتح بلد، لا للجلاء عن قطر.
وماذا كانت حال الرجل النفسية حينما قبل تلك الرسالة؟ هي جعل البيض والموظفين في الخرطوم آمنين، واسترداد الكتائب، وترك شبه حكومة في هذه المدينة، وكونه آخر من يغادر السودان من البيض، والرجل جهر بغير ذلك قبل تعيينه ببضعة أيام، والرجل يجوب الصحراء أعزل وحيدا ليبلغ بلدا لا يكون له فيه سوى بضع كتائب مرابطة في الخرطوم، والرجل إذا ما جاوز الشلالات أمكن العدو أن يحيط به في تلك المدينة، وأن يقطع صلاته بالشمال والعالم المتمدن، والرجل قد أبصر ذلك عندما كان ضابطا لا ريب، والرجل - سياسيا - كان يعرف البلد ولا يجهل قوة جمهور حرض على التعصب ولا درجة بغضه للنصارى ولكل مرسل من مصر.
ولكن غوردون صليبي يعتمد على سيفه وعلى توراته، ولكن غوردون فيلسوف بوريتاني
9
يعتمد على ذكائه وعلى وجدانه. أجل، كان غوردون متسامحا إلى الغاية فكان يرضى بأن يعبد الرب على مائة وجه، غير أن المجد كان يهزه في جميع حياته فيرد جماح روح المجد في نفسه لما ينطوي عليه المجد من دنس دنيوي، ويداري روح الواجب في نفسه ككثير من النصارى السابقين، وكان في الخمسين من عمره، وكانت حياته حافلة بالمفاخر في أنحاء العالم، وكان ذا سند قليل في الوزارة فلا يتصرف في غير وسائل ناقصة. وكان كرومر في القاهرة محدود الثقة به، وكان غلادستن يتحرز منه، غير أن رئيس أركان الحرب والمهندس والحاكم العارف بالصحراء والنيل غوردون كان كأسلافه ذا حنين إلى أفريقية وإلى عمله وإلى جنوده وزنوجه وإلى المآثر، وإلى الموت على ما يحتمل.
ولم يبق شيء مما شاده هو وبيكر في الخرطوم بعد غياب خمس سنين، وما أشد ما يجب أن يكون عليه من شجاعة لكيلا ينفذ أمر الحكومة فلا يقوض المعسكر بأسرع ما يمكن، وتشتمل برقياته المطولة إلى الحكومة على قرارات مطولة، ولكنك لا تجد فيها اختلافا حول رأيه الأساسي القائل إنه لا ينبغي أن تغادر البلاد ولا الخرطوم، وكيف يحمل على الجلاء ستون ألف شخص وجندي وموظف وامرأة بغير وسائل للنقل؟
وهل يجوز ترك هؤلاء هنالك بعد أن استقبلوه كالنبي إيليا الذي ذكر في التوراة؟ ولا يمكن من الناحية العملية - ولا الناحية الأدبية - تنفيذ الأمر الصادر، ويسير غوردون مثل ضابط إذن، فيحصن الخرطوم ويتم عمل قناة طولها خمسة كيلومترات كان سلفه قد أراد بها أن يصل النيل الأزرق بالنيل الأبيض فيقطع بها خرطوم الفيل ويغدو جزيرة، ويقيم الحصون في الجزر وينتفع بشفير
10
النهر ليعسر الهجوم على هذه المدينة، ويدرب كتائبه ويشد عزائمها مخبرا إياها بورود جيش إغاثة، لا يعتقد - هو نفسه - حقيقة أمره.
ويمحي غوردن البوريتاني أمام غوردون الضابط، كما كان كرومويل، فلا يأمر بأن يحطم أمام قصره ما كان يستعمله الباشوات الذين حل محلهم من الأغلال والسياط، ويلغي حظر اقتناء الرقيق قاصدا بذلك نزع سلاح مما لدى المهدي، ويريد جلب ملك العبيد الزبير من القاهرة التي حجر فيها فيجعل السلطة بذلك قبضة السوداني القادر وحده على مقاومة المهدي، وهذه هي فكرة قطب سياسي، وهذه فكرة تجتنب في لندن لما كان من صراخ جمعية مكافحة الرق المؤلفة من سادة لم يعيشوا بين وحوش قط فكانوا ينظرون إلى الأمر من الناحية الخلقية بدلا من أن يفكروا في الأمر مليا، ومن الغرابة بمكان أن يطلب، على غير جدوى، محرر العبيد غوردون ملك العبيد لإنقاذه، شأن غوستاف أدولف
11
الذي أساء إلى تسامح كنيسته الخاصة في أواخر عمره.
وماذا يفعل؟ أيذاع بلاغ يعود به البلد إلى ملوكه السابقين؟ لقد فات الوقت، أم يزور المهدي لابسا درعا مذهبة كما صنع لدى ملك العبيد منذ بضع سنين؟ يوضع هذا التدبير الأخرق في الميزان فيلوح جعل صاحبه عبدا ثالثا يعدو بجانب حصان المهدي. ويبدأ غوردون بعرض سلطنة كردفان على المهدي، ويعرف خطيب الشعب هذا كيف يقابل مثل هذه الأمور بحذر، فيقول في رفضه هذا العرض: إنه لا ينبغي لإنسان أن يعرض عليه السلطان، ويذكر محمد المهدي للاسكتلندي البوريتاني ماذا قال سليمان لملكة سبأ:
أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون * ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون
ويحاول المهدي أن يستشهد أيضا بعيسى الذي عد في القرآن نبيا عظيما، ويصرح غوردون المطمئن إلى توراته بعدم صحة ذلك.
ويضيف المهدي إلى جوابه هدية منه مؤلفة من جبة درويش ورداء وسروال وعمامة وطاقية وحزام وسبحة مع قوله: «هذه كسوة الزهاد وأهل السعادة الكبرى الذين لا يبالون بما فات من المشتهيات طلبا لعالي الدرجات ... فإن أنبت إلى الله وطلبت ما عنده لا يصعب عليك أن تلبس ذلك وتتوجه لدائم حظك ...» وكان لدى هذا الزاهد الذي يكتب ذلك دائرة حريم تحتوي أكثر من مائة امرأة!
ويتبسم غوردون ويسجل في يوميته قوله: «يلوح لي أن المسلم يخاف الله كما نخافه، والمسلم - عند إخلاصه - نصراني مثلنا، وكلنا على شيء من الوثنية!» هذه هي حال فيلسوف متسامح في حياته الخاصة، غير أن هذا الحاكم يتلو كتاب المهدي على من بقي من وجوه الخرطوم في اجتماع رسمي ويطرح جبة الزاهد المرسلة إليه ويدوسها بحذائه العسكري.
ويتأهب كل من العدوين بعد تلك المفاوضة، وتشعر قبائل شمال الخرطوم بأن غوردون يهددها من الجنوب، وبأن الكتائب المعلن عنها تهددها من الشمال فتنحاز إلى المهدي نهائيا، وارجع البصر إلى ذلك الإنكليزي تجده مع بعض الكتائب قد فصل عن بقية العالم من قبل خمسين ألف درويش. والبرق وحده هو الذي ظل باقيا، ويوعد بالمدد برقيا في نهاية الأمر. وهل يصل إليه المدد في الوقت المناسب؟ والحكومة المصرية عاجزة، والحكومة الإنكليزية حائرة، ومن المحتمل أن كان غلادستن يضغن على ذلك الرجل الذي أدى تمرده إلى الحملة العسكرية الحاضرة كما يضغن على زملائه لإرسالهم غوردون راجين ألا ينفذ الأوامر الصادرة إليه.
وفيما كان غلادستن يؤخر إرسال المدد حملا لغوردون على مغادرة الخرطوم كان غوردون عازما على البقاء فيها إبقاء للسودان ومصر قبضة إنكلترة، وتشن حملة صحافية في أغسطس سنة 1884 فتسفر عن فوز الوزراء القائلين بالتدخل، بيد أن الكتائب التي كانت تستطيع إنقاذ الموقف في شهر مايو لم تذهب إلا بعد ثلاثة أشهر.
ويبصر غوردون ما يعد من نكبة، ويذكر الحقيقة سافرة في برقياته إلى اللورد كرومر، ويدع الحوادث تسيره فيما بعد، ويقرر بنفسه ما هو ضروري من الأمور، وقد يسير نحو خط الاستواء «وأدعكم عرضة لعار لا يمحي بترك حامية الخرطوم.» ويقول في يوميته: «نحن قوم أسوياء
12
غير أن الدبلميين منا ماكرون عاطلون من الشرف المهني.»
ويحكم العاقل في أمر المتعصب بإنصاف أعظم مما يحكم به المتعصب في أمر العاقل، فيزدرد
13
اللورد كرومر الإهانة ويمتدح غوردون بعد حين لخلوه من نفاق القوم.
ويتفق النيل وغلادستن على عدم خلاص غوردون. ومما حدث أن أرسل غوردون كتيبة نحو دنقلة وأن كسرت الباخرة الحاملة لها في شلال وأن ذبح الدراويش غرقاها، ويحل فصل الخريف فيتنازع النبي الأسود والمؤمن الأبيض، ويزيد ما يجمعه الخليفة حول الخرطوم مقدارا فمقدارا، ويحاول الحاكم أن يحول هذه المدينة إلى حصن فيحفر خنادق ويبسط فوقها خيشا،
14
ويصنع خبز من الجمار
15
والصمغ وتوزع الجرايات بين الأهالي، وتضرب النقود، ويشد غوردون عزائم ألوف الآدميين الذين صاروا يبصرون تضييق نطاق الحصار، ويرون ما يحيق بهم من الدمار إذا ما وصل الإنكليز متأخرين.
ويقيم المهدي بضفة النيل الأبيض الأخرى في أم درمان التي استولى عليها في ديسمبر، فإذا خرج من دائرة حريمه، التي أخذ يطيل المكث بها، وصعد في سطح بيته العربي الأبيض أمكنه أن يبصر وراء النيلين سطح القصر القوطي الذي يسكنه عدوه، وهو إذا ما استعمل المنظار استطاع أن يتبين شبح غوردون لقضائه ساعات على سطح قصره الذي هو أعلى نقطة في الخرطوم، وإن شئت فقل استطاع أن يعرف تريستان
16
الجديد مترقبا سفينة الخلاص من الشمال، ومن المحتمل أن كان غير منتظر شيئا، ومن المحتمل أن كانت تواثبه نبوة الشهداء الذين لا يكادون يرغبون في الإنقاذ، ويقطع خط البرق ويمنع من كل اتصال بالعالم وينقاد لتردده النفسي وينشئ يوميته، ويرسم فيها صورا هزلية للورد كرومر وللوزراء، ويعجب بمهارة خصمه مع خلو من الغرض أفلاطوني كثير على قائد ومع محافظة على نشاطه مفكرا في حال جميع من وثقوا به.
حتى النيل يخيس
17
بالعهد في نهاية الأمر، فقد هبط مستواه أكثر مما في فصول الشتاء الماضية، وينهار ما بناه غوردون من متاريس
18
وأسوار، ويكون منقع واسع بينها وبين النهر، فلا يكون للمحصورين وقاية به إلا عند عدم جفافه، وتزيد المجاعة وتكتظ الشوارع بجثث الناس والجمال، وتحوم العقبان فوق الخرطوم ولا يصل إليها صفير باخرة. ويريد غوردون أن يرى المحصورين أن قائدهم لا يخاف قنابل المهدي فينير نوافذ قصره، وتبيض جميع خصل غوردون الشقر في الأسابيع الأخيرة من حياته ويكتب قبل خاتمته بأسبوعين إلى أخته قوله: «قد يكون هذا آخر كتبي إليك، فقد عوق المدد كثيرا، والله هو المسير، وليكن ما يريد، أجدني سعيدا تماما ... وأحمد الله على أنني لم أدخر وسعا في القيام بالواجب.»
ويغدو الجيش الصغير الآتي من الشمال سيئ الحظ على النهر، ويتردد عدة أيام ، ويطلق الدراويش - العارفون بدوافع النهر والمتوارون في الأيكة - نارا على البواخر فيكرهون ملاحيها على الوقوف في كل ساعة، ويتخذ هؤلاء الملاحون خشب النواعير وقودا لقدور بواخرهم، ثم يسير ذلك الجيش إلى الخرطوم من عقدة النهر في الجنوب قاطعا الصحراء، ويبصر الخليفة سير ذلك الجيش بضعة أيام فيأمر بالهجوم على المصر المحصور منذ ثلاثمائة يوم، ويرى غوردون في الصباح - ومن سطح قصره - زحف جيش الدراويش نحو الخرطوم.
وكان غوردون قد قرر قتل نفسه في مثل تلك الحال، وتحول وساوسه الدينية دون ذلك، ويود أن يموت شهيدا، ويبدو هادئا هدوءا تاما، ويذكر سمو مقامه ويلبس بذلته الرسمية البيضاء ويتقلد سيفه ومسدسه وينزل من الدرج حين اقتحام العدو باب قصره، ويتردد جميع الدراويش بضع ثوان عن خوف، ثم يصرخ أحدهم قائلا: «اقتلوا عدو الله!» ويرمى برمح، وينظر إلى ذلك شزرا، ويذكر شهود دعوا إلى مجلس القضاء فيما بعد أن شق لنفسه طريقا قابضا على سيفه متوجها إلى الباب حيث خر صريعا بطعنات سيوف وخناجر، ويؤتى برأسه إلى المهدي ثم يوضع على رأس مزراق أمام منزله ويرجم، وكان هذا فاتحة مذبحة عظيمة في الخرطوم.
زوبعة رمل فوق الخرطوم.
وفي الغد يعبر المهدي النيلين على باخرة غوردون، ويذهب لمشاهدة جثة عدوه المقطوع الرأس، وتطفح الطرق بجثث آخر البيض والمصريين، وتعذب النساء حملا لهن على إظهار مخابئ نقودهن، ويرقص العبيد على سادتهم المحتضرين، وترش الكلاب مع أصحابها بالكحول وتحرق، ويقوم بضروب القبائح جمهور هذاء
19
سعر
20
ينتقم لنفسه من استعباد نصف قرن، ويكون المهدي أول من يختار من يروقه من البنات والبنين الأسارى، ثم يأتي دور الخليفة، ويأمر الخليفة بحمل مغطس غوردون ومرآته إلى بيته في ضفة النيل الأخرى بأم درمان، وتحول الخرطوم إلى رماد.
ويمضي يومان على سقوط الخرطوم، فتأتي كتائب اسكتلندية حاملة شعار عشيرة غوردون، وتبلغ جزيرة توتي، فتستقبل برصاص البنادق، وتكر على العدو وتصاب بالخيبة في المساقط، ويهلك معظمها، ويأتي من نجوا بنبأ ذلك إلى المعسكر في مجرى النهر التحتاني، ويبدون صفر الوجوه كالرسول في ختام مأساة يونانية.
ويسمن المهدي ويرم
21
في السنوات الأخيرة فلا يعيش غير أربعة أشهر بعد النصر، وكان منزل هذا الزاهد محاطا بسلسلة من بيوت النساء حيث يكثر الذهب والتاليرات، وكانت تجمع له أكداس عظيمة احتياطية من الذرة كما لو كان يخشى القحط، وكنت ترى بجانب ذلك كومة عجيبة من الأدوات الأوروبية؛ أي كدسا من المصابيح والمعلبات والمطابع ومن فانوس سحري عد من أجهزة السحر لدى النصارى.
وفتح السودان، وماذا يصنع المهدي به؟ لقد أرسل رسلا إلى البلدان الأجنبية طالبا الإيمان به، أجل، كان يعظ الناس بنفسه في الحين بعد الحين كما في الماضي، ولكنه ترك الحكومة للخليفة فصار لا يفكر في غير الأكل والعناية بأمينة الحسناء التي ذبح زوجها وأبوها في الخرطوم تاركا الدراويش وشباب الأنصار يتنازعون المناصب والأموال.
ويداوم المهدي في خارج منزله على لبس ثياب من كتان، فإذا ما كان في بيته ارتدى ملابس من نسائج ثمينة، وهو إذا ما استلقى على وسائد من سندس
22
وإستبرق
23
أراحه نساؤه القائمات وراءه بريش النعام، ومسدته
24
نساء أخر، ويلبس أقربهن وقوفا منه ثيابا أفخر من ثياب غيرهن، ويباع الماء الذي يغتسل به والتراب الذي يطؤه من المؤمنين، ويمرض ستة أيام، ويموت مسموما من قبل أمينة أو ضحية سمنه.
وكان غوردون مخلصا باسلا شريفا صنديدا لا عيب فيه ولا يرهب الردى فخر صريعا وحيدا بطعنات جمع من القتلة، وقد تعقبه الخطيب الشعبي عن كثب متورما منتفخا محاطا بنساء وأكياس من ذهب، فظل أحدهما ملعونا وتوج الآخر بإكليل أسطوري.
الفصل الحادي عشر
كان النيل قبضة قبائل من الهمج ودت لو تسده، وماذا يكون مصير مصر لو وقع ذلك؟ حتى إن النيل لو داوم على جريانه، حتى إن غرين النيل الأزرق لو داوم على إخصاب الوادي، ما حال ذلك - ذات يوم - دون نزول تلك القبائل - كأجدادها منذ ألفي سنة أو ثلاثة آلاف سنة - إلى مصر للاستيلاء عليها ومراقبة ساحل البحر الأحمر وقطع طريق الهند على السفن البريطانية. وهل يتعذر ذلك بعد الذي حدث ؟
وتبصر أوروبة مذعورة كون خطتها في تقسيم أفريقية أمرا يمارى
1
فيه، ويكون للمستعمرين من الإنكليز - بعد الآن - بطل تدعوهم ذكراه إلى الجهاد والانتقام، ويغدو غوردون رمز السلطان السياسي الذي يحتمل أن يكون قد حلم به في ساعات انفراده على سطح قصره. وإذا حدث أن أمة لم تقم بالواجب نحو رجل هلك في سبيلها فإنها عملت الشيء الكثير من أجل ذكراه وفاء لما عليها تجاهه، وقد حفزت هذه العوامل كلها إنكلترة إلى كفاح لم ترده بعد هلاك الكولونيل هيكس.
وينتظر ثلاث عشرة سنة مع ذلك، ويسيطر الخليفة على السودان فيما بين سنة 1885 وسنة 1898 أو يحاول فرض سلطانه عليه إرهابا، ويبدأ الخليفة بقتل جميع من يضايقه من أقرباء المهدي، ثم يهدد مصر العليا في الشمال والزنوج في الجنوب ودارفور في الغرب والحبشة في الشرق، وينال نصرا أو يعاني كسرا في كل الجهات مناوبة، وتنقض دول البيض المجاورة - إنكلترة وفرنسة وبلجيكة - بلاد السودان من أطرافها بلا قتال.
وتمضي إحدى عشرة سنة بعد موت غوردون فيكون لحادث من الأثر ما يدفع إنكلترة إلى اتخاذ قرار، فقد أسفر سحق الطلاينة من قبل النجاشي منليك في عدوى، في شهر مايو سنة 1896، عن حمل الأحرار على إدراكهم ضرورة تدخل بريطانية العظمى أو جلائها عن مستعمراتها. والحق أن الدولتين الكبيرتين - إنكلترة وإيطالية - غلبتا من قبل أناس ملونين تابعين لبلدين بشرق أفريقية متحاربين في ذلك الحين مع احتمال تحالفهما بين حين وحين، ويحل وقت السير فتقرر لندن أن تتدخل في السودان بعد معركة عدوى بأحد عشر يوما.
وكان ذلك حلا عاما، وكان تقسيم أفريقية قد تم تقريبا، والأمة التي تحتل السودان تدعم إمبراطوريتها الاستعمارية اقتصاديا وعسكريا وتسيطر - بوجه خاص - على الطريق الصالحة لفرنسة من الغرب ولإنكلترة من الجنوب، ولم تعدم بريطانية العظمى وسيلة لاطلاع مصر على ما يساورها بعد احتلالها قاصدة البقاء فيها لا ريب، وأمكن بريطانية العظمى أن تستند لبلوغ ذلك إلى ثلاث ظواهر متساوية بطولة؛ وهي: أن تنقذ ذلك القطر من الفوضى وأن تحمي مصر وأن تنتقم لغوردون مع منعها توسع فرنسة أو ألمانية من الغرب والجنوب. وكان من الرأي السائد منذ بضع سنين أن يشك في فطنة الإنكليز، وأن يمتدح حظهم أو المصادفات التي ساعدتهم. وأما في الحال الراهنة فيجب أن يعترف لهم باتساع المدارك في سياستهم.
والنيل مصدر الحياة لمصر، والنيل يقطع السودان، حتى في الوقت الحاضر يقول إنكليزي من أصحاب المناصب العالية إنه لا يحق لإنكلترة أن تجر إلى مصر خطر استيلاء أمة ثالثة على النيل الأعلى فيكشف النقاب بذلك عن رغبة دولة في الضم لا تزال تروم النصر في الحروب الاستعمارية. وهكذا يذهب البريطاني إلى الحرب لينقذ مصر ويقترن بها ويتمتع بمالها وجمالها ككثير من أبطال الأساطير.
وتنتفع إنكلترة بتجاربها السابقة، وتقتضي هذه الحملة رجالا ومالا أقل مما اقتضته الحملة الأولى، وتكلف بالنصر، وتقدم مصر المال والرجال لما زعم من خطر على سلامتها، ولم ينفق الإنكليز غير 1300000؛ أي أقل مما بذروه في مقاتلة المهدي بعشر مرات.
أجل، يبدو الانتصار أرخص من الانكسار على العموم، غير أن الآلهة جعلت العرق وجهاد اليوم أمام تاج النصر، والصحراء بلا ماء تقريبا هي التي تمتد من حدود مصر إلى الخرطوم؛ أي بين الدرجة الثانية والعشرين والدرجة السادسة عشرة من العرض الشمالي. وإذا اعتمد على النيل ودوافعه وانعطافه كان الهلاك كما وقع لهيكس وغوردون، والنيل هدف الحملة، والنيل أداة الفتح أيضا، والنيل لا يصلح طريقا للسير إلى الأمام، ولا بد من خط حديدي يقطع الصحراء، ولا جبال ولا نهر هنالك، ولا احتياج إلى صنع أنفاق أو إنشاء جسور كثيرة لذلك، وهذا إلى أن الخط الحديدي دليل نشاط أكثر من أن يكون آية فن، فيديره ضباط، والجو - لا الأرض - هو العدو الذي يجب أن يقهر، ويدخل هذا ضمن إرادة الجنود الذين قرنوا بذلك العمل.
وكان عمر القائد في الصحراء يناهز الأربعين، وكان رصين الوجه، وكان أهيف طويلا كثير الشعر أسمر بفعل الشمس صحيح البنية مرنا إلى الغاية عند ركوبه حصانا على الخصوص، وما كان حوله مزعجا إذا ما علم أنه نتيجة فلج في العضل الأعلى لعينه اليسرى، وما كان من وضعه الفاتر ونفوره من الناس وصمته المتجبر فلا يجعله محل عطف، وما كان من طراز مصافحته فيوحي بأنه رجل لا يود أن يقع من الناس موقع الرضا، وإنما يريد أن يؤثر فيهم.
وقضى شبابه منزويا، وربي في منزله تربية خاصة غير مستعين بمدرسة ولا ناد، وما كان من اجتماع هذا الضابط الفتى بزملائه - ولو قليلا - فقد ألهب طموحه، وكان نفوره ينطوي على إخلاص مطلق لمهنته وعلى شعور بالواجب كما عند الموظف البروسي، وسواء عليه أوضع خرائط في قبرس أم وضع رسوم جسور في فلسطين لم يعش غير وحيد عادا أقل لوم إهانة شاكيا رؤساءه إلى لندن في الحال.
وكان لا يوحي بعطف إلى الرجال ولا إلى النساء، وكان يفضل أن يخاف على أن يحب، وقليل من الأصدقاء من كان يدافع عنه، فإذا فعلوا ذلك فبحماسة وهوى، وهو قد جرب جنديا وفارسا في أفريقية، وفي غير معركة، فخسر ذقنه على سواحل البحر الأحمر تقريبا، ويمضي زمن وينال هذا المستبد مناصب عالية ويعاب على غلظته فيصنع في أثناء خدمه ما يؤيدها فيشتد غطرسة ويرتاح إلى زيادة خصومه، وكان لا يصغي إلى أحد، وكان لا يعاني نفوذ أحد ولا ينفذ غير ما عزم عليه فينتهي إلى نتائج رائعة.
ذلك هو الرجل الذي أنشأ الخط الحديدي من خلال الصحراء وهزم الدراويش وفتح السودان في سبيل بلاده. وكان كتشنر قد شاهد ضرب الإسكندرية بالقنابل في أثناء إجازة، وصار كتشنر رئيسا لأركان حرب الجيش المصري الجديد، وصنع كتشنر ما استطاع لينظم حملة تنقذ غوردون، ولو حكم في أمر كتشنر بعد النظر إلى ما حقق لوجد أنه الوحيد الذي كان قادرا على ذلك. ومن المحتمل أن لازمه هذا الرأي حينما كان راكبا ظهر الجمل منفردا متتبعا إنشاء الخط الحديدي مفكرا في صروف القدر الذي اختاره ليثأر بذلك الذي لم يوفق لإنقاذه.
وأفكار من ذلك الطراز مما كان يسيره في الغالب؛ لأن كتشنر كان جبريا، ومما أدت إليه إقامته بالشرق وصلاته بالمسلمين أن تمكن منه هذا الاعتقاد بالمقدار الذي يلائم طموحه، ومن العرب - الذين كان يتكلم بلغتهم على قدر الإمكان - اقتبس ما يناسبه؛ اقتبس الإيمان بالقدر ورفض كل نقاش مع رجاله وتذوق الفن الشرقي، وكان جامعا للآثار فيأتي من الأسواق إلى قصره جالبا لها محترزا، ويعد هذا التلذذ، وتعد الحديقة الروائية الحسنة التنسيق في جزيرة نيلية أمام أسوان، مظهري هواه الوحيدين اللذين يبيحهما ما يحترق في قلبه من طموح، وكان يؤتى إليه بالبريد فيطرح كل شيء جانبا ويقرأ تقرير بستانيه في بدء الأمر، وكان يفضل أن يتنزه تحت عرش الورد على أن يكون وحده على الدوام.
وفي سنة 1916 قتل كتشنر بلغم ألماني حينما كان ذاهبا إلى روسية ليصون الائتلاف من التصدع.
وفيما كانت الخطوط الحديدية تمد في الصحراء كان الخبراء في لندن يصرحون بأن مشروعها مخالف للصواب، وفيما كان كتشنر يرسم خطته مع ضابط في خيمته بالقرب من وادي حلفا كانت الكتائب المصرية - والكتائب السودانية على الخصوص - تدرب تدريبا نظاميا، وكان يعرف سهولة انحلال عزيمة الشرقي عند أقل حبوط، وكان يعلم درجة ضرورة الهدوء والعناد وقوة المقاومة للقيام بذلك العمل، وكانت كتيبة الخطوط الحديدية مؤلفة من ثمانمائة رجل؛ أي من أخلاط جميع شعوب شمال أفريقية الشرقي؛ أي من الفلاحين وأسرى الدراويش والدنكا والشلك، وكان لا بد من تعليمهم وضع العوارض وربط الخطوط وتسميرها، وفيما كانت الكيلومترات الأولى من الخطوط الحديدية توغل مستقيمة في الصحراء كان فتيان من الزنوج يجلسون تحت النخل ويتعلمون الأبجدية المورسية
2
ويتخصصون في أمور البرق.
ويبدو الخط الحديدي غير مؤد إلى شيء في البداءة، ثم يتجلى ككل أمر يحقق وفق خطة أحسن حسابها، وتمد الخطوط الأولى فينقل عليها قوت ثلاثة آلاف رجل، ومقدار متزايد من القضبان الحديدية والعوارض، ومن الماء على الخصوص، ويفتقر إلى الوقت والنقد، ويجب أن يتم العمل قبل الشتاء، ولم يوجد ما فيه الوقاية من هجوم يشنه أعراب الخليفة فيبيدون به هذه العصابة المعادية التي ليس لديها من الماء ما يكفي لأكثر من شرب ثلاثة أيام ، ومما حدث ذات مرة أنهم قوضوا الخط المنتهي عند الشلال الثالث والذي أنشأه إسماعيل باشا سنة 1884.
ويوجه كتشنر مفرزة من وادي حلفا إلى مجرى النيل الفوقاني حفظا لذلك الجزء من النهر على حين يغذ في السير إلى أبي حمد بأقصى منعطف النهر في الجنوب الشرقي، ومسافة ذلك خمسمائة كيلومتر، وذلك الجزء هو أصعب ما في الخط وأقفره. ويتقدم عمال الصحراء أولئك من بين الرمال والجنادل، خالين من خرائط ومن خطوط برق ومن لاسلكي، غير مهتدين بسوى البوصلة والفرجار والنجوم. ويتساءل عمال الصحراء أولئك - دوما - عن إمكان ملاقاتهم العدو أمامهم، ويتبع المهندسين في كل عشرة كيلومترات إلى الأمام ألف وخمسمائة شخص يمهدون الأرض وألف شخص آخرون يضعون الخطوط الحديدية، وفي كل أربعة أيام تتقدم طليعة فنية عسكرية عشرة كيلومترات مع ما يجلبه القطار الأول من فحم ليفربول وماء وادي حلفا، وذلك كأم عطوف تأتي أولادها بغداء في أثناء نزهة، ويمد في اليوم الواحد نحو خمس كيلومترات من الخطوط الحديدية.
سفر من خلال السهب.
ويرقب جواسيس الدراويش ما يقع، ويخبرون الخرطوم بأن التنين الفولاذي النافث للهب يقترب مقدارا فمقدارا، والآن يدعوه الدراويش بالباخرة على الدواليب، وهل يخربونه من جهة النيل؟ وتثور عاصفة لمساعدتهم فتدمر عشرين كيلومترا من الخطوط الحديدية في نصف ساعة، ويتقدم الرجال البيض مع ذلك، ويبدو الرجال البيض أناسا لا يغلبون مع ذلك، فمن كان منهم على السفن فيجاوز الشلالات، ومن كان منهم فوق الأينق
3
فيجوب الصحراء ويسبق الخط الحديدي.
وماذا يحدث لو هزمت كتائب الخليفة في أبي حمد تلك الكتائب المولية وجهها قبل النيل الأعلى؟ وماذا يصبح التنين الفولاذي إذ ذاك؟ بيد أن الإنكليز يستولون على أبي حمد، وتلحق بهم طلائع الصحراء وتحييهم كالفعلة الذين يسيرون من طرفي نفق فيلتقون في نقطة معينة مقدما، الله أكبر! هذا هو ذا النيل، ها هو ذا الماء، ويمكن بعد الآن أن يخف إلى مساعدة بناء الخط الحديدي وإعداد الأرض في الجنوب حتى مصب العطبرة.
ويمضي الخريف والشتاء ، ويكون كتشنر في بربر في شهر مارس، ويعد ساحرا لما يلقيه خطه الحديدي من الرعب أكثر مما يلقيه جنوده، وينطوي سلطان التنين الفولاذي الحافل بالأسرار وحركاته التي لا تدركها الأفهام على قدر لا يعرف الرحمة، ويحمل سودانيو بربر مرضاهم إلى القاطرة ليمسوها، وبالأمس كان لمس ثوب الخليفة يكفي للشفاء، واليوم يتوجهون إلى التنين الذي سيفني الخليفة.
ويدحرج نهر العطبرة غرين جبال الحبشة ومياهها، بيد أنه يجب أن ينصب الجسر عليه بسرعة، وتتمه الشركة الأمريكية، وقد فوض إليها أمر إنشائه، في اثنين وأربعين يوما، ويبلغ طوله 340 مترا، وتمر عليه إنكلترة لتفتح ملتقى النيلين، وذلك بفضل ميكانيين
4
من الأمريكيين وعمال من الأفريقيين.
وفي صباح اليوم الثاني من شهر ديسمبر سنة 1898 ينقض الجيش المؤلف من ثمانية آلاف إنكليزي وثمانية عشر ألف مصري بأسلحتهم الحديثة على جيش الدراويش الضخم في أم درمان الواقعة على الضفة اليسرى من النيل الأبيض، وكانت هذه آخر معركة روائية في القصة لما تخللها من حملات فرسان والتحام بالسلاح الأبيض. واصطراع كتب الفوز فيه للبسالة الشخصية والبطولة، ولمشاهد تذكرنا بألواح المعارك، وتشابه تلك الملحمة معارك فردريك الأكبر التي وقعت منذ مائة وخمسين سنة أكثر من مشابهتها معارك الحرب العظمى التي اشتعلت بعد ست عشرة سنة فوصفها تشرشل بقلمه الرائع.
وبذلك يكون قد انتقم للجنرال غوردون، والأمر هو أن جميع الشعوب وجميع العروق تدعى في كل زمن إلى التكفير، وهذا التكفير أقل نتيجة لنصر البيض واستقرارهم بالسودان مما أصاب الخليفة به البلاد من خراب وضيق على الرغم من وعوده الطنانة، وقد نم ميزان المهدية في عشرين سنة على مليونين من السودانيين بدلا من ثمانية ملايين، وما هي العلة في هلاك تلك الملايين الستة؟ وهل حرك الأمل والزهو نفوسهم؟ وهل رفع الأمل والزهو قيمة حياتهم؟ وهل كانت حياة أولئك الملايين الستة بالغة القصر بالغة التوتر فنزعها المثل الأعلى الجديد منهم؟ وهل للجمهور ربح من تلك المنازعات؟ ويثق مغامر بنفسه أكثر مما يجب مائة مرة، ويساعده بضعة آلاف ويساعدون بذلك أنفسهم، ويمنى الآخرون بضروب الخيبة ويغدون من الضحايا ، وما ينتزعه الخارج من تفكير فلا يفيد من أضلهم الطاغية؛ وذلك لأنهم لم ينفكوا يصرعون في المعارك التي لا نفع منها لهم، ولا لوطنهم.
ولم تكن البنادق السريعة الطلقات، ولا المدافع الحديثة التي نقلت على خطوط الصحراء الحديدية إلى قلب أفريقية، ولا النظام والشجاعة وتجربة القائد الإنكليزي، وحدها عوامل النصر، وقد مضى خمسة عشر عاما، فقد انطفأت نار الإيمان الذي انتشر بين السودانيين كالحريق في السهب، وقد حاول في السنوات التي أتت فيما بعد مهديان صغيران أو ثلاثة مهديين صغار أن يلهبوا ذلك الإيمان مرة ثانية فلم يوفقوا، ومن سعادة من ظلموا أن قضى على الطغيان كما في جميع الأحيان، وانحاز كثير من القبائل إلى الإنكليز طوعا وعن سرور، واختفى الخليفة عاما في البقاع النائية، ثم يحاصره الإنكليز، وينتظر العدو، ويجلس على سجادة كبيرة محاطا بمريديه مبصرا حكم القدر كمسلم صالح، ولا يقاوم، ولا يطلب العفو، ويقتل رزينا بالرصاص هو وأتباعه بالقرب من تلك الجزيرة النيلية التي ظهر المهدي منها.
ويخرب كتشنر قبر المهدي، ويأمر بقلبه رأسا على عقب، لكيلا يصبح محل حج، وتحرق عظامه ويلقى رمادها في النيل ويعبر كتشنر وجنوده النيل الأبيض والنيل الأزرق بعد النصر ويدخلون الخرطوم كما صنع المهدي منذ خمسة عشر عاما، ويتوجهون إلى أنقاض القصر، ويرفع علمان بدلا من علم واحد فوق الكتائب التي صفت على شكل مربع، يرفع العلم الإنكليزي والعلم المصري، وينشد النشيدان الوطنيان ثم نشيد غوردون المفضل: «أقم معي»، ويروى أن كتشنر الثابت الجنان لم يسطع أن يكتم وجده عندئذ عن حنان.
الفصل الثاني عشر
بينما كانت دولة من البيض تمثل دور المنتقم فتستولي على بلد السود كانت تسير على الدرب دولة أخرى منافسة لها محاولة الوصول قبلها، وتبدأ مسابقة يقصر عنها الخيال.
ولم تفتأ فرنسة منذ عشرين عاما تسعى في إقامة إمبراطورية استعمارية أفريقية بتأييد من بسمارك الذي كان يريد أن ينسيها سيدان،
1
وتصادم فرنسة مزاعم إنكلترة على الخصوص، حتى في مصر ما انفكت فرنسة منذ عهد نابليون الأول تكون ذات تأثير عظيم، وتدحرها إنكلترة هنالك، ومما زاد الوضع توترا ما كان من القضايا المعقدة حول توظيف الأموال الآتية من القروض. ولما أصبحت السودان أرضا مباحة - على حسب تعبير رجال السياسة - ودت فرنسة لو تكون لها نقطة ارتكاز على النيل، فأرسلت من ممتلكاتها في الكونغو روادا إلى أعالي بحر الغزال، وتصرح لندن في سنة 1895 بأن ذلك عمل غير ودي، فلم تسطع فرنسة أن تنازع في الأمر لما كانت تعانيه من أزمة حادة، وتعرض فرنسة أن تسهم في حملة كتشنر في نهاية الأمر فترد منافستها عرضها، ومن كان من الفرنسيين يحلم في اقتسام العالم فيثاب بغم مما وقع من تأخر، وفي ذلك الحين تلوح لبعض الرجال خطة خيالية:
ولنقم بهجوم نحو النيل! يسير الإنكليز من الشمال نحو النيل الأوسط، وليسر الفرنسيون من الغرب نحو النيل الأعلى، وكلما اقتربت فرنسة من منبع النيل الحافل بالأسرار زادت قوة، وإذا ما صارت فرنسة سيدة النيل الأبيض في الدرجة الثانية عشرة من العرض الشمالي أزعجت إنكلترة وحرمت مصر - على ما يحتمل - ما تحتاج إليه من الماء بما يبنى من الأسداد، وذلك لعدم كفاية ما يأتي به النيل الأزرق في الدرجة الخامسة عشرة من العرض الشمالي، وهكذا تنطوي القبائل المتوحشة والمناقع المنيعة والسهوب والصحارى والبحيرات على معضلة عالمية تحتاج إلى فصل.
وتحاول فرنسة أن تغامر، ومع ذلك خسرت فرنسة السباق قبل أن تسير؛ وذلك لأن الغالب لا يكون أول من يصل وأول من يرفع علمه، وإنما الغالب هو من يصل في أحوال ملائمة مع رجال كثير ويكون من القوة ما يستطيع به أن يبقى. وهل يقدر الفرنسيون على إنشاء خط حديدي من الكونغو إلى النيل؟ وإذا عدوت رائدين أو ثلاثة رواد لم تجد أحدا قد عبر حوض بحر الغزال، وما كانت تعرف حتى القبائل التي يسار من بينها.
وضابط، مع شرذمة من الزنوج، ومع عطل من المدافع، هو كل ما أرسلته فرنسة من خلال الغابة الخضراء ومن بين أوحش البلاد لبلوغ النيل، ولبلوغ أقرب مكان من منبع النيل، بما يمكن من السرعة، وفي تلك الأثناء تنطلق إنكلترة من قاعدة أمينة وتنشئ خطا حديديا لنقل جيشها وجيش مصر ضد العدو، ومن المحتمل أن كان هذا العدو سيد ما حول فاشودة في الجنوب الأقصى.
ومن كان الكولونيل مرشان؟ كان مرشان كما وصفه وزيره «رخصا
2
كالمغول
3
وذا عيون كالنبل، وهو إذا ما تكلم نطق بإحكام، ويبدو كل شيء فيه، من أخمص
4
قدمه إلى قمة رأسه، مشحونا بالكهربا»، وكان في بدء أمره كاتبا عند وكيل للدعاوى، فلم يثبت، فانتسب إلى فيلق المشاة الاستعماري بأفريقية، وصار ضابطا، وكان في الثالثة والثلاثين من سنيه حينما أراد أن يقضي على القصة القائلة: إن سوء الحظ يلم بفرنسة على النيل في كل وقت، ويغامر بغزوه السريع ضد إنكلترة مع 23 من البيض و500 من السنغاليين، وذلك من غير أن يكون مؤيدا تأييدا تاما من بلده الذي لم يمد سوى «بعثة ارتياد» مداريا عند الحبوط نزق تركية التي عاد لا يشعر بسلطانها في الدرجة العاشرة من العرض الشمالي، ويظهر مرشان مثل فرسان القرون الوسطى حين قيامه بمغامرته ضاربا بصروف القدر عرض الحائط. ولا عجب، فقد حاول أن يأتي بمثل ما كان بريان ذوبوا غلبر قد قام به على ضفاف نهر السين منذ ألف سنة.
ويسير خليفة أبطال قدماء النورمان، مرشان، من لوانغو متوجها إلى الشرق ويوغل في الغابة البكر من وادي الكونغو، ويصير لزاما عليه أن يقاتل الضواري، وأن يقاتل أكلة لحوم البشر الذين كانوا يفترسون صياديه وحماليه، وكان يعرف أن الإنكليز يتسلحون وينشئون خطهم الحديدي ويتقدمون في النيل الأوسط. ولكن أين كانوا؟ وهل كانت الصحراء وعواصف الرمل تتخطف رجالهم كما كانت الأسود والوحوش تتخطف رجاله؟ وهل كان جيش الدراويش يقفهم في الشمال بعون الله فيدع الطريق حرة للفرنسيين في الجنوب؟ جهل مرشان ذلك أسابيع وأشهرا ثم أتاه نبأ مشوه، وكان يود أن يصل قبل أن يقضي الإنكليز على الدراويش، وكان خوفه من المسلم الأسمر الهمجي والعدو للحضارة أقل من خوفه من الإنكليزي النصراني الأبيض المتمدن، لتمتع الإنكليزي بمصر ولما عند الإنكليزي من مدافع ونفوذ.
وتطول الطريق على الفارس الفرنسي، وتطول وتطول، وتغدو مياه بحر الغزال في هذه السنة من الانخفاض ما يتأخر معه السير ستة أشهر، ويلوح كل شيء إلبا
5
على مرشان المحارب، ومع ذلك يتقدم مرشان غير قانط، ومع ذلك يمشي مرشان وكتيبته التي تنقص مقدارا فمقدارا. وفي نهاية الأمر، وفي يوليو سنة 1898 يبلغ مرشان غاية أحلامه، يبلغ النهر، ويرفع باحتفال العلم المثلث الألوان فوق فاشودة التي هي ملتقى الطرق، وسار مرشان ثلاث سنين، فأين المنافس الذي يخفق علمه فوق علمه؟ لا شيء غير شائعات تجسم في أفريقية كل شيء وتغم
6
عند كل شيء كالسراب.
وكان الفرنسيون - الذين أضحوا في الدرجة العاشرة من العرض الشمالي - يجهلون نيل الإنكليز أول نصر على الدراويش ببربر في الدرجة الثامنة عشرة من العرض الشمالي، وما كان الإنكليز يعلمون وجود أبيض خصم لهم وللسود على شاطئ النهر نفسه وعلى بعد ألف كيلومتر من الجنوب.
وكان الدراويش من الضعف في تلك البقعة ما فروا معه أمام مرشان الذي كان بلا عتاد تقريبا، وينشئ مرشان حصنا صغيرا على ضفة النهر، ويعقد معاهدة حماية مع رئيس الشلك ويزرع بعض الخضر، غير أنه كان يعوزه ما يتوقف عليه كل أمر من مدد وعدد واتصال بوطنه؛ فيحاول أن يكون ذا علاقة بالكونغو والحبشة فلا يوفق، ويظل وحيدا، هو هنالك، هو على النيل مع أواخر ضباطه البيض ومع بعض بنادق، وتقف الريح في أشهر الصيف فيبدو العلم معلقا بعموده في حال يرثى لها.
ويدوم مد الخط الحديدي الإنكليزي في تلك الأثناء بلا هوادة، ويدحر العدو أمامه حتى فاشودة على ما يحتمل، ولم يعرف أحد ماذا كان يقع في ذلك البلد الذي هو طعمة الفوضى، والنيل وحده هو القادر على وصل مرشان بكتشنر. وما زال المسلمون يفصلون بين المتنافسين، وما كان الإنكليزي يخشى شيئا، وما كان الإنكليزي يخشى سير 23 فرنسيا و500 سنغالي، منذ ثلاث سنين، ولو ظلوا كلهم أحياء، ولو حلوا بضفة النيل، فهؤلاء ليسوا مرهوبين.
وتمر خمسة أيام على ما تم في أم درمان من نصر حاسم، وتمر أربعة أيام على احتلال الخرطوم فتأتي باخرة بأول نبأ من الجنوب، تأتي بنبأ وجود أبيض في فاشودة عقد معاهدة مع الشلك، وكان يمكن كتشنر أن يستريح بضعة أيام بعد عناء عامين، ولكنه لم يتمالك أن أدرك ما هنالك، فقام بنصف جولة في الباخرة، فلما انقضت ثلاثة أيام توجه نحو منبع النيل ليزور ذلك الفرنسي التعس، ويجلب معه كتائب سودانية ومائة اسكتلندي وبضع سفن ذات مدافع حتى يدرك مضيفه مغزى زيارته.
وبعد تسعة أيام ترسو السفن الإنكليزية في فاشودة حيث يتموج علم كبير مثلث الألوان، ومن الفصول الروائية، حقا، أن يلتقي ضابطان من البيض متماثلان هيئة مع اختلافهما شعارا، منتسبان إلى أمتين جارتين مع تسالمهما على بعد ألوف الأميال من هنالك، مفوض إلى كل منهما خلع الآخر، ويستحق إقدام كتشنر كل إعجاب، ويتجه العطف العام في ذلك الحين إلى مرشان العاطل من الرجال ومن السند ومن توجيه باريس له (على خلاف كتشنر الذي يوجه برقيا في الخرطوم)، والذي يقدم إلى الغالب بالأمس غير مجهز بسوى مسدس لا ينبغي له أن يستعمله وبسوى علم لا تخفق الريح فيه.
ويتحادث الفاتحان في كوخ مرشان، وذلك بأن هنأ الإنكليزي الفرنسي بإيصاله مغامرته إلى هدف حسن، وذلك بأن هنأ الفرنسي الإنكليزي بالنصر الكبير الذي علم خبره من الزنوج، ولا أحد يعرف مقدار الصمت الذي عقب تينك التهنئتين، وإنما علم فقط أن مرشان صرح قائلا: «أقامتني حكومتي وكيلا عنها في احتلال بحر الغزال حتى ملتقاه ببحر الجبل؛ أي باحتلال أراضي الشلك الواقعة على شمال النيل.»
ويجيب كتشنر عن ذلك قائلا: «لدي تفويض بألا أوافق على وجود سلطان لدولة من البيض في وادي النيل.» ويسلم إلى مرشان مذكرة رسمية، ثم ينهض لما يجد من وجوب رفع علمه بجانب العلم الفرنسي، وهنا يتجلى الرجل الماجد، فقد أدرك مشاعر زميله، ولم يكرهه على إنزال علمه لما قد يؤدي إليه ذلك من نتائج هائلة، بل ذهب إلى بعد خمسمائة متر ورفع العلم التركي! ثم توجه مسيرة يوم نحو منبع النيل وأنشأ مركزا على السوباط، وعاد، وترك في فاشودة حرسا سودانيا وأربعة مدافع وبلغ مرشان بأدب لا غبار عليه أن «البلد» خاضع للحكم الثنائي الإنكليزي المصري، وأنه منع كل نقل للعتاد الحربي على النيل.
ويظل الضابطان واقفين متواجهين.
مرشان :
لا أتلقى أمرا من غير حكومتي.
كتشنر :
وإذا ما اضطررت ...
ولم يكد كتشنر يلفظ بذلك حتى قال مرشان: إذن سأموت هنا.
ويقع كل شيء وفق شعائر الشرف العسكري، ويقدم كتشنر تقريره عن هذا اللقاء، وتحل المهزأة الأفريقية في أوروبة على حسب العادة القديمة، ويصبح الرجلان ألعوبتين بين أيدي السياسيين والمضاربين، وتنهمك باريس ولندن في هذا الأمر، ويلوح شبح الحرب، وضعف فرنسة في ذلك الحين - لا حكمة إنكلترة - هو الذي حال دون نشوبها، وفي الصحف يتجلى الجشع، وفي الصحف تطلق الأحقاد من عقالها في أثناء مفاوضات الوزارتين، ويدوم ذلك ستة أسابيع، وتحمل باريس على الخضوع، ويشاد بذكر مرشان رسولا للحضارة، ويغمر بأكاليل الغار سترا للجلاء عن فاشودة وصرفا للأذهان عما منيت به فرنسة من حبوط.
ويقول كتشنر موكدا بعد أمة
7
إن انتصاره في أم درمان هو الذي أنقذ مرشان، فلولا هذا النصر لقتله الدراويش، ومهما يكن من أمر فقد تم للحكومة الإنكليزية نصر سلمي على الحكومة الفرنسية. وقد أيقنت الحكومة الفرنسية أنها لا تقدر على شيء من غير إنكلترة فعزمت على السير معها فيما بعد، ويتحول مرشان إلى رائد بعد أن تخلى عنه رؤساؤه فيرفض إطاعة الأمر بالذهاب، ويعلن احتياجه إلى العتاد والقوت، ويضع كتشنر ما يحتاج إليه تحت تصرفه، ويعرض عليه باخرته، ويرغب مرشان عن السفر على باخرة خصمه البخيت،
8
ثم عن السفر في القطار الجديد وعن تشييعه بضروب من التكريم الرئائي، وعن العود إلى فرنسة بحرا بعد ذلك، وبذلك يكون مرشان رائدا آخر للنيل رافضا أن يعان، وذلك في مكان غير بعيد من المكان الذي رفض فيه أمين باشا - منذ عشرين عاما - أن ينقذه ستانلي، ويعزم مرشان على شق طريق له من الحبشة، وهكذا يجوب أفريقية من جانب إلى جانب، وهكذا يبدو مرشان مثل دون كيشوت على الرغم منه، وهكذا يظهر العالم مهزأة لهذا الشخص المفجوع. وهكذا رأى رجل، رفع العلم المثلث الألوان على النيل فاضطر إلى طيه بعد انتظار خمسة أشهر على غير جدوى، أن ينقذ الشرف كنظائره في القرون الوسطى، وهو إذا لم ينقذ شرف فرنسة الذي أبصره معرضا لخطر فاضح فقد أنقذ شرف نفسه؛ أي شرف رجل كان من أبناء الطبقة الوسطى وكان جنديا عاديا فصار قائدا؛ أي شرف الفاتح الشقي جان بابتست مرشان دو تواسه.
وتتحالف فرنسة وإنكلترة بعد ست سنوات من تاريخ عودته، وكنتيجة غير مباشرة لغزوته، ويحارب في أثناء الحرب العظمى بجانب الإنكليز، ثم يكون شاهدا بعدئذ على ما بين البلدين من فتور، ويموت في سنة 1934، ويرى قبل موته إمبراطورية فرنسة الاستعمارية الكبرى في غرب أفريقية من غير أن يكون النيل جزءا منها.
الفصل الثالث عشر
كان العلم الذي رفعه كتشنر فوق فاشودة أحمر اللون، كان العلم التركي، والآن يخفق العلم الأخضر الجميل، العلم المصري، فوق جميع السفن والمباني العامة بجانب العلم الإنكليزي، ويدوم الحكم الثنائي منذ ربع قرن، ويمكنه أن يدوم زمنا طويلا على الرغم من اعتراض أضعف الفريقين.
ويعين النيل مصير السودان مرة أخرى، وقد كان الإشراف على النيل في سبيل مصر وتنظيم مجراه الأعلى ذرائع وعوامل تتمسك بها إنكلترة القابضة على زمام مصر - فيما مضى - قبضا مطلقا تقريبا، وقد حالت إنكلترة دون إفلاس هذا البلد لتمسكه إلى الأبد. وهل تترك إنكلترة لغيرها مجرى النهر الأوسط وملتقى النيلين بعد أن ملكت منبعه وفوهته؟ أو تتركهما للسودانيين، لهؤلاء الهمج، الذين كانوا تابعين للمهدي؟ أو تتركهما للمصريين الذين كان للسودان بهم خراب مدة خمس وستين سنة؟ أو تتركهما للفرنسيين؟ إذا وجد من الناس من يمكنهم أن يزعجوا مصر بالنيل من جهة السودان فالإنكليز وحدهم هم أولئك الناس.
وكانت مصر من الضعف ما لا تستطيع معه أن تسترد السودان وتديره، وكانت مصر تفضل - لذلك - أن تدع مكانها للإنكليز على أن تدعه للسودانيين والفرنسيين، وكان لبريطانية العظمى من المصالح البالغة الأهمية ما تدافع به عن مصر الدنيا فلا تقدم على تقويض دعائمها حين الاختلاف، ولو اقتصر الإنكليز - بعد انتصارهم في أم درمان - على رفع علمهم وحده ما استطاع المصريون أن يحولوا دون ذلك، غير أنه كان لمصر من الحلفاء المكتومين ما تعتد إنكلترة بماله ونفوذه في القاهرة. وقد اجتنب احتراب إنكلترة وفرنسة الذي لاح شبحه أيام فاشودة، لا عن ضعف في فرنسة فقط، بل عن عزم إنكلترة - أيضا - على رفع العلم التركي رمزا كما فعل كتشنر فوق زاوية محصنة في الدرجة العاشرة من العرض الشمالي. وقد استفاد المصريون - كشرقيين حقيقيين - من تنازع الدول الغربية، فإذا كان سوء إدارتهم قد أوجب ضياع السودان فإنهم صاروا شركاء في سيادة ذلك البلد الذي أعيد فتحه بمالهم وجنودهم مع قواد من الإنكليز، والذي حفظ بفضل النفوذ الإنكليزي.
واللورد كرومر هو الذي عن له أمر العلمين، واللورد كرومر هو القائل: «لا يؤدي أفول هذا الحكم الثنائي إلى سكب عبرة من قبل مخترعه إذا ما استبدل به حكم أمتن منه.» وإذا كان هذا النظام قد ظل قائما بما يثير حيرة الجميع فلتوزيع الحقوق بين الفريقين توزيعا غير متساو، ويمكن أن يقال: إن هذا قران شرقي تقدم به الزوج مالها وتضع أولادها من غير أن تنال في مقابل ذلك غير حق الحياة؛ أي ماء النيل، وهي مع ذلك زوج شرعية تمر في الأحوال العظيمة تحت أقواس النصر راكبة حصانا بجانب بعلها مغمورة بالحلي محجبة تماما. والسودان هو أول بلد وضع تحت الانتداب في التاريخ، وكان هذا قبل استعمال هذه الكلمة من قبل مؤتمر باريس في سنة 1919 حين أفسد معناها.
وإن الحاكم العام - وإن جميع أكابر الموظفين - في السودان الإنكليزي المصري هم من الإنكليز، ولو حدث أن رفض الملك بالقاهرة تعيين حاكم توصي به الحكومة الإنكليزية لوجد جميع الإمبراطورية البريطانية ضده، ولهذا الحاكم - الذي لا يقدر الملك على عزله - مثل ما كان للمهدي من الحقوق، وذلك لما لا يزال القانون العرفي العسكري معمولا به في السودان، والحاكم هو الذي يقرر جميع المسائل المهمة، وهو الذي يقضي فيها طاغية، وكانت مصر هي التي تقدم الجنود، ولا تزال مصر تقوم بقسط كبير من نفقات الاحتلال (750000 جنيه).
ولمصر فائدة من وراء ذلك مع ذلك، ولو خسرت مصر النيل الأوسط حربا تجاه إنكلترة لوجدت في الأدب التاريخي ما يسوغ تفكيرها في الانتقام. والواقع أن مصر عادت - بتدخل من إنكلترة - إلى امتلاك بلد بالاشتراك كانت قد أضاعته عن سوء إدارة لسكانه النوبيين الأصليين.
ويشعر المصريون بأنهم أرقى من أولئك السكان كما تشعر به أية دولة من دول البيض المنتدبة على الزنوج، وتظهر طبقات المصريين العليا - وهي غير طبقة الفلاحين - من قلة العدد كالأشراف وكأبناء الطبقة الوسطى الراقية في العهد القيصري الروسي، وهي تعد نفسها وارثة لحضارة بلغت من القدم خمسة آلاف سنة، وهي لا تشعر بغير ازدراء للسودانيين الذين هم من أكلة لحوم البشر، والذين يصلحون للعناية بالخيل وللطهي وليكونوا خدما في قصور القاهرة، وكان الخدم السودانيون حتى سنة 1900 أبناء لعبيد اتخذوا قناصين في الغارات كالباز في الصيد، ويعود أولئك الخدم إلى بلدهم بعد غياب بضع سنين جالبين معهم نقدا ومزاعم وزهو أنصاف الجهال.
وأثار انتحال المصريين لوضع السيد المتعالي حقد جيل السودان الحاضر عليهم، وليس المصري سيدا يخشاه خدمه، والسوداني يمقت الباشا الذي كان المهدي قد طرده، والسوداني يمقت التركي الذي عاد على أكتاف مردة من البيض، والذي يمسح أحذيته ويغسل سياراته في القاهرة بضعة آلاف من الفتيان، وما هي فائدته من هؤلاء السادة المحليين أو الأجانب؟ أليس من الرأي أن يقاس السوداني بالفلاح على ضفة النهر حين يدير ثوره ناعورة ويطحن نساؤه الذرة بأيديهن القوية وينمل
1
أولاده في النخل قطفا للبسار،
2
والفلاح، كالسوداني يجهل الحكمة القديمة المكتوبة على ألياف البردي، والفلاح لا يفك الخط الهيروغليفي في الوقت الحاضر كما لا يفكه السوداني الذي يعلم القراءة.
وترانا مرة أخرى تجاه تلك الدورة الأدبية التي تبدأ من قدرة الأبيض على تربية الأسود لتعود إلى عجز الأبيض، ولم يقم حكم إنكلترة على الجلد بسياط مصنوعة من جلد وحيد القرن، ولم تأت إنكلترة بقوانين ولا بتدابير عقيمة، وتستند إنكلترة منذ البداءة إلى مساعدة القبائل باحترامها عاداتها، وتترك إنكلترة لسكان البلاد الأصليين درجة القضاء الأولى فتجد 55 في المائة من الوظائف الدنيا بيد السودانيين، وتجد 23 في المائة من الوظائف الدنيا بيد المصريين، ويوجد في الوقت الحاضر من أهل البلاد 1200 مكاس
3
وبريد ومعلم وجاب و3000 موظف من القضاة والطباعين والمهندسين والعمد ومستخدمي الخطوط الحديدية والأطباء الناشئين في السودان من الألفباء إلى ما هم عليه، ويتخذون دليلا على جهد إنكلترة في التمدين، ويزيد عددهم بسرعة، وهم - وإن لم يكونوا ذوي خطر في الساعة الراهنة - يعدون طلائع قوم تحولهم التربية إلى منافسين لسادتهم.
ومن شأن ذلك التطور أن يعين مصير مصر والسودان في نهاية القرن العشرين، ولم يجلب الفاتح المصري في القرن التاسع عشر شيئا إلى السوداني؛ ولذا لا يوحي المصري إلى السوداني بأقل احترام، وكان لأهل شمال ذلك القطر الكبير ما له من اعتقاد يصل المؤمن بالله وبالقدر وبأدب الدولة أحسن مما يصل الإيمان النصراني الأبيض به، وإليك كيف يعبر عن مشاعر السودانيين نحو البيض هرولد مكمايكل الذي هو من أعلم الناس بالسودانيين: «لهؤلاء البيض الأفذاذ نيات طيبة لا ريب، ولكنهم ذوو تصور هزيل حول الدين، وينم كثير من عاداتهم على نقص في الذوق السليم.»
وكان هذا الشعب المباع المعبد قد ثار بطفرة من النفرة فخدعه زعماؤه وداسوه بأقدامهم، ثم استولت عليه كتائب من البيض فانتقل بغتة من الظلمات إلى نور الغرب. وكان السودانيون في أوائل هذا القرن، ومنذ مدة أقل من خمسين سنة، ينقلون في أوروبة زمرا زمرا مع أسرهم من حديقة حيوانات إلى حديقة حيوانات فيزربون كضواري قطرهم عرضا لرقص بلادهم وللصيد في ديارهم ترويحا للبيض. واليوم ترى حفيدهم جالسا أمام مجهر في معهد المباحث بالخرطوم ليدقق في جراثيم النيل!
أجل، ليس الاثنا عشر ألف سوداني الذين يعرفون القراءة غير جزء صغير من سودانيين بلغ عددهم حديثا ستة ملايين، بيد أن معرفة هذه الأقلية تنتشر بأسرع مما في القرون الوسطى، في زمن الرهبان الذين كان قليل منهم أعلى من معاصريهم، ولم يعانون سلطان الفلاحين الذين يبطئون في التطور مثلهم؟ أو تجد في القاهرة مدرسة لأبناء الفلاحين فيها من وسائل التسلية ما في كلية غوردون القائمة على ضفاف النيل والقريبة من قصر الحاكم فيخرج منها وقت الظهر خمسمائة طالب لابس جلبابا أبيض فيتنزهون اثنين اثنين زاهين في حدائق الخرطوم كفرسان برسيفال؟
4
وأنشأ البيض مدارس بلغت من العدد ألفا وخمسمائة لثلاثين ألف طالب، ومن هذه المدارس كليات يتدرب فيها ضباط وموظفو بريد وأطباء، ويزيد عدد المصريين بسرعة، وسيكون جميع الوادي الأدنى مزروعا حوالي سنة 1950 فلا يكفي لإطعام سكانه، وسيسفر ذلك عن هجرة ما يفيض من الفلاحين نحو مجرى النيل الأعلى طلبا لأراض جيدة في السودان الذي يعد هريا
5
تابعا لهم، وكان الفلاحون قد ساروا على هذا الدرب بعد طرد ملوك إثيوبية فيما مضى.
ويضاف جميع ذلك إلى الشعور القومي الذي يقتبسه أصحاب الجلود الملونة من البيض فيدل على تحولات عنيفة تعنى إنكلترة بتعديلها. ومن قول اللورد لوغارد الذي هو آخر أفريقي عظيم: «يمكننا أن نري الزنوج في جيلين أو ثلاثة أجيال حقيقة أمرنا، ثم يدعوننا إلى الرحيل، وسنضطر إلى ترك البلاد لأصحابها مع جعلهم يشعرون بأننا في الحقل التجاري أصدقاء أكثر أمانة من البيض الآخرين.» ويذهب المريشال ليوتي إلى ما هو أبعد من ذلك فيقول: «الطبيب هو ذريعة الاستعمار الوحيدة.» وهذا هو رأي اثنين من رواد دور الفتح.
وسهلت جهود إنكلترة في السودان بفتوح العلم الحديث، وزادت بعد محاربة المهدي أهمية الخط الحديدي، الذي يقطع منعطف النيل فيختصر مسافة 350 كيلومترا، فينقلكم هذا الخط من القاهرة إلى الخرطوم في مائة ساعة، وتنقلكم الطائرة بين هذين المصرين في أربع عشرة ساعة، وينقلكم الخط الحديدي بين العطبرة والبحر الأحمر في سبع وعشرين ساعة، ويصدر في كل سنة من بور سودان، حيث أعيد بناء المرفأ القديم غير الصالح، ثلاثة ملايين طن تبلغ قيمتها خمسة ملايين جنيه، وهذا هو طريق البحر الأحمر المؤدي إلى داخل أفريقية، والذي يبحث عنه منذ القديم، وتسير في كل أسبوع سفن نحو النيل الأعلى، وحفرت آبار على طول طريق القوافل، وأنشئت مستودعات لزيت الطائرات، وتوزع حبوب في سني المجاعات، وينتج الصمغ العربي بمقادير أكبر مما في الماضي فيوجب ذلك ابتياع كثير من الحلويات.
وينال الملح بما يحدث على ساحل البحر الأحمر من تبخر، ويكون صديق الإنسان الطبيب مستعدا، ويحمى الناس من الرق الذي لم يبق له أثر في غير حدود الحبشة لما هي عليه من طول يتعذر معه رقابتها، وليس جميع ذلك من فضائل عصرنا، ولكنه من عمل الحكومة القائمة في السودان، ويظهر مصداق هذا عند مقابلة السودان بالمستعمرات الأخرى، حتى الزيغان
6
تنتفع بالحضارة الإنكليزية، ففي الخرطوم تجمع الزيغان صمم
7
زجاجات المياه المعدنية اللامعة وتختطفها وتقلبها فتتألف من ذلك مناظر على الأرصفة المبلطة.
ونظم قسم مهم من السودان من قبل الضباط فجاء هذا دليلا على وجود رجال بين الضباط قادرين على القيام بأعمال غير صنع الموت. ومن نتائج الحرب العظمى أن اغتنى السودان بما قبضه من ثمن للمؤن العظيمة، وقد نشأ عن انهيار تركية ونصب ملك في القاهرة تعزيز مركز الإنكليز في السودان، وما كان من الفتن التي أوجبها تلاميذ غوردون القدماء فقد أزعج إنكلترة بضعة أيام، وما كان من عصيان كتائب السود الخاضعة لضباط من السودان فقد حمل الإنكليز على التفكير فيما ينطوي عليه التطور السريع من مخاطر، وكيف الخلاص من المصريين الذين حرضوا على تلك الفتن، والذين يخدمون في الجيش منذ قيام الحكم الثنائي؟ لم يكف قتل مرسل إنجيلي لنيل ذلك.
قتل نفر من دعاة الوطنية بمصر حاكم السودان العام في شهر نوفمبر سنة 1924، وفي أثناء إقامته بالقاهرة، ولم تنتظر بريطانية العظمى في هذه المرة ثلاث عشرة سنة كما فعلت بعد قتل غوردون، بل نالت مبتغاها في إخراج جميع الكتائب المصرية من السودان في ثلاثة أيام ، وبإنذار، وفضلا عن التعويضات وغيرها من العقوبات، ويذعر القوميون من المصريين لوضع النيل على أساس العلم الأبيض رمزا للسياسة، ويرتعد المعتدلون من المصريين تجاه وعيد صاحب السلطان في النيل الأعلى.
وهكذا يزول آخر أثر لسيادة مصر على السودان بخروج كتائبها منه، وصار العلم الأخضر لا يخفق بجانب العلم الإنكليزي إلا على سطح قصر الحاكم في الخرطوم وعلى مؤخرة البواخر التي تمخر في النيل.
الفصل الرابع عشر
يحافظ النيل على منظره الابتدائي إلى ما بعد الخرطوم، وما تراه من أنصاب
1
مرقمة مغروزة في الشاطئ فيدل وحده على أن الإنسان يرقب النيل، وما تراه من قرى تنعش ضفتيه فلا ينم على غير الأمس واليوم. وتبصر على ضفاف القسم الثاني من النيل أعمدة ومعابد وجنادل مشذبة وأهراما أقامها الإنسان لتكون شاهدة على مآثره منذ خمسة آلاف سنة في واحة كثيرة الضيق بالغة من الطول ألفي كيلومتر.
وليس للغرانيت الخالد، ولا للحجر الرملي القصف أن يخشى المطر ولا البرد، فلا تزال تلك الأعمدة باقية كما لو كان الإنسان الذي يقاتل الإنسان غير صانع لها، ولا يلوح شيء يجاوز صواري
2
الجواري
3
الجميلة في المكان الذي يغادر فيه النيلان المزدوجان ازدواجا أخويا أول مصر أقيم على ضفافه؛ أي في الخرطوم. وانظر إلى قباب المدينة الأهلية القائمة على النيل الأبيض والتي يبدو تلاشيها في الصحراء تجدها من الانخفاض كأبراج الإنكليز على النيل الأزرق، ولا شيء يذكر هنالك بسدوف
4
مدننا الأوروبية القديمة على ضفاف التايمس والسين والدانوب وموسقوه، وللنهر المزدوج في ذلك المكان من الجلال ما يجدر معه أن يسيطر على عاصمة كبيرة في ضفافه الأربع.
وتقع جزيرة توتي أمام ضفة النيل الأزرق اليمنى ثم أمام ضفة النيلين المتحدين، وهي ذات شواطئ منحدرة، وهي تجتذبكم بجمالها، وقد غمرها الغرين بالغنى، ولا تجد في مكان ما لنخلها من الروعة، ويمتاز نخلها باسمراره على السهب الأصفر، وينال من دوح جميزها ما يرغب فيه من الطراوة، والجزيرة ذات غاب وظلال، والجزيرة مثيرة للخيال، والجزيرة تنتهي في مجرى النهر التحتاني برأس تستره أجمة حقيقية.
وتظهر بالقرب من تلك الجزيرة جزيرات في ملتقى النيلين، وتتوارى هذه الجزيرات تحت الأمواج وقت الفيضان، ثم تكون مرة أخرى على بعض المسافة برواسب من الحصا والرمل، ويبدأ تخاصم أهل الشاطئ:
أحمد (صارخا) :
كانت هذه جزيرتي.
محمد (زاعقا) :
كلا، هذه هي الجزيرة التي حرثتها في الشتاء الماضي.
ويصعب الأمر على القاضي، فالمعالم مغمورة بالنهر.
وتنقل الإنسان والحيوان من ضفة إلى أخرى قوارب مثقلة، ويذكركم الآدميون - عند مرورهم مكدسين تحت شرع كبيرة لابسين جلابيبهم البيض - بزمر ستيكس
5
وبخاطرة الأزمنة القريبة حين كانت الريح تدفع إلى النار تلك الزوارق المشحونة بالعبيد، وتصلح تلك المراكب الكبيرة، التي ترى بين الخرطوم ومصب النهر، لعبور النيل أكثر مما للطواف فيه، وهي ابتدائية إلى الغاية مع موقد من طين في المقدمة ودفة عالية يديرها رجل عارف بالرياح والصخور، وتحول المجاديف المجهزة برقاصات دون ذهاب الزوارق نحو الصخور ولا يمسكها سوى أناس من الخبراء. وإذا ما نفخت الريح الأشرعة المثلثة الشكل والمعلقة في صاريين منحنيين خيل إلى الفارس الذي لا يبصر النهر أنها طيور عظيمة تسير متئدة على أرض الصحراء.
ويدحر النيل الأزرق الصائل النيل الأبيض نحو الضفة الغربية، ولكن لا لزمن طويل؛ وذلك لأن أخاه الأكبر لا يلبث أن يتفوق عليه، فيرجع إليه سابق اتساعه، ولا يفوقه النيل الأزرق إلا حين الفيضان الأعظم الذي ينجم عن أمطار الحبشة، ويعود احتراب العناصر هذا على صغار من الموجودات بالربح، ومن ذلك أن سمك النيل الأزرق يجفل من انتفاخ التيار فيهاجر إلى حوض هادئ على الضفة غير عالم أن بجع
6
النيل الأبيض ينتظره هنالك ليصطاده، وهكذا يصطرع تابعو المتنافسين العظيمين بعد تصالحهما.
وللنهر في الخرطوم من المنظر ما يسوغ مجده الأسطوري، وللنهر هنا كما في القاهرة سير ملك، والنهر نال ذلك بعد مغامرات فتائه، والنهر يظل على ذلك بعد أن يجري أسابيع في الصحراء، وفي هذا سر حياته.
ومع ذلك ترى النيل يقاتل نفسه في دوامه
7
حين يبدأ بمصارعة الصحراء كأعاظم الرجال الذين يضنون في مكافحتهم العالم وفي مجاهدة أنفسهم، ويبدأ دور الشلالات، والشلالات - كالمناقع سابقا - قد جعلتها الطبيعة كالأعداء لاختبار شجاعته وقدرته وإظهار سجاياه في الأمور الكبيرة.
وفي مجرى النهر التحتاني بعد الخرطوم يعد جوب السهب حتى ملقى العطبرة وداعا للطبيعة قبل دخول الصحراء التي ترافقه حتى البحر تقريبا، ولا يزال الأبنوس
8
والكابلي
9
ينبتان هنالك، ويبلغ العظلم
10
من الكثرة ما كان معه معمل لاستغلاله هنالك، ويبلغ السنط من القوة ما أنشأ الترك معه دورا لصنع السفن هنالك، وهنالك ينمو شجر آخر له خشب كالفلين وتصيب عصارته عين الحطاب بالعمى فيجتنبه جميع الحيوانات خلا المعز الذي يقضمه من غير أن يصاب بأذى، ويبسط السنط جذوره فيلائم بذلك مد النهر وجزره، ويكون ماء النيل من البرودة في تلك المنطقة ما لا يكفي معه قر
11
الليالي لتفسيره.
وإذا سرت من الخرطوم مرحلتين أو ثلاث مراحل؛ أي مسافة تسعين كيلومترا من مجرى النهر التحتاني، وجدت عرض النيل لا يزيد على خمسة وسبعين مترا، وأبصرت عمودين من الحجر البركاني للدلالة على مدخل مضيق، وهذا هو بدء الشلال، ويسميه الجغرافيون بالشلال السادس؛ وذلك لأنهم عدوا الشلالات بادئين من مصر متوجهين مع الحضارة إلى مجرى النهر الفوقاني، وأرانا مضطرين إلى مجاراتهم مع أن النهر يوصف كما توصف حياة الإنسان فلا يبدأ من خاتمتها، ويحصي العرب 31 شلالا؛ وذلك لأنهم يعدون كثيرا من المساقط من الشلالات.
والعرب قد دعوا الشلالات بأسماء خيالية بدلا من تعيينها بأرقام، فقالوا: عنق الجمل والمرجان وبيت العبد والمغفور والموحل والحارك،
12
وتبدأ عروة النيل الكبرى، وهي الوجيدة في مجراه الطويل من الجنوب إلى الشمال، عند الشلال السادس، وتنتهي بالشلال الأول تماما، ويقع الشلال السادس؛ أي خانق سبلوقة، في الدرجة السادسة عشرة من العرض الشمالي، ويقع الشلال الأول في الدرجة الرابعة والعشرين من العرض الشمالي؛ أي عند أسوان، ويقع كلا الشلالين على درجة واحدة من الطول.
وفي الصحراء - حيث لا شيء يقف النهر - تسد طريقه غرانيت وجنادل ترجع إلى ما قبل الطوفان فتفرض عليه عطفة 1200 كيلومتر، ولكن مكافحة الصخر هذه ترد إلى النيل من النشاط والحيوية ما يحول دون جفافه بين سهلين من الرمل، والنيل يبتلى ب 31 شلالا ثم يخرج منها ظافرا كما خرج من المناقع.
وجميع التلال التي تأخذ بخناق النيل في أثناء ذلك السير وتقف الملاحة هي من الصوان والصخر البلورية ومن صفائح من صلصال؛
13
أي من صخور ابتدائية. ولو استطاع الإنسان أن ينشئ قنوات على طول المناقع لوجب عليه أن ينفق المليارات حتى يتغلب على الغرانيت، ولن تكون الطريق الصالحة للملاحة هذه غير قوس دائرة يكون خط كتشنر الحديدي وترا لها.
وللنيل ثلاثة فروع صالحة للملاحة؛ فأما الفرع الأول فيبلغ من الطول 250 كيلومترا في القسم الأعلى من النيل، وأما الفرع الثاني فيبلغ من الطول 1800 كيلومتر ويقع بين رجاف والخرطوم، وأما الفرع الثالث فيبلغ من الطول 1300 كيلومتر ويقع بين وادي حلفا والمصب. وإذا عدوت النيل الأزرق الصالح للملاحة في ستمائة كيلومتر منه لم تجد النهر العملاق نافعا لسير السفن في نصف مجراه وإن كانت السفن تمخر على مساوف
14
قصيرة بين شلالاته، ولأنهار أفريقية الأربعة الكبرى مثل ذلك النصيب، وما في هذه القارة من هضاب فيمنع من وجود شرايين كبيرة للتجارة العالمية فيها كما في القارات الأخرى.
وتبدو ظاهرة المائة جزيرة في هذا المكان، وعلى مسافة ألفي كيلومتر من هرم رجاف. وسنرى هذه الظاهرة في جميع الشلالات.
ويكون النيل على ثمانية عشر كيلومترا، وبين مساقط صغيرة وكبيرة، عالما من الجزر المستورة بالخضر والمبللة بالطراء والزبد، والبادية مثل جنة صغيرة مقابلة لصخر صلد
15
وسهب جاف أصفر، وتظلل هذه الجزائر بالسنط ذي الفروع الطويلة وأشجار الجميز وأشجار الدوم
16
التي تلتقي عليها المعرشات كما في الأيكة البكر، ولها بالخضر الدائم بين الماء الهارب تعويض من عزلتها ومن حياة الخيال الذي لا يكدر صفوه حيوان ولا إنسان إلا نادرا. وهكذا تبصر تحت ظل حديقة رائعة نسوة من ذوات السعادة يدعن سياح الحياة الخالدين يمرون من غير أن يحسدنهم.
وعندما تدحر الصخر النيل نحو الشرق، وتفرض عليه مرفقها، لا تعين مجراه فقط، بل تقرر بانحدارها - أيضا - مصير الأراضي الممتدة على طول الضفاف. وتكفي هذه الأراضي الضيقة الخصيبة المغطاة بالغرين - والتي لا يزيد طول الواحدة منها على خمسة أمتار في بعض الأحيان - لتموين قرية قائمة أكواخها الطينية على الصخر، وذلك مع العناية بأصغر قطعة أرض لزراعة الحبوب وغرس النخيل.
وتقع شندي على ضفة النيل الشرقية، ولشندي مقدار غير قليل من الأراضي الصالحة للزراعة، ثم يوغل النهر في الصحراء بعد أن يقابل آخر رسول من الشرق، وذلك كملك يقابل آخر ساع قبل ذهابه إلى معركة كبيرة، فنهر العطبرة ينضم إلى النيل في مجراه التحتاني بعد ثلاثمائة كيلومتر من الخرطوم، ويصل هذا الرافد الأخير من البراكين الحبشية التي يخرج النيل الأزرق منها.
ولا يعلم السائح الذي يمر في شهر يونيو من قنطرة العطبرة الكبرى - وهي الجسر الرابع بعد منبع النيل - إنفاق كتشنر مبالغ كثيرة لإدخال أركان أقواسها الست عميقة إلى الصخر؛ وذلك لأن مجرى النهر الفاغر فاه جاف، وإذا ما عاد في شهر يوليو هدر سيل عرضه خمسمائة متر بالغ من العنف حول تلك الأركان ما تلطم أمواجه الوحلة معه ضفة النيل الغربية؛ أي تصدم ما بعد مصبه على مسافة غير قصيرة. وهذا هو سبب تسمية العرب إياه ب «النهر الأسود»، ويجر نهر العطبرة في جريته الغضوب المشابهة لجرية النيل الأزرق، ونهر العطبرة يتغذى بما يتغذى به النيل الأزرق من الأمطار، خيزرانا وسوقا وأصولا وجذورا وبقرا وفيولا ممزقة وعالما غافلا من الحيوان والنبات فاجأه وحمله وقتله كما تجرف العاصفة الثورية أبناء الطبقة الوسطى النعس.
ذلك هو آخر رافد للنيل، وتلك هي الصحراء، ويظل النهر وحيدا، ومع سابق مياهه حتى النهاية.
ولوادي النيل في أثناء الجري من تلك العروة الكبرى ثلاثة ألوان، فالصحراء شديدة الصفرة في الناحيتين إلى ما لا حد له، والأراضي المزروعة شديدة الخضرة، ويكون عرض هذه الأراضي نحو ميل أحيانا، وتكون هذه الأراضي ضيقة غالبا، ولا تكاد تبلغ من العمق مائة قدم عموما، وفي الوسط يبرز غرانيت مبلل رمادي لامع، وتبرز جزيرات وصخور من الماء الفائر وتحدث مساقط، ويعد الانتقال المفاجئ من الرمل الأصفر إلى الشفير
17
الأخضر، ويعد خصب أصغر أرض، ويعد عدم وجود منطقة نصف صحراوية، أمورا شاهدة على افتقاد حقول يمن الله عليها بمطر قليل في بعض الأحيان وعلى عمل الإنسان الذي أبدع حديقة على الرغم من البادية بمتحه
18
ماء من النهر في مجراه الحجري.
والساقية - أو الناعورة - هي الجنية التي يعد جميع ما تقدم مدينا لها، وستقوم بمثل ذلك العمل في مصر عندما يبلغ الفيضان السريع نهايته، وترافق النهر ألوف الدواليب ذوات الصريف
19
والقصيف،
20
وتدير ألوف الثيران في عشر ساعات من كل يوم دواليب منتصبة باحثة عن الماء، ويحث كل زوجين من الثيران رجل أو صبي يدور معهما، وأولئك الثيران وأولئك الصبيان هم حفدة ثيران وأناس يمتحون - منذ ألوف السنين - ماء النيل في المكان بعينه وبالدواليب والقواديس
21
بعينها.
وما النخل التي يتخذ خشبها في صنع النواعير تحت وهج الشمس إلا صادرة عن النخل التي غرسها المصريون والرومان والوثنيون والمسلمون والنصارى في تلك الضفاف المستوية، والتي شذبوها على نمط واحد وجهزوها بحبال وأسنان نيلا لدورة الماء وللخصب حتى حدود الصحراء، والدولاب يغني بلحنه المطرد النغم على مسافة ألوف الأميال، والدولاب القديم الأعقد
22
الأقصف يحول طرف الصحراء إلى نهر من زمرد، وذلك كالإله فولكن
23
الذي هو أبشع الآلهة، فكان يصنع حليه من الزمرد بين الذمى
24
والعثان.
25
وعلى الجرف،
26
وفوق النهر، تحرك حبال غليظة دولابا عموديا حاملا نحو عشرين من الجرار الطويلة المصنوعة من طين لازب
27
أحمر، وهذا الدولاب يدور حول جذع
28
نخلة مدمج تدميجا أفقيا في مركزه، وفي الأسفل تغطس كل جرة في الماء وتمتلئ، فإذا ما صعدت ثانية انحرفت من عموديتها وصبت الماء في ساق شجرة مجوفة تجلبه إلى خندق صغير، ويندمج جذع النخل الأفقي - على ارتفاع بضعة أمتار - في دولاب كثيف ثان يديره الثوران حول محور عمودي، ويجلس الصبي السائق لهما على لوح صغير خلفهما، وهو في كل دورة يحني رأسه مرتين تحت نخلة ثالثة اتخذت زافرة،
29
وهو في مرات أخر يسير وراء الثيران ممسكا الرسن غير مضطر إلى الانحناء كثيرا كما في تلك الحال.
وعندما يتحرك الدولاب المحرك يدور جذع النخلة العمودي في مركز خشبي موضوع في الأسفل فيؤدي ذلك إلى الصريف الذي يسمع على طول النيل في بلاد النوبة ومصر، ولا يقدر الفقير على ركز مدار في الأرض لما ليس لديه من جير
30
ومسامير، فترى كل شيء مشذبا في الخشب، والنخل تعطي كل شيء، تعطي جذوعها وشرطها
31
وأوراقها الجافة التي تقي الفلاح حر الشمس، والدولاب وحده هو الذي يصنع من خشب السنط في الغالب. ويسير الفلاح على سنة أجداده فلا يبتاع غير الجرار، وإذا ما كسرت جرة استبدل الفلاح بها - في الوقت الحاضر - إناء من صفيح الزيت أو علبة كبيرة من علب المحفوظات
32
الفارغة.
والعلب اللامعة بنور الشمس هي كل ما بدل في الساقية منذ عهد الفراعنة، وتدور الساقية المصورة على جدر قبور الفراعنة كما تدور اليوم، وإذا ما حركت كل واحدة من الساقيتين أو السواقي الثلاث أو الأربع بزوجين من الثيران بلغ ماء النيل في بضع دقائق منطقة مرتفعة عنه عشرين مترا جافة مجردة منتظرة سعي الإنسان لتستر بالخضر.
تلك هي الآلة السحرية القديمة التي تقوم مقام المطر في الأشهر الثمانية التي لا يأتي النهر في أثنائها بماء جبال الحبشة الذي يفيض على الأراضي الممتدة حوله، ويفقد المحراث فائدته فيجهل أمره في مساوف واسعة في بلاد النوبة، وفي مصر بعدئذ، حيث يصل الماء وصولا طبيعيا أو مصنوعا فينعم بالمحاصيل قسرا، وحيث تقوم ثلاثة أشهر - أو بضعة أسابيع في بعض الأحيان - مقام دورتنا من الخريف إلى الربيع، ويحدث الفلاح حفرا بطرف حديدة، أو بعقب قدم أحيانا، ويرمي فيها بعض الحبوب، ولا يعرف الفلاح سمادا غير الكلأ الفاسد الذي يقلعه، وينبت الحب بسرعة وتبلغ السوق ارتفاع خمسة أمتار في بعض الأحيان، وتعطي الأنواع الجيدة عرانيس ذات خصل كبيرة وحب أبيض ذي غلاف دقيق، وتغني هذه الذرة عن البر والشعير.
ويزرع ابن الشاطئ فضلا عن ذلك ثامرا
33
وفولا وعدسا وقرعا وشماما وتبغا وفلفلا أحمر وخروعا، وينضج أحلى ما في جميع وادي النيل من الرطب حول بربر ودنقلة، وتتخذ طريقة طريفة لتأبير
34
النخل؛ وذلك أن النخل، لقلة ما بينها من فحاحيل،
35
يوزع بينها اللقاح
36
كما في نظام الأمومة، فإذا حل فصل الربيع نمل
37
الأولاد في النخل وجنوا عساليجها
38
المزهرة ورموا الكش
39
على أنثاها وسقوها بماء الناعورة، وإذا هبت ريح السموم حمدوا الله، فالمثل العربي يقول: «ينمو بلح الله ورجله في الماء ورأسه في نار السماء.»
وإليك أناسا سمرا طوالا نحافا، كلهم من عصب وعضل، كلهم من غير شحم بفعل رمل الصحراء وحرها، إليك البرابرة الذين يقيمون بأطراف عروة النيل منذ ألوف السنين، وقد كانوا بدويين فيما مضى، ولا يزال أبناء جنسهم من أهل البدو، ويحلقون شعورهم ولحاهم ملطا، ولهم جباه راجعة، وهم قعم
40
الأنوف، خوص
41
العيون كما تبدو تحت حواجبهم الكثيرة الشعر، وتظهر الحياة على سيماهم من بصرهم، ويبدو نشاطهم وودادهم من أول اختلاط بهم، ويتخذهم أغنياء المصريين في القاهرة خدما وسعاة وطهاة وحوذيين
42
لما عرف من إخلاصهم لسادتهم، ويعدون أكثر أهل أفريقية الشرقية قرى، ويغتذون بالذرة والجبنة وحفنة من التمر، وينامون في الغالب على صندوق قديم من غير أن يزول أنسهم، ويذبحون شاة تكريما لضيفهم، ويبحثون له عن لبن سائغ وبن حسن من مسافة بعيدة، ويحرسونه وقت نومه أو يقصون عليه أقاصيص قديمة تحت السماء ذات الكواكب، وفي لغتهم من البقايا ما ينم على أنهم كانوا نصارى قبل أن يصيروا مسلمين، ولا يزالون يسمون يوم الأحد يوم الرب.
وعاصمتهم - بربر - بقعة خضراء في الصحراء الصفراء، وهي واقعة على مجرى النهر التحتاني بعد مصب العطبرة، وهي - وإن لم تكن مهمة في الوقت الحاضر - كانت أكبر مدينة على النيل الأعلى منذ ثمانين سنة، وكانت السفن الشراعية تقصدها، وكانت منذ القديم سوقا للعاج والذهب، وللنخاسة على الخصوص، وما فيها من حدائق ظليلة لشيب الموظفين والتجار فمدين - بالحقيقة - لعرق الإنسان والحيوان.
وللنيل صوت في تلك المنطقة، والنيل في منطقة الشلالات تلك، والنيل في ذلك المنعطف الذي يجاوز أربع درجات من العرض، يهدر ويزمجر ويرعد ويزبد، ولا مراء في أن فقر الصوان تلك، ولا مراء في أن حواجز الغرانيت تلك: كانت تؤلف بحيرات كبيرة قبل أن يشق النيل لنفسه طريقا، وهي لكي تتوارى وجب انقضاء ألوف السنين في اصطراع الماء والصخر، ولم تنفك الصخور تدرس
43
وتداس
44
بالموج الظافر غير تاركة للموج غير ذرات وحصيات نتيجة لخضوعها، وينقض النهر بين مئات الجنادل والجزيرات ومن خلال الدوافع - التي تبلغ من الطول عدة كيلومترات، مضوضئا
45
ضوضاء زعم كاتب روماني أن أهل الشواطئ كانوا يهاجرون بسببه خوفا من أن يصبحوا صما.
ومهما يكن من أمر فإن ما يخرجه البرابرة من أصوات هائلة في الوقت الحاضر يعد دليلا على أن الضرورة تقوي أي عضو كان، وذلك لبلوغ أصواتهم من ضفة إلى أخرى مع هدير الموج، على حين لا يكاد الرجل الأبيض يسمع صوته لمسافة عشر خطوات.
ولأذننا أن تقضي العجب في تلك الضفاف الرائعة، فالسائح الذي يسير بين كثيبين راكبا بعيرا دانيا من النهر من غير أن يرى رأس نخلة أو يرى صارية سفينة يفتن أيضا بسماعه من بعيد خرير المياه كما كان يفتن أغارقة عصر هيرودوتس بمثل ذلك عند مشاهدتهم البحر. والسائح الذي يمشي على الضفة وقت الفيضان يسمع اختلاط هدير الأمواج باصطكاك الحصا عند زحولها
46
عن الشاطئ بقوة المد.
وتحاول جزر سبع وجزيرات كثيرة عند الشلال الخامس - وبعد سبعين كيلومترا من بربر على مجرى النهر التحتاني - أن تسد مجرى النهر في عشرة كيلومترات على غير جدوى، ثم تتغلب الصخور على الماء حول الدرجة العشرين من العرض الشمالي وبعد الخرطوم بأربعمائة كيلومتر من الخط الحديدي، وتكرهه على الصراع متقهقرا، ويحمل السماط البركاني الثخين - الذي يجوب الصحراء من الشرق إلى الغرب - نهر النيل على الرجوع إلى الوراء للمرة الوحيدة في حياته، وعلى الجريان نحو الجنوب لبضع مئات من الكيلومترات كالعائد إلى منبعه، وهو إذا كان على بعد من خصمه الغرانيتي استأنف جريه إلى الشمال من فوره؛ أي سلك السبيل المعدة له، وذلك كالرجل الذي يغير وجهته ليرجع إليها بقوى مغنطية.
ويقع مرفق أبي حمد والخرطوم وأسوان على خط عمودي واحد تقريبا، وتبدو في هذا المنعطف إحدى جزر النيل الكبيرة، البالغة من الطول عشرين ميلا ومن العرض ثلاثة أميال، شاهدة على اصطراع العناصر ذلك، على حين يضيق النهر بين ضفتيه الصوانيتين ويتسع متناوبا بين مائتي متر وألفي متر، وكان القدماء يبحثون عن الذهب والفضة في جزره، ويتكلم ديودورس عن وجود نحاس وحجارة ثمينة بجانبهما، وهذه إما أن تكون قد سرقت من هنالك، وإما ألا تكون قد وجدت هنالك.
الشلال الثاني.
ولا ينقطع قطاع الطرق عن تلك المنطقة؛ لأن النيل هو السبيل الوحيد بين الصحراوين، وإذا ما لاح لنا قصر قديم أسود براق قائم على شاهق فوق الشاطئ وأبصرنا النهر يؤلف دوافع جديدة ليضيق بين حاجزين أدجنين فيما بعد، ورأينا كوخا هزيلا يستند إلى جندل ووجدنا فيه زوجين وأولادهما يكسبان عيشهما من قطعة صغيرة إلى الغاية واقعة على الضفة تمثلت لنا ذكريات القرون الوسطى؛ تمثل لنا الفارس القاطع للسبيل والتاجر الأسير والفلاح المستعطي، والفقراء هم السعداء كما جاء في الأساطير، ولا عجب، ففلاحو تلك المنطقة يقولون للسياح إنهم لا يعرفون الأمراض.
والشلال الرابع أعنف من الشلال الخامس، فليس الغرانيت والبزلت وحدهما هما اللذان يعوقان النهر، بل يعوقه الرخام السماقي والصوان أيضا، ويقرض النهر في ستة كيلومترات طريقه من تل أسود مغم فيظهر محصورا كئيبا موحشا، وهذا هو أصعب قسم من النيل الأوسط، وأكثر أهل البلاد خبرة هم الذين يجاوزونه، ويتعاون الرفقاء على جر القوارب الصاعدة في الشلالات ضد التيار؛ وذلك بأن يقرن كل دولاب بحبل حتى الدولاب التالي. وجميع النوبيين سباح ماهرون، فإذا أراد أحدهم أن ينزل إلى النهر نفخ في قربته، أو جلس على رمث
47
مذرب
48
مصنوع من سوق الذرة مزودا بخبز وتمر في قشر شمام فيقضي أياما بأسرها عائما سائرا على النيل مدبرا للأمر بيده الماهرة.
وقد يقتل رجما، أو قد يخطف كما كان يصنعه باريس
49
الأسود الشهير الذي كان يغوي حسان بلاد النوبة فيأتي بهن إلى «كعب
50
العبد» الذي لا تزال أنقاضه بادية على الشاطئ. والعبد رقيق بسيط أضل زوج سيده فجاء بها إلى الصحراء الحجرية حيث شاد لها قصرا منيعا، ولم يجد هذا النوبي شاعرا مثل أوميرس يشيد بذكره فلم يكتب الخلود لملك يمينه هيلانة السوداء تلك، غير أن أسطورتها تجري بتؤدة على شفاه الزنوج بين هدير النيل.
ويظهر النهر موحشا بين تلك الصخور والجزر كما في منبعه، وهنالك يستأنف الكفاح بقر الماء والتمساح؛ أي سيد النيل ولصه، وهنالك يرقبان السابح، وعندما يصرع التمساح - نصف المطمور في الرمل - رجلا بذنبه لاعبه كالهر مرعبا إخوانه، وليس لدى هؤلاء ما لدى الشلك من مهارة ووسائل دفاع في مثل تلك الحال، وهم يزعمون أن التمساح يفضل الأبيض على الزنجي تفضيلا يزهد الأوروبي فيه مختارا، ويجادل كثير من الرواد في تتبع التمساح للإنسان على الشاطئ، ويوكد النوبي عكس ذلك فينصح الضحية بالركض دوائر دوائر لإنقاذ نفسه.
ولبقر الماء ما للنبيل من طبائع، فإذا داس في النيل إنسانا أو حيوانا بين حين وحين تركه وشأنه، وإذا قلب زورقا فلأن الزورق صغير، ولأن الرب خلقه كبيرا، وهو لا يجر إنسانا ولا حيوانا إلى الماء أبدا، وهو في السباحة كالفيل في الأرض، وهو بطيء الحركة دمث الخلق طيب المزاج بين قرنائه، وهو في الغالب أقل ضوضاء ودورانا من باخرة نيلية صغيرة تشغل مثله حيز طنين من الماء، وهو ذو لون زيتوني سنجابي،
51
وهو من الجمود ما يعد معه جلمودا بارزا من الماء لو لم تنم شاماته الوردية الجميلة وعيناه وأذناه وخطمه
52
على أنه حيوان، ولو لم يفغر فاه بغتة عارضا أسنانا مائلة بالية كاشفا على لسانه العريض قصف النيلوفر
53
الذي تغنى الشعراء بلطفه.
وليس لبقر الماء عينان غائرتان كعيني الفيل، بل تبلغ عيناه من الكبر ما يخيل إلى الناظر معه أنهما موضوعتان على وجهه، ولبقر الماء بهما مع أذنيه الصغيرتين من قوة الشعور ما يحس به حضور أعدائه، وهو إذ كان لا يخشى أحدا من هؤلاء تراه كثير الهدوء فيما خلا وقت السفاد،
54
وإذا كثرت النباتات المائية لم يخرج من الماء في الليل، وهو يقصد الشاطئ مساء انتجاعا
55
للكلأ، وإذا سمع خواره آنئذ ظن أنه خارج من مغارة فتولى الأدبار لقدرته على سحق ثور عند مروره، وهو يحدث في الحقل الذي يحوبه إذ ذاك حفرا أعمق مما يحدثه محراث حديدي.
ثم يعود إلى النهر الذي هو موطنه.
الفصل الخامس عشر
جاب النيل في مجراه الطويل جبالا ومناقع وصحارى فلم يصادف على ضفتيه أثرا للماضي، ولو كان عمودا مكسورا.
وتبصر من فورك حقلا من الأهرام في مجرى النيل التحتاني بعد الشلال الرابع، تبصر أكثر من أربعين جدثا
1
لأناس من ذوي السلطان، وتبصر في أقصى جنوب منعطف النيل ثمانية أجداث أو تسعة أجداث على سفح تل ومن مسافة بعيدة؛ أي في صنم أبي دوم، فإذا اتجه النهر إلى الشمال مجددا تعاقبت الأعمدة والمباني والأهرام مع فواصل طويلة حتى الشلال الثاني، وإلى أي دور من ظلمات التاريخ تعيدنا تلك الآثار؟ ومن هو الفاتح الذي نقش على الغرانيت وبالخط الهيروغليفي، أسماء قبائل الزنوج الوحشية وكتبها على أوراق البردي لتنقل إلى الأعقاب؟ ذلك الفاتح هم المصريون الذين جاءوا عن طمع في الذهب والعبيد، والذين هم أقدم العروق على النيل وفي العالم الغربي.
والنيل هو الذي عارضهم بشلالاته، والنيل الحافل بالأسرار - وهو كالقسيس الذي يمنع المؤمنين من رؤية وجه الله - هو الذي يلوح أنه حال دون مد الأجانب عيونهم إلى عزلة المياه التي تمن عليهم بالحياة. وهل كان المصريون يتوجهون إلى مجرى النيل الأعلى على زوارقهم؟ وهل كانوا يصنعون زوارق بين الشلالات؟ لا ماء في الصحراء، وكثير ماء في النيل حين الفيضان، فما كان يمكن الأجانب أن يسيروا إلى مجراه الأعلى لهذا السبب، وزمر قليلة فقط هي التي كانت تجرؤ على التقدم عند إغضاء الأهالي الأصليين عن ذلك، ويكون الهلاك نصيبها إذا ناصبوها العداوة، وتدل الأقاصيص الألفية على أولئك المغامرين الذين دفعهم فضولهم فردعهم فزعهم.
ويسير رمسيس الكبير متوجها إلى مجرى النهر الأعلى في نهاية الأمر، ويقيم رمسيس هذا مستعمرات على ضفتيه، ويشيد معابد ومدنا على ضفتيه، ويسكن فلاحين وصناعا هنالك، ويخلد مآثره بإقامة مبان وتماثيل في بلاد النوبة، ورسمت الملكة حاتشبست على جدرها زنوجا جالبين لها مواشي وزرائف وجلود أسود وحلق ذهب مع اتخاذهم أوضاع المغلوبين، وترجع هذه الآثار إلى أربعة آلاف سنة قبل الميلاد. ومما حدث قبل المسيح بألفي سنة أن أوغل الفراعنة حتى النيل الأزرق ذات مرة. ومما لا ريب فيه أن امتد سلطانهم بين سنة 1900 وسنة 1100 قبل الميلاد إلى الشلال الرابع وأن أخذوا من بلاد النوبة عبيدا وذهبا.
ومع ذلك كان النيل يحمي من أبنائه من لم يفتنه الأجنبي، ومع ذلك كان النيل يحطم سفن الغزاة فيهب هؤلاء الأبناء إلى قتلهم، ومع ذلك كانت سياط العرفاء تعلو هؤلاء الأبناء في الغالب فيكرهون على حفر دهاليز في التلال، وتتبع عروق الذهب فيها، وفك الصخور بإحمائها وإسقاطها بمعاول من حديد، وفيما يحمل الشباب على الجثي عراة وعلى جمع القطع التي تسقط على ضوء السرج
2
المترجرج، والحبو
3
بها إلى نور النهار، يسحقها الشيب والنساء برحى حتى تصبح فدرا
4
بحجم العدس فتطرح بعد الفيضان على طول زورق ضيق طويل، ثم تغسل على ألواح حجرية متحنية
5
حتى لا يبقى منها غير شذور
6
لامعة قليلا، ثم يصهر الأجنبي هذا التبر في بواتق
7
من طين مع رصاص وملح مدة خمسة أيام حتى يصنع منها حلقا وألواحا.
وهكذا أضاعت قبائل النوبة أجلد أولادها، وثارت وقهرت فما فتئ أبناؤها يكونون عبيدا.
أجل، يدرك النوبيون معنى نزع الغزاة الأجانب ريش النعامة النوبية الأبيض، وسلخهم جلود الأنمار لأخذها على ظهور الجمال، وذبحهم الأفيال لنيل عاجها، وحملهم أبناء الصحراء الأقوياء على النزول إلى النهر معهم وإلباسهم بزات مختلفة الألوان وجعلهم شرطا
8
على مفارق الطريق، ولكن النوبيين لا يدركون معنى اهتمام سادة البلاد بتلك الأقراص المعدنية الصفر الهزيلة التي ضحي في سبيلها بألوف العبيد؛ وذلك بأن هلك نصفهم في الصحراء أو في النهر، وبأن أعد نصفهم الآخر لتقليب البواتق أو لرقابة المعدنين تحت السياط ، وقد جهل هؤلاء النوبيون إنشاء فرعون في أثناء حياته ضريحه أو قبره المشتمل على ثلاثين ألف رطل من ذهب بلادهم.
وكان رمسيس في القرن الثالث عشر يفاخر بأنه الملك الذي «يستخرج الذهب باسمه من الجبال»، فبلغ من تنظيم مناجمه ما يمكن معه أن ينتفع بها في أيامنا، وكان حذق أولئك الفراعنة يعدل طمعهم، وظل ذهب النوبة - طويل زمن - عنصرا رئيسا من عناصر سلطانهم، والنوبة تعني «أرض الذهب»، ومع ذلك كانوا لا يجهلون ما في الذهب من لعنة، فقد أنبأهم كهنتهم بأن كتابة في مصر الدنيا تقول:
إن الذهب هو جسم الآلهة، وهو غير خاص بكم.
وتحققت تلك اللعنة ذات يوم، ولم يحدث أن خرج النوبيون من الحياة الفردوسية التي ينعمون بها فساروا نحو مجرى النهر التحتاني، والآن يستحوذ عليهم الغضب والفضول والهلع وحب الانتقام؛ فقد علم أحد ملوكهم - بيانكي - ما بين ملوك مصر من شقاق فجمع جيشا، وجاوز الحدود بزوارقه وثيرانه، وقهر أعداءه، ودخل طيبة ومنفيس في سنة 750 قبل الميلاد، وصار سيد جميع مصر هو وذريته من بعده، وقد أتى هؤلاء الفاتحون الوحوش النشاط من كوش الفقيرة، فقبضوا بغلظة على زمام المصريين، وبدوا للمصريين البالغي التهذيب كالهياطلة،
9
وتدل الكتابات على عدم اكتراث ذلك الملك المتخلق بمثل أخلاق البروسيين للحسان في قصر هليوبوليس، وعلى تذمره من نقص علف خيله.
وذهب أحد أولئك الملوك إلى فلسطين نصرا للملك حزقيا على أعدائه الأشوريين، ولا نعرف مدى تأثير المعابد والقصور والفلكيين والملاحيين وأمور نافعة أخرى في هؤلاء الهمج الذين غزوا الحضارة واستقر لهم السلطان عن إرهاب. ومهما تكن الحال فقد طردوا في نهاية الأمر، ولكن مع تزودهم بمعارف كانوا يعدونها ضربا من الأساطير.
وقامت دولة قبل تلك الفتوح وبعدها ممتدة من الشلالات إلى مكان بعيد من شرق بلاد النوبة، وكانت مملكة مروى هذه واقعة في أقصى الجنوب من عروة النيل الكبرى، وكانت عاصمتها نباتة، وكانت مستعمرة الفراعنة هذه قد دعت إلى السلطان كهانا مصريين بلغوا هنالك مهاجرين أو أسارى أو علماء، فيلوح أنهم أوحوا إلى ملوك السود بمغازي الانتقام، فلما عاد الفاتحون إلى بلادهم حاولوا أن يدخلوا إليها فن البناء المصري وعادات المصريين وقوانينهم. ولما أراد الملك بيانكي أن يخلد مفاخره على غرار الفراعنة أو على سنة الطغاة المعاصرين نعت نفسه في كتابات أحد المعابد العظيمة بالكلمة: «جالب السلام إلى البلدين وملك الشمال والجنوب وابن الشمس وصاحب التيجان»، وصور الإله أمون وهو يقدم إلى ذلك الملك سيفا قصيرا، وصور ذلك الملك في وضع يصرع به بضعة نفر من أعدائه.
وظلت تلك المملكة الواقعة بين الشلال الثالث والشلال الخامس حليفة مدة خمسة قرون لطيبة ولإله الدولة - أمون - ذي السيطرة على الحكومة، وما انفك ملوك نباتة يلقبون أنفسهم ب «ملوك البلدين» إلى ما بعد قرنين من سيطرتهم القصيرة على الدلتا. وكذلك الفراعنة كانوا يباهون بأنهم سادة بلاد النوبة مع أنهم أضاعوا كل سلطان لهم هنالك منذ زمن طويل، وذلك ضرب من عناد المستبدين الذين لا يتنزلون عن ولايات يخسرونها، ولكن ملوك ذلك الزمن كانوا يقومون بحملات على رأس جيوشهم. وقد طعن توتموزيس الأول ملك النوبة بيده وبالقرب من الشلال الثالث.
وغابت هالة الملوك تلك في القرون القادمة، وصار الحكم قبضة الكهنة وأسدل ستار النسيان على العادات المصرية، واستبدلت لغة شعبية، حلت وحدها في الوقت الحاضر، باللغة الهيروغليفية التي لم تكن في غير الكتابة الرسمية، ويأتي دور الملك قمبيز الأسطوري، ولا أحد يعرف كيف وقع ذلك. ويشيد كتاب من الأغارقة بذكر ذلك البلد العجيب بحماسة كبيرة فلا يضع أحد ما يقولون على محك النقد، ويرتد الملوك المحليون حتى الشلال الرابع ليتعذر قهرهم؛ وذلك لما لعاصمتهم الجديدة مروى من حماية بالنيل، ومن عدم جعلهم عرضة لأي اعتداء كان، ويروي استرابون أن الملوك هنالك كانوا ينتخبون من أجمل الناس وأكثرهم مهارة وأعظمهم بسالة، ثم خلف هؤلاء الأجداد القساة خلف ضعاف، فخضع هؤلاء الأعقاب لكهان كانوا يقولون إن الآلهة هي التي تملي عليهم أوامرهم الغادرة، وكانوا من السلطان ما يفرضون الانتحار معه على الملوك، ووجد من هؤلاء الملوك واحد فقط لم يمكن الكهنة من نفسه قاتلا الكاهن الأكبر .
النيل بالقرب من بلاق.
وكانت الأم الملكة تقوم في أثناء صغر الملوك بشئون السلطة وصية على العرش مع إشراف الكهنة، وكانت تحتفظ بالسلطة لنفسها زمنا طويلا، وقد فتحت إحدى هؤلاء الملكات جزءا من مصر العليا ووصلت إلى أسوان وبلاق،
10
غير أن شعبا جديدا مرهوبا كان يستولي على البلاد، غير أن الرومان أرسلوا جيشا للانتقام بسبب إهانة وجهت إلى إمبراطورهم الذي كبكبت تلك الملكة تماثيله، فأوغل هذا الجيش في البلاد فبلغ الشلال الثاني. ويمضي ألفا سنة فلا يقوم بمثل ذلك العمل أحد سوى جيش للعرب.
وهكذا يتناوب الحقد وحظ السلاح وضروب الانتقام ذينك البلدين الواقعين على ضفاف النيل، وذلك حتى سنة 300 بعد الميلاد حين غادر الإمبراطور ديوكليسيان بلاد النوبة.
الفصل السادس عشر
ترى الأرض الضيقة الممتدة على طول النهر حين اتجاهه إلى الشمال مستورة بالنخل، وترى واحات كثيرة على طول الطريق الممتدة بين الشلال الرابع والشلال الثالث والبالغة ثلاثمائة كيلومتر.
ويكون الطير حيث يكون الحب، ويقف الأولاد لاصطياد الطيور مع وجود الحر، على أتلام
1
معروفة ويحركون أغصانا في النهار كله، على حين تصرف النواعير التي لا تعرف التعب وتدور الثيران الكبيرة، التي يتدلى جلد عنقها كمئزر، مدة عشر ساعات تحت وهج الشمس إصعادا للماء، ولا نعلم فيم تفكر، ومن طبيعة الإنسان أن يقنع نفسه بأن عبده - إنسانا كان أو حيوانا - راض بنصيبه، ومما يخيل إلينا أن حصن دنقلة البيض المعروفة منذ القديم تقضي حياة طيبة، ومن المحتمل أن تحسد في أثناء عدوها شبه الوحشي ما تراه من البهائم يدور دورانا دائما بخطى هادئة رزينة.
وتكدس آثار ألوف السنين في هذا القسم من المنعطف الذي تسير القوافل من ناحيته الجنوبية إلى الجنوب.
وتضجع قطعة من الصوان على الأرض بالقرب من دنقلة، وتترك هذه القطعة هنالك منذ خراب بيت من طين، وكانت تتألف منها إحدى زوايا هذا البيت الذي كان جنود من الاسكتلنديين ينزلون فيه أيام حملة كتشنر الأخيرة. ومما لا ريب فيه أن كانت تلك القطعة دعامة لناعورة لا تاريخ لها، وكان البناءون قد نزعوا ذلك الحجر من قبر عربي، وكان ذلك الحجر قد حال - هكذا - دون غارات العقبان على جثمان عبد دفنه ابنه التقي سرا منذ بضع عشرات من السنوات، وكان هذا الابن قد فصل الحجر ليلا عن أحد الحصون التي أقامها المماليك لمقاومة محمد علي، وكان هؤلاء المماليك قد خلعوا الحجر من زاوية مسجد شاده صلاح الدين في القرن الثاني عشر حينما أمر بقتل جميع الأساقفة بعد دور طويل من السلام.
وكانت النصرانية في وادي النيل الأوسط ذلك مسيطرة على كثير من الأماكن مدة تزيد على ستة قرون. فمن الممكن أن كانت تلك القطعة حجر زاوية لكنيسة شادها الملك سلكون الدنقلي تكريما للقديسين، وكان الصليبيون المدرعون في ذلك الزمن يربطون حصنهم الجميلة بحلقة ثابتة في الحجر عندما يدخلون تلك الكنيسة قبل اقتحام مخاطر الصحراء ضارعين إلى العذراء أن تحميهم؛ وذلك على أن يفك هؤلاء الفرسان جيادهم من حلقة الحجر، وأن يهمزوا بلطف خواصرها مع إمساك ركبها
2
بمقدم أحذيتهم فقط، ولا يزال أثر الحلقة منظورا حتى اليوم، وارجع البصر إلى ما هو أقدم من ذلك تجد الحجر جزءا من رواق معبد بتحور الذي تقوم أعمدته الحجرية الرملية الحمر، حتى الآن، على مدخل غابة النخل فتعد شاهدة على عمل إغريقي أتى متأخرا، والذي يحتمل أن يكون قد كرس
3
للإله مارس الذي يدعو اسمه الروماني في مملكة تروى إلى الحيرة، ثم إن العبيد الذين عملوا في ذلك البناء كانوا قد انتزعوا الحجر من قاعدة تمثال ضخم لفرعون نجهل اسمه مكبكب على شاطئ دنقلة منذ مئات السنين.
وكل شيء زال، فقضي أمر الحضارات والديانات والفاتحين والمغلوبين الذين عبدوا النور والقوة بأسماء وسمات مختلفة، حتى أولئك الذين كانوا يعتقدون أن القوة في الرحمة، وهم قد أرادوا تمجيد الحياة بالحصون والمساجد والمعابد والحاميات، وهم قد تواروا ونسوا، وهم قد ذوى مجدهم، وصوان النيل وحده هو الباقي، هو الأبدي، وهو قد احتمل الضغط وإزميل
4
النقاش وثقب الزرفين
5
والناعورة والقبر وألوف السنين، وهو ضاجع على شاطئ النهر، والنهر يمسه مسا خفيفا دائما من غير أن يفنيه.
والغرانيت في مجرى النهر الفوقاني من دنقلة يقاوم الموج من جديد، وتقسم النهر جزيرة أرغو التي هي أطول جزر النيل والبالغ طولها 35 كيلومترا، ويتبع هذه الجزيرة بضع جزيرات وكتل صخرية يضيق بها النيل ويرغي ويزبد في سبع دوافع.
والنيل يغير منظره في الشلال الثالث، وعلى بعد 1100 كيلومتر من الخرطوم، ووسط العروة الكبرى، فيقل الشعور بالسهب، ويكون مجرى النهر أقل عرضا، ويغدو بقر الماء نادرا، وتنم على الحضارة عصابات لصوص أحسن تنظيما، وكل شيء يشجع هذه العصابات الراكب رجالها خيلا أو جمالا على مهاجمة المسافرين، وتفرض تلال على النهر منعطفا مفاجئا من الشرق إلى الغرب، وتدفق سلسلة جبال مرتفعة بعض الارتفاع فينزل عليها ماء السماء في الشتاء أحيانا، ويجري النهر من جديد في مضايق ومسايل من رخام أحمر وأخضر، ويبلغ النهر في بعض المرات من الضيق ما يستطيع معه نوبي ماهر أن يرمي حجرا من ضفة إلى أخرى؛ أي على مسافة ثمانين مترا، وتحول منعرجات كثيرة وصخور ضاغطة ودوامات غير قليلة دون كل ملاحة في ذلك الوادي الذي يدعوه العرب بلسانهم التصويري المرن «حياة الحجر».
وأهل تلك المنطقة أقل مهارة في الملاحة من إخوانهم في الجنوب، فتغرق في الغالب أرماثهم المصنوعة من أربعة سوق من النخيل المحدبة قليلا من الخارج إلى الداخل والسيئة الإدارة بمجاديف مفلوجة من أعلاها. وأما في السباحة فلا تجد أبيض يجيدها مثلهم، والأسود يربط مطرده
6
على رأسه ربطا أفقيا ويعبر النهر سابحا، وعلى الأسود أن يجاوز الماء ليصل من أوعر ناحية في الضفة إلى حقله الضيق ويبذر فيه حفنة من الحبوب أو اللوبياء، وذلك على أن يعود إليه ليحصد ما زرع ويجلبه إلى كوخه سابحا حاملا إياه على رأسه، وإذا عدوت المحيط المتجمد لم تجد مكانا يعسر كسب العيش فيه كما في ذلك البلد.
ومن يملك في تلك البقعة كوخا وبقرتين وأربعة من المعز يتكلم عن واحته، وتعد الناعورة دليلا على الغنى، وتعد النخلة دليلا على نعمة الله، وتلوح مآثر الدول الكبرى الغابرة بين علائم العيش الراهن الهزيلة، ومع ذلك لم تكن الأعمدة الهائلة التي نصبها أمنوفيس وتوتموزيس وسيزوستريس للإشادة بمجدهم في وسط سوق ولا على طريق تجارية زاخرة، وقد حملت خنزوانية
7
الفراعنة ألوف العبيد على تمجيدهم بين الصخور السود والصحراء الصفراء المغراء وفي سعير معم وفقر لا ينطوي على رعائية شعرية منذ ذلك الزمن، ولو كان لأولئك الملوك غنية عن إعجاب جمهور من الحضور، ولو كان أولئك الملوك يعلمون أن مآثرهم المنقوشة على الحجر مما لا يراه غير بضع مئات من الرعاة العراة ومن الفلاحين الذين جففتهم الشمس، لاعتقدوا أنهم أنداد الآلهة بما شادوه وبما فكروا فيه لألوف السنين. ومهما يكن الأمر فإننا نعلم من أحد تلك الآثار أن مستوى النيل الاعتيادي كان في عهد أمنوفيس الثالث أعلى مما هو عليه في الوقت الحاضر بثمانية أمتار؛ وسبب هذا الفرق هو عمل الماء في ثلاثة آلاف سنة.
ومع ذلك نقشت كتابة وجب تفسيرها للسكان المحليين جيلا بعد جيل. فبالقرب من وادي حلفا، وفي نهاية الشلالات، وحيث يصبح النيل صالحا للملاحة، أمر أحد الفراعنة بأن تنقش على عمود من الغرانيت الكلمة:
يحظر على الزنوج بعد هذا الموضع أن يسيروا مع النيل على سفينة.
وفي الزمن الذي وضع فيه ذلك الإنذار المتوعد كان حد مصر الجنوبي هنالك، بالقرب من الشلال الثاني، وعلى مسافة 1500 كيلومتر من مجرى النهر التحتاني بعد الخرطوم، ولا يزال حد مصر الجنوبي في ذلك المكان، وهذا الشلال الثاني مؤثر في النفس أكثر من سواه، وهذا الشلال بركاني مجرد من النبات، ولهذا الشلال منظر المهالك، وإذا ما دنا الإنسان منه خيل إليه أنه أمام جحفل من بقر الماء المتحجر البارز اللامع على نور الشمس، وذلك لتدوير الماء كل شيء، وما يحدث حول الصخور من دوران مائي خفيف فيقوي الوهم.
وترى من فوق جندل أبي صير، وعلى ضفة النهر اليسرى، حجارة أكثر من الماء، ويرى في الشتاء ثلاثمائة وخمسون جزيرة، ويبقى من هذه الجزر حين الفيضان أكثر من مائة جزيرة ، والناس يسكنون خمسين جزيرة منها على الأقل، وهي تشتمل على أكواخ من طين لازب، وعلى أشجار سنط قوية قاومت كثيرا من الفيضانات، وتبدو أتلام حقول الفول والعدس مربعات متروكة لأولاد في زاوية من حديقة، ويذهب الأهالي إلى الحقول مرتين في كل عام راكبين زوارق شراعية أو قوارب ذوات مجاديف، وذلك للبذر والحصاد.
وتمتد مدينة وادي حلفا الصغيرة على ضفة النيل اليمنى، وذلك مع وجوه أبلية بيض وكثافة سكان ونخل، ويسيطر عليها تل فوق الضفة اليسرى يذكر بكثبان شاطئ البحر العالية، وما تبصره من نزول الذهبيات مع النهر ومن بدء الخط الحديدي ومن تلبث في الملاحة فأمور تهب الحياة إلى المصر، ويخفق علم مصر الأخضر وحده فخورا بعد الآن.
ويتم النيل مغامرته الثالثة مسرورا، ويجاوز النيل منطقة الشلالات سعيدا، هو يسير متئدا عريضا جليلا أكثر مما في الخرطوم، هو يدخل مصر.
الفصل السابع عشر
وليست مصر هنالك بعد، وتمتد المنطقة الواقعة بين وادي حلفا وأسوان، والمسماة نوبية الدنيا، 350 كيلومترا على طول النيل، وهي شديدة الانعطاف نحو الشرق، وهي من أفقر أجزاء مصر وأشدها وحشة، وقلما تجد فيها أراضي مزروعة يزيد عرضها على مائة متر، وتكاد الصحراء تمس نهر النيل في الغالب.
وتماثل حياة الفلاح المصري هنا حياة أخيه في الشلالات، وكلاهما نوبي، وكلاما تابع للساقية والفيضان، ولا أثر هنا لما يتخذ في بناء البيوت الحجرية والخشبية من غرانيت ونخيل. والبيوت تصنع من طين النيل فيما بعد، ومن هنا كان الرتاج
1
المصري الذي فرضت مادة النيل الطينية شكله فجعلته كأبراج الرمل التي يصنعها الصبيان على الساحل.
وكانت نوبية الدنيا في القرون القديمة منطقة يمر منها المصريون إلى السودان لجلب العبيد والذهب فظلت الطريق الممكنة الوحيدة المؤدية إليه في قرون كثيرة، وتركت الحصارات المتعاقبة آثارا غريبة هنالك، وإليك ضفة النيل اليسرى بالقرب من وادي حلفا، وإليك بقايا قلعة أقيمت في القرون الوسطى بالقرب من معبد منحوت في الصخر حيث تبصر نقوشا مصرية قديمة بارزة رسمت عليها صور قديسي النصارى، وحيث تبصر رأس الإله خنوم الكبشي ينظر إلى القديس إبيماخوس، وحيث تبصر الإله أنوكت يرضع أحد الفراعنة، وحيث تبصر العذراء تضم الصبي يسوع إلى صدرها، وترى على القبة مسيحيا بزنطيا يرفع يده متوعدا، وترى بجانبه الملك حارمهاب واقفا أمام الإله توت.
وتبصر بقايا معبد لهاتور بجانب أنقاض حصن نوبي يرجع إلى عهد مملكة مروى، وتبصر بجانب هذا المعبد قبورا إسلامية، ونقش كاهن قبطي على بعد من ذلك - وفي معبد الدر - اسم إبراهيم بين صور الآلهة المصرية معتقدا أن ملكا نوبيا كان قد صلبه في ذلك المكان، وقد تقاتل الكهنة والملوك، والآلهة والعبيد، والقديسون والفلاحون، حول اسم الرب وصورته فدعاهم إليه وجعلهم رملا.
وتسير الصحراوان على ارتفاع مختلف على طول النهر، وترى في الغرب صحراء ليبية الصفراء كالذهب مع جبال سمر، وترى في الشرق صحراء العرب الأكثر صخرا وذات اللون الأسمر الرمادي، وتعوق الملاحة بينهما كثبان عريضة.
والبواخر بيض قريبة الغور، ويأتيها الفحم من بعيد؛ يأتيها من نيوكاسل، وتبقى مواقدها غير مغلقة في هذا البلد العاطل من المطر فيخيل إلى الإنسان مرور قطار على النهر، وتجر سفينة أختها حيث يكون السود، ويظن المسافرون في كل منهما أن من على الأخرى هم من مسافري الدرجة الثانية، وتسير الجارة والمجرورة على الأمواج رويدا رويدا رمزا إلى القهر الذي يجمع بين العرقين. أجل، تجد الآلة والدماغ الموجه عند البيض، غير أن الأيدي الوقادة شديدة السمرة كأيدي الزبن
2
في الباخرة الأخرى، وهذه الباخرة الثانية هي التي تنقل محاصيل البلد إلى الشمال.
وتنتصب بين هذه التلال وبين الماء أربعة تماثيل ضخمة من الحجارة الصفر على بعد ستين كيلومترا من مجرى النهر التحتاني بعد وادي حلفا؛ أي في أبي سنبل، حيث تصل تلال ليبية إلى النيل، فترى الرجل بعينه جالسا أربع مرات أمام جدار معبد، ترى إلها، ترى ملكا على ما يحتمل، ترى معبودا متوجها إلى مطلع الشمس منذ ثلاثة آلاف سنة حين استخرج من المقلع، أو هذا تمثال أب منصور أقامه له ابنه، أم تمثال بطل ممثل لإلهه الحافظ، أم تمثال ابن باسل خلدته به أمه الملكة، أم أثر لملك نذره رعاياه للآلهة بعد موته؟
كلا، وإنما هو تمثال رمسيس الثاني الذي خلد نفسه بنفسه، وقد دام عهد هذا العاهل سبعا وستين سنة، فكان لديه من الوقت ما يسهر به على مجده، فأقام في سبعة أمكنة لآلهته ولنفسه أضخم ما في مصر من المعابد التي يعد هذا المعبد القائم في أبي سنبل بالقرب من الحد الجنوبي صغيرا بجانبها، وهكذا ضرب أعظم الأمثال على عبادته الذاتية في القرون القديمة، وما كان ليلقب برمسيس الأكبر لولا تلك الدعاية الجامحة القائمة على تكرار اسمه بلا انقطاع، ثم حمل الأباطرة بعد زمن زمرة الكهنة المهرة على التصريح بأنهم «رسل الله»، أو حملوا فريق العلماء على التصريح بأنهم «منبع الحكمة»، ولكن ما هو معنى هذا، وما هو شأن خطباء زماننا الشعبيين بجانب ملك كان يحمل على نحت تمثاله الخاص في جندل على أربع نسخ متصلة وعلى ارتفاع عشرين مترا ليكون جالسا عند آلهته؟
أجل، هو رمسيس الطويل الأنف طولا تاريخيا والمدور الوجه قليلا مع لين، هو رمسيس الحامل لتيجان مصر العليا ومصر الدنيا، هو رمسيس المولي وجهه هادئا شطر الشرق والواضع يديه على ركبتيه، هو العملاق الذي لا يخشى شعاع الشمس، والذي يلقي نظرة بعد استراحة ليلية على وادي النيل الذي يصحو، وهو يرى تحت عينيه وتحت السماء الزرقاء حقل شعير صغير قريب من ساقية باكية منذ عهده، على ما يلوح، فيحركها ثوران ذوا خطى بطيئة، وتذهب امرأة مدثرة بإزار أسود وحاملة جرة لملئها من النيل البالغ الزرقة، والذي يحدث نسيم الصباح عليه غضونا فضية صغيرة، ويتوجه إلى الشاطئ شراع أبيض، ويصعد غلام في الصاري لرفعه، ويمس طرف الصحراء شفير الضفة الوحل.
ومهما يكن قدم ذلك الملك ذي التيجان الأربعة هنالك، ومهما يكن جبروته، فإن النيل أقدم منه وأقوى ألف مرة، والملك مدين لموج النيل بسلطانه منذ أجيال وأجيال، ويكسر أحد تماثيل الملك الأربعة، ويضجع نصفه الفوقاني في الرمل كما لو كان طاغية مزقه عبيده الثائرون، ويبدو بعض الشيء بين سيقان تلك التماثيل، يبدو آل رمسيس، يبدو زوجه وأولاده، ويعرض تمثال والدته التي كان من قلب للطبيعة ظهورها بين ساقي ولدها الهائلتين، وهنالك نقش رمسيس اسمه بين قدميه كما نقشه على ذراعيه وعلى قلادته.
ثم أتى قواد جيش ومرتزقة فرأوا أن يحصدوا نصيبهم من المجد فسجلوا مآثرهم على أعضاء ذلك الملك القديم وقاعدته، فكانت الكلمة:
نحن أرخون بن أموبيخوس، وبليكوس بن أودوموس، قد سجلنا ذلك.
وغدا هؤلاء القادة النكرات الهزلى،
3
الذين أتت بهم المصادفة إلى هنالك، أشهر من ذلك الملك الأكبر الذي نقشوا بين أباهم رجليه أسماءهم، وذلك لاستطاعة كثير من السياح في الشرق أن يقرءوا اليونانية على حين لا يفك الخط الهيروغليفي غير بضعة علماء.
وأعلن رمسيس نصف ألوهيته في داخل الكهف بأن مثل بسلسلة من التماثيل البالغة من الارتفاع عشرة أمتار، ويبدو الإله الشمس ذو الرأس الصقري أصغر من الملك في كل مكان، وفي تصاوير الجدر يقدم رمسيس إليه قربانا مع صورته المؤلهة، ونرى رمسيس أيضا يتناول السيف من إله ويقتل عدوه ويرمي من فوق شرفة خصومه الضارعين والطالبين عفوه، ويأمر بإحصاء أيدي أعدائه المقطوعة في الحرب أو يقود موكب المغلوبين أمام تمثاله المؤله.
وتصبح عبادته الذاتية هذه من الفن في بعض الأحيان، فيكون للملك القاتل عدوا، والجاعل خصمه المقهور تحت قدمه، روعة نقش يوناني بارز، وهو يصغي إلى امرأة تمسك زنده بلطف، وتبارك الملكة برفع الذرعان إلاهتان مزينتان بمثل زينة اليوم حاملتان مفتاح الحياة.
وفي الصباح تنفذ أشعة الشمس في ذلك الغار، وتنير هذا المزار الذي هو قدس الأقداس، ويمن ضياء الكهربا الكشاف في الليل بمنظر جامع مفاجئ، وينعم بمظهر مؤثر إلى الغاية، ولا نبالي - مع ذلك - بهذه الأشكال والكتابات المجاوزة الحد كما نبالي بما ينطوي عليه الخط نفسه من صور فنية، ولا تسترعي أسماء الحيثيين والنوبيين والليبيين أسماعنا كما يسترعيها دوي تلك الأمواج من بعيد.
ولا يوجه انتباهنا شيء من وثائق الحمق الملكي لو لم تدلنا هذه الوثائق - من خلال مناظر ذات فن صبياني - على الحياة في الزمن الذي وضعت فيه، وبها نبصر جنودا وعبيدا، ونبصر المصريين وأعداء المصريين يعيشون في المعسكر ويعلفون خيولهم، وترى في المعبد المجاور للدر، وبالقرب من رمسيس نفسه، فرارا آخذين جرحاهم على حين ترى في الضفة الأخرى أهلهم ينتظرونهم حزانا مع مواشيهم، وترى زنوجا يقدمون إلى الملك قرودا وكلابا سلوقية ونعاما وزرافي وعاجا وذهبا، وترى امرأة حاملة طفلا في سل مربوط بعصيبة على جبينها، ويؤتى بجريح إلى قريته حيث تجلس امرأته القرفصاء بالقرب من النار، وحيث تقف فوق متراس امرأة أخرى حاملة طفلا على ذراعيها، ولم تؤثر فينا هذه المناظر الصغيرة أكثر مما تؤثره الصخرة التي تحولت إلى إله؟
أفلا ترون الارتباك النفسي الذي توجبه فينا عظمة ذلك العاهل في تلك الصحراء ناشئا عن النهر المنتصب بجانبه؟
الفصل الثامن عشر
يسير النيل للقيام بمغامرة رابعة، ولا يبصر النيل خصمه، ولكنه يشعر بنتائج اعتدائه فيزيد همه، وهنالك ما يضغطه، وهنالك ضغط أشد هولا من جميع ما حدث من عهد سقوطه الأعظم وسيره في المناقع أيام شبابه، وهنالك ضغط أدعى إلى الهلع مما في الشلالات أيام كهولته، وما فتئ مستواه يرتفع من غير أن يتلقى ماء مطر، والنهر يعلو حتى مسافة 350 كيلومترا من مجراه الفوقاني قبل أسوان، بيد أن هذا ليس الفيضان الأكبر الذي تسفر عنه أمطار الصيف النازلة على جبال الحبشة فتصب في النيل الأزرق، وتقف النيل قوى حافلة بالأسرار.
ولو كان النيل ذا ذاكرة لقال في نفسه إنه لم يحدث منذ ألوف السنين من حياته أن غمر البلاد في الشتاء خلافا لما اتفق له منذ ثلاثين عاما، وأكثر من ذلك إلغازا هو أن مياهه ترتفع وقت الحصاد وتهبط في الصيف وقت الفيضان.
والآثار الدالة على سرعة هذا التحول في الشتاء كثيرة، ومنها انتصاب شعاف
1
النخل في النهر من غير أن تنبت النخيل فيه، ويمس حيزوم
2
الباخرة جدرا فيحولها إلى غبار كما لو كانت مدينة إيس
3
قد بلعت هنا . ولكن تلك الجدر ليست سوى أكواخ ترابية أقامها فلاحون فترجع إلى الذي جهزها بالمادة، ترجع إلى أبيها النيل، ويبرز رأس الناعورة من بين الأمواج، وتكون جزيرات عندما تسقط النخل ويتراكم الطين هنالك، وهي ليست من نوع الجزر العائمة في المناقع. والأمر هو أن الجزر القديمة تبرز في الزمن الراهن، فيعود أهلها إليها بالزوارق، وينمل الأولاد في رءوس النخيل البارزة من الماء والمستورة بالثمار، وإن ظلت شبه غارقة تسعة أشهر من شهور السنة.
وينتصب على التلال المتصلة بالضفاف الجديدة بيوت من طين لازب، ومن حجر في بعض الأحيان، لظهور الغرانيت ثانية هنا، وتبدو هذه البيوت - تحت طلائها الكلسي الجديد - متجهمة كالحصون في ألواح النحاس القديمة، ولا ترى لهذه البيوت نوافذ، ولا تضيء الشمس وجوهها، وتشعر شرفاتها الغريبة بأنها مهجورة، وتذكرنا بالنماذج التي وضعها مهندس لتغيير المنظر.
وتنزل نسوة من عل لزرع طرف حقلهن، ويكون للطين المجمد مظهر رصيف على طول النهر، وتمر من هنالك نسوة على ظهور حميرهن الصغار، والنساء وحدهن هن اللاتي يسرن ما دام الرجال كناسين في القاهرة أو منظفي أطباق في مطاعمها، وهؤلاء الرجال هم أكثر أمانة وأقل ذكاء من فلاحي مصر الدنيا، وهؤلاء الرجال يهاجرون إلى السودان ليكونوا خدما عسكريين لدى ضباط كتشنر، ولكن لسنة واحدة فقط، ثم يرجعون إلى أزواجهم.
ويصعد حظ هؤلاء الفلاحين ويهبط بين هذه الضفاف الوعرة الجديبة، وقد رفع خزان أسوان مرتين، وغمر في كل مرة مساكن ألوف الأسر، وقدمت إليها أراض في مصر الخصيبة، وهي لم ترد مغادرة تلك التربة المرت
4
ذات الوحل والحجر التي عاش عليها أجدادها، وهي قد أقامت أكواخا جديدة في أماكن أكثر ارتفاعا، وظلت النخل الخائضة ملكا لها، وظلت تعدها شجر آبائها، وتود أن تأمل رطبها وإن وجب أن تصل إليها راكبة سفينة.
وتكونت أشباه جزر فيجري النهر من بينها في فيوردات
5
صغيرة، وتستر شواطئها قرى خربة وسيغمرها الماء في الشهر القادم، ويترجح عرض الأراضي المخضرة في شهر فبراير بين خمسين مترا وثلاثمائة متر، ويضطر النوبيون بعد الحصاد إلى نقل حبوبهم إلى منازلهم الجديدة، لكيلا يجرفها الماء في فصل الشتاء.
والدر مدينة صغيرة يجعلها ارتفاعها القليل في حمى من الفيضانات، وهي تقع في نهاية منعطف النيل، وتقرب منها كروسكو حيث تفرض الجبال على النيل عروة قصيرة متجهة نحو الجنوب الشرقي، وتقع هذه الجبال في بقعة خصيبة يخرج جذر النخلة الواحدة بها عدة أصول، وهنالك يبدو الناس أصحاء نشاطا، وتبدو السوق زاخرة، وتلمع البيوت من خلال شجر السنط الأصفر، وهنالك كانت تحمل الجمال فتبلغ أبا حمد عند الشلال الرابع في ثمانية أيام أحيانا قاطعة عروة النيل من الطريق التي يتبعها الخط الحديدي في الوقت الحاضر. ومن هنالك كان حجاج مكة يسيرون نحو البحر الأحمر. واليوم تزمر وتبوق سيارات فورد الصغيرة في الطرق فتنتظر جمال كردفان الجميلة باسرة
6
كأنها تعرف أنها صارت لا تساوي أكثر من جنيهين بعد أن كانت تساوي عشرة جنيهات، وأن نزول قيمتها جعل منها في القاهرة جزورا،
7
مع أن غوردون وكتشنر جابا الصحراء على متون آبائها فكانت حاملة أول رسل للحضارة في سهوب السودان الموحشة.
والسد يجعل النهر عريضا مقدارا فمقدارا، ويصبح النيل بحيرة عند حدود مصر الحقيقية؛ أي في دائرة السرطان، والمنظر خيالي أسمر باهر خال من النبات، ويبدو الحجر والربى والجزر والصخور الطريفة الأشكال والمصقولة المركومة ركما مستديرا غريبا، وتبدو الجنادل مستوية أو عمدا أو كتلا أو أطوادا. وهكذا يظهر الشلال الأول - شلال أسوان - تكرارا للشلال الثاني، ولكن مع اتساع لا حد له، وبدلا من ضفاف نهر لا يرى منه غير شواطئ بعيدة من الغرانيت الأحمر واقعة حول شفير تلك البحيرة نصف المتحجرة التي تنتصب خارجها رءوس نخل كأرواح الغرقى في رؤيا دانتي، ويبلغ ذلك السماط السائل من التأثير في النفس والبعد من الحقيقة وإعشاء الأبصار ما لا يعجب منه الإنسان إذا ما اشتعل، ويلوح القطار الأبيض المواجه؛ أي الشلال، أنه تنين مستعد للوثوب على الملاحين الذين يصلون إلى هنالك.
ومع ذلك تزلق قلوع الزوارق الأولى التي هي مصرية خالصة فوق تلك البحيرة كالطيور السوانح
8
مع أعلام مختلفة الألوان على السارية أو المرنحة،
9
وهي تمس سعوف
10
النخل المغمورة مسا خفيفا، ويضع الربان ذراعه على السكان
11
ويشتد تجاه ريح الشمال، ويرتد قميصه الأبيض متموجا إلى الوراء كالإزار في تمثال فيكتوار،
12
وتبلغ صخور الأساس الحمر حتى الخصر، وتحيط به الصحراء الصفراء التي تعمي من كل جانب على حين يقترب الزورق من تيجان الأعمدة الطريفة.
أبو سنبل.
وتنصب الرتج
13
والعمد رءوسها خارج البحيرة، وهي بقايا خيال ساخر في الماضي غير مبال بدساتير الحياة الراهنة، وهي ظلال ذكريات آلهة آفلة، وهي حلم روح روائية تبكي كل شيء رهين الفناء، وتستحوذ الأفكار على المسافر الذي يدنو من جزيرة الفيل (بلاق) فوق زورق، وذلك في الشتاء حين ارتفاع المياه، وحين يرى عصيفيرا يحرك ذنبه عند مستوى الماء وعلى إفريز أوزيرس الذي هو عاهل غطريس يغسل رجليه في النيل وعلى تاج إيزيس الذي يظهر وحده من بين الأمواج، ويمس المجداف سقف صرح
14
أقل ارتفاعا، غير أن الثقوب، غير أن الأجزاء التي نزعت بالإزميل، تدل على أن حسد القساوسة أدى إلى مضار أكثر مما أدى إليه السد الذي ما فتئ يغمر معبد بلاق منذ ثلاثين سنة، فإذا حل فصل الخريف وفتح الخزان وعاد النيل إلى مستواه العادي بدت المعابد جافة كما في الماضي، ولكن مع استتار الجدر بطبقة من الطين الضارب إلى خضرة، ويمكن هذه الأماكن المقدسة أن تصلح لسكن الجن.
وكان المصريون والنوبيون يمضون عقودهم حول السلم أمام هذه المعابد، التي هي ضرائح لآلهتهم، أيام كانت غير مغمورة، ومن المحتمل أن وضعت كليوباترة ذراعها على يد عبد جالس القرفصاء في ذلك المكان الذي يبني الخطاف وكره فيه. وهنا كان السلطان بعدها لآلهة الأولنبيا، بيد أن القيصر هادريان أراد أن ينال حظوة لدى الآلهة المصرية فعبد إيزيس وهوروس خارج رومة، وصور منبع النيل على جدار؛ وذلك بأن جعل إله النيل جالسا مع أفعاه عند قاعدة صخرة صابا الماء من جرتين على حين ينظر إليه عقاب وباز.
وكانت هجرة إيزيس إلى هذا الطرف الجنوبي حين تم النصر ليسوع في الدلتا، ثم وضع كهان تمثال العذراء بين الآلهة المصرية، ثم جاء أتباع محمد فقلبوا تلك الصور واستبدلوا آيات قرآنية بها، غير أن المباني الرائعة التي شيدت في القرن الثالث الذي هو عصر الانحطاط كانت قائمة، وهذه المعابد، التي هي أصغر من الأخرى وأهيف، والتي هي أكثر من الأخرى أناقة وزخرفا، عاطلة من المسحة الكلاسية،
15
وهي لا تزال واقفة في وسط النيل ولم تصبها العناصر بضرر، وما تتصف به هذه المعابد من فرط الزينة فيجعل منها منظرا من المزمار المسحور، ولم تزل هذه المعابد في حال حسنة عندما نقش الفرنسيون أسماءهم على الجدر البطلمية، وقد عني الفرنسيون بجعل أسمائهم على ارتفاع يمكن أن ترى به فوق الرتاج الشرقي من الزورق، وقد سار الفرنسيون على غرار الفراعنة فأشادوا بذكر معركة الأهرام مع درج جميع أسماء الجنرالات، ثم جاء إنكليزي فحك اسم نابليون عن حنق، ثم جدده ابن لنابليون فأعاده إلى ما كان عليه مع الكلمة: «لا يجوز تدنيس صفحة من التاريخ»، فهذا يصلح أن يكون درسا للمتعصبين في زماننا.
وإذا ما صعدنا فوق رتاج بمراق من حديد، ونظرنا إلى الغرب وقت المساء، فإننا نبصر تكرار ألوان المعبد الرائعة في الطبيعة، نبصر بحيرة النيل زرقاء كالعظلم،
16
ونبصر النخل رمادية خضراء، ونبصر الجبال المجاورة برتقالية اللون مع ظلال زرق خضر، ونبصر الصحراء وردية والجبال البعيدة بنفسجية، ويعقب الشمس قمر مبرقع في السماء الغربية الخضراء الزرقاء، على حين تنشر السماء الشمالية، من طرفها الأرجواني، طريقا بين السحاب الوردي والسحاب الأخضر اللامع الذي ينتهي في الأعلى، في سمت الرأس، في العهد الذهبي لخط سهمي، مودعا آخر هبات النهار، ثم تمضي بضع دقائق فيذوي النور وتصبر الجبال شهباء
17
دكناء ويغطس النيل غير المحدود في الظلام.
وتتقد سلسلة من الأنوار بغتة، وتقطع الشفق بضع مئات من الشهب
18
كالسكين، وتظهر هذه الشهب ما تشتعل فوقه من بناء هائل، وتسقط شرارة في هذا العالم الذي يرجع إلى ما قبل الطوفان، ويبتر جدار من فوره وينهار، وهذه هي خاتمة الفوضى، فقد فرضت عزيمة ناظمة سلطانها، وتلاشت ألوان السماء والمعبد وتوارت الغيلان الحجرية، ويسد خزان من الحجر الرمادي تلك البحيرة في وجه الشمال، فلم يبرز غير رتج المعبد، ونرى من ناحية هذا السد الأخرى سلسلة من المساقط المصنوعة الموضوعة وضعا منتظما، وهذا العمل هو سبب كل شيء، وهذا العمل هو الذي يزعج نوبية الدنيا على طول 350 كيلومتر، لحرمانه ألوف الفلاحين بيوتهم ولدحره إياهم إلى التلال الجرد، ولإغراقه النخيل ومعبد بلاق الذي نحن عليه، والإنسان قد قهر النيل بذلك البنيان، وذلك هو اختراع جريء قد عين مصير النهر في مجراه التحتاني ومجراه الفوقاني، وذلك هو المكان الذي يخسر النيل فيه حريته.
وذلك هو خزان أسوان.
الفصل التاسع عشر
مكافحة الإنسان أوقعت النيل في خطر على طول مجراه الأوسط من غير أن تغيره في أي مكان كان، ولم يغلب النيل في المناقع ولا في الشلالات، وقاوم النيل مغويات السهل، والنيل أبلى الجنادل، والنيل قد تفلت من يد الإنسان، والنيل قد أحبط جميع خطط إنشاء القنوات وجميع الجهود لجعله صالحا للملاحة، والنيل في وادي حلفا، وحين خروجه من الشلال السابق للأخير، ملك أقوى من الفراعنة الغطاريس، والنيل الصامت القليل الهيجان قد اقتحم الجلاميد والمناقع والصحراء منصورا.
ثم عانى النيل هذه المغامرة الأخيرة التي هي أدعى المغامرات إلى الجزع لعجزه عن الدفاع ضد عدو خفي. وقد راعه أن رأى تصاعد موجه بلا انقطاع، وامتداده إلى ما لا حد له. ولما غطى بارتفاعه المستمر أطراف الصحراء كان عليه أثر الغم لا أثر التحرر، وإنه لكذلك إذ يبصر انتصاب جدار هائل غليظ أمامه؛ إذ يرى قيام عدو لا يقهر أمامه جامع للقوة والحيلة، ومن العبث أن حاولت الصحراء والصخر وقف النهر وقهره، فلم يرد الإنسان البارع زواله، وإنما عبده.
وتعد أسوان علامة ختام المغامرة في حياة النيل وآية نهاية الفوضى الرائعة فيها، والنيل يقمع، والنيل نافع، والنيل الذي لم تقدر عليه العناصر ينثني بين يدي الإنسان ويخضع لإرادة العقل، ويبلغ عمل ذلك السد من القوة ما يعين معه الربع الأخير من مجرى النيل فضلا عن أنه يؤثر بنتائجه وممكناته في النهر بأسره حتى خمسة آلاف كيلومتر من مجراه الفوقاني وإعطائه معنى جديدا لجميع ما وصفناه، وسنتكلم بعد حين عن تأثير هذا العمل الفاوستي
1
في مصر، وقد حل الوقت الذي ندرس فيه النيل الذي هو الوسيلة الوحيدة - كعنصر وكماء - لإدراك السبب في وجوب تعيين مصيره بأسوان.
ومن أين يأتي الماء الذي يوقف على ذلك الوجه؟ وفي أي وقت وبأية قوة يصل الموج غدا؟ يجب على المهندس بالقاهرة أن يعرف ماذا تكشف له الطبيعة التابعة لهواها عن أمر النيل الأعلى ليعين مقدار الماء الذي ترسله حواجز أسوان إلى القسم الأدنى من النهر ويعين مقدار ما يجب حفظه وإلى أي حين، والمهندس في مكتبه الصغير وبقلمه الرصاصي وخرائطه وما عنده من جدول في الأنساب العددية يعد الدماغ المدير، وما يرسم على جهاز مورس من خطوط بيض في كل صباح فيعلم به ارتفاع مياه النيلين حتى الرصيرص وملا كال ويعينه على تكوين رأي حول ذلك فيصدر الأوامر ويبرق إلى مهندس أسوان عن مقدار الحواجز التي يجب أن يفتحها في ذلك اليوم.
وإذا كان القياس عن المجرى الفوقاني فلم لا يقهر النهر مقدما فيصنع سد في النيل الأعلى والنيل الأوسط؟ وإذا نظر إلى الأمر من أسوان فما هو شأن النهر الشاب وشأن البحيرات والمناقع والشلالات؟ وما شأن كل من النيلين لدى ذلك السد الأعظم الذي يرقب جميع أهوائهما ويقيدها؟
وإذا وقف على السد تحت دائرة السرطان، وإذا رجع البصر إلى المجرى الفوقاني وسئل عما يجب عمله تحت خط الاستواء، غيرت اللهجة ووجهة النظر، فالمسائل جديدة، ولم يوجد الخزان إلا منذ ثلاثين سنة، وكثير من الملاحظات خاص بالمستقبل.
وتتنافس بحيرتان كمنابع للنيل الأبيض مثل تنافس النيلين، ويوجد لمنطقة بحيرة ألبرت الجبلية، ولوقوع هذه البحيرة على الطرف الغربي من الوهدة الأفريقية الكبرى، ولإمدادها بجبال رونزوري العظيمة، تأثير كبير في حجم النيل الأبيض، وإذا ما درسنا مساحة تينك البحيرتين معا ودرسنا نظامهما النهري وجدنا حاصل نحو مليون كيلومتر مربع يغذي مصر ال 30000 كيلومتر مربع. وإذا نظر إلى الأمر من الناحية العملية رئي أن نصف الماء الجاري يأتي إلى مصر من تينك البحيرتين، وأن هذا النصف ليس مدينا بغير جزء منه للأنهار التي تغذيهما.
والواقع هو أن جميع ما يجري نحو بحيرة فيكتورية لا يملأ صحنها، وإذا عدوت كاجيرا وجدت البردي في أشهر يحول دون وصول مياه الروافد إليها، والمطر النازل من السحاب هو الذي يملأ البحيرة، وهذا يسوغ الأسطورة القديمة القائلة إن النيل يأتي من الجنة، وتزيد مساحة بحيرة فيكتورية على مساحة سويسرة بمقدار نصف مساحة هذا البلد، ونرى تقاصا بين فيض مساحة البحيرة وما يوجبه تبخر مائها بسرعة من نقص، ويعدل ما ينجم عن المطر والتبخر من كسب وخسر في بحيرة فيكتورية نحو أربعة أمثال ما ينجم عن الروافد وجريان المياه من كسب وخسر. ويكفي أن يقام سد عند مسقط ريبون، وأن يحفظ الماء على هذا الوجه لسنوات الجفاف، لتحويل هذه البحيرة إلى حوض احتياطي ثابت أكيد لمصر، ولكن هذا الماء يمر من إسفنجة بحيرة كيوغا ومن مناقع أخرى، فيكون الخسران كبيرا نسبيا كالذي ينشأ عن ترك الماء يجري طليقا.
ويرى أن بحيرة ألبرت أصلح من بحيرة فيكتورية للسد نظرا إلى صغرها وقلة نقوعها، ووقوف شواطئها، وظهورها خزانا طبيعيا مثاليا، فيكفي سد ارتفاعه متر واحد لجمع خمسة مليارات ونصف مليار من أمتار الماء المكعبة؛ أي أكثر مما في أسوان، ولا تكون البحيرة، ولا التبخر، أكبر مما عليه لما عليه الشواطئ من حدر ووعر، ولكن كيف يصان صلاح النيل الأعلى للملاحة مع أن منبعه الثاني في أقصى شمال البحيرة؟ والمسألة هي أن يعرف - إذن - أي الأمرين أفضل: أإقامة السد عند مخرج بحيرة ألبرت في بكواتش أم إقامته بعد مائتي كيلومتر عند نموله؟
ويتلقى النهر الشاب في مجراه من مخرج بحيرة ألبرت كثيرا من السواعد التي تضاعف ربحه في موسم الأمطار، غير أن هذا النهر يبدو مغامرا فيخسر في أسبوع ما كان قد ربحه في الأسبوع الماضي، فيترك في مناقع منغلة ما يقرب من نصف مكاسبه، ويكاد يجف لو لم يخف بحر الغزال إلى مساعدته، ويبلغ الخسران في المناقع من الكثرة ما يعدل 13,5 مليار متر مكعب من 14 مليار متر ماء مكعب؛ أي ما يكفي لجعل مساحة الأراضي الصالحة للزراعة في مصر ثلاثة أمثالها، وهكذا لا يعين بحر الغزال وبحر الجبل بغير العشر من مجموع النيل.
ولكن بما أن سواعدهما عاطلة من الانحدار في القسم الأسفل من مجراهما فإن جميع ذلك يسير إلى ذلك المستنقع، وترى هنالك بقعة يستطيع بقر الماء، حين يشق طريقا، أن يقوض فيها ضفة نهر فيغير مجراه، وأريدت معالجة ذلك فوردت الذهن «خطة فرعون»، خطة مينا التي طبقها على النيل الأدنى، وهذا النظام هو من سرعة التنفيذ وكثرة التوفير ما يجتنب به ضياع الماء في المناقع، فبه يحدث سد حجري على الضفة اليسرى من بحر الجبل، بين رجاف وملا كال، بالغ من العرض عشرة أمتار ومن الارتفاع مترين فيحصر بحر الغزال بذلك.
مجرى النيل التحتاني من أسوان.
وبذلك النظام ينشأ عن يمين تلك التسوية سد ثان عازل لنصف مناقع بحر الجبل، فتقل مساحتها بمقدار النصف، وبذلك النظام يكون بحر الجبل قد رد إلى جهة بحر الزراف فيرتفع مستواه. ومع أن الأرض ترتفع بذلك ارتفاعا خفيفا نحو الاتجاه الشرقي فإن المناقع الشرقية تزيد هنالك وتضيق على طول بحر الغزال، ويمكن ذينك السدين الفرعونيين الطويلين تسعمائة كيلومتر، والبالغين من التكاليف مليون جنيه، أن يقاما في ست سنين وأن يفصلا نصف المناقع، ويحرم الماء نصف المناقع بذلك فلا ينقذ غير ربع ال 15 مليار متر مكعب التي تغيب في تلك البقعة فيكون لمصر نفع كبير في سني الجفاف.
والمناقع تستنزف النيل ما لم يحقق ذلك المشروع، وسيناط مصير مصر بروافد المجرى التحتاني وبالسوباط قبل كل شيء، والسوباط هو الذي يأتي بماء الحبشة الجنوبي، والسوباط خاضع لنظام أمطار الجبال العالية، فيجف شتاء ويندفع كالسيل صيفا، ويكفي قليل تعديل في الجو حتى تبلع المناقع جميع ماء البحيرات ويصبح النيل نهرا حبشيا خالصا .
والنيل كالتاجر الذي يغامر في كل أمر فيخسر كل شيء في مشروع هير،
2
فهو يكاد يجف لو لم يأت السوباط لمساعدته في الدقيقة الأخيرة؛ أي فور التقاء بحر الغزال وبحر الجبل. أجل، تقلل السوباط فيضاناته في مجراه الأعلى، فلا يصل إلى حده الأقصى إلا في شهر نوفمبر مع أن ارتفاعه يبدأ في شهر أبريل، غير أن السوباط في فصل الخريف يكون من القوة ما يسد به مجرى النيل ويدحر به مياهه حتى بحيرة نو، ولا يجوب السودان - إذن - سوى قليل من ماء النيل في ثلاثة أشهر.
وماء الحبشة؛ أي نهر السوباط مع توابعه، هو الذي يجري على هينته نحو الخرطوم في مجرى النيل الأبيض.
الفصل العشرون
النيل يقلب جميع سنن الطبيعة رأسا على عقب كما يلوح، والطبيعة تبلغ غاياتها بهذا القلب مع ذلك، فالنيل يجوب الصحارى والمناقع من غير أن يجف تماما، والنيل في الصيف، حين تجف الأنهار الأخرى، هو الذي يقلب بمياهه المرتفعة نظام الفصول العادي، والنيل يبقى مع أنه دون الكونغو والدانوب الأدنى غزارة ومع اتباعه أحوال حياة أشد تعقيدا، والنيل - مع سيره من مناطق بلا مطر - يكون من القوة ما يحتمل معه الجفاف، وقد نالت الطبيعة هذه النتيجة بفضل تآخي النيلين.
ومن الصعب أن يعرف أي النهرين أهم من الآخر كما يصعب تعيين نصيب كل من العالمين الشريكين في الفضل كمسيو كوري ومدام كوري، أو الأخوين رايت، اللذين اقترن ما فيهما من علم رياضي وتصور وإلهام وبحث وصولا إلى اكتشافاتهما. نعم، إن النيل الأبيض أشد بطأ، غير أن هذا البطء ينقذ مصر، ويؤخر عدم انحداره وصول مياهه التي تمر من الخرطوم بين الشهرين أغسطس وديسمبر، مع أن النيل الأزرق - الذي هو أكثر سرعة - يلقي مياهه بين يوليو وسبتمبر، ثم إن النيل الأبيض الوحيد لا يخرج من مجراه، وتظل الزراعة مقصورة على الضفاف المباشرة التي تسقيها النواعير. ولولاه - مع ذلك - لماتت مصر عطشا في فصل الجفاف حين يحمل النيل الأزرق ماء قليلا تحت سطح الأرض، ولم تهب الطبيعة النصر للأقوى عن حكمة، فأكبر الأخوين ضامن حياة وأصغرهما صاحب عبقرية.
وأرقام حساب النيل الأزرق دليل على عنف مزاجه، ففيما ترى نسبة الارتفاع والنزول في النيل الأبيض 5 : 1 تجدها في النيل الأزرق 500 : 1، ويمكن أن يبصر حساب النيل في مصر بين الشهرين ديسمبر ومايو؛ لأن الذي فيه آنئذ هو ماء النيل الأزرق، ولا يعرف - مطلقا - ماذا تكون الزيادة في شهر يونيو؛ لأنها مدينة للنيل الأزرق؛ أي لجبال الحبشة وللرياح الموسمية، ولا يلبث النيل الأزرق العنيف التابع لهواه أن يكف عن المساعدة، ثم يقوم بجميع العمل متى عن له، وهو يحتمل ثلثي الحساب في الشهرين أغسطس وسبتمبر، ولا يحتمل كل من العطبرة والنيل الأبيض سوى السدس، وإذا حكم في الأمر من حيث غزارة الماء قيل إن بحر الجبل هو مصدر النيل الأبيض. وإن النيل الأزرق هو مصدر النيل بأسره، وهذا إلى أن النيل الأبيض ليس أبيض، كما أن النيل الأزرق ليس أزرق، ففي الربيع يكون النيل الأبيض أخضر، ثم يصير ضاربا إلى حمرة، ولا تكون مياهه شفافة حتى في فصل الشتاء، ويكون لون النيل الأزرق في موسم الفيضان كلون الشكولاتة مع اسمرار، ثم يصبح أكثر صفاء.
ومع ذلك لا يدل النيل الأزرق على عبقريته بصولة أمواجه، بل بتركيبها، فالنيل الأزرق إذ يخرج من جبال بركانية ويحول أجزاء البزلت الحبشي إلى غرين خصيب، يأتي أمرا لا يقدر عليه النيل الأبيض ولا جميع أنهار أوروبة، وتعرف قيمة الغرين على ضفاف نهر الغنج أيضا، ومتى فاض نهر الغنج فأتلف الغلال تبسم الهندوسي باتزان البرهمي لما يعلمه من قوة خصب التراب في العام القادم. وكان المصريون منذ خمسة آلاف سنة يعرفون أن الغرين سبب وجود الدلتا، وأن محاصيلهم مدينة للغرين في كل سنة.
أجل، يجيء النيل الأبيض - أيضا - بمواد محلولة عالقة به، وتعدل النسبة المئوية لهذه المواد الممكنة الانحلال ما في النيل الأزرق من غرين، غير أن تلك المواد من أصل نباتي على الخصوص؛ وذلك لأن المناقع تقوم بعمل المصفاة العظيمة، ولأن الانحدار أقل ميلا، ولأن الجزر تقف ما يبقى، ولأن التراب الخزفي لا يمكن كسره، ويحمل السوباط نصف الحبشي غرينا، ويفقد معظم غرينه في مناقعه الخاصة.
وما يحمله النيل الأبيض والسوباط من المواد الصلبة فيرسب في مجاريهما ومناقعهما، ويأتي النيل الأزرق ب 86 في المائة من مجموع تلك المواد في شهري فيضانه؛ أي في أغسطس وسبتمبر، وفي الشلالات أيضا يجر النهر ما يقرضه من البزلت والغرانيت والجير، وإلى الغرين يضاف رمل النهر، وما في النهر من مواد عفنة، و9 في المائة مما يحمل هو من المواد العضوية، فيتلف في أثناء مروره من الصحراء وبفعل الجفاف والهواء، وهكذا تزيد الصحراء عدوها الماء قوة. وإذا ما انتهى الفيضان وسكن أخذت الطيور - من فورها - تفترس السمك الميت وأنواع الجيف المنتثرة على الضفاف.
ويجر النيل الأزرق - في أثناء جريانه الهائج - كل شيء في طريقه كرسل من بلاده، ويعد من عمله في أميال كثير من القنوات والمضايق والمزالق، ويقطر
1
الغرين من الحواجز. وإذا ما تحول النهر إلى سيل جرف شفيره المتفتت، ويتصبب نثار براكين الحبشة وتراب منحدرات الأودية المتساقط ورمال الصحراء التي تأتي بها الريح ورماد حرائق السهب التي يوقدها همج إثيوبية تجديدا لمراعيهم أو قريبا من وادي الأباي الجنوبي للدفاع ضد جماعات الفيول؛ أي يتصبب جميع هذه المواد السود والسمر - في أشهر - ومن خلال سهب بلاد النوبة وصحرائها، لتخرج من أرض مصر - التي لا ينزل إليها مطر - أسرع وأبرك ما في الدنيا من غلات في الغالب. وهكذا تناط حسابات الرجال الذين يضاربون على القطن في منشستر بأهواء نهر نفور لم يتم أحد استغلاله من منبعه إلى مصبه.
ويشتمل الغرين؛ أي مصدر الغنى، على ذهب يعد رمزا لقيمته، حتى إنه يصفى على حدود السودان في الحين بعد الحين، ولكن بمقدار قليل لما يتطلبه استغلاله المنتظم من نفقات كثيرة. وقد حسب أناس من ذوي الاختصاص ما في الغرين من سماد فوجدوا أن كل فدان في مصر يحتوي منه ما قيمته جنيه ونصف جنيه، ويزيد خصبه بالحرارة، وما فيه من أكسيد الحديد فيزيد قوة امتصاصه .
تلك هي طبيعة الهبة الكبرى التي تمن بها أمطار الحبشة على مصر فتجعل منها بحرا محيطا. وإذا كان غرين النيل عنصر التذكير المولد فإن الأرض التي يغشاها مستعدة لتهب الحياة، وما يكون من جفاف بعد الفضيان فيوجب تصدع أرض مصر، ويتخلل الهواء في الفطور
2
التي تشابه ما تشقها حديدة المحراث في أماكن أخرى، وغير قليل مقدار المواد الملقحة التي ترسب بين الحصادين، وينفذ الفيضان الآتي نفوذا عميقا ويحل المواد الضرورية لنمو النبات، ويودع الغرين ويقلل فعل ملح الطبقات الدنيا من التراب.
والنيل قد أوجد الدلتا قبل أن يحول الإنسان الغرين إلى غلال بألوف السنين. والنيل قد شق طريقه في الصحراء قبل ذلك بألوف السنين، وترجع أولى العلائم والأرقام الخاصة بالفيضان إلى ما هو أقدم من جميع وثائق الغرب التاريخية، وهي تبلغ من القدم نحو ستة آلاف سنة، وهي تعد قريبة من الصحة في الوقت الحاضر، والثورة الكبرى التي عاناها النيل هي من عمل الإنسان، ولا تزيد في القدم على قرن.
ونعلم من التصاوير على جدران قبور الفراعنة كيف كانت الحبوب تبذر في الغرين بعد الفيضان وكيف كان يحصد بعد شهرين، وترى على تلك الجدر أسداد تحيط بحياض كما في الزمن الحاضر. ومن الكتابات ما يدلنا على أن الحكومات كانت توجه ماء الفيضان من حوض إلى آخر إيصالا للغرين المولد إلى مكان بعيد، وكان يحتفل منذ أربعين سنة مضت؛ أي قبل إنشاء خزان أسوان، باليوم الذي تغادر أمواج النيل الأزرق الأولى جبال الحبشة كما كان يحتفل قبل خمسة آلاف سنة، والأسماء هي التي اختلفت، فكان الكهان يخبرون الشعب بأن إيزيس يسكب دموعه في النيل حين يبكي أخاه أوزيرس فيرتفع النهر، واليوم يبرق مهندس الرصيرص إلى القاهرة مخبرا بوصول الفيضان. واليوم يقول النصارى والمسلمون: إن قطرة ربانية تنزل ليلة اليوم السابع عشر من شهر يونيو، ولن يستطيع عالم أن يطفئ شعلة خيال الناس الشعري.
ويغمر الفيضان مصر في فصل الصيف، فيخصب الحقول الجافة بالغرين، ويكون الشتاء لطيفا غير حار كما في المناطق الاستوائية فينبت الحب من تلقاء نفسه، ويأتي الفيضان الحبشي في الوقت المناسب إذن، ويكون على عكس الفيضان الذي يغمر العراق إذن، ونعرف مقدار الزمن الذي تدوم فيه رحلة الموجة، ففي النيل الأزرق الأعلى يبدأ الفيضان في أبريل ويبلغ أسوان في يونيو، ويصل إلى الدلتا في يوليو.
ومعظم المياه يصب في البحر منذ ألوف السنين من غير أن ينتفع به، وكان لا بد من حلول عصرنا حتى يشاد سد أسوان وسواه في مصر وتسقى الأراضي على طول النيل وإلى ارتفاع ما، فتعطي الأطيان محصولين أو ثلاثة محاصيل وتغدو الصحراء من ورائها خصيبة.
الفصل الحادي والعشرون
ترى ابن ضفاف كل جدول منذ أقدم الأزمنة في غم من أعمال ابن المجري الفوقاني وحركاته فيسأل في نفسه عن استنفاد هذا الجار كثيرا من الماء، وعن تحويل إياه إلى مصلحته، وتحمي قوانين جميع البلدان ابن المجري التحتاني من اعتداء ابن المجري الفوقاني إذا كان كلا الفريقين يسكن بلدا واحدا على الأقل. وإذا كان منبع جدول خاصا بمالك أرض آخر فإن الانتفاع الصحيح بمجاري الماء يصبح صعبا لما يصير به جميع الدواليب التي يديرها وجميع الأموال الخاصة في خطر، ويبدو الوضع أشد خطرا عندما يتوقف أمر بلد بأسره على مجرى ماء عظيم، لا من أجل مائه الصالح للشرب، بل من أجل الحبوب التي تغذي سكانه، وذلك عندما يكون منبع مجرى الماء هذا في بلد آخر، وعلى أصحاب السلطة في المصب أن ينفذوا في نفس أصحاب السلطة في المنبع نفوذا تاما حتى يعرفوا مقاصدهم. وماذا يقع لو تنافر الفريقان فصرف ساكن المجرى الفوقاني منبع الماء عن وجهته عن خبث غير خائف مقابلة بالمثل؟ فالاشتراع الدولي في أمور الري وهمي ككل حق دولي.
وما كان يساور قدماء المصريين من غم فمثل ما يساور المصريين المعاصرين، وذلك تجاة أمة إثيوبية البعيدة النكرة التي وضعت الآلهة منبع النيل الأزرق بين يديها كما وضعت الفيضان الأكبر والغرين المولد اللذين لا يمكن مصر أن تعيش بدونهما، وفي الأساطير والكتابات شواهد على تنازع أهل المجرى التحتاني وأهل المجرى الفوقاني وتفاوضهما. وقد أدى هذا الوضع إلى مخاوف مخالفة للعقل في الغالب.
وفي القصة أن الفيضان لم يقع في سنة 1106 فضربت المجاعة أطنابها في مصر فأوفد السلطان الأمير النصراني والبطرك القبطي، ميخائيل، إلى نجاشي الحبشة النصراني مع كثير من الهدايا، وقد أثر الذهب في النجاشي وثارت فيه عاطفة الحنان فخرق السد الصغير الذي يحول الأباي الأعلى، فلم يلبث الفيضان أن عم السودان صاعدا في كل يوم ثلاثة قراريط،
1
وفي نهاية الفيضان استقبل ميخائيل في الدلتا استقبال الظافرين، لما كان من سياحته بأبطأ من الماء، وخشي السلطان أن يسلم النصارى البيض مصر إلى أخيهم النصراني القمص، كما خشي هذا القمص النجاشي أن يغير عليه السلطان بغتة راغبا في الاستئثار بالنيل كله إلى الأبد، والنهر إذ يتفلت من المناقع، يتورط في المنازعات الدينية، أو في عالم من الأفكار غريبة عنه غربة الغرين البركاني عن مذاهب الأنبياء.
وما روي من قصة الاجتماع في القاهرة سنة 1488 فيصف لنا السلطان وهو متكئ على أريكته في خيمته الذهبية وسفراء جميع ملوك البيض يقبلون الأرض مرتين أمامه، ويصل رسول النجاشي وحده مضطجعا في محفة
2
كالسلطان فيرفض النهوض والخروج منها، ويسأل: مولاي! أتريد السلم مع سيدك وسيدي القمص يوحنا؟ - لقد عاش آبائي في سلم مع هذا القسيس. - لا تدعه قسيسا، وإنما ادعه ب «سيدي».
ويكرر هذا الأمر ثلاث مرات، فيقول السلطان بتأن: «أريد السلم مع سيدي القمص يوحنا.»
وهنالك سلم الحبشي إلى سلطان مصر قوسا وستة سهام من ذهب وقال: أصبت إذ قلت سيدي، فحياتك وموتك بين يديه، وأنت تعرف السبب، فالنيل يأتي من بلدنا، ولو أراد سيدي لقطع الماء وأماتكم جميعكم جوعا.
السلطان: «ذلك حق.»
ويفسر المؤرخ جبن ذلك الإكراه بجهل الترك وحيل الأقباط وخيلاء الأحباش.
وحاول نصراني من الغرب أن يجعل من تلك الأسطورة حقيقة، ففي سنة 1500 كان ألفونسو دو آلبوكرك البرتغالي، الذي جعل منه رجل عظيم، نائبا للملك في الهند، فأراد أن ينزع من السلطان طرقه التجارية وإهلاك مصر فاعتمد على القمص يوحنا وسعى في تحويل النيل الأزرق إلى البحر الأحمر، فلم يحبط عمله - كما روى ابنه - إلا لعدم وجود عمال ماهرين، «وإلا كان يمكنه أن يخرق تلا، فتموت مصر عطشا.»
والآن أيضا؛ أي بعد أربعمائة سنة أو تزيد، وضع من الكتب الحديثة ما عد به تحقيق ذلك المشروع أمرا ممكنا، ومع ذلك يجب على جميع العالم أن يعلم أن أهم ما يأتي به النيل الأزرق لا يأتي من مجرى يمكن تحويله، بل من مئات السيول التي يتعذر ضبطها من بعيد، وما في النيل الأزرق من مخاطر ومنافع فقد حمل على قياس جريانه وحسابه قبل أن يصنع مثل ذلك عن النيل الأبيض. وقد عني بالأمر سنة 1930، وسيعنى به في المستقبل لا ريب.
ووضعت مشاريع سد لبحيرة طانة منذ ثلاثين سنة خلت، ولن تكره الحبشة على منح امتيازات ما دامت مستقلة وما دام الرق يغنيها عن كل قرض من الخارج. وهذا ما جعل من غارستن - الذي تتخذ حساباته عن النيل أساسا رئيسا لجميع مسائل الري - عاملا في اتفاق إنكلترة والنجاشي يعاهد به هذا الأخير على عدم القيام بأعمال في الأباي الأعلى، وعلى عدم السماح لأحد بصنع ذلك من غير أن توافق عليه إنكلترة ومصر مقدما. وقد اعترفت إيطالية في سنة 1919 وسنة 1925 بمركز إنكلترة الممتاز في مقابل ضمان القسم الغربي من الحبشة عند إنشاء مثل ذلك السد، وقد وقع هذا باسم «مناطق النفوذ» التي هي شكل عصري للفتح الاستعماري. وما فتئت فرنسة تثير ريب نجاشي الحبشة، ثم غيرت فرنسة سياستها في صيف سنة 1935.
وفي سنة 1927 عرضت إنكلترة على الأحباش ما هو ضروري من النقود لإنشاء سد مؤد إلى زيادة ري زراعة قطنها السوداني، ويولي النجاشي وجهه شطر الأمريكيين، ويسفر هذا عن وضع مشروع سد من قبل شركة في نيويورك، وتخشى إنكلترة أن يكون للأموال الأمريكية ومصالح ملوك القطن الأمريكيين تأثير في مجرى النيل ففضلت الاتفاق مع منافسيها هؤلاء، ثم حدثت الأزمة العالمية فوقف كل شيء.
ويثير سد بحيرة طانة - وهو سيقام ذات يوم - حسد الدول العظمى، ويقاومه أحباش أديس أبيبا لما يوجبه من دخول الأجانب في البلاد، ولما يجهل به وقت خروجهم منها، ويزعم سكان شواطئ بحيرة طانة - بوحي من قسوسهم - أن الأجانب الآتين من أجل المشاريع يريدون إقامة سد يبلغ ارتفاعه مائة متر فيؤدي إلى هدم كنائسهم وإلى تحويل الأباي، وأن الأجانب كانوا قد سموا بحيرة طانة، والمصريون وحدهم - وهم الذين أهمتهم الحبشة في عهد السلاطين - لم يكترثوا لذلك، فهم يعلمون في الوقت الحاضر أن ثلاثة في المائة من الفيضان يصل إلى مصر من بحيرة طانة، وأن ذلك السد لا يحرمهم ماء، ولا غرينا يقوم عليه عيشهم، وأن الغرين لا يأتي من هذه البحيرة، وأن ذلك السد يحفظ - بالعكس - ثلاثة مليارات متر مكعب من الماء لمصر والسودان عند الجفاف، وأنه يحفظ هذا المقدار للسودان وجزيرته وحدهما بعد إنشاء مصر لجميع أسداد النيل الأبيض. وفي هذه الحال - وفيما خلا الشتاء وقت الفيضان - يكون النيل الأزرق سودانيا صرفا ويكون النيل الأبيض مصريا خالصا.
وترى إنكلترة في الوقت الحاضر إنشاء سد على النيل الأزرق حيث يكون الماء خاصا بها، وذلك على بعد ثلاثمائة كيلومتر من فوق الخرطوم ومن ملتقى النيلين: الأزرق والأبيض، وذلك لما يؤدي إليه من رفع مجرى النهر وسد النهر وسقي حقول القطن بالماء المخزون، وتتخذ إنكلترة هذا القرار بعد النجاح الذي نيل في أسوان بوقت قصير، ويحدث مثل هذا النجاح موضة.
3
كما تحدث الكتب والطغاة، ويبدو القوم جسرا مثرين، ولا يريد أصحاب المصانع في منشستر أن يكونوا تابعين للولايات المتحدة الأمريكية، ويود الإنكليز أن يلوذوا بالتقاليد القائمة منذ زمن، ولا يعد الأمر بدعا
4
يلقي الغم في قلوبهم. والواقع هو أن القطن يزرع في الجزيرة منذ قرن، والواقع أن الجزيرة مثلث يبلغ من المساحة خمسة ملايين فدان إنكليزي، والخرطوم رأس المثلث، والنيلان ضلعاه، وتقطع قاعدته السهب بين كوستي وسنار، ويعدل نصف سويسرة، ويعدل جميع أراضي مصر الصالحة للفلاحة تقريبا.
بيد أن هذا القطن الذي كان يزرعه أهل البلاد هو من الهزال كالقطن شبه البري الذي يزرع الآن في حقول الحبشة، وهو لا يمكن أن يزاحم القطن الأمريكي، لما ليس في الجزرة من أثر للحذق والفن، ولقلة ما في الجزيرة من الماء على الخصوص.
ولا تسقي الأمطار غير المنتظمة الحقول في الوقت المناسب ولا بدرجة الكفاية، وإذا ما أتم المطر شبه الاستوائي بالري كان للوابل
5
الذي يهطل بين الشهرين، مايو وسبتمبر، أحسن عمل، وكانت هذه المنطقة تنبت سمسما ومطاطا، وكانت المضخات الضخمة تستعمل في أوائل هذا القرن فكان يؤخذ أطيب محصول، وأراد كتشنر بمآثره أن يكون للأرض رخاء وعظمة فنال من الحكومة ضمان قرض معد لتغطية نفقات خزان سنارمكوار.
ووضعت المشاريع سنة 1913، وأجلت الأعمال، التي كان يجب أن تبدأ في سنة 1914؛ بسبب الحرب، ولم يتم قيام هذا السد إلا في سنة 1925، وكان التقدير الأولي ثلاثة ملايين جنيه فبلغت نفقات السد ثلاثة عشر مليون جنيه ونصف مليون جنيه. ويجب أن يسار أكثر من نصف ساعة لقطع ما بين طرفي جدار الدعام
6
البالغ من الطول ثلاثة كيلومترات، ولكن من الصعاب وكثرة النفقات أن تنال من نهر نتائج لا تنال من بحيرة بصعوبة، ويمكن بحيرة طانة أن تمنح بسد طوله مائة متر وعرضه متران من الماء أكثر مما يمنحه حوض سنار بسد أطول من ذلك ثلاثين مرة وأعلى منه ثماني مرات، ومقدار مثل هذا مما يمكن أن يمد لندن بما تحتاج إليه من الماء لمدة سنتين.
ولا يوزع هذا الماء كما في مصر من كوى
7
بمقادير معينة، وإنما يمر وفق نظام للقنوات بلغ من الكمال ما يعد معه فريدا في العالم وما يوزع الماء به على ثلث الجزيرة، وهنالك قناة رئيسة طولها مائة كيلومتر موازية للنهر مع اجتناب أضواجه،
8
وإذا نظر إليها بالطائرة من الجو وجد خط مستقيم خالص مضاد لمقاصد الطبيعة الروائية، وترى القنوات الجانبية - التي يسهل حفرها في أرض الجزيرة المجردة من الحجارة - تضيق مقدارا فمقدارا، وهي تبلغ من الضيق ما يمكن معه عبور أصغرها بخطوة، بيد أن مجموعها يبلغ من الطول 15000 كيلومتر؛ أي ضعفي طول النيل الأبيض والنيل الأزرق مجتمعين، وكان لا ينتفع بهذا الماء منذ عشر سنين، وكان يجري إلى البحر من غير أن يفيد إنسانا.
وينال أبعد الجداول وأضيقها في أوقات معينة - وبفضل نظام التوزيع الرائع - مقدارا معينا من الماء على نسبة ما ينزل من المطر في هضاب الحبشة. وإذا حدث في النصف الثاني من شهر يونيو أن ملأ الفيضان الحوض اشتملت القناة الرئيسة على ماء يوزع في تسعة أشهر.
وذلك منظر مثير، وما كان التحدي الذي يوحي به الاستعمار المزدهي واستعباده المتواري، ولا الأسف على سعادة أناس أنزلهم النظام الآلي إلى مرتبة العمال بدلا من أن يعيشوا في البطالة الهادئة تحت الشمس، ليقلل إعجابنا بتلك الأدمغة التي بلغت من الجبروت ما يعدل قدرة العناصر، وفي الجزيرة كان السوداني - المسلم منذ مئات السنين - عبدا للفونج، عبدا ل «السلاطين الزرق»؛ أي كان مطرودا من الجنة، وما كان الرجل الأبيض قد بناه له فقد أغناه من عدة وجوه فيدرك ذلك حتى الشبان، وكانت محاصيل الذرة عظيمة في السنوات الكثيرة المطر، وكان يقال إن الجزيرة نبر
9
السودان، غير أن هذا كان يقع مرة واحدة في العشر السنين. وقد أبصرنا بأنفسنا تلك الحقول المستورة بالغبار في حال يرثى لها، وكان النساء يعرفن اقتطاف القطن، ولكن متى أراد الله، والله لا يريد ذلك في كل وقت.
وكان ابن البلد يذعر إذا ما فسر له نظام حياته الجديد، وقد زادت مخاوفه عندما اتخذت الحكومة سجلا للأملاك نتيجة لعمل سنين طويلة، فحسب دخل الفدان الواحد وفق المعدل المتوسط لأربعين عاما. وقد قسمت البلاد في ذلك السجل إلى مربعات يشتمل كل واحد منها على عشرة فدادين، ويفصل بين كل واحد منها جداول ماء، فصار الألوف من السودانيين لا يفرقون بين حقولهم، وغدا غير واحد من الشيب يغلي حقدا على أولئك الذين يزعمون أنهم يجلبون السعادة إليه.
ثم كانت مفاجأة فقد حفز ما في النساء والأولاد من فضول إلى فتح الثقب الذي يجلب الماء إلى جدولهم، وقد أوجب وصول الماء إلى الحقل المزروع هتافهم سرورا، ثم أهرعوا إلى الجدول التالي فوجدوه يغمر الحقول أيضا، وقد بذروا في كل مكان ما أتاهم به البيض من أكياس بذور الذرة والقطن فأبصروا ازدهارا في الموسم الجديد، أبصروا الثمار خيرا مما في الماضي ورأوا جوزة القطن أنصع مما في السنوات الخوالي، وجلست النساء أمام أكواخهن، وتعلمن تنظيف القطن بأحسن مما كانت تصنع أمهاتهن، ووضع الرجال القطن في أكياس راكمين إياها بأرجلهم، ومضت الجمال محملة أثقالا عظيمة إلى محطة الخط الحديدي التي بناها الأبيض في مكان قريب، فنقل القطن إلى البحر الأحمر حتى يرسل إلى البحر المحيط، إلى جزيرة أخرى أتى منها سادة السد وأعمال القنوات.
والآن يتعلم ابن لاقطة القطن في المدرسة ما هو السد وما هو الدعام وما هو حفر القنوات، فإذا كان ذكيا ذهب - على ما يحتمل - إلى كلية غوردون في مدينة الخرطوم الكبيرة، وإذا مرت بضعة أعوام اختبر طبيعة أرض الجزيرة أو وضع جداول لمستوى النيل أيام الفيضان، وينال مائة وخمسين قرشا راتبا شهريا، ويسكن بيتا حجريا ويدخل سيارته مساء.
وهل يكون أسعد حالا من أخيه الذي يحافظ على عادات آبائه؟ وأخوه - مع كسله - ينتفع من بناء السد، وأخوه يكسب وقت الحصاد ثلاثة شلنات في ثلاثة أيام؛ أي ما كان أبوه يكسبه في شهر، وأخوه يستطيع أن يظل مستلقيا تحت الشمس أو مع النساء في السبعة والعشرين يوما التي تفصله عن القمر الآتي، وكثير من القبائل مكسال، والإنكليز لا يفرضون العمل قهرا، فالضرورة تقضي بجلب عمال من الخارج.
وسيكون أولئك العمال من الحجاج الذاهبين إلى مكة، ويأتي أولئك من الساحل الغربي ويجوبون أفريقية، وسيجاوزون البحر الأحمر لزيارة قبر النبي، وأولئك أمرن على الأعمال الزراعية من الرعيان الذين هم من أنصاف همج السودان، وأولئك ينصبون خيامهم ويزربون معزهم طوعا على ضفة النيل ليقيموا هنالك ستة أشهر، وليكسبوا من المال ما هو ضروري لإتمام سفرهم، ويحسن الإنكليز - على الرغم من مبشريهم - قبول هؤلاء الحجاج المتعصبين الذين هم من العمال الصالحين. وإذا حدث أن أصبح أولئك ذوي صلات جنسية بالنساء المحليات فإن ذلك يعد خيرا للعرق الذي يشتد وينتعش بهذا التوالد كما في كل مكان.
وثلث الجزيرة فقط هو الذي يسقى بذلك الماء في الوقت الحاضر، وينتج هذا الثلث ما يعدل خمس القطن الذي يحصد في الدلتا المصرية، ولكن من أصناف مختلفة فيصرح الخبراء بأن بعضها أجود منه وبأن بعضها الآخر أردأ منه، وتؤدي الحرارة اليابسة والمطر المعتدل في بدء النمو والجفاف حين النضج والاقتطاف وتهوية الأرض إلى وجود تربة ممتازة صالحة لزراعة القطن أكثر من صلاح الجزيرة الواقعة بين دجلة والفرات الأوسط، والتي تنتج بري مصنوع قطنا يعرف باسم الجزيرة أيضا. ويبلغ محصول الفدان على ضفة النيل الأزرق في الموسم الجيد خمسمائة رطل إنكليزي أو أكثر من هذا المقدار.
وكانت السنين التي أتت بعد بناء السد بالغة الجودة، وأفسدت النقابة - التي يحق لها أن تأخذ من الدخل أربعين في المائة - الحكومة بجعلها تنال من ذلك خمسة وثلاثين في المائة، فكان الأمر كما في الزواج الذي تتعود الفتاة فيه على الإنفاق الكثير عندما لا تحمل على الحساب. ومما كان يسر الأسر المزارعة البالغ عددها عشرين ألفا - والتي كانت صاحبة لأملاك فيما مضى - أن تشتري آلات خياطة وفونوغرافات بأموال لها تتسرب في إنكلترة بعد اشتراكها في استغلال جمعي كما في روسية السوفييتية، وكان ملوك القطن يأتون إلى هنا - إلى داخل أفريقية - ليبتاعوا المحصول في محله، وكان كل فدان يعطي ثلاثين جنيها إنكليزيا ربحا خالصا، وكان المال الاحتياطي يزيد فخصت حكومة السودان المدارس والطرق والصحة بمليون جنيه في كل سنة.
وقد بلغ الحرص على الإسراع في إعداد أراض للماء غايته، وقد بلغ فقد اليد العاملة من الشدة ما صار معه المضاربون الغضاب من كسل الأهالي يتمنون إبادة الحمى المعدية للمواشي حملا للبدويين على الزراعة، وإتلاف ذباب تسي تسي لقطاع الدنكا إكراها لهم على إرسال أولادهم لقطف القطن.
ولسرعان ما أتت سنون شداد كما في التوراة؛ ففي سنة 1929 - وفيما كانت تزاد مساحة الأراضي التابعة للري - هبطت أثمان القطن، وعاد لا يشتري منه أحد، وصار الفدان لا يعود بغير سبعة جنيهات بدلا من ثلاثين، وأخذ المطر الملائم فيما مضى لا ينزل في الوقت المناسب، وغدا غزيرا، وأصيب نبات القطن بالمرض واستولى العشب الضار على الحقول، وعمت البلاد أوبئة بعد بناء السد، وكان الحجيج الآتون من الغرب قد نقلوا البلهارزيا - التي هي مرض فظيع صادر عن نوع من الديدان - إلى سنار قبل إنشاء السد في مديرية دنقلة.
وانتشرت الحمى المغبة
10
والبرداء
11
والجدري، وتوجب ذعرا. ويرى الأهالي أن الله هو الذي صب غضبه بذلك على الآلات الكبيرة، وبلغ عدد الذين قصدوا المشافي في سنة 1930 ألوفا من أهل السودان، واستخدم العلماء والأطباء في مكافحة تلك الأمراض الوافدة، وقام جحفل من الكيماويين بمكافحة الجراد، وحفر العرب والشرط خنادق، واستعانوا بالسم لإقصاء حشرات الحصائد هذه، وتحلق فوق الأهالي طائرة آتية بالأدوية من إنكلترة، فينظر هؤلاء إليها شزرا ويقولون إن الطائرات هي أساس البلاء.
وهذا هو الإنذار القاسي الذي سيرن في آذاننا بمصر مرة أخرى. أجل، قضت الأزمة العالمية والمطر والأوبئة على كل حساب لاح صحيحا وظهر صالحا في بدء الأمر، ولكن لم تصدر مادة أولية جديدة من بلد لا يستطيع أن ينتجها إلا إذا حرم الحب الذي كان ينبته منذ قرون، والذي كادت الأسداد والقنوات والآلات وعقول المهندسين تضاعف مقداره؟
الفصل الثاني والعشرون
في الخرطوم، حيث ملتقى النهرين الأخوين، نرى الأخ الأصغر لآخر مرة يشتد بجميع سيول الحبشة فينقض على أخيه الأكبر بعنف بالغ فيصده ثلاثة أشهر، ويدحره إلى مسافة ما أيضا، كما كان السوباط قد صنعه به. وهذا الصد الطبيعي ضروري لمصر؛ وذلك لأن معظم الماء وقت البركة هنالك يجري إلى البحر من دون أن ينتفع به، ولكن النيل الأبيض يحفظ قواه لفصل الشتاء حين تعطش مصر فيعينها عند وهن أخيه، فبمثل هذا الرمز تتجلى سجايا كلا النيلين.
وظاهرة الدحر تلك أوحت إلى المهندسين بتحويل حوض النيل الأبيض الطبيعي إلى خزان مصنوع كما فكر في أمر بحيرة طانة أو بحيرة ألبرت، وإطالة وقوف المياه بسد وتأخير إرسال الماء المدخر إلى مصر حتى فصل الربيع حين تكون مصر أحوج إلى الماء مما في فصل الشتاء ووقاية البلاد من مثل الفيضانات التي كانت تخربها في الغالب، فإذا جعل الفيضان - هكذا - عنيفا تارة وضعيفا تارة أخرى يكون قد أسرع وتأخر وفق احتياجات البلاد. ويثير هذا المشروع البادي البساطة - والذي هو من وضع بريطانيين خبيرين - شعور جميع المصريين الوطنيين فيقول هؤلاء موكدين: إن الإنكليز يودون سد النيل في السودان، ويصرحون بأن ذلك عمل شيطاني يمكن أن يؤدي آليا إلى إهلاك مصر عطشا، ويجعل نداء الاستغاثة هذا ملايين المصريين أعداء للإنكليز. وتدور الانتخابات حول ذلك المشروع، ويتهم العاهل ووزراؤه بخيانة الشعب لسماحهم بإنشاء السد، ولوعدهم بدفع نفقات بنائه أيضا، وذلك مع الادعاء بأن السد سيكون سلاحا بيد الإنكليز عند تصادم مصر الواقعة تحت النفوذ الإنكليزي والسودان الخاضع لإنكلترة.
ويوشك إنشاء خزان جبل الأولياء أن يتم على مسافة خمسين كيلومترا من الخرطوم في المجرى الفوقاني فتقطع النيل الأبيض دكة كلسية، وسيكمل بناء الخزان في سنة 1937 وسيكون مفيدا لمصر لا ريب. أجل، يمكن أن يكون سلاحا بين أيدي الإنكليز، ولكن لا لإجاعة مصر. أجل، يدرك قلق من يرون قوتهم اليومي قبضة الأجنبي، ولكن قليل منطق يكفي لتبديد مخاوفهم. ولنفرض أن حربا - أو شبح حرب - يحفز إنكلترة التي يؤيدها الرأي العام إلى اتخاذ هذا الأسلوب الإرهابي المخالف للمزاج الإنكليزي، ولنفترض أن مصالح إنكلترة في مصر لا تردعها عن سلوك سبيل الشدة، لنرى أن تأخير الفيضان الربيعي أو تقليله لا يضر مصر إلا لوقت قصير، وذلك لتعذر سد النيل سدا تاما، ولما يؤدي إليه ذلك من إغراق جميع وادي النيل الأعلى ومن تعذر الزراعة وانتشار الأوبئة فيه.
وفي سنة 1926 يقطع الوفد المصري - الذي هو حزب مصر القومي - كل استعداد لإنشاء خزان جبل الأولياء، عملا بما زعمه مستشاروه من كون تعلية خزان أسوان تؤدي إلى النتيجة نفسها، وإلى جمع ما تحتاج إليه مصر من الماء حتى فصل الربيع. ومما زاد الوفديين سوء ظن ما بدا من تشوق الإنكليز الذين يحلمون قبل كل شيء بالفوائد التي ينالونها من إنشاء الخزان الجديد والذي لا ينكرون نفعه للسودان، غير أن إنكلترة في جميع اتفاقاتها. وفي اتفاق سنة 1929 أيضا، ألزمت نفسها رسميا تجاه المصريين بألا تصنع ما يؤثر في مقدار جري النيل ومستواه ووقت فيضانه في مصر.
وكلا الأمرين يحدث بعد مفاوضات لا حد لها، فقد زيد ارتفاع خزان أسوان وعمل بمشروع خزان جبل الأولياء الذي يمكنه أن يقوم بوظيفته في جميع أيام السنة من غير أن يغمره الغرين ما دام النيل الأبيض يترك جميع غرينه في المناقع وراءه. ومن نتائج العمل القائم الآن على ساق وقدم أن يساعد على ضمان مستقبل مصر.
وستحقق مشروعات أخرى في عشرات السنين الآتية، وتبلغ نفقات المباحث المائية
1
للنيل - الذي هو أكثر أنهار الدنيا موضعا للدراسات - مائة ألف جنيه في كل سنة، ويثير هذا النهر من المسائل المهمة المعقدة ما يتساوق مع إحصاء مياهه وزيادة سكان حوضه ومع مقتضيات الصحة والمعرفة في البلاد، ويحسب أن أسداد بحيرة طانة وبحيرة ألبرت وجبل الأولياء لا تناسب نشوء مصر والسودان في آن واحد، ويتطلب تقدمها أسدادا أخرى في منابع النيل أو بحيرة فيكتورية، فيجب تنظيم مجرى البارو قبل التقائه بالسوباط كما يجب تنظيم بحر الغزال وبحر الجبل، ومع ذلك لا يخزن بذلك سوى ثلاثة أرباع ما يجب من الماء الاحتياطي في السنين السيئة.
واليوم يستلزم النيل ميزانية دولة تقل مواردها ويزيد سكانها، وتضطر إلى إدخال ما لا غنية لها عنه من المواد الأولية؛ أي من الماء، ولا تستطيع بعمل أبنائها ولا بالضرائب أن توسع نطاق حرثها وزرعها.
الفصل الثالث والعشرون
تم النصر للإنسان على النيل في أسوان، وكان لا بد للإنسان من القيام بعمل جلل حتى ينال ذلك، وكل شيء في ذلك الخزان الفريد في بابه فرعوني علوا واستعمالا وأثرا، ولو لقي نابليون عدوا طويلا كالنيل لحكمنا بهزيمته. والنيل ضحية طبيعته كجميع ذوي السجايا العظيمة، وينتفع خزان أسوان من ضعف النهر؛ أي من عدم انتظام أهوج النيلين.
كان أحد الفراعنة قد شاد سد بحيرة موريس في القرن التاسع عشر قبل الميلاد فيلوح أنه كان يجمع من الماء بمقدار ما يجمع في أسوان في أواخر القرن التاسع عشر بعد الميلاد. ويروى أن الصين والهند قامتا بأعمال مماثلة في القرون القديمة. نعم، يزيد ارتفاع عدد من الأسداد على ارتفاع سد أسوان، ولكنك إذا عدوت سد غاتن للملاحة في قناة بناما لم تر في العالم سدا يمسك من الماء ما يمسكه هذا السد. وللأسداد الرائعة التي أنشأها السوفييت غرض آخر، ولما يتم إنشاء سد باولدر في الولايات المتحدة، ويمسك أهم أسداد سويسرة 140 مليون متر مكعب، ويمسك السد الإسباني - الذي هو أعظم أسداد أوروبة بعد أسداد الاتحاد السوفييتي - 1200 مليون متر مكعب، ويمسك سد نوريس - الذي هو أعظم الأسداد بأمريكة - 3500 مليون متر مكعب. وأما سد أسوان فيمسك خمسة مليارات متر مكعب؛ ولذا يشعر بدحره الماء حتى وادي حلفا؛ أي على مسافة 360 كيلومترا من المجرى الفوقاني.
وأهداف سد أسوان خاصة خصوص أبعاده، ومن الأسداد عدد كبير معد لتوليد الكهربا، أو القوة، وتوزيعها، ومن الأسداد عدد آخر لتنظيم جريان المياه، وما أتي من الأعمال على النيل فلزيادة مساحة الأراضي الصالحة للزراعة في بلد كان يفلح من أراضيه 33 في المائة ثم صار يفلح منها 50 في المائة ولحماية 15 مليون إنسان ضد مجاعة تؤدي إليها زيادة عدد السكان، ويقوم السد بعمل فاوست في تقمص أطراف الصحراء وتحويل خمسين ألف كيلومتر مربع من الأراضي - أي ما يزيد على مساحة سويسرة بأسرها - إلى أطيان خصيبة، ولم يمكن ذلك إلا لأن مصر عاطلة من الجيران، ولأن البقعة الواقعة حول مجرى النهر الفوقاني قبل أسوان قليلة السكان، ولأنه يسهل تعويض أهل الضفاف. ومما لا ريب فيه أن الماء يغمر أرض وطن لا تقدر بثمن، يغمر معبد بلاق الجميل.
وفكرة سد أسوان قديمة إلى الغاية، غير أنه لم يقدم اقتراح عملي لإنشائه في سوى القرن الأخير، وليس صاحب هذا الاقتراح محترفا، ولكنه العبقري الهاوي بيكر الذي أبصر المستقبل فأوصى في سنة 1867 بإقامته قائلا بصوت عال: «إن الطبيعة أوجدت دلتات، ولا تزال توجد، فلم لا يصنع العلم من الدلتات ما يناسب وسائله التي يتصرف فيها بإقامته أسدادا؟» وفي ذلك الحين كان يوجد من الأسداد العصرية القليلة ما لا يجعل حل المعضلة أمرا سهلا، وتبدأ التجربة بإنشاء سد على مقياس واسع.
ويضع المهندس المؤمن المقدام ويلكوكس مشروعا حوالي سنة 1890 فترفضه الحكومة الإنكليزية، ويوفق ويلكوكس وأصحابه لضم رجل همام مثلهم إليهم، وكان السير إرنست كاسل جامعا في شخصه سذاجة الإنكليزي وعناده وبصر السامي وحسابه، فظهر في مصر كأنه يوسف جديد جاء من الخارج ليعين على نشوئها، وكان هذا الرجل مطلعا على قوة المال أكثر من اطلاعه على قوة العناصر، وكان عارفا برائحة مصفق
1
لندن وضوضائه أكثر من وحشة شلالات أفريقية وما ينبعث من المناقع، فوجد ذات يوم حاملا بيده خرائط ومشاريع أمام دوافع أسوان. وفيما كان المهندسون يحسبون ضغط الماء وسرعة الجريان واتساع الكوات كان كاسل يجمع نفقات الإنشاء مضيفا إليها - عن نباهة - خمسين في المائة احتياطا، ثم قال: «حسنا، إلى الأمام.»
يسمع في المكان الذي يبلغ النيل فيه غايته من العرض ضوضاء جدير بعهد الفراعنة، يسمع رجال من شعوب تميز ألوانها تحت شمس قاسية في تلك السماء العاطلة من المطر فتخرج من هؤلاء الرجال العراة روائح من كل نوع، ويتكلم هؤلاء الرجال بلغات من كل فرع، ويعمل هؤلاء الرجال بدقة في إقامة بناء خاف عليهم، وذلك وفق أوامر ملك غير منظور مجدد مناظر بناء الأهرام بعد ثلاثة آلاف سنة. وهؤلاء هم العمال العراة أنفسهم، وهؤلاء هم العرفاء الأشداء أنفسهم، وهذه هي الحجارة العظيمة نفسها، وهذا هو الغرانيت نفسه، والفرق هو في أن يؤدى العبيد أجورا بدلا من القوت، والفرق هو في أن تحمل الأثقال الكبيرة آلات مدركة بدلا من أكتاف الرجال، ولا تطاع أهواء ملك يرى نفسه إلها، ولا يبني العبيد المعاصرون ضريح من هو فان مثلهم، وإنما يسير رجل واحد في سبيل الملايين من الآدميين، وإنما يتمثل الرجل عملا يحمل به عنصر مسيطر على أمر مبتكر.
ويعقب الأهرام القاتمة القائمة على ضفاف النيل منذ ألوف السنين - والتي أراد بها قهر الموت أكثر من عاهل معتزل مبجل - عمل مملوء حياة وعهودا معد لاقتطاع أراض جديدة من الصحراء وجعل محاصيل الأطيان القديمة ثلاثة أمثالها، ومع ذلك يبدو منظر العمل الثاني ذا مظهر فرعوني في بدء الأمر.
وفي صحراء الحجر والماء تلك تسمع ذات صباح حركة مجداف الزورق الأول الآتي - كما في اليوم الأول من التكوين - ليحل النظام محل الفوضى، وكان ذلك في فصل الربيع، وكان ذلك عند انخفاض المياه إلى أقصى حد، وتدوي من الزورق هتافات غريبة، تدوي منه الكلمات: «باب الحارون! الباب الكبير! الباب الصغير!»
وهذه هي أسماء ثلاثة من مساقط الماء الكبيرة الخمسة المهيمنة على الشلال والمعدودة خطرة إلى الغاية منذ القديم، ويحاط بأدناها كما يحاط بتمساح، ولكن لا يقترب منه والحراب في اليد، وإنما يؤتى بقطع ضخمة من الحجارة ويقام أول سد حوله ويستنفد الماء بالمضخات ويستنزف ويملط
2
من الرحاب
3
ما هو ضروري ليوضع فيه الفيل الأعظم الذي يرفع بخرطومه أثقل الحجارة وينقلها، ويجلب هذا الفيل على سفينة، وينصب بعناء على المكان الجاف، ويزحل الصخور التي كان ألوف الناس ينقلونها قيراطا قيراطا ليل نهار، وذلك في عهد الفراعنة الذين كانوا يأمرون الناس بأن ينحتوا في الغرانيت مسلات تمجيدا لهم، ومن المسلات واحدة لا تزال ناقصة راقدة على الضفة الأخرى هنالك، ويدير ذلك العملاق الحديدي خرطومه المرن إلى كل جهة، وهو يرفعه ويخفضه وفق أوامر مولاه مع صريف وصر سلاسل وبسهولة كالتي يجتث مثاله بها الأشجار عند منبع النيل ليأكل ثمارها. وتتوارد مئات آلات رفع الأثقال بعد هذه الآلة المعدنية الأولى، وهي تطيع فيالها
4
الحاسب كما لو كانت جماعة من أفيال مستعمرة سيلان.
ولم يقم حتى الآن غير سد موقت مصغر معد لعزل مسقط ماء واحد، لعزل مسقط باب الحارون، وكان لا بد من عمل شهرين حتى يقوم أول ركن مع جدار تسعة أمتار تنصب الخطوط الأولى عليه، وكان يعمل هنالك عشرة آلاف من النوبيين والمصريين ينقلون على زوارق سود ويحملون حجارة ثقيلة على ظهورهم الحدب مع دراريع
5
وجلابيب بيض طويلة تزعجهم في كل خطوة فيغسلونها بماء النيل مساء، والنيل الذي أتى هؤلاء الرجال لمكافحته يبدي من الكرم ما ينعم به عليهم ماء للشرب والطهو والاغتسال والرحض،
6
وصنع الملاط وسير الآلات.
وعلى الضفة اليمنى - وفي سواء السعير - يستخرج من الجبل بضعة آلاف من النوبيين، العائذين أحيانا بسقف من حصير، غرانيتا سوانيا
7
أبيض ورديا. وبالقرب من هؤلاء تبصر طلاينة أمهر منهم ينحتون حجارة ويعدونها دعائم للجدران، وفي القرون القديمة كانت مدينة سوانو قائمة هنالك، ومن هنالك كانت تنقل حجارة منها لتصنع منها أعمدة لمعابد الفراعنة، ثم ينقل النوبيون تلك الحجارة بعربات إلى سكة حديدية ويأتون بها إلى الضفة وإلى النهر حيث تنتظرها مئات الأيدي لتطرحها في سفن ذات قلوع منفوخة قليلا جالبة إياها إلى أول السد.
وتبصر صفوفا من القوارب محجوبة وراء ما أثبت من الحجارة هنالك، محاطة برجال عراة بارزين من الماء، وتبصر مئات من النوبيين اللابسين جلابيب يخرجون من هذه القوارب أكياس أسمنت ثقيلة وهم يغنون بألحان محزنة، وتبصر فوجا من المصريين يرفعون قضبانا حديدية إلى الأعلى، وتبصر زمرة من المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة يأتون، والعريف الحامل سوطا يرقبهم، في سلال بالفحم الضروري لرافعات الأثقال من الآلات، يأتون بهذا الفحم بعد أن يكون قد نقل ست مرات بعد خروجه من نيو كاسل وقبل حطه في وسط النهر هنا.
وتبصر أناسا من السودانيين يخبطون ذرعانهم لما يعتريهم من برد حتى الساعة التاسعة صباحا، وتبصر بجانبهم مهندسا أوروبيا يروح على نفسه لتصببه عرقا من الساعة الثامنة، وتبصر هذا المهندس ينظم أجهزة قياس الزوايا، وتبصر الصبي الأسمر الممسك له محفظة يفكر في الأحذية الجميلة التي يمكن أن تصنع من جلدها، وتبصر مضخة متينة تنتشق رمل النهر بلا انقطاع على حين ترى رجالا حدب الظهور يأتون بأكياس الرمل الضروري لصنع الأسمنت، وتبصر رجالا آخرين يثقبون الصخور المزعجة المغمورة بالماء لنسفها غير ناظرين حتى إخوانهم الذين يجيئون بالحجارة المنحوتة، ولو لم يعلم أن عزيمة مبدعة هي التي تشرف على هذا الاختلاط والاختباط لحكم بأن ذلك مجمع مجانين.
وخلف صمت جبال القمر البعيدة العميق، وبالقرب من بلاق ومن المكان الذي يخر الماء فيه بلطف حول قطع من الحجارة، وحيث يبنى السد، يتألف من صلصلة الحديد فوق الجدار الجديد، ومن حركة الخرامة العاملة بالهواء المضغوط، ومن صرير المناشير، ومن الانفجارات المتعاقبة، ومن صوت المداق وصدى المطارق التي ترتفع وتقع، ومن خشخشة الحصا التي تزلق على منحدر قبل أن تعود إلى الماء، ومن نعاء
8
الآلات، ضجيج، أو تنافر ألحان، مؤد إلى الدوار، ويستغيث الطائر المعروف بأبي منجل ويفر إلى تيجان أعمدة المعابد، ويسمع نداؤه وتصفيقه بأجنحته من خلال ذلك اللغط نتيجة لعدم انتظامهما كجميع أصوات الطبيعة.
ولا يبدي الجميع عجلة ولا هيجانا، ويوحي الجو بالمرح، ويخيل إلى الناظر من بعيد أنه يرى عيدا من عهد الفراعنة، وبطل هذا العيد، أو ملكه، هو المهندس اللابس ثيابا بيضا، وخوذة من الفلين
9
والكتان، وترس هذا المهندس هو إضبارته،
10
وسيف هذا المهندس هو فرجاره، ويبدو هذا المهندس أميرا إقطاعيا لتلك المنطقة، وذلك لصمته وعدم تلوثه وإصداره أوامره بالإصبع لا بالكلام، ويفصله اتزانه عن ذلك الجمهور ذي المشاعر الصبيانية، وينتظره زورقه الآلي بالقرب من الصخرة الواقف عليها، وهو يبحث عن وجود صدوع أو نتوع
11
أو عن سد الينبوع بالأسمنت أو عن إمكان قرض القطرة، التي تخرج مع كل ما عمل، لقاعدة الركن الذي لا بد من إقامته هنا.
وذلك المهندس يشابه الجراحي الذي يمسح برفادة
12
من القطن ما لا يزال ينزف من الدم مستوحيا حذره وتجربته قبل أن يخيط الجرح، وعلى المهندس أن يكون يقظا ما توقفت الحياة، أو ما خلقه الله أو أبدعه الإنسان من النظام، على قراره، وما وجب ألا ينتقم المنبع الواقع تحت الأرض لنفسه؛ وذلك لأن الركن إذا ما ارتج ترجرج جميع البناء، وهو يظل صامتا هنالك بين ما يصدر عن مكتبه من حركة يوجبها ولا يسمعها كما يثبت ذلك تحديقه إلى الأرض، وهو يضع في جيبه برقية يؤتى بها إليه، وهو لا ينظر إلى غير هذا الشق الذي يجب أن يكشف له عما في الصخر.
ولا يرى هذا المهندس قوس قزح الذي يربط أمامه ذلك الاختلاط بإنشاء السد، ويريد مهندس مساقط الماء هذا أن يستر بنوره السحري جميع نتائج حسابه، وفرعون الأبيض هذا لا يبصر بعينه شيئا، وإنما يثب إلى قاربة الآلي ويشير إلى الشرق بإصبعه، وهو يكون بعد عشر دقائق في مكتبه الصغير الذي تستر جدره المجصصة مئات الرسوم الدالة على علاقات كل صخرة بالصخور المجاورة، وهو يحسب طاقة الركن ويقرر أن يفحص قاعدته غواص؛ وذلك لأن تصدعه بضغط الماء يؤدي إلى انهيار جميع ما بني على ما يحتمل.
ولا ينبغي تبديد الوقت، ولا بد من أن تكون ثمانية أركان في مكانها قبل الفيضان القادم، وذلك وفق حسابات محكمة - إحكام ما عند الفراعنة - صادرة عن نفر مجتمعين في ذلك المكتب.
ولسنن النهر - لا لسنن النور - يخضع ذلك العمل المعد لقهر النيل، وبعد غياب الشمس، وبعد دخول عشرة آلاف رجل من مختلف الألوان في خيامهم على الشاطئ واستلقائهم على حصرهم، ينهض عشرة آلاف رجل غيرهم في الليل اللامع ويمدون قسم السد الناقص مستعينين ببكرات اتصال راكبين زوارق ونقالات مداومين على عيد العمل ذلك ليلا.
وتنصب الفيول الفولاذية الكبيرة على الجدار الذي يبنى، وذلك على نور مصابيح محدبة، وترفع مع الحذر خراطيمها التي لا تعرف التعب أكياس الحجارة المكسرة وتضعها في زوارق بطينة مقيد بعضها ببعض، فيتألف منها أسطول صغير يجره مركب بخاري في الليل البهيم، وتسمع عند أسفل ذلك الجدار الساتر لثلث عرض النهر غولا يخرج صفير غضب، وينفث هذا التنين وميضا عن لهث، ويبسط ذراعيه لحماية صغاره، وهذه الجبالة التي لا تشبع تبلع أكياسا وصناديق مملوءة رملا، ويساعد الماء على صنع البتون
13
الذي يمتزج جيدا عند طراوة الليل، والذي يعد للسيطرة على النهر.
وفوق ذلك - وفي الظلام - تنتصب أركان غير تامة كأعمدة مكسورة، كشهود على ماض مجيد، وذلك على ألواح مائلة موضوعة في كوى واسعة يكاد صنعها يتم، ويلوح رجال قائمون بتنظيف الحجارة فوق رءوسهم كما لو كان عاهل يصل غدا على سفينة فاخرة، ويكسون الأجزاء الناقصة وحدها بالقار،
14
وذلك لضرورة جفاف كل ركن في أربعة أشهر، والوقت يلح.
وفي الأسفل يصرخ رجال حين يجرون قطعة حجر من مجرى النهر الجاف في هذا المكان بعد أن أحيطت بحبال ضخام، وذلك كما لو كان يؤتى ببقر ماء مذبوح لتقطيعه.
وترى فوق رءوسهم، وفوق مستوى الجدار، وبجانب خرطوم الفيل، وفي قفص مهتز، فتى يدير مخلا
15
عند كل حركة للخرطوم، مع تسليه بالنظر إلى المصباح المحدب المجاور، وترى رجلا أقرب من سواه إلى النور غير تابع لناموس الثقل، سيدا للسد والليل، وهذا الرجل هو فرعون العيد الصاخب.
الفصل الرابع والعشرون
دامت عربدة العمل تلك ثلاث سنين في سواء النيل، واستمرت أكثر من ألف نهار وألف ليلة لم يقطع اتصالها قطعا جزئيا غير الفيضانات، وفيما تتحول مهالك الصخر إلى سد مستقيم بين ضوضاء العناصر والآلات والرجال كان مديرو هذا العمل يقيمون بأكواخ لطيفة جديدة بجانب شغلهم، وتغرس بواسطة خدمهم السود بساتين رائعة حيث أتوا بالغرين قبل أن يغمر أقل حقل مصري، وتتحول الصحراء بإمرة نسوتهم إلى غاب من غار أبيض ووردي، وذلك بمثل السرعة التي يظهر بها السد الحجري.
وكان مبدعو الطراز الجديد إذا ما انتقلوا من نور الظهيرة الذي يعشي الأبصار إلى طراوة مساكنهم ذوات الظل أبصروا تجدد مسرح فينوس
1
ومارس
2
على الطريقة الإنكليزية مع الشاي والسندويش الضروريين حتى في مدار السرطان، وما في تلك الواحة من مآس فمصدره الجو وتوتر الأعصاب والعزلة وما واجهه نحو مائة رجل من حياة خطرة بين العناصر والعبيد. وكان الإفلاس نصيب الملتزمين الذين فوض إليهم أن يقوموا بقسم من العمل، وذلك لما أدى إليه سقوط بعض الصخور من قلب حساباتهم رأسا على عقب، ومما حدث أن اقترف مهندس مشهور من الخطأ عند ارتفاع السد ما ذهب معه قانطا إلى الإسكندرية فانطلق في زورق وأغرق نفسه في مصب النهر الذي هو سبب هلاكه، لا سبب مجده.
ولم يكن الخزان عند تمامه مرتفعا بدرجة الكفاية، وتظهر مصر بأسرها محتاجة إلى الماء في فصل الربيع، ويبدو الحوض المارد قصيرا، ويرى رفع جدار الدعم في سنة 1912 - ثم في سنة 1933 - إلى 55 مترا، مع أنه كان مرتفعا 40 مترا في بدء الأمر، ويحسب ويلكوكس أن النفقات تكون مليوني جنيه بدلا من 4200000 لو قامت الحكومة نفسها بذلك، مقيما البينة ضد الادعاء بأن المال الخاص يعمل - دوما - وفق حساب أوفق من حساب الدولة.
وينال السد روعة بتلك التعلية، وتدمج الدعائم في الجدار المتصل الأكثر ثخنا ويوسع الجسر فوقه ويكتسب شكلا جانبيا جميلا بذلك، ويستعمل الغرانيت الوردي الأقل مقاومة حيث رئي ضغط الماء والهواء أقل شدة؛ أي في الناحية الشمالية، ويبصره الغريب - الذي يأتي من أسوان - ساطعا من بعيد، وتسم الفروق غير المرتقبة ذلك الانتظام القسري في تلك الكتلة بشيء من المفاجأة، فتفتح من ال 180 كوة مجموعات رباعية فتحا غير منتظم، ويتدفق الماء المزبد كأربعة حصن مقرونة ثائرة منقضة بعد وقع الحوافر على الأرض وراء الرتاج، والمهندس الجالس في الحجيرة البيضاء بأقصى الغرب من السد هو الذي يعرف عدد الكوى - وأي الكوى - التي يجب أن تفتح وسبب فتح هذه الكوى دون سواها.
وإذا ما أغلق السد بين نوفمبر ويناير لكي يمتلئ بعد الفيضان وجب أن يسهر على إرسال مقدار من الماء إلى مصر، ويفرغ الماء فيما بين أبريل ويونيو ويجري إلى مصر في هذه الأشهر الثلاثة أكثر من ستة مليارات من الأمتار المكعبة، ويبلغ العرض والطلب من التوازن ما يغير معه عدد الكوى المفتوحة وارتفاع ما يفتح اثنتي عشرة مرة في اليوم الواحد. ومن حسن الحظ أن الأبواب تحرك بدواليب موضوعة على السد سهلة الإدارة فيستطيع صبي أن يطلق الماء المضطرب أو أن يسيطر عليه، وتظل البحيرة ساكنة خلف السد مع ذلك، وتحويل مستواها وحده هو الذي يوحي إلى الروع بما يقع في الجهة الأخرى، وكلما ارتفع الماء غاص معبد بلاق.
وعندما يأتي الفيضان في شهر يوليو يفتح المهندس الكوى ال 180 بأسرها، ويهبط مستوى البحيرة، وتبرز أعمدة معبد بلاق من حمامها مع قواعدها الوحلة، وترى مصر في كل سنة مدينة لهذا الري المنظم بمحصولين وبثلاثة محاصيل في سبعة ملايين فدان على حين يداوم 1200000 فدان على إعطاء محصول واحد وفق نظام الري القديم.
خزان أسوان.
والمهندس بمصر - حين ينهمك في أرقامه وجداوله ورسومه وحساباته - يبدو كمدير صندوق توفير يأتيه خزنته في كل صباح بقائمة عن الدخل والخرج، وهو يستعين بالبرقيات التسع - التي يأخذها في أول كل نهار عن جريان النيل الأبيض حتى ملاكال وجريان النيل الأرزق حتى الرصيرص - في حساب مقدار الماء الذي يدخل الحوض في كل أربع وعشرين ساعة، وفي حساب الارتفاع الذي يبلغه هذا الماء؛ وذلك لأنه يعلم أن وصول موج النيل من ملاكال إلى أسوان يتم في أربعة وأربعين يوما، وأن أصحاب المصالح يطالبون - دوما - مقابل رأس المال الذي قدموه كضرائب لإقامة السد.
وترى ذلك المهندس - كمدير صندوق التوفير - تابعا للقوى القاهرة التي يمكن أن تقلب خططه رأسا على عقب، فتجد بين سنة 1913 وسنة 1918، وفي الأشهر بعينها، فرق ستين في المائة بين أعلى مستوى للماء وأدنى مستوى له. والنيل الأبيض - الذي هو أثبت الأخوين - هو المسئول عن ذلك، وما يأتي به أشرسهما مزبدا في شهر يوليو فيوضع على ركب الآلهة.
ولا يزال عامل الانتقام في العنصر المقهور كامنا تحت النيل، ولا ينبغي لليد التي سيطرت على النهر الحافل بالأسرار أن ترتجف، فلا يعتم النيل أن يبدو عنيفا، فإذا ما أغلق المهندس كوى السد بسرعة بعد الفيضان، أو إذا ما أغلق كثيرا منها دفعة واحدة، انهارت أرصفة النهر وتداعى ما على هذه الأرصفة من بيوت، وإذا ما كان ماء الأحواض كثير الملح اضطر الفلاح إلى استعمال السماد كجميع فلاحي العالم الذين ينتظرون ماء السماء من غير أن ينالوا غرينا من الأرض، وإذا ما مضى الفيضان وزرع نوبي المجرى الأعلى حقله بالقرب من الضفة وجب أن ينمو ما بذر بسرعة؛ أي قبل أن يعود الماء فيذهبه.
ولو أقيم خزان أسوان في القرون القديمة لعد من عجائب الدنيا، وهو من عجائب العالم في هذا الزمن أيضا، ولم يكد بضع عشرات من السنين يمضي على نبوءة بيكر حتى أخذت هذه النبوءة تتحقق، «فسيأتي زمن يعجب فيه العالم بقدرة مصر حيث يتموج القمح على مدى البصر في هذه الصحارى الرملية البائسة، وحيث ترى الجمل وحده يكافح الطبيعة المنهوكة في الوقت الحاضر، وسينعم الناس - من بعض المرات التي ترفع - نظرهم في شبكة من القنوات والأحواض فيتساءلون مدهوشين عن كيفية بقاء قوة هذا النهر مجهولة طويل زمن كما بقي منبعه أمرا مكتوما.»
وقد بلغ ذلك الارتفاع في الوقت الحاضر، ففي كل يوم تبصر بالطائرة منظرا تبصر بين صحراوين قطعة أرض خضراء ضيقة تتألف مصر منها، والسائح حين يطير فوق السد يشاهد زورقا قديما يمر على قناة طويلة في الطرف الغربي خاص بالملاحة، فيذكر الرسالة التي بلغت إلى فاوست. «زورق كبير على القناة»، ولا يراه فاوست الأعمى. وأما نحن فإننا نعجب ما ترك لنا الإله قلوبا تخفق وعيونا ترى، بالنيل القديم وبمغامراته وبقهره وترويضه وبتهدئته كفيلسوف شائب، وجعله نصيرا مساعدا للذين يزدحمون على ضفافه محققا بقواه التي تدارى بحكمة أكثر مما يحقق في أثناء فتائه المتجبر، ونرى الشراع المثلث الزوايا الذي كان يتخذ في عهد الفراعنة، وهنا تتلاحق أساطير ستة آلاف سنة وأعمالها وأقاصيصها وأفكارها. وهنا - في هذا القسم الأخير من مجراه - يكتسب النهر العجيب السائر إلى البحر ألوان جميع الأدوار التي جاوزها، وصدى جميع الحضارات التي أوجدها فأبصر ازدهارها وموتها.
الجزء
النهر المقهور
والآن يزهو بأعظم مجد، فالشعب يرفع الأمير إلى ذروة العظمة، والأمير في موكب نصره يعين البقاع فتقوم مدن على أثر خطاه.
غوته
الفصل الأول
اعلم يا أمير المؤمنين أن مصر تربة غبراء، وشجرة خضراء، طولها شهر وعرضها عشر، يكتنفها جبل أغبر، ورمل أعفر، يخط وسطها نهر مبارك الغدوات ميمون الروحات، يجري بالزيادة والنقصان كجري الشمس والقمر له أوان، يدر حلابه، ويكثر عجاجه، وتعظم أمواجه، فتفيض على الجانبين، فلا يمكن التخلص من القرى بعضها إلى بعض إلا في صغار المراكب، وخفاف القوارب، وزوارق كأنهن المخايل،
1
أو ورق
2
الأصائل، فإذا تكامل في زيادته نكص على عقبه كأول ما بدأ في جريته وطما
3
في درته، فعند ذلك تخرج ملة محقورة يحرثون بطون الأرض، ويبذرون بها الحب، يرجون بذلك النماء من الرب، لقيهم ما سعوا من كدهم، فناله عنهم أناس بغير جدهم، فإذا أشرق الزرع وأشرف سقاه الندى، وغذاه من تحته الثرى، فبينما مصر يا أمير المؤمنين لؤلؤة بيضاء فإذا هي عنبرة سوداء، فإذا هي زمردة خضراء، فإذا هي ديباجة رقشاء، فتبارك الله الخالق لما يشاء.
وليس الذي وصف وادي النيل الأدنى بهذا الوصف الرائع شاعرا أو جغرافيا أو متفننا أو سائحا، وإنما هو القائد العربي عمرو بن العاص الذي فتح مصر في القرن السابع لمولاه الخليفة عمر، وهكذا يصف رجل العمل والعزم ذلك البلد الذي فيه سر مجده كما لو كان ذلك حلما جميلا.
ومن الشعراء كثير يصفون أحد البلاد كأنهم فاتحوه، والنيل والشمس هما الإلهان اللذان أوجدا مصر ويحفظانها اليوم كما في الماضي، والنيل والشمس هما اللذان ولدا وأخصبا أخضر واحات العالم طرا، ولكن الإله الشمس هو الذي أبدع النيل، كقول إخناتون: «أنت الذي خلق النيل في أعماق الأرض، وأنت الذي قاده حول الأرض لإطعام الناس حيث تشاء.»
ولا ترى بلدا أضاءته الشمس بمثل تلك القوة، وتمتص الصحراء كل رطوبة فلا تبصر هنالك ضبابا ولا طلا،
4
وكل من العناصر الأولى - الأرض والماء والشمس - منفصل عن الآخرين انفصالا جليا، فلا تغير ولا انتقال، والهواء صاف خال من الجراثيم، والليل الذي يجيء بالطراء إلى دائرتي الانقلاب يأتي به من الصحراء الواسعة إلى هنا، إلى هذه الواحة التي تستر بالندى وقت الصباح وفي بعض الأحيان.
ولا تطبق الأحوال الجوية في البلدان الأخرى على هذه البقعة الضيقة القاطعة للصحراء والعاطلة من المطر ومن الشجر والغاب والظل. وعندما نجد في قبور الملوك، وبالقرب من الجماجم ذوات الجبن المائلة إلى الوراء والتي ترجع إلى ما قبل التاريخ عظاما لبقر الماء وللذئاب تتمثل لنا غابات نخيل ويتوع
5
حيث كان الإنسان العاري يصطاد الجاموس والأسد والضبع، ثم تحولت هذه الغابات الأبكار إلى سبسب
6
فإلى سهب ثم إلى صحراء، وصار الإنسان بدويا أو فلاحا.
بيد أن تلك المراحل قطعت بأسرع مما في الأماكن الأخرى، فلم يكن هنالك دور جليد كما في أوروبة، وقد تكون سهل، أو صحراء ليبية التي يقطعها النيل الأول كما تدل عليه آثار الأنهار التي توارت، وذلك بدلا من الخليج الكبير الذي كان يوغل حتى أسوان فحكى عنه هيرودوتس، ثم توجهت الصحراء إلى الشرق، إلى جهة الأخدود الطويل الذي كان البحر يغوص فيه، وكانت أرض شمال أفريقية - حين ظهور الإنسان - ترتفع مقدارا فمقدارا كما يظن، فكان النيل يجري من خلال الخليج القديم، واكتشفت رسوم الإنسان الأول وأدواته الحجرية على الرصيف الترابي الثاني الذي هو نتيجة تأكل متعاقب، ولم يصبح شمال أفريقية صحراء إلا بعد ذلك.
وعادت الغابة بعد ذلك غير موجودة لتلقي الرعب في قلوب الناس، وعاد الناس لا يصطادون، وقد اجتذبهم النهر العجيب وجمع منهم عددا كبيرا بأكثر وأبكر مما في أي مكان آخر غير الواحة الأخرى بين دجلة والفرات. ومن المحتمل أن ولدت جميع الحضارات في واحات من هذا النوع، وعانى ما بين النهرين - أو هذه الواحة التي هي أوسع من تلك - تحولات كثيرة قامت بها أمم سكنت السهوب والجبال المجاورة، وتقع مصر بين بحرين وثلاث قارات من دون أن يكون لها جار سوى الصحراء والبحر، وظهرت حضارتها من صميم الأزل ذي الصفاء والجمال الكلاسي،
7
ومن الجو عليها بالصحة والثراء والسعادة.
وإذا كان أنبياء ما بعد الطبيعة الثلاثة ظهروا في صحراء بلاد العرب بعد حين فإن غرين النيل الرزين أسفر عن دين عيني مقتبس من الحياة راجع إلى الموت بشري خالص، وتبدو عادات المصريين الأولى واضحة صافية صفاء هواء بلدهم، وتعين شيمهم منذ ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد بضيق المكان الذي يحملهم على الحياة مزدحمين تابعا بعضهم لبعض غير قادرين على العيش منفردين.
وداوم بيض الشمال البعيد وراء البحر وسود الجنوب البعيد عند منبع النهر - في ألوف السنين، وفي غاباتهم الكثيرة المطر - على العيش كالهمج وعلى التذابح والفوضى القائلة بقانون الأقوى، ومع ذلك أكره النهر في هذه الواحة شعبا كثير العدد على العيش معا، وعلى الانقسام إلى فلاحين وصيادين ومحترفين وكاتبين. والإقليم وحده هو الذي علم الأعقاب ماذا كان أولئك يعلمون؛ وذلك لأن القبور والبردي اللذين أداما تاريخ مصر قاوما القرون بفضل جفاف الصحراء، ونحن إذا ما أمسكنا جمجمة رمسيس الثالث السليمة بأيدينا علمنا بها ماذا كان صاحبها يعمل وفيم كان يفكر.
الفصل الثاني
يتقدم رجل على نور الصحراء وحده، وهذا الرجل طويل أسمر كأحد الآلهة، وهو رهين موت درامي
1
ما لم يسلك طريق الواحة في الوقت المعين بسرعة الجمل، وهو يهلك - حتى في وادي النيل - ما لم يتشارك هو وألوف الآدميين، وما يغمر به من عنف هذا النهر - منذ ألوف السنين حتى قيام السد الإنكليزي الأخير - ذلك البلد وما يغطي به الحقول من غرين، فيظل عقيما أو يغري الإنسان بالإنسان لو لم يتضافر الجميع على حساب ارتفاع الفيضان توزيعا لمائه وإنشاء لأسداده الصغيرة ولو لم يتألف من الجميع شركات وجمعيات تنطوي على القيادة والطاعة للسيطرة على هذا الفيضان الخصيب والانتفاع بهذا القادم من جبال الحبشة البعيدة ومن جبال القمر المجهولة مجاوزا الصحراء.
فلاح على ضفة النيل.
ولم يكن النيل - الذي يستولي على الواحة في كل سنة بصولة جالبة للبلايا - ليصبح محسنا إلا بفضل ذكاء الإنسان وحذقه، ولا بد لأمة لا تعيش بغير ماء يأتيها من بعيد؛ لا بد لهذه الأمة التي ترقب قلقة ورود ذلك الفيضان - كقبائل الأسكيمو التي تنتظر السفينة التي تأتيها بالقوت الضروري في كل صيف - من أن تكون قد انتهت إلى إقامة دولة من نفسها قبل الدور الهيروغليفي، وفي وقت لا أثر فيه لكلمة الدولة.
وقسم أناسي ما قبل التاريخ جميع البلد إلى أحواض ذات حواجز قائمة الزوايا فيدل المربع على مديرية كما في الخط الهيروغليفي، وفي النيل أسفرت الضرورة عن أول معاني السلطة المركزية والطاعة، والنيل - أيضا - هو الذي دفع الكهنة إلى رصد النجوم لحساب وقت الفيضان، والنيل هو الذي أوحى إليهم بفكرة قياس العلو لمعرفة ارتفاع الفيضان ومسح القسائم للاهتداء إلى حدود الحقول التي يمحوها الماء في كل عام، ولحماية نظام التملك والفصل في خصومات الحدود.
والنيل هو الذي أوجد علم الفلك والرياضيات والحق والقانون والنقد والشرطة مع عدم وجود هذه الأمور لدى أية جماعة بشرية كانت، وهل وجد شعب آخر صاحب تقويم منذ أربعة آلاف سنة قبل الميلاد وعارف بدائرة البروج قبل الميلاد بثلاثة آلاف سنة؟ النيل هو الذي علم المصريين جميع هذه العلوم. ولاحظ نابليون ذلك فقال: «تغدو سهول بوس وبري
2
خصيبة بانتظام ماء السماء، ولا عمل للإدارة في ذلك، والنيل يكسب من الصحراء بفضل إدارة رشيدة، والصحراء تكسب من النيل بفعل إدارة رديئة، وفي مصر يبدو النيل أو رسول الخير والصحراء أو رسول الشر ماثلين على الدوام.»
ذلك هو المثل الكلاسي لبلد عاطل من المطر، ومن الجوار تقريبا، وذلك هو المثل الكلاسي لبلد تفرض الأرض فيه سلطانها ولا وجود لسنة النسب فيه؛ وذلك لأن الأرض وماءها الملغز هما اللذان يحولان الأمم التي تستقر بذلك الوادي ويجعلان من هذه الأمم مصريين مهما كانت، حتى إن الثيران التي تدخل من بعيد تتحول هنا في بضعة أجيال وتنال مثل حدبة بقر هذا البلد.
ولا يطبق ذلك على غير الواحة المجردة من المطر حتى عرض القاهرة، حتى منفيس فيما مضى؛ أي حتى رأس الدلتا، ولا يهدد الجفاف الصحي هنا في سوى الربيع حين تهب ريح الجنوب الشرقي الحارة، حين تهب الخماسين ويكفهر الجو فجأة ويأتي بظلمات جوائح مصر التي تمتد حتى فلسطين زمنا بعد زمن فيحتمل أنها كانت تنفث يوم موت يسوع، ويسميها العرب ريح السموم، ويرتفع ميزان الحرارة إلى الدرجة الثامنة والأربعين، وتبلغ درجة حرارة النيل ستا وعشرين، ويمتص الهواء كل بخار بعد الفيضان ، ويجف ما يغسل من الثياب في عشرين دقيقة، وتجف رئاتنا وأنوفنا وأفواهنا وشفاهنا كما تجف الأشجار التي تحيط بنا.
ويدلنا مقدار الأمطار السنوية على الفروق بين بلاد النيل الأربعة، ففي منبع النيل الأزرق بجبال الحبشة ينزل 1300 مليمتر، وفي منبع النيل الأبيض ينزل 1200 مليمتر، وفي السودان الأوسط ينزل 500 مليمتر، وفي الخرطوم ينزل 100 مليمتر، ولا ينزل شيء في مصر العليا، وينزل في القاهرة 30 مليمترا، وفي الإسكندرية ينزل 150 مليمترا.
ويا لغرابة شعب تكون حيث لا ينزل من السماء ماء في كل سنة، وحيث يكون السكان أكثف مما في أي مكان في النصف الغربي من الكرة الأرضية. وإذا كانت مساحة مصر البالغة مليون كيلومتر مربع تزيد على مساحة إيطالية وفرنسة مجتمعتين فإن معظم هذه المساحة صحراء خالية تقريبا، فترى سكانها البالغ عددهم أربعة عشر مليونا مركومين في وادي النيل على أرض أقل اتساعا من سويسرة، وتبلغ كثافة سكان مصر ضعفي كثافة سكان بليجكة، فيشتمل الكيلومتر المربع في بعض مديرياتها على سبعمائة من الأهلين، وكثافة مثل هذه أحرزت منذ ألوف السنين في ذلك البلد مما يؤدي إلى إيجاد شعب اجتماعي أو غير اجتماعي، ومن عمل النيل أن جعل من المصريين ذوي أنس.
إذن، نما شعب، تكون شعب بفضل إلهي إقليمه، فترى هذا الشعب مدينا للشمس بالقناعة ومرح الحياة، وتراه مدينا للنيل بروح النظام والطاعة. وهنا قامت دولة فجعلت من فرعون إلها، وجعلت من العمل ضرورة، ومن الري فنا، ومن العقلي والجلي مبدأ، وعلى ما كان من قلة عدد الأغنياء ما فتئ هؤلاء يفرضون على ألوف الفقراء حمل العمل اليدوي الذي هو أقسى مما في الأماكن الأخرى على ما يحتمل، ولا سيما ما هو ضروري من أعمال الري. وتبصر هؤلاء الفقراء طيبي المزاج مع ذلك، فلم يحدث قط أن ثاروا على الأغنياء تقريبا.
وفي هذا البلد يظهر أن الشمس جففت إرادة التمرد كالنيل بما فرضته من حساب فقضت على المعنى الفلسفي، ومع ما كان من اختراع هذا الشعب أمورا كبيرة قبل الشعوب الأخرى بألوف السنين، حاشا ما تم في وادي الفرات، ومع ما كان من عظمة هذا الشعب بعلمه وآثاره التي تنطوي على حسابات بادية حتى في أقدم التماثيل، كان هذا الشعب العملي المقدام عاجزا عن إيجاده لنفسه عالما علويا، فلم يكن العالم المنوع الذي تصوروه عما بعد الموت غير صورة عن حياتهم في هذه الدنيا، فقد جعلهم خوفهم من العنصر - من النيل - أتقياء اجتماعيين محافظين، وما كان من اختراع هؤلاء القوم للخط حوالي سنة 3300 قبل الميلاد فلم ينعم عليهم بأفكار وأغان مشابهة لما يوحي به توقد اليهود وعمق اليونان وتصوف الهندوس. والمصريون كتبوا للحساب أكثر مما للطرب، والمصريون كتبوا لتنظيم التقارير أكثر مما للخيال والتصوير، ولا تجد للمصريين أساطير وأقاصيص عن آلهة متعالية، بل تجد أخلاط قصص موجبة لفكرة واحدة مفروضة على جميع أبناء الشمس هؤلاء، وهذه الفكرة هي مكافحة الموت.
تلك هي قوة شمس مصر، وذلك هو صفاء هواء الصحراء، وذلك هو سخاء النهر الموزع للحياة، والناس هبات الحياة على ضفاف النيل مع ما يثقل كواهلهم من أعباء، وذلك هو الذي يحركنا حقا، والقنوات قصيدة هؤلاء الناس، والأسداد رواياتهم، والأهرام فلسفتهم.
الفصل الثالث
كان أقدم إنسان حفظه هواء مصر الجاف مطمورا في رمل الصحراء بالقرب من حلوان، ولا أحد يعرف زمن ما قبل التاريخ الذي ظهر فيه، ووجد محاطا بقوارير وببقايا حيوانات وبسكاكين وأسورة من برونز ونحاس، ووجد منثنيا كالجنين موضوعا على الشكل الذي كان عليه في بطن أمه، وكان يلوح - بنوع من السحر - أنه يشير من خلال ألوف السنين إلى الأم الأولى أو الأب الأول، فكأنه مصدق لقاصي العرب الذين يرجعون - عن جرأة - شجرة كل خليفة وكل حكيم إلى آدم. ومن أين أتى أولئك الناس الذين انتهت أسماؤهم إلينا فنجد أفيالا وأنمارا وأبقار ماء وزرائف وأفاعي ودلادل
1
محفورة على خناجرهم فتعود إلى دور كان النحاس والعاج فيه مجهولين حتى في شواطئ الفرات؟ أجاءوا من الشمال أم من الجنوب؟
تلك المسألة موضع جدل لدى العلماء، فلا يجدون لها حلا، ولا شيء أكثر عقما من إثارة مسألة العروق في مصر حيث تحول الطبيعة والجو المتجبر كل من يدنو من النيل. ويثبت سيفره أن السلتيين كانوا أول الغزاة، ويرد فولنه ذلك بأن أولئك من الزنوج، ويرى فينكلمن أنهم من الصينيين، ويجدهم جونس من البولينيزيين، ويجهل بيتري جميع هؤلاء ويقول موكدا: إن أولئك من الأحباش، ويسخر روجه من تلك الآراء كلها ويقرر أن أولئك من البابليين.
ولم يتجل عدم أهمية العرق وتأثير الأرض القاطع في مكان مثل تجليهما هنا؛ ففي هذه الواحة العجيبة غدا جميع العروق والأجناس من إنسان وحيوان مصريا، ومن الموضة
2
بين العلماء في الوقت الحاضر أن يصروا على الرأي القائل إن المصريين الأولين كانوا من الحاميين المصاهرين للغلا والصوماليين والمختلطين بالساميين المهاجرين إلى الدلتا الشرقية، وليس في هذا ما ينير الأمر، وأفضل من ذلك كله أن يقابل بين أقدم الأجسام المحنطة ووجوه فتيان الفلاحين، فهنالك يبدو طول الأعناق والأنوف الآسيوية مع أنوف الزنوج الفطس وشفاههم الغليظة؛ أي تبدو نتائج توالد دام ستة آلاف سنة فأسفر عن منح أولئك صحة ونشاطا إن لم يمنحهم عرقا خالصا.
ولنا أبسط الأمثلة من الطبيعة والنهر؛ أي من الشمس والنيل. فالنيل يأتي من الجنوب، والزوارق تجري فيه نازلة نحو مجراه التحتاني منذ أقدم الأزمان وعلى الرغم من الشلالات. ومما لا ريب فيه أن نقل الشعوب والرعاة ثمرة تجاربهم، ثم وصل الساميون من الشرق مجاوزين الصحراء والبحر الأحمر تجارا وجنودا ألاحي،
3
فلم ينفك الفراعنة على قبورهم يضربونهم أو يقطعون رءوسهم، ومن نزل من البحر إلى الشمال، إلى الدلتا المستغدرة، فمن الإيجيين والفنيقيين والفرس والأقريطشيين الذين أتوا بعد الفراعنة التاريخيين.
ومن الطبيعي أن وجدت في النيل الأعلى هياكل عظمية لزنوج وأن وجدت في النيل الأدنى هياكل عظمية لآسيويين. وإذا كان قد وجد في أقدم القبور قمح مفحم وقضبان كرم فإن من الموكد أن تكون هذه القضبان - ومن المحتمل أن تكون الحبوب - قد جاءت من شواطئ الفرات. وإذا كان ذو الرأس الكبشي أمون قد وجد مرسوما في الصخور الأفريقية فلم لم يعن للأمم المجاورة الكثيرة أن تمزج الحيوان بالإله، ولم لم يفكر الفلاح الأول على النيل في رسم خط بالعصا على الأرض ذات الغرين الناعم فيخترع المحراث على هذا الوجه؟
أجل، عرف المصريون أن يشيدوا مباني وأن ينحتوا حجارة من غير أن يعلمهم ذلك أجنبي، ولكن الذي لا ريب فيه هو أن أول صنم مصري كان إلهة لها جسم بقر الماء.
والنيل لدى أولئك القوم مقياس كل شيء في كل زمن، سواء أكان ذلك منذ ستة آلاف سنة أم في الوقت الحاضر، وعند أحد الفراعنة أن المجد من عناصر حياة الخلود فصرخ قائلا: «يمكن الناس أن يقولوا عني ذات يوم إنه كان نيلا!» وعلى من يمثل بين يدي أوريرس وقضاة الموت أن يبرئ نفسه مع اليمين من الكبائر الأربع والأربعين فيقول عن إحداها: «إنني لم ألوث ماء النيل ولم أحبسه عن الجريان في موسمه ولم أسد قناة.»
وقد بلغ أولئك القوم من تقديس النهر ما كان أهل ضفافه يحنطون معه من يغرق فيه ويدفنونه مغمورا بالأزهار كما لو عاد غير بدن بشري. وقد بلغ النيل من تعيينه الجنسية ما كان معه الإله أمون يصرح بلسان كهنته قائلا: «إن البلد الذي يفيض فيه النيل هو مصر، فكل من يشرب من النيل في مجراه التحتاني بعد بلاق
4
فهو مصري.»
وحقق ذلك بما هو أعمق عن روح شعرية، ويستعمل أوميروس ضمير المذكر للنيل وضمير المؤنث لمصر، ويرمز هذا الفرق النحوي إلى مصر. ولم تكن التماثيل التي جعل النحاتون بها من النيل رجلا منتفخا بطينا ذا ثدي، ولم تكن الأناشيد المصرية، ولم تكن الصور الرائعة التي رسمها من ظهر من المصورين في تاريخ متأخر، لتعبر عن الأسطورة بمثل الكلمة التي صدرت عن ذلك الإغريقي الأجنبي المدرك لما في النهر من قوة مولدة قبل هيرودوتس بأربعة قرون.
وقد حدد نيل النوبة - ويختلف عن نيل مصر بشلالاته الست المكونة من الغرانيت والحجر الرملي الصواني - أمور الري والزراعة تحديدا لم تكن الفلاحة معه لتمتد في 1200 كيلومتر على غير كيلومترين أو ثلاثة كيلومترات من العرض، ويسيطر الكلس الصدفي تحت أسوان حيث تبدأ مصر جيولوجيا، فيحفر النيل مجراه العريض في هذه الأرض اللينة ويستطيع في نهاية الأمر أن يخزن هنا ما يجره من غرين في ألوف الكيلومترات، وهكذا يتكون بلد خصيب أوسع مما في السودان خمس عشرة مرة. والآن ترى الوادي البالغ الضيق وغير الموجود في الغالب بين وادي حلفا وأسوان يمتد مع اتساع يستر ما بين عشرة كيلومترات وخمسة وعشرين كيلومترا، ولو كان طوله مناسبا لعرضه بدلا من أن يبلغ ألف كيلومتر لظهرت واحة كبيرة في الصحراء.
ومع ذلك تفصل خطوة واحدة ما بين الحقل الأخضر والصحراء ذات اللون الأصفر، ومن يشاهد هذا المنظر من الطائرة المتجهة إلى الشمال لا يكاد يصدق أنه من الحقائق، وإنما يخيل إليه وجود خريطة تحت قدميه دالة على الوجه الذي يتغلب به الماء على الرمل والذكاء على الماء، وعلى الوجه الذي ينتصران به على الشمس.
الفصل الرابع
إن ما ينجزه النيل قبل أن يوغل في مصر خاص بعالم الأساطير على ما يظهر. والنيل - إذ يخرج من بحيرة عظيمة، فيسكع
1
بين منقع ومنقع ويعرض أعزل للسهب والصحراء ويصد بمتارس الصوان - يذكرنا بأولئك الأبطال الذين يسلمون من جميع المغامرات وينجون من جميع المصائب لما قدر عليهم أن يقوموا بعمل يتمونه في مشيبهم، وما عانوه من ابتلاء فقد بلغ من شد نفوسهم ما تحل العقدة معه بوصولهم، وهذا هو أمر النيل الذي إذا ما مضى في مصر أدى حضوره إلى ولادة بلد من غير نزاع بما فيه من قدرة على التكوين.
والنيل في كل عام يثبت نشاطه وإبداعه، وذلك بقلبه نظام المواسم رأسا على عقب، والنيل في الصيف - حين تجف مياه الأنهار الأخرى أو تنقص إلى أدنى درجة - يبلغ الغاية من الزيادة، والنيل فيما بين يونيو وسبتمبر يبلغ مستواه من الارتفاع في مصر العليا 13 ذراعا أو 14 ذراعا، ويبلغ من الارتفاع في الدلتا سبع أذرع أو ثماني أذرع، والنيل في أثناء هذه الأيام المائة يقبض على هذه الأرض التي تنتظره، ثم يرتد النيل كإله غير تارك وراءه سوى كهان يقومون مقامه ويحرسون معبده، ولا يزال الناس - والفاتحون أيضا - يعبدونه على ضفافه مثل إله.
وينظر المصريون إلى الفيضان الذي هو مقسم الأرزاق نظر الخائف الراجي، وترى المصريين - كالأم التي تسائل نفسها في أشهر الحمل التسع عن وضعها ذكرا أو أنثى - يرجعون إلى الفأل والجفر والكهنة والمهندسين ليعرفوا مقدار ارتفاع الفيضان القادم. وكان رهبان الأقباط يعرضون لطراء الليل قطعة من فخار على أن يزنوها في الصباح وفي المساء ويستخرجوا من فرق الوزن قوة الفيضان، وكان المنجمون يحسبون اقتران السيارات وصولا إلى ذلك، وكان العرب في القرون الوسطى يرون أن اصطباغ النهر باللون الأخضر دليل على الفيضان الضعيف؛ وذلك لأن عدم كفاية الأمطار يؤدي إلى جر النيل جميع أعشاب البحيرات التي يأتي منها.
واليوم تعلم أمواج الكهربا في كل ساعة فريق المهندسين في القاهرة وأسوان مقدار ارتفاع النيل. وقد بلغ فن الري في كثير من الأماكن بمصر درجة من الكمال تقضي بالعجب، فترى من القوائم ما يسهل معه في كل يوم حساب مقدار الماء الذي يصل ووجه توزيعه وما كان يجهله الفراعنة والرومان والعرب مع ما لديهم من مقاييس النيل، ولكننا إذا ما سألنا أقدر مهندسي الري عن مقدار الفيضان القادم وجدناهم من العجز عن الجواب ما لا يفوقون معه أقدم السكان الذين كانوا منذ ألوف السنين ينشئون على ضفاف النهر أول الأسداد، والذين كانوا أول من جر المحراث ورفع الماء بالساقية الأولى.
وكان القدماء مع جهلهم يبصرون الفيضان قبل وقوعه كما نبصر وإن كنا نعرف مصدره، وتقول نظرية يونانية إن ريح الشمال تدحر النيل وتحول دون انصبابه في البحر، وتقول نظرية أخرى إن البحر يحيط بقرص الأرض، وإن النيل يأتي من البحر، وتقول نظرية ثالثة إن النيل يأتي من ثلوج الجبال العالية البعيدة. ويهزأ هيرودوتس بجميع ذلك من غير أن يجيء بما هو خير من ذلك، فمن قوله: «تلغز الطبيعة في وضح النهار من دون أن تدع أحدا يهتك حجابها .»
واليوم - أيضا - يظل سر الرياح الموسمية خفيا مع أنه يتكسر على جبال الحبشة، ولا أحد يعرف قوة هذه الرياح، ولا أحد يقدر مقدما على حساب ما تحمله من سحاب، ولا على حساب مقدار الأمطار التي تنزل على إثيوبية، ولا على حساب قوة الفيضان الذي يعتور النيل الأزرق والعطبرة.
ومع ذلك نستطيع أن نقيس الفيضان ونوزعه عند وصوله، وهذا ما كان الفراعنة يصنعونه فيما مضى. وكان يقاس ارتفاع الفيضان، وكانت الآلهة تسأل أن يبلغ الفيضان ست عشرة ذراعا قبل هيرودوتس بزمن طويل، هيرودوتس الذي جاب مصر قبل الميلاد بخمسة قرون.
ولذا أحيط تمثال النيل الألحى الشهير الموجود في الفاتيكان بستة عشر ولدا، ويلخص بليني ذلك بما عرف عن الرومان من إيجاز فيقول: «تكون المجاعة باثنتي عشرة ذراعا، وتكون الكفاية بثلاث عشرة ذراعا، وتكون المسرة بأربع عشرة ذراعا، وتكون السلامة بخمس عشرة ذراعا، وتكون السعة بست عشرة ذراعا.» وتتجلى روحه الدينية العميقة حينما يضيف إلى ذلك قوله: إن انخفاض مياه النيل في عام فرسالوس
2
يثبت أن هذا النهر أراد إظهار ما ساوره من نفور بسبب قتل بونبيي! وماذا يحدث لو أن الأنهار في العصر الحاضر تدخلت في سياسة أوروبة؟
وترجع الحسابات إلى أقدم الأزمنة كما يظهر، وما وجد بين أسوان والقاهرة من مقاييس عشرين للنيل فقد كان له على رواية الحديث العربي المقريزي، شكل بئر رخامية قائم على فوهتها نسران من نحاس أحدهما ذكر والآخر أنثى، فكان الجمهور في اليوم الأول من الفيضان يرصد أول صفير للنسر عند فتح فرعون والكاهن للبئر، فإذا خرج الصفير الأول من ذكر النسر عد ذلك دليلا على غزارة الفيضان وزاد الملك ثمن الحب الذي لم يبذر، فيالاتحاد وجد الفراعنة الديني وروحهم العملية!
ويجد الجغرافيون قياس النيل أمرا طبيعيا بعد زمن وفي عهد الطغاة، ويصرح استرابون في زمن قيصر بأنه لا شيء أفيد من مقاييس النيل للفلاح الذي يعلم بها مقدار ما يعتمد عليه من الماء، وما يجب أن يدخره للقنوات والأسداد، وبأنه لا شيء أفيد من مقاييس النيل للحكومة التي تعتمد عليها في فرض الضرائب فتزيدها بزيادة الفيضان، ويراها جيرار وهو واقف على ضفاف النيل مع الجنرال بونابارت بعد ألفي سنة فيدعوها بما أثر عن عصره من تهكم بريء ب «الذخائر المقدسة لشما كانت الحكومة تقدر عليه من رفع علامة مستوى الفيضان وصولا إلى ضرائب عالية.»
ونعلم تواريخ ارتفاع فيضانات النيل منذ ثلاثة عشر قرنا قمريا ونصف قرن قمري، بأوثق مما في تواريخ أوروبة من أنباء، ولم يقل لنا علماء العرب في القرن الرابع عشر من الميلاد كيف اهتدوا إلى أرقام القرون الستة المتقدمة، ولم يذكروا لنا مصادرهم، بيد أن ما نراه من بساطة جداول هؤلاء العلماء الكثيرين وما نأتيه من مقابلة بأرقام القرون القادمة يجيز لنا أن نعتقد صحة تلك الأرقام التامة على الإطلاق.
ومنذ هجرة النبي في سنة 622 لم تعوزنا الأرقام حتى سنة 1935، وعن جميع تلك القرون، إلا لمدة 192 سنة، ونحن نعرف ارتفاع الفيضانات لمدة 1132 سنة.
وتطن القوائم بأرقامها كما يترنم الكهنة في صلواتهم، ويقرع رنين ذلك آذاننا ويدل على المعدل المتوسط للمستوى الأدنى بالقرون هكذا: في القرن الأول 11,51 ذراعا، وفي القرن التاسع 12,52، وفي القرن الثالث عشر 13,90. ويدل على المعدل المتوسط للمستوى الأعلى بالقرون هكذا: في القرن الأول 17,5، وفي القرن التاسع 18,21، وفي القرن الثالث عشر 19,31، وخلف هذه الأرقام البزنطية والإسكندرية واليهودية والصليبية والعربية والفرنجية يمر الخلفاء والقواد والأباطرة والكرادلة والأثريون والفندقيون على طول النيل حتى وصول الإنكليز الذين قهروا النهر بالأسداد وعبدوه لتستقل مصانع جزيرتهم البعيدة فلا يرد القطن الذي يستعمل في منشستر من تكساس بعدئذ.
ومن خلال رقص الحوادث ذلك تبدو إحدى الحقائق من أعماق التاريخ، وإذ كان يشعبذ على طول النيل مع القرون فإنه يستخرج من جداول جغرافيي العرب وقاصيهم تلك أمر فريد في تاريخ معارفنا، فبما أنه أمكن أن يقابل بين أعلى المياه وأدناها في ألف وثلاثمائة سنة أمكن أيضا أن يقاس ما يأتيه النيل في كل سنة من غرين في أربعة أماكن واقعة بين أسوان والقاهرة. فالأرض قد ارتفعت بين القرن الثاني والقرن الثاني عشر مترا وثلاثين سنتيمترا كما ارتفعت بعد ذلك - أي في 770 سنة - مترا واحدا، وفي حسابات أخرى رئي أن ارتفاع هذا المتر وقع في السنوات ال 570 الأخيرة.
وحينما نحدث عن ألوف السنين التي لا بد من انقضائها قبل أن يصل إلينا نور الشموس البعيدة نتيه في بحر من الأرقام كما نتيه عندما يبحث علماء المستحاثات
3
في قدم الأرض ويخوضون في مئات ألوف السنين، فالنور الطيفي والأنساب العددية والمراقب والجماجم أمور تثير من المدد ما لا يخطر على قلب بشر.
ولكن مدة 770 سنة مما يتصوره الذهن، ومنذ 770 سنة خلت دخل الإمبراطور بارباروس ميلان مصالحا البابا بعد حرب محاطا بأمراء من الألمان وقساوسة من الطليان وبأولاده وحفدته، وحاول أن يحقق مشاريعه الواسعة، ثم مات غرقا في نهر بآسية الصغرى، ويجيء دور عظمة إيطالية بعد القرون الوسطى، ويتخاصم المئات من الملوك والأمراء، وتتنازع مدن وبلدان، وتتجمع أمم ويحاول بعضها إبادة بعض، ويظهر سان لويس ثم آل نابليون، ويظهر فردريك الثاني ثم الجمهورية الألمانية، ويظهر دانتي ثم نيتشه، ويظهر جيوتو
4
ثم رودان،
5
ويظهر حصان الفارس ثم الدبابة، ويتعارك الناس بأوروبة في سبيل آرائهم مدة سبعة قرون، ويتقاتل الخلفاء وزعماء الشعب بمصر، وفيما كانت السحب الثقال تصدم جبال الحبشة سبعمائة مرة كان النيل الأزرق يجر المليارات من نثار البراكين سبعمائة مرة ليضعها على ضفاف النهر رفعا لمستوى هذه الواحة العاطلة من الماء مترا واحدا، وهذا أمر ندركه، وهذا أمر نلمسه.
وما الذي ظل ثابتا غير متغير في وادي النيل في هذه القرون السبعة؟ إطاعة العبد لسيده وموت ملايين الناس الصامت في سبيل مجد - أو خزي - أولئك الذين حفظ التاريخ أسماءهم، وما بذله المفكرون من جهود - أو ما قام به الأقوياء والأغنياء من مضاربات - لم يمنع الفلاح في نهاية القرون السبعة من العيش بائسا كما كان عليه أجداده في عهد الفراعنة الأولين، ولكن الفلاح كان يعيش منذ خمسة آلاف سنة على أرض أسفل من الأرض الحاضرة سبعة أمتار.
والنيل كفاتح موهوب لم يفتأ يزيد ويركم كنوز الذهن، والنيل - منذ البداءة - يجمع المواد الخصيبة الضرورية لشيبته ويوسع عالمه بلا انقطاع. وإذا كانت الأرض التي يحرثها الفلاح غرينا عمقه اثنا عشر مترا ففكروا فيما يؤدي إليه هذا من سرعة المحصول وكثرته.
ولذلك السبب ترى ضفاف النيل نفسها أعلى من الأراضي البعيدة التي لا تأخذ من الغرين غير القسم الذي تعافه الأراضي القريبة، ويتوقف الخصب - أيضا - على عرض النهر وانحداره، وكلما كان هذا الانحدار كثيرا قل الغرين المخزون، ويكاد الانحدار يكون مترا واحدا في كل عشرة كيلومترات بين أسوان والقاهرة، ويظل معدل ارتفاع الأرض التدريجي في مصر العليا ومصر الدنيا على حاله في غضون القرون.
والطبيعة هنا - كما في كل محل - توزع عطاياها بإحكام، والطبيعة تخصب بغرين الحبشة أرض هذه الواحة العاطلة من المطر، والطبيعة تدع الشمس والغرين الجديد ينفذان في كل مكان، والحقل إذا ما شمله الفيضان القادم أعطى محصولا بلا محراث، أوجب حصادا لا ينفك يطيب؛ وذلك لأن الغرين يحل المواد اللاقحة ويساعد على نمو النبات، حتى إن حوادث التاريخ تعين على عمل الطبيعة هذا بأن تتحول إلى سماد أطلال المدن والقرى والبيوت المبنية بذلك التراب.
ومع ذلك تكسب صحراء ليبية في الغرب أيضا وتنزع من الإنسان أطيانا كان أجداده يزرعونها. وهكذا تبصر تنازع التراب والماء يحمل الإنسان المستقر بضفاف النيل على التأمل، وهكذا تجد الطبيعة حافزة للإنسان إلى التفكير في أمر الري.
أجل، يرجع الري إلى أوائل الزراعة في وادي النيل، غير أن أول تقنية تعود إلى عهد سيزوستريس الذي حمل - حوالي سنة 2000 قبل الميلاد - أسرى الحرب على حفر الترع، وقد توجع هيرودوتس من مصر؛ لأنها بلد لا يطاف فيه بعربة أو على حصان.
والطواف ممكن في الوقت الحاضر، فقد غدت الأسداد دروب هذا البلد الذي تسير فيه السيارات بسهولة فلا يشك السائح في أن الأسداد الملائمة للري هي طرق هذا الوادي الضيق الثمين.
ولا يزال أسلوب الفراعنة - أي الري بواسطة الأحواض - مستعملا في مجرى النهر الفوقاني قبل أسيوط، فإذا جاوزت الدرجة السابعة والعشرين من العرض الشمالي - أي إذا بلغت بدء منطقة زراعة القطن - أبصرت احتياجا إلى ري دائم تضمنه الأسداد. ومما لا ريب فيه أن فن الأسداد وحفر القنوات بلغ درجة من الكمال في عهد الفراعنة والخلفاء؛ وذلك لأن المدن والقرى كانت تبرز كجزر في وسط مصر التي لم تظهر غير بحيرة كبيرة في الصيف، واليوم ترى عدد تلك الجزيرات قليلا إلى الغاية، واليوم تخزن الأحواض الماء الغريني وتحفظه أربعين يوما، ثم يجري هذا الماء إلى أحواض تنحدر مقدارا فمقدارا فتتألف منها سلسلة.
وتبلغ الحواجز التي تفصل بعض هذه الأحواض عن بعض من العلو ما بين مترين وثلاثة أمتار فتمسك الماء في حقول يترجح عمقها بين خمسين سنتيمترا ومترين وفق وضع الأرض، ويبقى الماء في تلك الأحواض بين منتصف شهر أغسطس وآخر شهر سبتمبر، ويكون الجنود من اليقظة ما يمنعون به الفلاح الحافي من خرق الحواجز برجله أو هدمها بها، وذلك كما ترقب مياه المراز
6
حول ميلان أو كما تحرس خزائن المصارف
7
الكبرى في المدن. وهنالك محكمة خاصة للحكم على لصوص الماء، بيد أن الفلاح يكون من الانتباه بفضل الله أكثر من الجندي في الغالب.
خزان أسيوط.
وجميع الناس يسعون في الاستقرار بالقرب من الماء ما قدروا على ذلك، وهم في ذلك كالألمان الذين يتهافتون على برميل الجعة حينما يثقب ليستقى منه مرغيا؛ وذلك لأن الذي يكون بعيدا من النيل قريبا من حدود الصحراء يحرم «الماء الأحمر»، على حين يستطيع من يبذر بالقرب من الضفة أن يسقي حقله بالساقية وينال محصولين.
والملح سبب ألم أيضا، وفي غابات بحيرة ألبرت، وعند منبع النيل، وفي اليوم بعد اليوم، تجرف الزنجيات الملح من فوق الأرض بأيديهن ليأخذه الأقزام ثمنا لطرائد وحراب حادة، ولكن ما يعوز النيل في شبابه يزعجه في مشيبه، فما تحت الأرض من سمط ماء فيدخل الملح إلى ماء القنوات الصافي ويهلك - حديثا - أشجار الجميز والمشمش، وتمسك أسداد النيل ملحا كذلك، ومع ذلك ترى سماط النيل الواقع تحت الأرض يعين الأطيان على الحياة حين الهرم فيمد نحو ألف بئر أرتوازية، وأكثر من خمسين ألف ناعورة.
وإن بلدا يضمن رزقه على ذلك الوجه الغريب يثير أساطير لا ريب، فما يصدره من بر كثير فيجعل منه نبر فيض ووفر. وهل يكون بلد هذا أمره مع صفاء سماء غير سعيد؟ وينصح أحد علماء الجغرافية في القرن الثامن عشر أن يخلط تراب مصر بالرمل لكيلا يكون كثير الخصب، ومما قاله هذا الجغرافي إن الإناث في مصر هم من قوة النسل ما تلد الأنعام معه مرتين في العام وما تلد المرأة معه توأما في كل مرة تقريبا.
ويلوح أن هيرودوتس لاحظ مثل هذا البشر عند الكهنة في القرن الخامس قبل الميلاد، ومن المحتمل أن كان هؤلاء الكهنة يبتسمون حينما قالوا له: «بما أن بلاد اليونان عاطلة من نهر يرويها صار من الممكن أن تموتوا جوعا إذا لم ينزل إلهكم مطرا عليكم.» واسمع جوابه: «وأنتم - أيها الماكرون - تنالون ثمرات الأرض في الوقت الحاضر بأسهل مما يناله به سواكم من الناس؛ أي من غير أن تستعملوا حتى المحراث، ولكن إذا دام ما أثبتموه لي من ارتفاع أرض الدلتا كما أخذ يقع في القرون التسعة الأخيرة أفلا يصاب أبناؤكم بالمجاعة يوم ينقطع النيل عن الخروج من مجراه فائضا؟»
وهذا وقع في حديقة معبد منفيس حين تحادث كهنة أمون وضيفهم العالم الذي كان يؤمن بزوس
8
فيزايدهم عن غرور قومي وزهو ديني.
الفصل الخامس
اليوم ترى العنصر مقهورا، وسيحدثنا النهر عن معنى ذلك، وفي السنين الثلاثين الأخيرة يحول سد أسوان وتحول أسداد أربعة أخرى في مجرى النهر التحتاني نظام الري الألفي المصري للمرة الأولى، ويوجب تحويل منطقة حبوب إلى منطقة قطن نظام قنوات يوزع به الماء في العام كله توزيعا يسقى به البلد على الدوام، ويسعى مع ذلك في إخصاب أراض بعيدة واقعة عند حدود الصحراء.
وهكذا يسفر الفن العصري عن أمرين مختلفين أشد الاختلاف، وأول الأمرين هو تعبيد إحدى قوى الطبيعة، وذلك بأن يحبس في أحواض فيضان ما فتئ منذ أقدم الأزمنة ينتشر مصاولا في كل صيف حتى ينزوي، ويجعل من مغامر كائنا رزينا مقتصدا، ويحرم العالم منظرا مؤثرا ليعطى بضعة ملايين من أطنان القطن زيادة على ما كان يعطى، وكان مقدار القطن يكفي الجميع كما هو الأمر قبل ذلك، وليس ما وقع غير شعوذة ينتقل بها المحصول من يد إلى أخرى، غير خدعة يمر بها القطن من أيدي الأمريكيين إلى يد الأنغلومصريين.
والأمر الثاني - وهو رهن التحقيق - جهد فاوستي لم تسمع بمثله أذن؛ أي دحر لحدود الصحراء سنة بعد سنة، وليست زراعة القطن هي التي تمن على هذه الأسداد بالمعنى الفلسفي، وإنما ينشأ ذلك عن ادهيمام
1
ما يزيد على ثلاثة آلاف كيلومتر مربع من الأرض الصحراوية؛ أي ما يزيد على مساحة تيسان.
2
وانظر إلى الأرقام تجد أن المزروع في الوقت الحاضر هو 22000 كيلومتر مربع من 30000 كيلومتر مربع، وأن 8000 كيلومتر مربع سيزرع قريبا، وأن 3000 كيلومتر مربع هي من منطقة الري الجديد في مصر العليا، فإذا ما انقضى ثلاثون عاما بلغ الحد من الأراضي الصالحة للزراعة بمصر، ولكن مصر تكون قد بلغت من السكان في ذلك الحين ما بين ال 18 وال 20 من الملايين. والآن يعطي سبعون في المائة من الأراضي التي تزرع بمصر محصولين أو ثلاثة محاصيل سنويا، ويطبق نظام الري وفق مقتضى الأحواض في مجرى النهر الفوقاني قبل أسيوط كما في الماضي؛ أي في النصف الأول من مجرى النيل بمصر؛ أي على الربع من مجموع الأراضي الصالحة للفلاحة فقط، وذلك بعد النظر إلى ضيق الوادي.
ولنذكر من أين يأتي الماء، ففي الصيف - بين فبراير وأغسطس - يكون النيل الأبيض بالغ القوة، فيأتي بثمانين في المائة من الماء محتملا العبء، ويهبط ما يجيء به النيل الأزرق إلى خمسة في المائة من الماء في بعض السنين، فإذا حل زمن الفيضان قلبت النسبة تقريبا. والأرقام تقريبية مع ذلك فتصنف سنوات انخفاض الماء عادة هكذا: (1781-1797، 1899-1915)، ويترجح مقدار الماء الذي يمر من خزان أسوان بين 41 مليار متر مكعب و138 مليار متر مكعب. ولولا خزان أسوان لأسفرت سنة سيئة كسنة 1913 عن مجاعة في مصر، ومحصول القطن وحده هو الذي أصابه الضر في تلك السنة.
ولا تبصر في أيام السلم على الأقل سدا يرى إنشاؤه في النيل الأعلى مهددا لمصر، وقد أثبتنا في جزء آخر أن من الأساطير التي تزعم قدرة إنكلترة على إغلاق الكوى وإماتة مصر جوعا، ومع ذلك نجد أن الفيضانات هي من التغير ما يمكن الأسداد في حال الحرب أن تكون به أداة ضغط بيد الإنكليز، ومن السهل أن يرفع مستوى المياه التي يحبسها سد بحيرة ألبرت الأعلى مترا واحدا، فتمسك بذلك خمسة مليارات متر مكعب. وبما أن معدل ضياع الماء في المناقع ثمانية عشر مليار متر مكعب وجب إنشاء القناة التي تكلمنا عنها آنفا، ففي هذه الحال يصل الماء من بحيرة ألبرت إلى أسوان في خمسة وخمسين يوما.
ويقال إن من شأن خزان جبل الأولياء الذي يقام في مجرى النهر الفوقاني قبيل الخرطوم أن يقي مصر خطر الطوفان، ومن شأن السد الذي رسم مشروع إنشائه منذ خمس عشرة سنة في بحيرة طانة أن يمسك من الماء أكثر مما تمسك بحيرة ألبرت؛ أي يمسك سبعة مليارات متر مكعب فتسقي ثلاثة مليارات منها قطن الجزيرة على حين يبقى أربعة مليارات احتياطا لما لا ينتظر من الماء في السنين ذوات الكوارث، فهنالك يفرغ الحوض من غير أن تخسر مصر قطرة ماء؛ وذلك لأن مياه النيل الأزرق التي تنصب في النيل الأبيض بالخرطوم تتجمع في المجرى التحتاني بعد بحيرة طانة بمسافة بعيدة وعند الحد بين الحبشة والسودان.
ويتطابق الفيضان والصيف من بين مواسم مصر الثلاثة، الفيضان والشتاء والصيف؛ وذلك لأن الفيضان - وإن كان يبدأ في يونيو - يبلغ غايته في أول سبتمبر حين تكون أحواض مصر العليا مملوءة وحين تصب القنوات ماء كافيا في الأرض التي جففها الصيف، ثم يغدو بعض الأرض معدا للبذار فيعطي غلة شتوية هزيلة، وتسقي الناعورة من الفجر ما بار من الأرض في أبريل عندما يحل وقت الحصاد ويؤخذ آخر شمال،
3
وهكذا ترى أرض مصر مزروعة 140 في المائة.
والنيل هو الذي يعين الزراعة، والنيل هو الإله ذو الأهواء، والشمس فوق النيل هي الإله المقسم الأرزاق، والأرز قليل، والأرز يحتاج إلى ماء كثير، والأرز يؤتي أكله في ستة أشهر، ويرفع الماء بالمضخات لسقي قصب السكر الذي يحتاج إلى ثماني عشرة روى.
4
ومع أن القطن لا يتطلب غير عشر شربات يعد العجل الذهبي الذي يضحى بكل شيء في سبيله.
ولا يزرع الفلاح غير ما يستطيع سقيه بنفسه، وهو يزرع من البرسيم لماشيته ما يسقيه ثماني مرات وما يحشه ست مرات في السنة، وهو يزرع بصلا وفولا وذرة وخضرا، وبرا يبذره في الغرين في شهر أكتوبر ويسقيه ثلاث مرات فقط ليعطيه في شهر أبريل ما يحتاج إليه من الخبز هو وأولاده.
وينبت النيل، في تلك الأرض الضيقة الواقعة على المجرى الفوقاني قبل أسيوط، مثل الحبوب التي كانت في عهد الفراعنة بفضل الأحواض والنواعير بعينها، ويخصص ثلث ما بين أسيوط والقاهرة من أراض للقطن، ويتوقف كل شيء على الأسداد، وينبت أقل بصل للفلاح بإشراف مهندسي أسوان.
ومن نتائج إنشاء خزان أسوان أن أسفرت زراعة القطن في مصر العليا عن ارتفاع قيمة الأرض بنحو 1800 جنيه لكل كيلومتر مربع، وأن اشتدت كثافة السكان فصار كل كيلومتر مربع يشتمل على مائة من الناس زيادة على ما في أي مكان آخر، وأن كانت هذه الزيادة على حسب خواص الأرض، ويؤدي ارتفاع ثمن كل قطعة أرض جنيهين إلى تأسيس أسرة إضافية. وهكذا يبدو أثر خزان أسوان على مسافة أربعمائة كيلومتر من المجرى التحتاني.
ومن أطرف نتائج إقامة الأسداد هو الخوف من غزارة الفيضانات. ومما يحدث منذ عهد الفراعنة حتى هذه الأيام - وفي بعض الأحيان - أن تجاوز الفيضانات الحد، ولكن هذا هو من الندرة ما لا ينفك الناس معه يدعون الآلهة أن تجعل الفيضان قويا جدا. واليوم يخشى أن يؤدي الفيضان إلى خراب السد؛ ومن ثم ترى الجيل الذي قهر العنصر يخاف انهدام ما بنى، فهو في هذا كالطاغية الذي يخاف الثورة.
وكما أن الغنى يزيد الإنسان بخلا وتعطشا إلى الذهب ترى كبار المالكين يتوجعون دوما من قلة في الماء كان أجدادهم يعانونها أشهرا بأسرها، وترى الباشا في القاهرة يوكد ضرورة إنشاء سدي الخرطوم وبحيرة طانة، وسد بحيرة ألبرت على ما يحتمل، وصولا إلى ازدهار قطنه في ديروط. والفقير - من ناحيته - تابع للغني ومائه، ولا شيء يلوح كافيا منذ ثورة الري التي نشأت عن شيد سد أسوان في سنة 1900.
ومع ذلك تبصر أنواعا من صغار العفاريت يتلهون ببذر الفوضى في العمل العظيم الذي أتم؛ وذلك أن لدى الزارع - الذي أسهم بضرائبه في إقامة الأسداد والذي يحلم بأثمان فلكية لقطنه - أسبابا كثيرة للشكوى؛ فالماء المحجوز خال من الغرين لوروده من النيل الأبيض حتى فصل الصيف، وهو يبقى في حقوله مدة أقل من التي يبقى بها ماء الأحواض، وهو يترك قليل ذخيرة ويعطي قليل محصول، ومع ذلك كيف يتخلص من زيادة هذا الماء الذي يرد في جميع السنة؟ وتكلف المضخات ثمنا غاليا ولا يؤمن جانبها. وأما الفلاح، وأما هذا المزارع المياوم
5
عند ذلك الزارع، فقد استحوذ عليه الغم؛ وذلك لأن الملح الذي تأتي به مياه النيل الأبيض المعدنية تكرهه على استعمال السماد للمرة الأولى منذ ألوف السنين.
ثم ماذا؟ يضطر نبر الدنيا القديم إلى استيراد الحبوب من الخارج بعد أن صار يصدر القطن إليه، ويغتني بذلك على حساب استقلاله. أجل، له أهداف واسعة، غير أنه عاد لا يتمتع بالهدوء الداخلي، وكان غوته قد أبصر مثل هذا الفرق بين العمل والفكر فقال: «الفكر يوسع، ولكنه يعطل، والعمل يلهم، ولكنه يحدد.»
وإذا كان الفدان في المجرى الفوقاني قبل أسيوط يأتي بثمانية عشر جنيها فإن فدان القطن في المجرى التحتاني بعد أسيوط يؤدي حتى ثمانية وعشرين جنيها، ويزيد ما للزارع في الدفتر الكبير، ويزخر السكان، ولا تكثر مسرة الحياة، ويستر البلد بالحشرات التي يؤدي إليها اتصال الماء بعد أن كان صحيا مع الجفاف، وتظهر أمراض جديدة فتعد البلهارزيا التي ترافق النيل الموسع من جوائح مصر، ويقول الناس بصوت عال: «لا زيادة أسداد ! لا زيادة ماء!»
ويعود الفلاح - متزن الخطى - إلى الساقية التي انتقلت إليه من أجداده، والتي لم يسطع مهندس أن يستبدل بها غير المضخات التي تنتشر رويدا رويدا، ويداوم دولاب الفراعنة الخشبي على الدوران بالقرب من الأسداد البيتونية متئدا بسيطا كالحصان الذي يجول بجانب السيارة.
ويدور الدولاب ويصر،
6
ويسود مصر صوتان: الصراخ والعويل؛ أي رسولا آلهة مصر اللذان أوجدتهما الشمس والنيل كما في الماضي، وترى فوق النهر وفوق وشاحه الأخضر، هوروس، ترى الصقر، يحلق ويهبط ويقف ليحلق ثانية وليغق،
7
وهو إذا ما وقع على ساحة معبد إدفو جهل أن هوروس الحجري الذي يحوم حوله هو جده الإلهي، ويرن نداؤه عاليا من خلال السماء الزرقاء. أفيعبر بهذا الأسلوب عن الحب أم عن الجوع أم عن الفرح؟
له الجواب بنواح الساقية التي يدور دولابها حول محور خشبي، ويعرف النيل هذا الصريف من بلاد النوبة ومما بعدها، ويزيد هذا الصريف زيادة لا حد لها فوق تلك الأرض الزاخرة بالسكان، وتتساوق خمسون ساقية أو مائة ساقية، ومن يبصرها تخوض من بعيد يتمثل له فريق من الأثريين يبحث في الأرض مباريا.
وفي هذه الواحة الضيقة يخشى الناس كل ارتفاع في الأرض ولو مترا واحدا؛ وذلك لما يجب عليهم من رفع الماء إليها في هذا البلد الذي لا ينزل الله عليه من السماء ماء ولا يصعد الماء فيه إلى الأعلى، ولا ترى جثا
8
تزيد على ثلاثة أمتار أو أربعة أمتار ارتفاعا، وهي تهدد الحياة اليومية والخبز اليومي مع ذلك، ولا يستطيع سد أن يقهرها، ويبدأ الرق بالساقية، ويدلنا البردي منذ أقدم الأزمنة على كثرة من حاولوا النجاة من هذا العذاب.
كوم أمبو.
ولا يستعمل الدولاب في كل مكان، فترى في المحل الواحد رجلين عاريين واقفين في الوحل يستخرجان الماء بوعاء من ليف ويقذفان به إلى ما فوقهما، وهما ينتفعان في بعض الأحيان بخشبة طويلة متحركة يربط الوعاء أو الدلو بها فيصب الماء منه فوقهما، وهما يتخذان ميزان الثقلة من طين النيل المجفف، وهذه هي المنزفة،
9
فإذا ما نصبت ثلاث منازف فوق بعضها بعضا أمكن رفع الماء من النيل إلى الحقل المرتفع ثلاثة أمتار في دقائق قليلة، وتظل الساقية - أو الناعورة - مع الجواميس الدوارة ومع الصبي المحرك لها تحت الجميزة، وسيلة الري الكلاسية في مصر كما في بلاد النوبة، وهذه هي مجموعة الألحان التي ترن في جميع مصر.
ويمازج هذا الصريف النواح - في بعض الأحيان - غناء الصبي الأغن
10
الذي يحرك الجاموسين بقوله: «تعال يا جاموسي، واملأ كيسي.» ويعلم الصبي - مع ذلك - أنه لا يملأ كيسه بدورانه عشر ساعات، بل يملأ كيس سيده، ويضم هذا الأخير لحنه الشخصي إلى لحن الساقية، ويقرع الدولاب إناء من صفيح في كل دورة، فبذلك يعلم المعلم - وهو في بيته - عدم انقطاع الدولاب عن الدوران.
وهكذا تمتزج في ألوف الأمكنة ثلاثة ألحان، وهي: نشيد الأمل الأزلي الذي ينغم به العبد المتبلد السائر وراء جاموسيه أو الجالس القرفصاء على المجر، وقرع الصفيح الضامن للمعلم عمل الإنسان والحيوان، وصريف خشب الجميز القديم الذي كان قد أنبته دولاب خشبي على ضفة النيل ليحوله بعدئذ إلى دولاب يستخرج به الماء لإسقاء أشجار جديدة وحصد محاصيل جديدة.
الفصل السادس
نعلم أن جميع النباتات التي يهب الماء لها الحياة كانت موجودة في عهد الفراعنة؛ وذلك لأن مصر هي بلد الدنيا الوحيد الذي نعرف نباته منذ ستة آلاف سنة، ولا ترى في العالم مكانا زينت التقاليد فيه القبور كما زينت هنا، ولا ترى في العالم مكانا حفظ الجفاف فيه ذلك كما حفظ هنا، وفي القبور وجدت مائتا نوع للنبات، ولا سيما عند بسط عصائب الموميا، وتبصر على رءوس الأجسام المحنطة غارا أو ضربا من السدر،
1
وتبصر في أيديها غصنا من الآس
2
أو الأثل،
3
وتبصر حول أجيادها قلائد من النعنع أو الياسمين، وكان ينثر العبيثران
4
والورد والفاغية
5
والمر والنضف
6
على فراش الموت، وكان النيلج يستعمل للصبغ، وكانت الحناء تستعمل للضجع
7
المرغي المعد لشقرة الشعر.
وإلى ذلك أضف ما يترك للأموات من أقوات وما على القبور من صور، وأضف النقوش البارزة كذلك السور بالكرنك حيث عرضت الحيوانات والنباتات عرضا رائعا، وحيث يظهر السدر ذو الأكمام والبردي مع زهره ذي الأسنان التسع، وبين ذلك ترى ارتياد الهداهد
8
والسلوى،
9
ويعدو الطيطوى تحت شقائق النعمان، ويبدو الإبيس المقدس بجانب الزنبق، ويبهر نور الشمس جميع أولئك؛ وذلك لأن المتفنن غطس أولئك في معبد ذي ظلام دامس فوجب مرور 3500 سنة لتخرجها يد عالم أثري بصير إلى النور الذي كانت قد جاءت منه كنماذجها الحية.
والبردي هو أكرم تلك النباتات، وكان عبيد الفراعنة يقلعونه حزما، وينزعون ورقه، ويصنعون منه حبالا ونعالا ويجمعون سوقه ويجعلون منها أطوافا ويضعون عليها سقفا في الغالب، وكانت تؤكل جذوره. وكما أن الإنسان الحسن التقويم يمكنه أن يعمل ويفكر معا كان يمكن البردي - بعد أن يكسو الإنسان وينقله ويطعمه - أن يحتفظ بخواص تقضي بالعجب، فبعد أن كانت سوقه تقطع عصائب دقيقة متداخلة كانت هذه العصائب تطرق وتدبق وتلف منتظرة تجهيزها بالمعارف لتسلم إلى أمواج الزمان كالزوارق التي تسير مع النيل مشحونة بالمسافرين، وماذا كنا نعرف عن مصر وعن القرون القديمة لولا هذا النبات؟ وكانت تصدر لفائف البردي من القرن الحادي عشر قبل الميلاد إلى سورية ثم إلى أثينة فإلى رومة، وكانت الأساطير والتاريخ والفلسفة والقوانين التي تسجل فيها تحمل أنباء الأمم البعيدة من خلال العالم فتعود ثانية إلى مصر.
والآن - في واحة مصر الضيقة هذه - ترى مكانا للمروج والغاب أضيق مما في الماضي، والمدن وحدها هي التي تنتحل حق غرس الشجر، ومما تشاهد في الريف أحيانا جميزة منفردة أو طرفاء ذات حفيف خفيف، أو قليل من أشجار التوت ذوات الورق الواسع، أو قليل من أشجار السنط المتجففة بعض الشيء؛ أي تشاهد من الشجر ما لا يحتاج إلى غير ماء قليل، والنخل وحدها هي من الفائدة ما تستحق معه أن تسقى، وينتفع بخوص النخل وخشبها في بناء المنازل وفي صنع الأثاث والحصر كما في النيل الأعلى، وتعين ثمارها الصفر والحمر والسمر على تغذية الشعب، ويتم نضجها في البيوت وقت الشتاء، كالتفاح والكمثرى في أوروبة، وينتشر شجر الدوم من السودان حتى أسيوط، ويؤكل من فاكهته وتشرب حتى عصارة ثمره.
وتعد مصر شديدة الرياح تجاه شجر الموز، وفي الصيف يأكل الفلاح المصري الصبار مع أزهاره الصفر الجميلة أو من دونها، ويأكل الجمل من الصبار ما هو على أطراف الحقول ما دامت ثمار هذا الشجر النابت بلا ماء تصلح لحيوان الصحراء ذلك، وهل بينهما صهارة مصدرها الحرمان والفقر وتشابه الطالع؛ أي الأمور التي تولد الحقد لدى الإنسان في الغالب؟
ويزهر السدر الأزرق في قنوات النيل، كما في الزمن الذي كانت تزين به الموتى، وينبت السدر الهندي الأبيض، الذي تتفتح أكمامه فوق الورق الأخضر، في الأحواض المنعزلة بين الأنقاض، وقد توارى السدر المقدس عن مصر.
وتحول عالم الحيوان أكثر من تحول عالم النبات والإنسان، وبدت هذه الأرض الضيقة - التي لا مكان فيها للغاب ولا للصيد - وديعة هادئة كالنهر وقبل النهر، وكانت الطيور وأنواع الحيوان تكثر في المناقع في أزمنة ما قبل التاريخ، حين كان مجرى النيل يربح من البحر في كل صيف، وكانت تلك الحيوانات تنعش النهر في عهد الفراعنة الذين تزين القنائص وألواح الصيد قبورهم، وتجعل النهر خطرا كالقسم الجنوبي من بلاد النوبة في الوقت الحاضر.
ولكن الأسد عاد لا يشرب من النيل المصري أبدا، وصار بقر الماء لا يتقلب هنالك أبدا، وأصبح التمساح لا يتمطى هنالك أبدا، ومن الطرافة أن يجاوز تمساح أسوان. ومما وقع في سنة 1821 أن أصمي آخر بقر ماء في أسوان فحدث من الهلع كما لو كان الأمر قد جرى على ضفاف نهر الرين أو نهر التايمس.
ولم يحدث في مكان من الدنيا أن قدس للحيوان كما قدس له في مصر، ويروي لنا هيرودوتس أن القوم هنالك يعدون جميع الحيوانات مقدسة، وهيرودوتس حين يخزر
10
يذكر أنه لا يبين أسباب ذلك، وتدل مئات الصور التي لا ريب في أصلها الشعبي على مزاج الفلاح الفرعوني وحب هذا الفلاح للحيوان. وإليك ذئبا - في أحد النقوش البارزة - يلاعب غزالا لعبة الداما، وإليك نمرا - في نقش بارز آخر - يزمر وهو يحرس غزلانا وإوزا حاملا صغارها بين ذراعيه، ويقاوم الضبع إوزة ألقت نفسها في فمه، ويعود الأسد والثعلب بقر ماء مريضا، ويؤلف القرد والحمار والأسد والتمساح فرقة موسيقية، وتمسك فأرة صغيرة زهرة وتجلس على كرسي وتبدو أمتها وراءها منتظرة هدايا هرة، وتبصر آساد سنورا يمر من غير أن تبدي حراكا، ويرتفع طير نحو بقر ماء قاعد على شجرة. فهل لنا بهذه المناظر أن نتمثل شعبا جشعا حقودا في بلد لا يحب الحيوان فيه؟
وكان لكل حيوان حارسه الخاص، وكان الرجل التقي يحلق رأس ابنه ويبيع شعره ويسلم الثمن إلى الحارس حتى يطعم حيوانه المقدس، وإذا ماتت هرة حلقت الأسرة حواجبها، وإذا مات كلب حلقت الأسرة جميع بدنها، وأقيم لكل منهما قبر، وكان للإبيس مقابر خاصة، ووجدت تماسيح وأفاع محنطة، ويلوح أن الحية التي حولها الله إلى عصا أمام موسى كانت من نوع الصل،
11
وتظهر مزينة تاجا لفرعون.
وكانت مصر الجافة معدة لتكون جنة الأفاعي والخفافيش والعقارب والبعوض، وتقعد الحرابي فوق الشجر مع ألسنتها الطويلة وهيئاتها الهائلة التي تذكرنا بمحترفي السياسة المتطرفين. ويمتد الضب الجبار الأسمر على الأرض تحتها، ويخرج أصواتا هزلية ويهز رأسه كابن الطبقة الوسطى الذي يكتم خوفه من أناس يتوعدونه.
وفي زمن الفيضان تطرد هذه الجعلان
12
والضبان من أجحارها، ويحاول الفلاح الذي تغزو بيته أن يبيدها على غير جدوى، وتأتي الكارثة بغتة في بعض الأحيان، وهي ثالثة بلايا مصر؛ وذلك أن أرجال
13
الجراد تحجب السماء وتهلك كل شيء وتزيد كثيرا على الرغم من القار
14
والبترول اللذين يسعى الفلاح بهما أن يقضي على قصمها،
15
وتمنح الحكومة جوائز على ذلك. وكان بليني قد أوصى بتوزيع مثل هذه الجوائز منذ ثمانية عشر قرنا.
وحافظ النيل على أسماكه، ومنها القيصانة
16
الغريبة التي تصطاد اليوم بالشبكة، والتي هي منحدرة مما كان العبيد ينظفونه ويجففونه على زورق الملك ميرا على حين كان هذا الملك يميل إلى الخلف ويشرب ويتمتع بالحياة وإن جلس في قاربه المأتمي المصور على قبره، وتنتفخ هذه القيصانة كالمنطاد وتعود على ظهرها مغطاة بالأشواك وتعوم على النيل ناشرة ذعرا حولها، وهي لا تنتفخ على هذا الوجه إلا لأنها مجهزة بجهاز غضروفي لولبي وصمام خفي كالطغاة، وهي لا صوت لها إلا إذا زال انتفاخها، فيجتذب هذا المنظر الناس إلى الشاطئ.
والرعاد سمك غريب آخر، وللرعاد طول الحية وأوضاعها، وله في قحفه
17
من الخروق المشابهة لفتحات قحف الحوت ما يلقي به الماء، وله مثانات ذوات القوائم الأربع. والرعاد هو السمك الكهربي الذي يرى العرب أن الإنسان إذا مسه ارتعش وتشنج، وأن نفسه يكفي لكهربة السباح.
وإذا كنت مياه النيل منخفضة وقفت الجواميس عليها كالبقرات السبع السمان والبقرات السبع العجاف
18
التي رآها فرعون في منامه، ولكن يجب أن يقيد الذكور منها خشية فرارها بين الماء، ويبدو السلوقي في البارز من نقوش القبور وفي القديم من الأقاصيص. والسلوقي جميل مع قذارته وتوحشه، والسلوقي يطارد ابن آوى على حدود الصحراء. أجل، تعبث المواعز الشقر الخطل
19
وصغار الخنازير على طول الضفاف، غير أن السنور هو الحيوان المفضل في الوقت الحاضر كما في الماضي. وأول تأنيس للسنور حدث هنا، وللسنور هنا ترى مقبرة قريبة من المسجد كما كان له بالقرب من المعبد فيما مضى، ويشابه المصري الفرنسي بسنوره ومحافظته، ولكن واحة الفرنسي أوسع مدى.
وترى حيوانا قصيرا أجوجا
20
يكردح
21
على السد المستوي الطويل بما هو أسلس وأظرف من خبب
22
الخيل وأسرع من ذميل
23
الجمل الذي لا يحب السير على الطرق المعبدة. والحمار هو الحيوان السرجي الأفريقي الأصل، وآسية هي مصدر الخيل والجمال، وقد تأخر وصولهما إلى أفريقية، وقد عدا الحمار من جنوب هذه القارة إلى الشمال فغدا مطية المصريين الحقيقي، ومن لم يركب الحمار المصري لا يعرف ما هو الحمار، وحمار الشمال حرون بليد كسول يعد اسمه وحده سبة، وحمار مصر ناري نشيط جميل.
والحق أن الحمار في إسبانية واليونان يحب، والحق أنك إذا عدوت حمير الحجاز لم تجد حمارا يشابه حمار مصر؛ وسبب هذا ما يتفق له هنا من يمن في صغره ومن علف نجيع
24
وحسن معاملة، وترجع ملاحته إلى ظرف صاحبه، وهو إذا كبر لم يميز من البغل بغير أذنيه ضخامة، وهو أغلى ثمنا من حصان متوسط، وهو يظل تحت الشمس ناظرا بمؤخر عينيه نظرا خفيفا، وهو يظهر قويا رشيقا مرنا أملس نحت شعره الرمادي فحفرت له يد ماهرة رسوما رائعة، وهو يبدو زاهيا بسرجه الجميل مستعدا ليمتاز من سواه، وهو يحمل على ظهره ضربا من العمالقة، وهو يسرع في القيظ على طول السد مع عرق أقل من عرق راكبه.
وحمار الفلاح أرخص ثمنا من غير أن يكون أقل صلاحا بدرجات، وحمار الفلاح مجد فطين قليل العناد، والحمارة خير الأمات، وقد رئيت الحمارة وهي تلقي نفسها في إصطبل محترق إنقاذا لولدها. والحمار يهتدي إلى طريقه الذي سلكه مرتين أو ثلاث مرات، وهو يأبى أن يتقدم، أو هو يشبو،
25
إذا ما لاح له أن راكبه ضل سبيله، وما هو القوت الذي يتطلبه؟ لا شيء في النهار، ويكتفي في الليل بالبرسيم وبكل ما يرفضه الحصان والبقر، وبالحسك
26
والشوك أيضا، ويعدل الجمل من هذه الناحية تقريبا، والماء الصافي هو الذي يوده دوما.
ومن ثم يرى كيف يعيش نحو خمسين سنة؛ أي إلى أن يضطجع ليموت.
الفصل السابع
ينتفخ شراع أبيض انتفاخا خفيفا على سارية تنحني أمام خضرة الواحة، وينفصل في الأفق خط جبال الصحراء غير المنتظم أصفر على أزرق، ولا تجد لهذه الألوان الثلاثة في مكان من العمق والصفاء أعظم مما هو هنا حيث تراها مدينة للنور الباهر الخالي من أي غيم، وللرمل البريء من كل عيب، وللحقول الرطيبة على الدوام والمكسوة بالنبات، والأحمر وحده هو المفقود هنا، وذلك منذ أن ترك العلم التركي مكانه للعلم المصري الذي اختير له لون الأرض الأخضر فعاد لون الدم لا يكدر نضارة انسجام الألوان المصرية الأربعة ولا روعتها.
وللأبيض نفسه تأثير اللون بألوف الأشرعة على النهر وبالبيوت على الضفاف وبمباينته الدائمة للألوان الثلاثة الأساسية. وفي المساء يخسر الأبيض منزلته، وفي أسوان يصير النهر أزرق نيلجيا، ويصير لون النخيل والسنط أخضر رماديا، ويصير لون الجبال القريبة أسمر برتقاليا مع ظلال زرق، ويصير لون الصحراء ورديا، ويصير لون الجبال البعيدة بنفسجيا، ويلجأ جميع الزوارق إلى الخلجان الصغيرة، ويبدو النيل في الليل بلا أنوار. وإذا ما غابت الشمس أبصرت ستارا من السحاب يغامر مارا كالسهم من الغرب إلى الشرق، ويظهر جزء السماء الشمالي في الأفق بنفسجيا، وينعشه بعض السحب الوردية ذات لحظة، ثم يتحول إلى أخضر جلي حتى يتجمع عند السمت آخر نور للنهار ورديا ذهبيا مارا بسرعة، ويدخل القمر الشاحب منطقة العالم الذهبي كرسول ينذر بالرحيل، وتلوح جبال الصحراء شهباء ويعود النيل رماديا مفكرا في مشيبه.
وفي صباح الغد، وعلى نور يجيء من الجهة الأخرى، ينتفخ الشراع الأبيض من جديد على طول السارية المنحنية البادية أطول من أية شجرة بمصر والمصنوعة من ساقي شجرتين - أو أكثر - موصولة إحداهما بالأخرى، والمستدقة الطرف كالسوط، ويمثل هذا الشراع أحد الخطين اللذين يتجلى بهما جمال الذهبية. وأما الآخر فهو خط صدر المركب المستدير الذي ينتصب عليه رجل مستندة ذراعه على السكان
1
متموج قميصه بالريح. وهكذا يجري المركب الشراعي حاملا حجارة كلسية ثقيلة وأكياس سكر وبر أو أقفاص دجاج، وعلى ظهر المركب تجلس أسرة القرفصاء وتأكل وتدخن، وعلى ظهر المركب تنقر هذه الطيور حبا في أثناء الرحلة، ويغتذي الإنسان والحيوان بما ينتج النيل، والحمار الأغبر وحده هو الذي لا يستطيع أن يأكل من العلف الذي يحمله، ولكنه يشمه ويكدف.
2
وكان لجد هذا الفلاح في القرون القديمة مثل الوضع الحاضر عندما كان ينزل مع النهر، وكان شراعه - وهو على مقدم المركب - يجتنب الكثبان كما هي الحال الراهنة، حتى إن الزوارق الخفيفة التي تجري في النيل هنا وهناك كانت موجودة في ذلك الحين مع سرعة عطب؛ لأنها مصنوعة من البردي، ولو حدث في ذلك الزمن - مع ذلك - أن جاء فرعون ساحر بزورق بخاري لقتله على ما يحتمل. ولا عجب، فقد حار كل الحيرة من الفكرة القائلة بإمكان جري الأنهار إلى جهة غير الشمال. ومما وقع أن أوغل توتموزيس الأول في آسية، فذعر من الاتجاه نحو منبع نهر الفرات في الشمال فدعا الخليج الفارسي لذلك ب «بحر النهر الذي يجري على العكس».
وفي مصر بأسرها تدل عشرات السواري في كل مرسى على مكان أبي البلد، على مكان منبع الحياة: النيل، ومن يسافر نهرا بين ذلك الوادي الأخضر ويرى الصحراء المتوعدة من جميع الجهات يعد نفسه سعيدا بين الجياع. أجل، هنالك أجواف محفورة في التلال الغربية مشتملة على قبور الفراعنة، غير أن ملايين الفلاحين صاروا في الصحراء أعفارا؛ وذلك لأن الأحياء ما كانوا ليغتذوا على ضفاف النهر لو لم يدحروا الأموات إلى الرمال.
ويصدم الزورق الكثبان في الغالب، وذلك لعدم وجود مصور لضحاضح تتغير في كل فيضان. واليوم - أيضا - لا يكون النيل صالحا للملاحة ما لم ينظم مجراه بنفسه، وهو يحفر مجراه ضمن الحد الذي يحمله عليه معدل فيضانه المتحول، ويتوقف اتساع جزره على شدة الفيضان وعلى انعطاف جزيرات الغرين التي يحطها في كل مكان.
وفي أسوان يغادر إلى الأبد ذلك الغرانيت الذي أعطى الفراعنة مسلاتهم، والذي أعطى الإنكليز حجارة سدهم المنحوتة (لصعوبة جلبه من شواطئ البحر الأحمر)، وما انفك الماء وصخر الشلال الأول يكونان خط دفاع تجاه الجنوب. وبعد الجري بين الصخور من وادي حلفا، وبعد مأساة النخيل الغارقة، وفيما يفر الناس نحو المرتفعات والمعابد المغمورة ومع المجرى التحتاني المباشر لاختلاط الدوافع والمساقط الهائلة الناشئة عن كوى خزان أسوان يتفتح وادي النيل عميقا ضيقا، ولكن مع خضرة وبيوت بيض كثيرة يسكنها برابرة. وتعد أسوان - الحصن والسوق معا - حد مصر الحقيقي منذ عهد الفراعنة، وتتحطم العقائد والحضارة على ذلك الشلال المنيع الذي لم يدر الفاتحون من الشمال والجنوب حوله إلا نادرا.
وإليك جزيرة صغيرة ملائمة للأحلام، حيث تزهر حديقة مفقودة تحت ظل دوح الأثل والنخل مع أن على هذا التراب الخصيب أن ينبت البر والخضر، وهذا من عمل قائد، لا من عمل شاعر، وهذا من صنع اللورد كتشنر الذي تمنى - بعد طوافه في الصحراء وانتصاراته - أن يسير مع ذوقه الروائي، والذي قطع لغم ألماني نشيده الختامي، وكان أسلافه في عهد الفراعنة قد مروا بالقرب من هنالك، مروا من بلاق حين غزوهم بلاد النوبة، وكانت الجزيرة تسمى آنئذ يب أويبو؛ أي جزيرة الفيلة، وذلك لما كان من بيع النوبيين عاجا فيها، أو لما كان من نزول ذلك الحيوان العظيم إليها ذات مرة على ما يحتمل، وكانت مياه النيل من الانخفاض في تلك الأيام ما استطاع معه الفيل أن يجاوزها، ولا ريب في أن الإله خنوم أعانه على ذلك، والإله خنوم هو الذي كان يسكن بلاق فصنع الإنسان بدولاب من فخار.
وفي ذلك المكان - حيث يتسع وادي النيل من جديد - يدنو أبناء الصحراء من النهر للمرة الأخيرة، وهم كانوا يأتون إلى هنالك حاملين اسم البليمي، وهم - ككثير من الشعوب القائمة على الحدود - كانوا - دوما - جزءا من الحزب الأقوى فيدافعون عن آلهة طيبة تجاه آلهة رومة، ويدافعون عن إيزيس تجاه يسوع، ويبحثون عن يهوه الخفي الذي كان يعبده هنا مستعمرون من اليهود. ومن المحتمل أن حادثهم جوفينال؛
3
وذلك لأن أول النيارين
4
كان يبعد من يقولون الحقيقة.
وهم يخرجون من خيامهم مساء كما في زمن هيرودوتس، وهم يدعون بالبشاريين في الوقت الحاضر، ولكن نفورهم من الفلاح لا يزال ثابتا لا يتبدل، وما كان البدويون والفلاحون ليتفاهموا أبدا، وما كان تماس الفريقين ليبدو أجدى من تماس رمزيهما، الرمل والماء؛ أي الصحراء والنيل، ويعيش الفلاح في أكثر أقاليم الدنيا تعادلا، وتهبط درجة الحرارة في الصحراء إلى الصفر ليلا، ويكون البدوي كالملاكم المحترف عاريا أو مدثرا بعباءة.
وكيف يدرك هؤلاء الرحل من الأزل - والذين تعودوا الحياة في المساوف الواسعة مع بعد بعضهم من بعض - وجود زمر من الآدميين لا يغادرون حقولهم الصغيرة أبدا؟ وهؤلاء الرحل دائمو الحركة كالنجوم التي يؤمنون بها، وهم يجوبون الصحراء، وهم ذوو احتياجات محدودة، وهم بلداء فاترون بلخ
5
صامتون، وذلك فيما عدا قطع بعض الأعياد لسكوتهم عن خيلاء، وماذا يتعلمون من الفلاح ذي الجلباب الطويل الذي يزري بعريهم؟ وماذا يتعلمون من الفلاح الذي يقضي نهاره في سقي قطعة الأرض المنعمة بالعيش والذي يحرم بذلك أطيب نعم الله : أي الحرية والكسل؟ ويزدري جواب الآفاق النبيل - دوما - ابن الطبقة الوسطى المرتبط في بيته ولا يحسده ولو كان غنيا، وإنما ينهبه.
وفي أسوان - عندما يبيع البدوي جمله ويشتري منه خضرا وبيضا - يكون كل من الرجلين غريبا عن الآخر مع أنهما يتكلمان لغة واحدة ويتفاهمان أحسن من تفاهم اثنين من الأوروبيين، وتفصل بينهما روح النيل، وتعارض ضفافه المخضرة والنزاع في سبيل الغرين بمقاتلة الضواري في الصحراء والغاب، ويعد البدوي أسعد من الفلاح على فقره ومخاطره اليومية وزهده، وهما إذا ما تقابلا على ذلك الوجه وبدوا بائسين وساوما كسبا لبضعة دوانق وكانا أكثر احتياجا من سوائمهما ظهر أحدهما سيدا وظهر الآخر عبدا، وهذه هي سنن الحرية والارتباط في الأرض.
وفيم يفكر البدوي الفخور حينما يتعثر منسم جمله بقطعة صخر طويلة غير مشذبة في المحاجر المجاورة لأسوان ولم يسطع مجاوزتها؛ أي عندما يصدم فدرة
6
جلمود صفراء ذات بقع حمر كأنها أثر فني. وقد ظل هذا الحجر في المكان الذي استخرجه منه مئات العبيد منذ أربعة آلاف سنة، ولا تزال الآثار التي تركها نحاتوه بالمطارق بادية ولا يزال المحل الذي كانوا يقلعون فيه الصوان بالسفين
7
المبلل ظاهرا، ولا بد من أن يكون ذلك معدا ليكون مسلة، وهذه الكتلة العاطلة من الكتابة - والتي هيئت لتكون أداة مجد لفرعون - قد ظلت حيث سقطت من غير أن تنقل آخر أمر تحمله، وتمثل شبه مسلة أسوان ذلك المصير الذي كان يصيب جميع الفراعنة لو لم يأت فرنسي عبقري بعد قرون فيفك كتابتهم.
الفصل الثامن
جاء في القرآن:
وجعلنا من الماء كل شيء حي ، ولكن الله عارض الماء بالتلال والصحراء لكي تمارس العناصر - كالناس - بعض قواها ضد بعض؛ ولذا يضيق للمرة الأخيرة مجرى نهره المفضل ويخضعه لآخر تجربة، والنيل - بين أسوان وأدفو، وعلى مائة كيلومتر مستقيم - يجاوز سدا من حجر رملي كان يمسك ماء بحيرة كبيرة على ما يحتمل. والنيل نفسه أقل ضنكا وضيقا من واديه، وتزدحم تلال الصحراوين على ضفافه، وهي قد بلغت من الاقتراب من الضفة الشرقية ما وجب معه خرق نفق لمرور الخط الحديدي، وهذا النفق قصير جدا، وهذا النفق وحيد على جميع الخط، ولا ريب في جعله المهندس السويسري الذي أنشأه يرى أنه نقل إلى ليليبوت
1
بقوة السحر.
والنيل بعد أسوان - وفي أربعين كيلومترا - يجري على ذلك الوجه، والنيل تنتظره مغامرة جديدة هنالك، والنيل قد قهر وعوق سيره، والنيل قد ضغط في قصائب
2
تنظيما للري، لا نيلا لقوة أو كهربا، ويخيل إلى النيل عند خروجه من الكوى أنه يسترد حريته، ولن يقفه سد لطويل زمن. بيد أن أربعة أنابيب عظيمة وضعت في مجراه فتنزع منه بعض قوته، وبالقرب من هنالك تصعد مدخنة كبيرة سوداء في السماء الزرقاء، وتبصر بجانبها قاعة دكناء، وتبصر بجانب القاعة معبدا ساطعا، وتبصر نخيلا بين الاثنين، وتبصر سهلا أخضر خلف النخيل على مدى البصر.
ولا ريب في أن النهر القديم يعرف أن جميع هذا يرجع إلى تاريخ حديث، وكان سهل كوم أمبو الواسع أصفر قبل ابتغائه ماءه، وهو مدين باتساعه المفرطح
3
للواديين النافذين إليه من جبال العرب واللذين يأتيان بالصحراء الشرقية إلى النهر. ومما لا مراء فيه أن كان مهندسو الفراعنة ينعمون النظر فيه مع سخط عن عجز؛ وذلك لأنه يعلو مستوى الفيضانات خمسة عشر مترا؛ وذلك لأنه يبلغ من الارتفاع ما لم يستطيعوا معه غير سقي شاطئ النيل المباشر، وكانت مدينة أمبوس الصغيرة قائمة هنالك فبقي منها بضعة أعمدة بجوار المدخنة.
ولم تتم تلك المعجزة بفضل خزان أسوان، ولكن هذا الخزان دل مصر ماذا يمكن النيل أن ينفع به مصر، وكان الباشوات يهزون أكتافهم منذ خمسين سنة حينما اقترح الفرنسيون عليهم إنشاء سد لسقي ذلك السهل الواسع، وكانت الضباع وبنات آوى تعترك هنالك في سنة 1903.
وتلك المنطقة زاهرة في الوقت الحاضر، وهي أوسع من بقية مصر العليا، وهي تكتنف أربعين قرية، ويطوف أربعون ألف شخص بين شجر الموز وقصب السكر، وبين البر والخضر، وفي وسط هذه الصحراء القديمة تقوم مدينة صغيرة حيث يسعى الخدم، وحيث يتلفن
4
الكتبة، وحيث يزهو معلم المدرسة بين الطلبة ومدير البنك بين زبنه، وفي المكان الذي كانت تعوي الذئاب فيه تبصر المؤذن واقفا على شرفته المستديرة داعيا إلى الله خمس مرات في كل يوم. والآن يخضر ثلاثون ألف فدان كان من النادر أن تسير منها البعران
5
فتبدو ناضرة في الشتاء والصيف بعد أن كانت صفراء جدباء منذ وجود جبال العرب المجاورة، فبذلك يكون حلم فاوست قد تحقق.
وتبصر رجلين حافيين رزينين صامتين أسمرين لابسين جلبابين يجوبان القاعة ذات الآلات التي لا تنقطع أساطينها عن الصعود والنزول، ودواليبها عن الدوران، وحبالها المصنوعة من القنب عن الصرير، والمانومترات
6
عن الارتجاف في محابسها الزجاجية، ويعنى بدهن ذلك كله، وذلك إذ يلمع يوحي باحترام قدسي، وذلك ينفع في جلب ماء النيل إلى الأنبوب القديم الناضح
7
فوق القاعة.
وقد أدى هذا الماء إلى جعل السهل الصحراوي خصيبا، وقد جلب إلى هذا السهل حتى الغرين، ويكون النيل وقت الفيضان على مستوى تسعة أمتار، وتصير المضخات غير مفيدة، ويسفر ضغط الماء عن صعوده، وهذا هو فعل الآلات التي جلبت من جبال سويسرة منذ ثلاثين سنة، وصدئت إحدى قطع التغيير بسرعة في تلك الرطوبة المصنوعة فكان يمكن اتخاذها حطمة
8
مسلة، وعاد اسم بيت شولزر التجاري لا يكون هنالك أكثر من حال الكتابات الهيروغليفية التي لا تكاد تحل، ولنفحص سيرا
9
موقفا، وتأتي قدة الموميا العصرية هذه من شافهاوزن.
ولكن سير الآلة الأسود هو من وبر الجمل، ولا احتياج إلى الفحم لصنع ثلاثين ألف طن سكر بكوم أمبو في كل سنة، وذلك لاستعمال ورق قصب السكر وقودا، ويفصل الصبيان لهذا الغرض ما هو ذابل جاف من تلك الأوراق وما كان أخضر منها فيصلح طعاما للجواميس، ويحمل ما هو أصفر أو ضارب إلى حمرة من قصب السكر على عربات أو سيارات أو حيوانات.
والجمال هي التي تراها مرتجة، وهي تثقل من الحمل ما لا تكاد أعناقها وقوائمها ترى معه، وتكدس جبال من قصب السكر أمام قاعة القدور ، ويعد الحزم بالمجارف اثنا عشر رجلا، ويعبئ أربعة رجال آخرون هذه القدور النهيمة الفاغرة أفواهها كالفيول، وعلى ما تراه من تغذية النيل نفسه بنفسه تجد الإنسان مستعبدا له، وماء النيل ينبت قصب السكر في الصحراء، والآن يسخن قصب السكر هذا الماء حملا للمضخات على العمل.
وتبعد الأساطين من المدخنة بضع خطوات، وتعد معابد كوم أمبو التي تعود إلى عهد البطالمة معاصرة لمعابد بلاق، وهي تنتصب على شاطئ النيل، ولها من روعة المنظر ما لعمود سونيوم،
10
ولها من الجمال ما هو أعلى من جمال معابد الكرنك القديمة المشوشة، وقد نشأ عن الفيضانات الكبرى التي وقعت في القرون الأخيرة انتزاع قطع منها وزيادتها رواء، وينتقل نظرنا، مع ذلك، من أعمدة الرتاج العشرة الرائعة، التي تعلوها تيجان مزينة بالأغصان، إلى تلك المدخنة الشنعاء كفولكن
11
نفسه، ولكن مع إخراجها من الأرض نخلا وموزا.
ونبصر «ديونيزوس
12
الجديد» في القاعة الثالثة، نبصر الإله الملك الذي شاد هذا المعبد تمجيدا لنفسه موصيا الإله القمر ذا الرأس الصقري بأن يكتب اسمه على سعفة،
13
ولا ريب في أنه كان ينشئ تلك المدخنة وكان يزينها بمفتاح الحياة لو اخترع مهندسوه المضخة ووسعوا رقعة مملكته الصالحة للزراعة.
وعاد ذلك المنظر الفاوستي لا يجدد، وعاد بعض الجبال لا يدنو من بعض، ولا يزيد عرض النيل على ثمانين مترا في السلسلة، وعلى بعد عشرين كيلومترا من هنالك، ويلوح أن بحيرة ساكنة تكونت في ذلك المكان في أزمنة ما قبل التاريخ، وقد قرضت الصخر مع القرون مقدارا فمقدارا وفرت بدوافع بلغت من الحصر ما اعتقد به أن تلك النقطة هي منبع النهر فأقيمت شعائر دينية فيها على أنها كذلك، وتغدو الصخور صفرا، ويفسح حجر النوبة الرملي في المجال لجير جبال الصحراء التي تستخرج حجارة المعابد منها.
وهذه البقعة هي من الفقر والانقباض ما لا يمكن معه أن يزرع في هذا المرتاج،
14
في هذا المزلاج،
15
سوى سبع الضفة الغربية، وهذا هو آخر مضيق للنيل، ثم تبدو الضفة الغربية أعرض مما هي عليه، تبدو سهلا صغيرا يقوم عليه معبد أدفو الذي هو أروع معابد مصر، ولو لم يكن هذا المعبد من حجر رملي لأمكن أن يقابل بمعبد سيجست،
16
وما كان لبعض مختارات من سافو
17
وهيزيود،
18
أو أطلال من أساطين طيبة، غير تأثير ناقص.
ونحن لا نستطيع أن نتمثل حالها الأصلية بسوى خيالنا، وتبرز المباني شبه الخربة بقباحة الأجسام المحنطة تحت ذلك الضياء الوهاج ومن خلال منظر مصر الأزرق والأصفر، وما في الأهرام من وقع في النفوس فمدين لبقائها سالمة، ويشاد معبد أدفو بعد طيبة بألف سنة بأيد إغريقية وعلى طراز شبه إغريقي، ومن غير أن يمت إلى الطراز الكلاسي
19
المصري بصلة، فيظل أجمل معابد مصر بفضل بقائه سالما منفردا؛ أي بفضل هذين العاملين اللذين اتفق بهما لبستوم
20
ومعابد البليبونيز
21
مجد خالد، ويتعذر تجريد المباني والآدميين من المنظر والنور اللذين نراهما بهما.
ويتم بناء معبد أدفو في القرن الثاني قبل الميلاد، ويلوح لنا أن هذا المعبد محفوظ أكثر من جميع المعابد اليونانية خلا معبد تيزوس القائم بأثينة في موضع عادي، ويسير مهندسو البطالمة في اقتباس ما يرى من النهر عن بعد من الرتج
22
وفق رسم المعابد القديمة التي كان يعبد هوروس فيها، ويقال إنه قتل هنا - أو بعد هنا بمسافة قصيرة من مجرى النهر التحتاني - أخاه وقاتل أبيه أوزيرس. ويعد الجمل الذي يجاوز النيل مع حمله حتى المعبد مصريا، وتعد الساقية التي تخرج لحنها بجانبه مصرية أيضا، ويزعق هوروس بصوته الحاد فوقهما نافذا زرقة السماء.
وكان قدماء المصريين يحملون آلهتهم من النور إلى الظلام، وكان المؤمن الذي يمر تحت برجين كبيرين يدخل ساحة مملوءة ضياء، ثم كان يجاوز رتاجا منارا - أيضا - إلى إملاس
23
أول قاعة ذات أعمدة، وإلى قاعة قدس الأقداس أو إلى باب تلك المشكاة
24
التي كانت ينتصب فيها تمثال الإله المصنوع من الغرانيت الأسود، وكان الإنسان التقي يبتعد عن الشمس ليصل إلى رمز الشمس هذا، وهو في ذلك كالمتفنن الذي يتمثل صور الحياة الناطقة أو الصاخبة ليحولها إلى أثر فني بين صمت محترفه.
وإن تصعد
25
الظلام من الخارج إلى الداخل بفتحات وكوات تصغر فيقل معها النور مقدارا فمقدارا، وإن تداني الأعمدة في قاعات ذات فضاء مؤثر معد لإزعاج من تعود نورا ساطعا ولفرض الطاعة عليه في الطراء والطرفسة،
26
مما لا تراه في مكان كما تراه في أدفو حيث تبصر كل شيء من الجدر الخارجية للقاعة، حتى حجر القربان العظيم، كما كان عليه في الماضي، وحيث تبصر مقاومته العنصر الذي يكتنفه؛ أي الشمس لبضعة آلاف من السنين.
وفرعون الأخير وحده هو المعذب، فقد أراد أن يقلد أسلافه في خنزوانيتهم، وقد أراد أن يجاوز بقر الماء صورة، غير أن العرب - والنصارى على ما يحتمل - وجدوا ملجأ بين هؤلاء الوثنيين فنقروا خروقا عظيمة في جسمه ليقيموا بدهاليز الإله هوروس ذات الطراء لما كان من جهلهم أمره، والسقف أسود؛ وسبب ذلك أن العلم والرواية طردا حفدة البناة من المعبد فتركوا فيه أثر ميزانهم، وما في الجدر من تجاويف صغيرة يجادل علماء الآثار في أمرها فحديثة أيضا، وهي صادرة عن عين المصدر الذي هو علة الخروق المنحوتة في حجارة الجسور الجديدة؛ وذلك أن الأولاد يسنون عليها الدوم لتصنع منه يرامع.
27
وإذا بلغ سقف المعبد العظيم الذي يغمره النور الباهر المهتز لاحت الآلهة والأفاعي والفراعنة في الأسفل من الهزال كاللهيب المرتج الذي يرشد الزائر فيؤدي إلى تعثره في الدرج، وتتجلى أهمية هذا المعبد الرمزية بأكثر مما تقدم إذا ما رئي في الحد بين وادي النيل والصحراء.
وينتصب الصقر هوروس المصنوع من الغرانيت الأزرق في مدخل الباحة عظيما متجبرا شبيها بالبشر أكثر مما بالطير جامعا بين الوقار وحذر الكواسر التي لها ما لأبناء الآلهة من سلطان، ويظهر أنه يستريح أمام معبده واضعا تاجين على رأسه، وهل يسمع صرصرة
28
الصقر الحي؟ وهل يرى امتداد ظله وهو يطير على طول جدر القاعة ناشرا جناحيه الأسودين اللامعين على حين يبدو بدنه أزرق نيرا كصورته الإلهية؟ والصقر يزعق ويعود إلى النيل حيث يبحث عن شيء كما يلوح.
الفصل التاسع
ينتصب رتاجان في الخضرة بين النخل، ويحتمل أنهما قديمان، ويحتمل صدورهما عن معبد، أو عن نموذج معبد ما داما صغيرين، ويصغران كلما دنونا، ونتبين في نهاية الأمر أبراج حمام غريبة شبه أسطوانية قائمة على بيت فلاح، وترانا في قرية ما بمصر العليا محاطة بخضرة، وذلك على حدود الصحراء التي أخصبت قسيمة منها، والقسيمة هي وطن الفلاح ومنزله المفضل في القرية.
وإن ما عليه من سرعة عطب هذه البيوت البيض والسمر المبنية من طين النيل نفسه، وإن ما عليه هذه البيوت من تكتل، وإن ما يسود ذلك المدى الضيق من ضوضاء، وإن ما يصدر عن الإنسان والحيوان من ضجيج حاد بعيد من صريف الآلة، وإن ما ينبعث من خثي
1
البقر الجاف المحترق من رائحة عذيبية أمور تدل السائح على حياة عضوية حيوانية غريزية، ويشعر بالقرية المصرية وتسمع وتذاق حتى قبل أن تدخل.
وترى في الطريق الضيقة جمهورا منذ الفجر، ويلبط الحمار النطاط الذي ينتظر عند باب النحاس، ويحاول صاحبه أن يبيع النسيج الملفوف فوق ظهره، ولا يرفض النحاس ذلك لأنه غير مقتصد، ويحتاج إلى وقت طويل ليقرر، ومن المحتمل قبل ذلك أن يولي وجهه شطر الحلاق الذي صنع له طست الحلاقة والذي يجوب الطريق معوزا باحثا عن الزبن، وليس عليه أن يصيح، وذلك لما ليس لديه سوى مشتركين يؤدون إليه أجرة عمله مرة في السنة مع سلة فول أو عدس، وأسعد حالا من ذلك هم الأولاد والدجاج الذين يلعبون على جثوة جافة من وحل النيل، وكذلك الشائب الجالس على الأرض مديرا بحبات سبحته من غير أن يعرف من بعيد هل يدعو الله أو عيسى، وكذلك السائل الذي ينزل من فوق حماره طالبا صدقة والذي ينصرف وهو يهمهم
2
بعد أن يقوم بحساباته.
وينعش القرية أنواع الحيوان، ويلوح أن للدجاج من كل جنس صفة الضابط الذي يعتقد أنه لا معدل لأحد عنه ما دامت مصر تصدر مائتي مليون بيضة في كل سنة. ويعد الكلب نجسا فلا تحسن معاملته، وينشأ خبيثا ويعود إلى الحال التي يكون عليها ابن آوى، وليس من خطيئته أن يغدو خطرا، وترقبه الهرة الضاربة إلى حمرة والمؤنسة المعتنى بها والملبدة بزاوية خائفة مزدرية معا. والخنازير خاصة بالنصارى، ولكن من يعلم أن المسلم لا يخالف تعاليم النبي الصحية بين أربعة جدر فلا يستبدل لدى القبطي قطعة خنزير بقطعة ضائن!
والحمير تنهق مسرورة، وتتنازع النساء ويتشاتمن حول البئر حيث يصعد الدولاب ذو الصريف ماء من السماط الواقع تحت الأرض، وهن يتساءلن هل تكون الجارة عقيما؛ وذلك لأن عدوا لها حملتها على ابتلاع حب من السمسم عند وضعها ولدها الأخير. وهن يدرن نحو بائع البصل الذي سمعن صراخه ويساومن بصوت عال، وهن إذا ما خفتن أصواتهن كان ذلك عند الكلام عن ثروة الرجل المتواضع الذي يدخن بنرجيلته جالسا القرفصاء أمام باب المقهى المفتوح، وما كان ليقف نظر أحد لو لم يبصر تحت كمي عباءته السمراء ما على ثوبه الحريري - الجدير بأحد الخلفاء - من خطوط خضر وصفر، وتثبت عمامته الخضراء أنه كان في مكة فحق له أن يلبسها لهذا السبب على ما يحتمل، وهو إذا ما وجه بصره المثير إلى النساء قومن براقعهن وسترن شعورهن لعدها أكثر من وجوههن تهييجا.
وتخرج أصوات حادة، فقد قلب حمار يحمشل ما يعدل حجم بدنه ست مرات دلو امرأة تحلب فيها لبنها على قارعة الطريق لما يساور المشتري من خوف إضافتها ماء إليه، ويتجمع الناس والبهائم، ويأتي حيوان غريب من الخلف ويلقي ظله عليهم، ولا يعرف هذا البعير رازحا تحت حمله من البر، ويمط هذا الجمل عنقه الطويل الهزيل الذي هو أهل لعجوز إنكليزية هزيلة مزينة بالجواهر جالسة في دار التمثيل، ويبصر صبارا على طرف الطريق ويلوكه هادئا بين الصخب الذي يسود النداء الثاني الصادر عن المؤذن من شرفة المسجد العالية.
ويتهافت الناس نحو الطرف الآخر من الطريق، فقد وصل العراف من المصر راكبا حمارا، ويزدحم النساء حوله ويمسسن تمائمه الفضية وقططه وجعلانه
3
وصور العذراء وإيزيس التي لديه والخاصة بجميع الأديان ويضعنها في الوحل ويثبن فوقها ويقبلن ثوبه، ومن يك عندها ما تؤدي إليه فإنها تنال من حب الفحال
4
ما تتخذه للشرب، وهو ترياق
5
ضد مكايد الحواسد اللائي يردن أن يحلن دون وضعها أولادا آخرين.
ومن المحتمل أن كان المنزل الذي تهيئ المرأة فيه الطعام من بناء بعلها، وتحيط النخل بهذا المنزل، وتحف به مقاعد جميلة ظليلة من تبن؛ وذلك لأنه يعمل ويستراح خارج البيت، وعلى هذا البيت صور جمل تصويرا ساذجا مؤثرا، وعلى ذلك البيت صور خط حديدي، لا القطار السريع الأبيض الممتد على شاطئ النيل، وإنما القطار التالد الطريف الذي سافر به رب الأسرة من جدة إلى مكة، وقد أدخلت إلى التمرادين
6
القائمين فوق البيت صفائح من خزف أزرق يحبها الحمام، وفي المنزل يربى بقر لخثيه الثمين، والخثي يصلح وقودا.
ولا تقي غرفة المنزل الوحيدة الرطيبة المعتمة ساكنيها من الشمس، بل من الليل، وتجاورها فرش مصنوعة من حصر وجلود وبضعة مراجل وأوعية خشبية وجرار من فخار، ويتلمس دخان الخثي المحروق مخرجا من خلال سقف خفيف مصنوع من تبن الذرة، ويجتذب الخثي الكلاب والهررة والدجاج، وإذا لم يكن الأولاد في المدرسة تمرغوا مع الحيوانات في هذا الجو الخانق.
والفلاحة في فتائها رائعة المنظر لما تكون عليه من صحة ونشاط ومرح وعرض كتف واستقامة صدر مع حسن اختضاب ومشط، وهي تغدو زوجا في الثالثة عشرة من سنيها، وهي تتزوج قبل بلوغها السن القانونية غالبا، لتهارمها
7
أمام القاضي، وهي لا تلبث أن تصبح أما، وهي تنجذب بجميع أفكارها إلى الحياة الجنسية ما حملتها الشمس وخصب البلد على ذلك. وما كانت كثرة الولد لتحول دون الغيرة وهوى النفس، فلا يحجم عن القتل والسم في سبيل رجل ترغب فيه امرأة ولا ترغب عنه امرأة أخرى.
ولا يقول المسلمون - على العموم - بتعدد الزوجات لأسباب مالية فقط، ولا يجادل الطبيب والعراف وحدهما في المسائل الجنسية، بل تجادل الفتيات فيها أيضا، ولكن عن سذاجة، وترى المستوى الأدبي أعلى مما في غرب أوروبة فيفرض النكاح أو الفراق عند وجود فضيحة فتعالج المحاكم هذه الأمور، وليس الزواج - ولا الفراق - من الأمور المؤبدة، فيمكن العود إلى الأمر ثلاث مرات قبل أن يكرهكم القرآن على التوقف، حتى إنه يحل الزواج بالمرأة للمرة الرابعة إذا ما تزوجت بآخر قبل ذلك.
وأبناء مصر خرافيون منذ القديم، فإذا ما أراد رجل أن يتزوج أرملة أخيه - من أجل قطعة أرض على ما يحتمل - اتخذ جميع الوسائل وسحر امرأته لتمقته، وهو يدفن في قبر بيضة وضعت يوم الأربعاء بعد أن يكتب عليها اسم إحدى الأرواح الشريرة. والمصري - نصرانيا كان أو مسلما - يعتقد جميع ما ينطوي عليه الساحر من رئاء وتصنع، والعقم لا يزال أحسن وسيلة للخلاص من المرأة، ولا ريب في أن الملتوسية
8
في مصر أندر مما في أي مكان آخر.
وتسفر تلك الحال النفسية عن نتيجتين؛ تسفر عن شدة نحو البنات واحترام عميق نحو الأم، وللأم المقام الأعلى عند الابن، ولو كان شعر زوجه رماديا، وليس للحفيدات أن يخرجن من دون أمهن، حتى إن الأيم تفقد حقوقها، ولا يحق لها أن تكون وحدها مع رجال في غرفة واحدة. ومما يقع في أيامنا - أيضا - أن تأتي الأم بابنتها الحبلى إلى الصحراء لتذبحها أو أن يقتل الأخ أخته لسوء سلوكها، وتعد الولادة - ولا سيما الأولى - حادثا ذا بال، وتعلق المرأة في الجدار صورا ملونة لرجال حتى تنعم النظر فيها، وهي - قبيل الوضع - تجرر نفسها إلى شاطئ النيل بحثا عن قطعة غرين تبلعها في أثناء الطلق، وتستر جيدها وذراعيها بتعاويذ لكي تضع صبيا أو ولدا حسن الهيئة.
والمرأة إذا ما وضعت أنثى عدها زوجها مدنسة مدة ثلاثين يوما، والمرأة إذا ما وضعت ذكرا عدها زوجها مدنسة مدة أربعين يوما. وهل هذا بسبب أهمية الذكر، أو لأن الذكر أكثر دنسا؟
وترضع المرأة ولدها عامين تقريبا ككثير من فلاحات النرويج، وترى المرأة جالسة أمام بابها عارية الصدر ممسكة الولد الذي يرضع بيدها اليسرى وممسكة أنبوب النرجيلة التي تدخن بيدها اليمنى. وتسمى الرضعة الأخيرة بالفطام كما تسمى سقية البر الأخيرة به أيضا. والمرأة إذا ما حملت ثانية علقت على جيد ولدها الأكبر عوذة
9
لكيلا يحسد أخاه الأصغر، ويحمل الأولاد على أعناقهم مصاحف صغيرة دقيقة محفوظة في أكياس من نسيج قطني. وإذا كان الولد نحيفا سيئ النمو أتي به إلى شاطئ النيل في أول الفيضان وحمل على قذفه فيه حلوى وتمرا مع القول بصوت عال في كل مرة: «دعني - أيها النيل - أزيد قوة كعمقك.»
وفي النهار يكون الزوج في الحقل بجانب الناعورة زارعا أو حاصدا، والفلاح مشهور بصحته ونشاطه واعتدال قامته منذ القديم، هو ربعة،
10
هو مفتول السواعد، هو يشابه تماثيل عهد الفراعنة إذا ما وقف عاريا بجانب المنزفة وناول رفيقه وعاء الماء.
وللفلاح الحافي في الحقول - بقميصه الأزرق، وسرواله الواسع، أو بعباءته السمراء التي نسجتها له زوجته من شعر العنز، مع لبادة كثيفة على رأسه - هيئة المزارع الرزين الصوت الذي يزرع أرض آبائه في غضون القرون. ويذكرنا رأس الفلاح برأس حيواناته الأهلية، ولا يمت الفلاح إلى الزنجي بصلة، وذلك بجمجمته الغليظة البيضية المخلوقة القائمة على رقبة قوية وبجبينه العريض المائل إلى الوراء قليلا وبأنفه السرجي وعينيه السوداوين اللامعتين تحت حاجبيه الكثيفين، وبفمه الكبير وأسنانه الجميلة وذقنه المقرن والأجرد أحيانا.
وليس القسم الأسفل من وجه الفلاح ناتئا كما عند العروق الأفريقية الأخرى. وجسم الفلاح مما يقاوم الآلة، ولا بد من انقضاء قرون حتى توافق روحه على تغيير عادة. والفلاح فقير منذ عهد الفراعنة، والفلاح المصري كالفلاح الروسي القديم ما بلغ عدد الفلاحين بمصر اثني عشر مليونا من أربعة عشر مليونا. ولم ظل المصري فقيرا؟ هو غير كسول، هو غير غبي، هو ذكي شغال ما دام شابا على الأقل، هو قد أمسك في بحر من الجهل، هو لم يبدأ بالعناية بتربيته إلا في وقت حديث جدا، هو قد يكون حسودا خرافيا، ولكن مع طيبة قلب، ولم يجعل ضيق منزله منه رجلا عربيدا، وقد حافظ مع القرون على حسن معشره، ويبدو عنيفا من غير حقد، فإذا قتل جارا له لاختلاسه منه بضع بصلات بكاه مخلصا.
وفي بلد لا يجدي فيه المحراث نفعا تقريبا لا يترك الفلاح فيما عليه إخوانه بالنيل الأعلى، أو أبناء دينه ببلاد الشرق الأخرى، من بطالة مباركة، فعليه أن يدير الناعورة، وعليه أن يحمل الدلو على كتفه، فلا يمن النيل عليه بالخصب بلا عمل، ويكون الفلاح عند منزفته على ضفة النهر من وقت الفجر، وتسمعه الشمس عند كل صباح منشدا:
الليف المفتول ذراع تحمل دلوا. لقد اخترعوا الشادوف منذ ألوف السنين لا مراء، هم قد فعلوا ذلك لأن الماء كان لا ينزل من السماء، وماذا كان اسم هذا الرجل الذي نشكر له؟ وي صالح زبادي! يا ليف أنت قوي، ويقدر الحر أن يحرقني، إذا انفزر قلبي لم أجد من يبكيني، وي صالح زبادي!
11
حتى إن الحراثة عند ضرورتها تطالب الإنسان ببذل جميع قوته، وإن وجب ألا يكون التلم
12
عميقا. ولكن المحراث لا يزال مؤلفا من قطعة حطب منحنية ذات حديدة حادة فيجره ثوران مقرونان بمجر طويل، ويكسر المدر
13
بالأيدي فيبذر. ومما يقع في بعض الأحيان أن تقرع الأرض بأرجل الغنم، وتكون الحقول صغيرة، وتبصر عند كل ست أقدام حدا، ولا تجد غير مربعات دقيقة مع انحدارات قليلة يصنع فيها ثقب أيام الفيضان، أو يفتح فيها ذلك بالرجل.
وهل الحصاد هنالك أسهل مما في الأماكن الأخرى؟ وفي الشتاء ينضج القمح والفول والعدس والبرسيم. وفي الصيف تنضج الذرة والأرز والقطن وقصب السكر. وفي أثناء الفيضان ينضج الدخن والأرز والخضر، وهذه المحاصيل الثلاثة تطابق البدار (وفي أول نوفمبر يبذر في الغرين) فتجد في كثير من بقاع مصر سبعة محاصيل في ثلاثة عشر شهرا، غير أن عمل السقي يعدل محاسن الشمس، فظلت الآلات كما في زمن الفراعنة، ويقطع القمح بالمناجل في كل مكان تقريبا، ويجمع هذا القمح أكداسا فيحملها الجمل إلى البيدر حيث يدرسه البقر، ثم يذرى البر ويحفظ من الريح بأوراق النخل، ولا بد من انقضاء وقت حتى تحمل الحمير أكياسه إلى الهري المخروطي.
وكان اثنا عشر مليون فلاح يعملون من أجل مليوني غني منذ سنوات قليلة خلت، ولم يطالب الفلاحون لأنفسهم بغير نصف الأراضي حتى بعد اضطرابات سنة 1918، ويبرز البدويون - الذين لا يقرءون صحفا ولا يسمعون في واحاتهم خطبا - من فورهم على ضفاف النيل مع الهتاف: «قسم واعدل!» ولا يعدو هذا تلخيصا لنظريات أبناء المدن من قبل أناس ملاح عراة صحل
14
على طرف الصحراء. واليوم تتحرك الجموع على مهل، فمن ناحية يزداد عدد أصحاب الأملاك الصغيرة في هذا البلد الخصيب فيقومون هم وأولادهم بأمور الزراعة، ومن ناحية أخرى يكثر عدد المزارعين على أن يكون خمسا المحصول لهم.
ويدفع أقل مالك ثلاثة جنيهات أو أربعة جنيهات ضريبة عن كل فدان، غير أن السكان يغدون أكثر كثافة مقدارا فمقدارا، وقد تضاعف عددهم في السنين الثلاثين الأخيرة تقريبا، وهم ما انفك أكثرهم مياوما.
15
أجل، يستخدم عدد غير قليل منهم في المطاحن والمضخات البخارية كما هو الأمر عندنا، غير أن معظمهم يعمل مثل آبائهم، فينالون أجورهم عينا وينقل الأولاد والنساء أجرة الزوج على رءوسهم.
ويا للضوضاء حول المحكمة عندما يتوجه الفلاح إلى المصر اجتنابا للحجر! ولا حجز من عهد كتشنر لما هو أقل من خمسة فدادين، فإذا عدوت هذا أخذ الجباة كل ما سواه، حتى أصغر قطعة فضية مزينة لبرقع زوجته، وذلك عند عدم تأديته ما عليه من الضرائب، وذلك سواء أكان الفيضان جيدا أم رديئا، وها هو ذا يرى تحت ظل السنط أمام بناء حجري ذي منظر كئيب كما في بقية العالم، ويدنو من كاتب عرائض ليدافع عن حقوقه على حين يشرح عشرة فلاحين أخر حالهم لكتبة عشرة آخرين، وتبصر في دار القضاء تلك مثل ما في القرية من ازدحام وعدم انتظام، وما يحرك به كاتب العرائض من بطء قلمه في الدواة فيدل على قلة اكتراثه وينم على ما يساوره من مكر حول تفكيره في زبون أكثر ثراء، وإن الأمر لكذلك إذ ينهض جميع الجالسين القرفصاء في القاعة ذات الظل، وذلك عند دخول القاضي، وإليه يهرع، فلعله يكون أول المتقاضين.
ويبدو القاضي لابسا حلة سوداء ووشاحا أحمر قبل أن يستوي أمام منضدته العالية، ويضحك المحامون في الصف الأول ويثرثرون بمثل ما يظهر من وقاحة وتجن على ضفاف اللوار
16
والتايمس
17
والإلبة
18
والأرنو،
19
ولكن الكلام يخرج على ضفاف النيل من محاميين معا، ومن زبونيهما معا، ويخيل للعابر أن الأمر واضح عندما تصدر زعقات أربع وتهز أيد ثمان أمام القاضي، ويتدافع الحضور إلى الأمام، ويحاول حاجب المحكمة دفعهم على غير جدوى، ويعلن الرجل اللابس وشاحا بصوت نمطي قائلا: «إن القضية أجلت لثلاثة أشهر.»
والفلاح يرجع تعبا إلى الغاية من الحصاد والناعورة والمحكمة، وما تقدمه زوجه إليه من خبز فيجده جيدا، فهو مصنوع من البر والذرة، وهو صالح لبقاء حسن الأسنان كما يلوح، والفلاح يغمسه في حساء البصل والسمن مع الخيار والفول، وهذا هو طعامه العادي المفضل. ويتصف الفلاح بحب الخير فيقدم من طعامه هذا كوبا إلى أفقر من يمد يده إليه؛ وذلك لأنه يأكل على عتبة البيت، وينتظر السنور نصيبه أيضا، ويحب الفلاح البصل الفج
20
والبصل الناضج والعدس قبل كل شيء، والخضر إذا أمكن ذلك، ويؤثر الفلاح ماء النيل غير المصفى مع جميع أوساخه لكي يكون مطعما، ويؤمن الفلاح بالنيل.
ومن الأمور الشاقة أن يخرج الفلاح من القذارة التي نشأ عليها أجداده جيلا بعد جيل مع حيواناتهم منتفعين بأقل سرجين
21
للحمام وزبل للأنعام، وذلك من غير أن ينزل من السماء ماء يغسل الإنسان والحيوان والمنزل والآنية منذ ستة آلاف سنة. وقد يمضي جيل أو جيلان قبل أن يثق الفلاح بالمشفى الحديث أكثر من ثقته بالمجبرة التي تضع سنبلة ذرة على الساق المريضة مع تلاوة آيات من القرآن، والتي تداوي الحثر
22
بذلك الجفن بقطعة سكر أو بقطره بعصارة بصل مع ملح، والتي تكشط الجلد بصدف أو حجارة سحرية.
هوروس (الصقر) في أدفو.
وتزول العقائد ويبقى الساحر، ويحتمل أن تكون الظلمات التي يدثر بها ضربا من ردود الفعل لنور الشمس الساطع الخالد، ويعيش الفلاح خائفا خوفا أزليا من اللامة
23
محاطا بمئات التمائم اللامعة على جيد النساء ورقاب الحمير والجمال، ويترنح الفلاح بأقاصيص القاصين الذين يكررون وقت المساء بحركات مسرحية ما قصه عليهم آباؤهم مادين أذرعهم واضعين أيديهم على آذانهم أحيانا كما لو كانوا يستوحون. وإذا غابت الشمس وتصاعد دخان السغاير ظهرت في جو المقاهي العذيبي طائفة من الأحاديث الوهمية الغائمة التي تخشى نور النهار، والتي ترجع إلى ألوف السنين. ومما جاء في كتاب الإله توت السحري أن ابنا لأحد الفراعنة حل برديا مقدسا في الماء وشربه فأشرب كل حكمة. ومما حدث في سنة 1936 أن قاضيا نوبيا كتب كلمة من القرآن وحل حبرها في الماء وحمل المشتكي والمتهم على شربها لكي يقولا الصدق، ولكن الخرافات تحيط بالحب والموت على الخصوص.
وتصل العروس راكبة جملا، أو سيارة فورد - أحيانا - مهما كانت فقيرة، ثم يفرط في الطعام، ويضع القسيس - ولو كان قسا نصرانيا - نسيجا مخمليا على كتف العريس اليمنى وتحت عاتقه الأيسر، ويتلو أدعيته ويجمع جعله،
24
ثم يرفع ذلك النسيج، ويرقب لبس كل من العروسين خاتمه، ويعلن زواجهما بذلك، وفيما يرقص ليلا تدنو جماعة من الضباع على رائحة اللحم المشوي، وتطرد الضباع، وتجلجل من بعيد وتوعوع بنات آوى. وفي صباح الغد وحده يذهب الزوج إلى زوجته، ويمسها بعصا من جذع النخل، وتعود هذه العادة إلى ستة آلاف سنة.
وإذا مات أحدهم مات شبحه في الوقت نفسه؛ وذلك لأن القرينة تولد مع الإنسان ولها شكل الإنسان وطبيعته. وهي تكافح قرينة خصمه، وقد تكون قرينة سوء في بعض الأحيان فتزعج صاحبها فيهرع في الصباح إلى الشيخ ليسأله الوقاية منها، وقد تكون المرأة شريرة فيؤلم شبحها الولد حتى السنة السابعة من عمره، ثم لا يبقى ما يخشى منه بعد ذلك، وتقول الفتاة العاشقة للفتى بلطف: «إن قرينتي طيبة نحوي.»
وإذا مات ولد اضطرب المنزل بأسره، وشعر بخطر يحيق بالجنس وقوة التناسل، ويسرع لاجتناب بلايا أخرى، وتخرج روحه من فمه ككل ميت، ولكن لا ينبغي أن يكفن بشدة خشية أن تصاب أمه بالعقم، ثم تذبح شاة، ويؤتى بخبز، ويأتي رجل الدين، ولو كان قسا نصرانيا - بعد ثلاثة أيام من الموت - ويذهب روح الولد الميت مع عثان
25
اللبان، ولا تجد لذلك ذكرا في القرآن ولا في التوراة. فهذه الطقوس مصرية الأصل.
وهكذا تنقضي حياة الفلاح المرافقة لصريف الساقية، والتي تكون على شيء من السعادة، وذلك مع صفاء صادر عن إلهي أرضه اللذين جعلا بلده مثمرا وجعلا منزله منتجا، والفلاح ينام على صوت قضم حماره لفوله، والفلاح يصحو على سجع حمامه.
الفصل العاشر
من المحتمل أن يزور الفلاح مع ابنه ضريحا ملكيا، ويكون الدليل صديقا له فيأذن له في الدخول، ويرى على نور المصابيح الكهربية ما كان يضاء بالمشاعل إضاءة خفيفة فيما مضى؛ أي يرى على الجدر تصاوير ممثلة لجميع حياة الرجل الذي شاد ذلك الضريح ولحروبه وعيشه المنزلي وقصصه وقصائده وزوجه وأولاده وموظفيه وعبيده وبذوره وحصائده وصيده وألعابه. وإذا ما كان الضريح مفتوحا حديثا أبصرت الأدوات والأثاث في مكانها، ويقف الفلاح بجانب السياح صامتا حاملا ابنه بيده، ولا يفهم الفلاح ماذا يقولون، ولكنه يدرك بأحسن مما يدركون جميع ما يشاهده هنالك، ويظل مشدوها.
ومن الصحيح - إذن - ما يقصه عليه الشيخ والساحر وما يذكره القاص في القهوة! والحياة هي هي، ويرفع ابنه ضاحكا ويوضح له بصوت خافت ما هو مصور هنا من تاريخ عجيب يرجع إلى ما قبل هجرة النبي بألوف السنين، وماذا يجد الفلاح في ذلك الضريح الفرعوني؟ يجد نفسه في كل ناحية منه.
وإليك الشادوف الذي يعلو وينزل لمتح
1
الماء من غير صريف ولا أنين، وإليك الحقول الطويلة التي تفصل الجداول بعضها عن بعض. وإليك المحراث الذي هو لوح ذو قبضتين مربوط بحبل مع عطل مع أنف حديدي، وإليك الجمال والحمير والولد الذي يسوق الضأن بعصاه حملا لها على دوس الحب في الأرض على حين يجتذب صبي آخر الضائن من الرأس مع البر. وماذا يصنعون هنالك؟ إنهم يربطون الحب الجيد بالمدق لكي يكون المحصول حسنا في العام القادم، ويعطى الكاهن بواكير الثمرات كما في الزمن الحاضر، ويضحون بثور تكريما لبناء جديد كما نصنع تكريما لمضخة بخارية. والمعبد هو المعبد الذي ننزع الحجارة منه عندما لا يرانا الحارس.
ويقرص الفلاح المرح ولده إثارة لانتباهه، وتبصر من الناحية الأخرى - وفي الصورة الجدارية نفسها - الأم وهي تحبك سلة من خوص النخل كما يحبك على الصفة عندنا، ويبصر أمشاطها الخشبية وبرقعها، والمرأة هنالك تخطط حاجبيها، والمزين هنالك - أو أحمد نفسه هنالك - هو الذي يحلق الرأس، وتنوح النساء لموت أزواجهن مع حل شعور وشق ثياب وحرق لبان، ويبصر من الناحية الأخرى - وفي الصورة الجدارية نفسها - فرعون الحزين يودع ابنه الميت، ويبصر قرينة هذا الابن، ويحرك ذلك المنظر ساكن الفلاح فيضم ابنه إلى صدره من فوره، ثم يضحك الفلاح عندما يرى كاتبا يسم الثيران كما توسم في الوقت الحاضر، وذلك بجانب كاتب آخر يسجل عدد أكياس القمح التي يسلمها إلى الزراع، وذلك بجانب أناس يصبون الحب من عل في هري مخروطي كهري القرية في الزمن الحالي.
ويا لكثرة ما كان يملك صاحب الضريح الغني! ويشرح الدليل الكتابة للسياح، ويترجمها إلى العربية بسرعة كي يعلم الفلاح ذلك، وفي الكتابة:
لديك 835 رأسا من البقر ذي قرون طويلة، و220 رأسا من البقر بلا قرون، و760 حمارا، و974 شاة و2234 عنزة.
ويتحسر الفلاح صاخبا؛ وذلك لأنه يتمثل كل عناء وكل عرق يسيل على ظهور آبائه في سبيل تربية هذه الحيوانات وتغذيتها، ويتبين من الصورة الجدارية الثالثة سبب هزال البقار الذي يرعي ثلاث بقرات على حين تسمن بقرات أخر بالعجين.
ويعجب الفلاح بطول سنابل القمح على صورة جدارية أخرى، ويبدي الفلاح ارتياحه من قطعها بالمنجل على ارتفاع الركبة، ولكن موسيقيا كان يطرب الحصاد على أنغام المزمار، ثم تؤخذ جرزة
2
من الطرفين وتربط من الوسط، بيد أن الحمير لم ترد أن تحمل أكثر مما في الوقت الحاضر.
ويضحك الصبي، فذلك مما يقع كل يوم في القرية، ويجر رجل الحمار من أذنه وآخر من قائمته، ولا تختلف الأكياس والسلال التي توضع على ظهره عما يشاهد في أيامنا. والآن يضرب الحمار ويدفع على حين يحول فلاح ثالث دون سقوط شيء من ذلك على الأرض، وها هو ذات الكاتب يزن ويكيل كل شيء، وهو في ذلك ككاتب باشا القاهرة في القرية.
وكان أولئك القدماء طيبين تجاه الحيوانات، ويجب أن يعترف بذلك ؛ وذلك لأنك ترى بين المواشي المسمنة إوزا يكاد يأكل، ولأنك ترى في زاوية كركيا يكاد يشرب، ولكن أي الحيوانات كان يصطاد سيد ذلك البلد؟ كان يصطاد الأسد والنعام والزرافة وبقر الماء. أفلا ترى من المناظر العصرية أن ينزل الأكابر النيل ويستلقوا على جلود الحيوانات في زوارقهم الشراعية المجهزة بمخادع ورياش، وأن يعزف فتيات ويرقصن هنالك؟
وأي الحيوانات الغريبة يتسلق أشجار التين هنالك؟ يضحك الصبي؛ لأنه أدرك ذلك بأسرع مما أدرك أبوه، فتلك الحيوانات هي قردة أليفة تصعد في فروع أشجار التين التي يتعذر الارتقاء إليها لترمي بثمراتها، ويا ليت ما في الصورة حقيقة!
والآن ينتهي الحلم، فيصعد الزائرون في السلم المنحني نحو السماء الزرقاء، نحو الشمس المعشية، ويعتري الفلاح دوار لما أبصر من مناظر لا تكاد تصدق، لما أبصر من مصير يرجع إلى ألوف السنين. ويسأل الفلاح في نفسه: هل أبصر ضريح فرعون أو ضريح أحد تجار الدلتا، ويفك الفلاح حماره الذي يشخر ويود أن يعود إلى منزله، ويحمل الحمار صاحبه الممسك ابنه أمامه ويعدو على طرف الطريق من خلال الصحراء ويشد صاحبه العنان حملا له على التمهل وحفظا للصبي من السقوط، ويفكر الفلاح في كل ما رأى، وفي أولئك الأغنياء الذين ما فتئوا يستخدمون الفلاحين وينزلون النيل في زوارقهم المزخرفة جيدا.
وإذا ما ذهب الفلاح إلى قبور الأقصر أبصر من قصب السكر تمثالين عظيمين يدعوهما الشيخ بعمودي ممنون وإن كان يسميهما عادة بالبقرة والثور، وذانك التمثالان المضحكان هما لأحد الفراعنة الذي كان يجلس على العرش أمام معبده مع حسان بين قدميه، مع نسائه وأمه على ما يحتمل، كما هو شأن رمسيس على حدود النوبة، ويعرف الفلاح ويبصر من لون التمثال أن فرعون كان - لا ريب - يقعد في النيل حتى البطن وقت الفيضان.
ومما قص على الفلاح - أيضا - أن تلك التماثيل كانت ذات رنين. ومما يبدو أن الفلاح يشك مع استرابون
3
الذي كان يرى أن ذلك الرنين يصدر عن أناس يحيطون بالتمثال. ومما لا يصعب إدراكه - كما يقول الفلاح في نفسه حينما ينظر إلى الساقية التي تكاد تدور بجانب شجرة السنط الكبيرة - ألا يكون الطنين آتيا من أمنوفيس الذي نسي خلوده واسمه، أو من شبه الإله الذي قتله أشيل
4
فيئن عند ظهور إيوس،
5
فأنين تمثال ممنون الكبير يجيء من الساقية القديمة التي تدور وراءه كما تدور وراء جميع تماثيل الفراعنة وجميع معابدهم.
الفصل الحادي عشر
في صمت ساعات الصباح بالأقصر يسمع - مع فواصل قصيرة - صدى لصليل ذي إصرار وجريض.
1
وعلى تلك الضفة البالغة الغنى، حيث كل شيء رطيب مدهام، وحيث تصل رائحة الغرين إليكم على الطريق المعبدة، وفي ذلك الجو الفضي المهتز، وبذلك النبات الزاخر، تجد جنة عدن، وعلى شواطئ النيل يتمتع بحلاوة الحياة أكثر مما في أي مكان آخر، وتلقي تقاليد طيبة أشعتها على العالم وتوزع هبات الحياة في قصورها وحدائقها الوارفة بسخاء فرعوني، ويضع الأجنبي هنالك أسطع دور أبصره النيل ولو لم تقم هنالك أضخم التماثيل وأعلى الرتاج، ولو لم تتتابع هنالك تماثيل أبي الهول على صف متصل.
وللمرة الثانية يرى النهر أنه لا يصلح - فقط - لإنتاج القمح والخضر والسكر والقطن، ويتحول ماؤه وغرينه إلى حدائق نخيل كما في الخرطوم البعيدة، ولا يعود النهر لوقت قصير عامل حياة لدى ملايين الآدميين، بل عنصر رفاه، وهو في ذلك كالأستاذ الكبير الذي يسير ذات حين مع رؤى شعرية.
ومصدر الصليل الضئيل هو جزازة العشب التي يديرها الفلاح اللابس جلبابا أبيض بيديه السمراوين. ومن شأن الغرين القابل النفوذ والذي يفرش حول الفنادق، ومن شأن المضخات واللوالب الدائمة العمل وجود ذلك النبات الزاخر وديمومته وإحداث غابة خضراء على مقياس صغير. والنيل وحده هو الموجد من إلهي مصر. والشمس مبيرة
2
مسعار،
3
والأزهار الباهرة الكثيرة الألوان لا تعيش إلا تحت ظل النخل، والحدائق تحاط بالأسوار كما تحاط التصاوير الفارسية الطريفة بالأطر الثمينة. وتلك الأسوار هي سياجات غليظة من الطين يدافع عنها بالزجاج المكسور وبالصبار.
ويشري الأجانب تمتعهم بهذه النفائس فيجتنبون بها أوار
4
الشمس، وذلك كما يفزع إلى الكنيسة اتقاء لنور الرواق الذي يعمي الأبصار ؛ وذلك لأن الغار الوردي والجهنمي الأرجواني والياسمين والدفلى
5
نباتات ترد النور إلى الجزر الصغيرة الظليلة تحت النخيل، وهنالك يضرب كل لون إلى ادهيمام مع التماع.
والأخضر هو شعار النبي، والأخضر هو غاية كل من يجوب البادية، والأخضر هو محتلم البدوي الذي يطلب الطراء وبغية الحاج الذي يتمثل بها هدوء داره ومسرة سريره، وتهدل اليمامة التي تغنى بها شعراء العرب على غصن المنجة، ويقفز الهدهد بين حفيف سعوف النخل، وتتفلى ذعرتان مع اهتزاز على الحصباء.
ويخرج هوروس
6
أصوات الفرح لما تبدو الأرض تحته بستانا صغيرا والسماء حلما، ويغني فلاح وهو يدير سير المنزفة في الخارج وبالقرب من الجدار الطيني، ويحرك المضخة ثلاثة فلاحين أخر ويغيرون مواضع اللوالب، ويسقي فلاح خامس أحواض الزهر، ويتصل جميع هؤلاء في النهار كله بأغنياء هذا العالم ويبصرونهم ويسمعونهم ويشعرون بهم، وهم يرون حسانا من السادة والسيدات، وخدما سودا وراءهم، ينزلون من قطار أبيض ذي خوادع
7
غير شفافة وذي مصراعين مضاعفين وذي أثاث زبدي اللون، وهم يرونهم يركبون الحمير ضاحكين ليزوروا المعابد.
وهم يرون السيدات منهم سافرات لابسات سراويل، وهم يمسكون الجسر الخشبي الضيق بأيديهم السمر حين مرورهن عليه من أدنى درجة إلى ناحية المركب، ثم يشاهدونهن يتناولن القهوة على الشاطئ وهن يقرصن غلاما بلديا جميلا أو يمسسنه بأذرعهن العارية شعورا بحرارته البدنية، وهم يشاهدونهن مساء على كراس مركبية بجانب سيد فاتر المزاج ظاهرا متأمل في سماء يجهلها أهل الشمال، ولكن مع وقف بروج السماء لأنظارهن؛ وذلك لأن مصر عندهن ليست غير مرحلة تناسخ تأمل كل واحدة منهن فيها أن تكون كليوباترة وأن تجد في طلب قيصر الإنكليزي.
فلاحون في عهد الفراعنة.
وأما الفلاح الخامس الذي يسقي أحواض الأزهار فمن المحتمل أن يكون أخا لذلك الذي زار الضريح الملكي في هذا النهار. ومن المحتمل أن تكون نظرة امرأة بيضاء - مرت راكبة فيما مضى - قد أسفرت عن عيشه في هذه الحديقة الناضرة. ومن المحتمل أنه من حفدة ذلك الذي كان يسقي منذ خمسة وثلاثين قرنا في المكان نفسه حديقة وزير نال السلطان والثراء بفضل امرأة أو عن حظ سعيد. وماذا رأى؟ وكيف بدت الدولة الطيبية لهذا الفلاح الذي خدمها في زهرها؟
وكان فلاح الفراعنة يعيش في المحل عينه وتحت ظل أجداد هذه النخلة فيسمع ضجيج المدينة الكبرى الذي يصل إلى سور حديقته؛ وذلك لأن طيبة بدت لأوميرس - أيضا - أسطورة مجيدة، «فقصورها مملوءة بضروب الغنى، وأبوابها المائة تفتح ليخرج من كل واحد منها مائتا مقاتل مع حصنهم وعددهم.»
والحق أن أوميرس كان يعيش بعد دور عظمة طيبة بمئات السنين، فلما مضت أربعة قرون لم يجد هيرودوتس في مكان طيبة غير «طيف ضخم».
وكان الصخب كبيرا على ضفة النيل تلك حين إسقاء فلاح الفراعنة للأحواض تلك، وكانت أعظم مدن القرون القديمة قائمة هنالك، وكان الفلاح يميز نشيدين من خلال الضوضاء، وهنالك - حيث كان بضع مئات من إخوانه يحملون سفن الفراعنة الشراعية أكياس القمح - كانوا ينشدون قائلين:
نجر حتى الليل سنابل البر وأكياس الحب، وتطفح الأهراء حتى الدرج، وتكثر الكدر
8
ألف مرة، وتغطس السفن الواسعة ويملأ القمح الضفاف، ولنحمل بلا راحة، أفتريدون شرب دمائنا؟
وعندما تقف ضجة تلك الجوقة يسمع الفلاح عن كثب، وتحت الجميز، حيث تستريح سيدته على بسط، غناء هذه السيدة وعبدها:
اشرب حتى الثمل، وتمتع بهذا اليوم الجميل، تثرثر الجارة في الغيضة، فاستفد من زمنك. أجل، حتى الدجر
9
صب ثماني عشرة مرة في كوبي الذهبي، ثر
10
هذا الجفاف الذي لا يسميه لسان فأضناني.
يسمع الفلاح ويصمت، وهو يفكر أكثر مما يظن سادته، ونعلم هذا من البردي الخفي، وفيما هو يهم بإطعام الطيور المائية في البركة؛ إذ يأتي خدم آخرون بموائد صغيرة فيقومون بخدمة سادتهم وضيوف سادتهم، ويقفز الأولاد في داخل المنزل حول والديهم مع أقزام ومجانين، ويعد العبيد الكلاب والقردة لتكمل الوليمة، ويجد أولئك كل شيء في السرادق وقت المساء، ويتناوبون بين البيت والحديقة القصف والضحك والخمر والجعة والحب.
وخمر الدلتا نادرة، غير أن الجعة هي مسكر المصريين اليومي، وكانت الجعة تصنع من القمح المطحون بمداق حجرية على أن يبلل بعدئذ ويسحق في دن ويعجن في منخل ثم يمصل،
11
وكانت هذه الجعة تحفظ في قلل
12
وتصم
13
بالغرين. وكانت توضع بطاقات على جرار الخمر للدلالة على قدمها، فيكتب على تلك البطاقات: «جيدة، جيدة مرتين، جيدة ثماني مرات»، وكانت جميع الجرار تزخرف بالسدر كما تزين به المائدة وشعور النساء. وكان النساء يأذن للرجال في شم شذاه عليهن، وكان النساء يقئن الخمر في بعض الأحيان، ومن المحتمل أن كان أرسطو يفكر في أقاصيص مصر عندما قال: إن سكارى الخمر كانوا يرتمون إلى الأمام، وسكارى الجعة كانوا يرتمون إلى الوراء.
وهكذا كانوا يجلسون في ناحية من الحديقة على حصر ملونة مصنوعة من البردي غير بعيدين من كوانين الفحم التي كان الطهاة يشوون عليها السمك المسفد
14
والإوز؛ أي أطعمة المصريين المفضلة، كما كانوا يشوون عليها لحم البقر. وكان الغلمان العراة والراقصات غير المستورات تقريبا يأخذون من الأوضاع ما هو تصويري في ليل ذلك العرض الذي يرسل سدوله فجأة، أو كانوا يرقصون على نور مصابيح زيت صغيرة فيوزعون عطرا سدريا على أولئك السادة والسيدات بين ما لا حد له من ألحان العود والقيثار ذي الأوتار السبعة والمزمار المزدوج.
وكان النساء يضطجعن هنالك لابسات ثيابا خفيفة لا تمسكها شرط الكتف إلا للحين الذي يردنه، وقد كن يبذلن من العناية بشعورهن ما يقضين معه ساعات في تمشيطها وتمويجها ومنع بياضها بدهان غريب مصنوع من دهن بقر الماء وتعهدها بمرهم من أسنان الأتان مسحوق مع العسل. وقد كن يعرفن - أو يخيل إليهن - أن الشعر مقر إيروس
15
كما كن لهذا السبب يدهن أجفانهن باللون الأخضر وحواجبهن باللون الأسود مع الإطالة زيادة في التماع لحاظهن وجمال عيونهن.
وكان ذلك يقع بين سنة 2000 وسنة 1000 قبل الميلاد؛ أي بين إبراهيم وأوميرس، وذلك حين كان العالم بأسره مأهولا بالبرابرة فيما عدا السهل الواقع بين النهرين: الفرات ودجلة.
الفصل الثاني عشر
بلغ قدماء المصريين الغاية بفضل تذوقهم الحياة ونشاطهم الذي يزيد بتمثلهم المتصل المتجدد للموت، وبفضل صحتهم وسناء شمسهم وما يسفر عنه فيضان النيل من رخاء، غير أن هذه الأحوال خطت حدود إحساسهم ومعرفتهم. ويضاف هذا الإحساس إلى أشد مرح في الحياة، ولا يكون هذا الإحساس حيث تؤدي ظلال الشفق إلى حكمة أعمق من تلك، وتمتد الصحراء بجانب الخضرة، بجانب قدرة علمهم على الإبداع، والعدم يبدأ عندهم حيث يبدأ عالم ما بعد الطبيعة لدى الشعوب الأكثر حرمانا من الشمس، ونشأ عن حرارة عبادتهم للحياة ما في عبادتهم للموت من مخالفة للصواب، ولا فلسفة لشعب لا ظل عنده.
وذلك يوضح لنا إبداع الشعب البالغ من الأساس، وكونه اخترع الكتابة التي توجب دوام الدولة بالعلم - لا بالحرب - وعدم تحليقه في سماء ما بعد الطبيعة فلم يترك أنشودة مؤثرة ولا قصيدة حماسية ولا ديانة حقيقية، وإننا بعد تخطيط هذه الحدود ومعرفة سنن الطبيعة التي فرضتها لم نر غير الإعجاب بمصر في فجر الحضارة.
وأخذت حيوية ذلك الشعب تبهرنا بعد حل الوثائق، وإذا كانت أقلية من الأغنياء وحدها هي التي تمتعت بتلك الحياة فإنه لا ينبغي لنا أن ننسى أن مبدأ المساواة لم يكن موجودا منذ خمسة آلاف سنة أو ستة آلاف سنة، وأن الرق كان أمرا طبيعيا في مصر أكثر مما لدى الأغارقة، ولدى النصارى الذين انتهكوا أدبه، بعد ذلك بزمن طويل.
ويا لتحدي أولئك القوم للموت! فلما بلغ رمسيس الثاني من العمر ثمانين سنة احتفل برجوعه إلى الشباب في عيد ست، وقد داوم على القيام بمثل ذلك الاحتفال حتى السنة التسعين من عمره، وكانت كل مسلة تنصب تذكارا لذلك الاحتفال تشتمل على إنباء الآلهة بذلك الرجوع إلى الشباب، وكانت تزخرف بمزيج من الذهب والفضة فتنعكس عليه أشعة الشمس وتملأ مصر بذلك نورا. ومما حدث أن هاتف الغيب أنبأ بأن أحد قدماء الفراعنة ميسيرينوس لا يعيش أكثر من ست سنين فقضى هذا العاهل ألفي اليوم اللذين بقيا له في الفجور وكذب الآلهة بأن عاش ست سنوات أخر على هذا الطراز.
ودرس أطباء المصريين منذ أقدم الأزمان جسم الإنسان الذي يجب أن يبقى بأي ثمن كان، ووضع هؤلاء الأطباء أسس علم التشريح وعلم الأمراض، فكان عند المصريين متخصصون في حال كل عضو أصلي، ومن المحتمل أن شيئا في مصر لم يؤثر في هيرودوتس تأثيرا عميقا أكثر من مشاهدته فيها رجالا لا يعلوهم غير الليبيين صحة، ويعدد هيرودوتس المتخصصين والمسهلات وكل مرض ينشأ عن التغذية، ويعزو هيرودوتس هذه الصحة العامة إلى تساوي الإقليم فيصرخ قائلا: «يموج البلد بالأطباء!»
وإذا ما فاخر بيبيس ورمسيس ببلوغ أحدهما الخامسة والتسعين وببلوغ الآخر المائة من العمر، وإذا ما زعم أحد الفراعنة أنه جلس على العرش خمسا وتسعين سنة؛ أي أطول عهد ذكر في تاريخ العالم، لم تكن هذه الأرقام قريبة من الصدق فقط كالأرقام التي جاءت في التوراة ما دامت تنم على فراعنة حافظوا على قوتهم حتى النهاية. وكان لرمسيس الأكبر من الذكور 111 ولدا ومن الإناث 59 ولدا؛ أي من الأبناء ما يعد دون الحقيقة عندما ينعم النظر في أهمية دائرة حريمه. وكان الفراعنة يحبطون حتى محاولات القتل بين المكايد التي لا حصر لها وبين البنين والحفدة وبين ذوات الحقد من النساء والبنات اللاتي ينتظرن موتهم، فإذا عدوت الثوري الكبير لم تجد من قتلته حاشيته إلا نادرا.
وكانوا من المقاديم الذين لا يرهبون الردى، فكانوا يشتركون شخصيا في الحروب التي يوقدون نارها. وقد ثبت عندنا ذلك بما نعرفه من الكتابات والتصاوير الجدارية وحدهما، وبما كان من استمرار الملوك مدة ألف سنة بعد آخر الفراعنة على دعوة أعدائهم إلى المبارزة وفق العادة.
حتى إن الخطر كان يلوح في الفينة بعد الفينة حينما كانوا يصطادون الضواري التي توارت عن مجرى النيل الأدنى فيتعقبون بقر الماء بالحراب، فما كان مائة عبد نوبي ليقدروا على إنقاذ فرعون عندما يهاجم هذا الحيوان الضخم قاربه. وكانت التماسيح تخادع بقطع من الخنزير قتلا لها بخطاف،
1
فتقدر - حتى حين النزع - على تلقف
2
ذراع أو ساق. وإذا ما افتخر أحد الفراعنة في كتابة على ضريحه بأنه صرع من الآساد 108 لم يك هذا غير قصة صائد، وكان العبيد - بعد الصيد - يبقرون بطون الحيوانات المذبوحة ويخرجون ما تحويه كروشها. وفي القصة أن رجلا ابتاع تمساحا ميتا فأثرى بما وجده من حلي ذهبية لم يهضمها مع ضحاياه. وفي تراجم أولياء الأمور المنقوشة على قبورهم تمجيد للأبطال الذين قضوا على جبابرة وأسود كما في روايات الفروسية، وكانوا يشيدون بذكر أسلابهم في كل مكان، فتجد - حتى بين زخارف موائدهم الفضية - تصويرا لحيوانات النيل والصحراء النادرة.
وهم - إذ يقيمون الدليل على بسالتهم وخبثهم على ذلك الوجه - كانوا يجلسون أمام أقداح خمرهم وجعتهم، ويتلهون بمشاهدة حركات راقصاتهم البهلوانية الرائعة، وينزلون إلى حوض حديقتهم قاربا «مع عشرين امرأة من ذوات الصدور والظهور الكاملة التكوين، ويعطون كل واحدة منهن مجدافا مصنوعا من الأبنوس المرصع بالذهب، ومشتملا على مقبض مصفح بالذهب والفضة، ثم يلقون عشرين شركا عليهن»، ويطاف في الوقت نفسه بتابوت مشتمل على مومياء من خشب، فينشد عبد شاعر مغنيا لهم:
اليوم تموت الأبدان كما في الماضي، وبعضها يحيا وبعضها يصبح غابرا، وهي ترقد محولة في الأهرام، فأين من تبكيهم الآن؟ لم يعد من الغرب واحد منهم قط ليلقي السكينة في نفوسنا عما وراء ذلك. كن شجاعا، فلا نقص في منزلك، واحتفل بهذا اليوم كأنه خير الأيام، وصب المر الصافي على شعرك واستر جسمك بكتان خفيف، والظلام آت لا ريب فيه، ولا أحد يرجع إلى نهار غادره.
ولم تك روحية قط بهجة الحياة التي تتجلى على ذلك الوجه في جميع تلك الصور الجدارية، وفي جميع الأقاصيص المكتوبة. ولعبة النرد هي أكمل مظاهرهم الروحية، وما أتمه كهانهم العلماء من أمور كبيرة فقد أتوه في سبيل غاية، في سبيل الدولة، فكان محل إعجاب لهذا السبب، والبناء والمهندس - لا المفكر والشاعر - هما اللذان ينالان الثراء والصيت، وكان هدف الحياة لدى المصري أن يغدو كثير النساء والولد، فأحد الفراعنة يتقبل 317 امرأة غريبة هدية في دائرة حريمه، وفرعون آخر يأذن لابنة حاجبه أن تحمل الثعبان المقدس؛ أي التاج، ما دامت تشاطره فراشه ، وقد نقش رمسيس الثالث على ضريحه نفسه مع أفراد دائرة حريمه فبدا عاريا وبدت نساؤه لابسات قلائد ونعالا فقط، وهؤلاء النسوة العاريات هن اللائي ائتمرن بحياته بعد حين.
ولم تكن الملكات - حتى القادرات منهن - ليستطعن أن يكن صاحبات دوائر للحريم، وكان من عوامل تسليتهن أن يتخذن جميع أساليب الحب، ولو كانت مضادة للطبيعة على رواية بندار،
3
وكن يعرفن - على الخصوص - أنهن يجازفن بحياتهن في كل حين، وكان الأدب المرائي في ذلك الزمن يؤدي إلى مجازاتهن على انهماكهن في ملاذ تفرضها العادة على أزواجهن تقريبا، وما كان بين الأخ والأخت من غرام وزواج تقليدا لزواجات الفراعنة الحكومية الإلهية فنفترض به - أيضا - وجود شيء من الفساد الجنسي، وفي كثير من الأقاصيص خبر عن قتل المرأة الخائنة، ورمي جثتها للكلاب، ومن ذلك أن زوج الساحر الأكبر أو بانر كانت من الغفلة ما استخفت معه بما لبعلها هذا من قوة جنسية وقدرة على العرافة فمزق العاشق تمساح أهلي واكتفى الزوج بمعاقبة زوجته بعقاب عادي؛ أي بحرقها، ومن ثم ترى أن الأزواج الذين يختانون
4
كانوا - منذ عهد خوفو البعيد - يشعرون بحقد على أزواجهم أقل مما على عشاقهن.
وكان من شأن حياة البلاط وما فيه من ترف عظيم أن زاد المؤثر النسوي وكثرت مكايد النساء، وكان الزواج يفرض إبعادا للأعداء، وكان النغلاء
5
يفضلون على أولاد الفراش،
6
وكانت ذكرى ليلة غرام تقرر أمر الميراث ومصير المملكة في بعض الأحيان، وكان النساء والكهان على اتفاق في الغالب، فكان البريق الذي يخرج من تمثال الرب في أثناء أحد الاحتفالات يعين النغيل الذي يغدو ذات يوم من الفراعنة بتزوجه ابنة فرعون.
ويمضي زمن فيحل بمصر ضرب من القرن الثامن عشر فتسحر الفتاة البالغة عاشقها وتقول له:
تعال معي إلى الحمام، فيلائم قميصي الكتاني الملكي رغائبك وأحاسيسك، أدعوك إلى طرف البركة، فجئ لترى إحاطة الأزهار بدثاري، وهنالك أصطاد السمك حين أسبح، فتبلغ أنت يدي بغتة. كن رفيقي في الماء، غادر الأرض!
ويود الفتى البالغ أن يقوم مقام العبد الذي يعري سيدته ، ويتمثل المخاطر الخيالية ويقول:
ولم تسكن أختي بعيدة في الناحية الأخرى من النيل؟ تجد بين ضفتي وضفتها تمساحا كبيرا لا يراعي أحدا، وألقي نفسي في الماء مع ذلك بادئا برأسي، ويكافح جسمي الموج حتى تصير الأرض تحت رجلي، حتى يتصل بدني ببدنها العذب، فإذا ما أدنيت شفتيك مني سكرت بلا جعة!
الفصل الثالث عشر
كان السلطان أعظم باعث لبهجة الحياة عندهم، وكان كل واحد منهم في هرم الدولة - الذي يرتفع من أصغر جاب إلى فرعون المؤله - يطمح ببصره إلى أرقى مكان ممكن وإلى نيل السعادة بالثراء وولاء الجمهور؛ أي بعنصري الجاه.
وكانت طيبة - قبل تأسيس رومة بألف سنة - جامعة لكل ما عند الشعوب الخاضعة ولكل ما يأتي به التجار من شواطئ البحر المتوسط وشرق أفريقية، فلما بسط أصحاب مصر العليا سلطانهم على جميع البلد قبل الميلاد بألفي سنة أقامت الأسر المالكة في الدولة الوسطى والدولة الجديدة هنالك مئات المعابد والقصور فتجمعت حولها المخازن والمصانع والمخابئ، وما لا يمتد إليه البصر من أحياء المغاني
1
وأكواخ الفقراء، فروي أن سكان تلك المدينة بلغوا من العدد مليونا، ولم يبق من جميع هذا بيت ولا قصر لما كان من بناء كل فرعون لنفسه منازل خفيفة فقط، ولم يبق هنالك غير القبور وأعمدة المعابد، وقد زال كل أثر آخر من آثار الإنسان هنالك.
وكان يصل بطريق النيل كل ما تعيش به أولى العواصم الكبرى تلك، فكانت المراكب الشراعية الكبرى تأتيها من الجنوب بالأعمدة والمسلات وبما هو ضروري لإنشاء الجسور والمعابد وتيجان الأعمدة من الغرانيت والحجر الكلسي، وكانت المراكب الخفيفة تأتيها بالبردي والطيور والسمك والخضر، وكانت تصل إليها من الشمال - أي من الدلتا ومنفيس - أساطيل حقيقية مشحونة بالبر، وكانت هذه الحركة التجارية تدوم العام كله، كانت تدوم من يوليو إلى يوليو، لما لا يكاد ينبت حول طيبة ما يكفي لتموين قرية واحدة.
ومما كان يحدث أحيانا أن تمر السلع النادرة من الدلتا آتية من جزر البحر المتوسط ومن سواحل البلدان المعادية أو الصديقة، ومن قبرس وإقريطش وبابل وسورية وبلاد العرب، وكانت تلك السلع مؤلفة من الحرير والمعادن والفواكه والخمر على حين يرد من الجنوب خشب النوبة والحجارة الثمينة واللازورد واليصب والعبيد والذهب. وما كان الذهب - الذي هو مصدر كل سلطان - يجيء من إثيوبية وحدها، بل كان يجيء من الدلتا وسيناء وسورية وتبريز.
وكانت ألوف العراة من الآدميين بتلك الصفة تعاني في ألف سنة تفريغ جميع ما يجلبه النهر، وكان السيلان والفيضان في مجرى النهر الفوقاني يحملان السفن التي لا يزعجها سوى الأمواج وكثبان الرمل، وكانت الثيران والبعران والعبدان تجتذبها في مجرى النهر التحتاني فيكون للملك بذلك ما يقضي به جميع أوطاره.
ولا تقل رغائبه الشخصية وحدها، فهو لكي يدافع عن حياته ويحافظ على سلطانه كان لزاما عليه أن يطعم جميع من هم تحت إمرته من الفلاحين الذين يحتملون كل شيء ومن ألوف أسارى الحرب الذين هم من المدينيين والكنعانيين والليبيين والنوبيين ومن إليهم من العبيد الغرباء الذين يتعذر النفوذ في نفوسهم، ثم من جحفل الكتبة والحاسبين والموظفين والمديرين والشرطيين الحارسين للملك مع استنزاف خزائنه، ومما لا يحصيه عد من قطاع المواشي التي تساوي الملايين، ومن ألوف الثيران الموقوفة على الإله، ومن ثم على فرعون.
وذلك لأن فرعون نفسه كان إلها، وهذا ينطوي على سر فراعنة مصر، ولم يظهر على ضفاف الفرات ملك في ذلك الحين كان من الجرأة ما يجهر معه بأنه إله كفرعون على ضفاف النيل، وينقضي دور القبائل المتساوية حقوقا، ويلوح أن حكومة من الأعيان اختارت أقدر رجالها أو أوسعهم حيلة رئيسا لها، ويشيد هذا الرئيس لنفسه معبدا ويعلن الكهان - عن خوف أو عن طمع - أنه الكاهن الأعظم، ويلغى منصب الوسيط المنصف بين الرب والشعب، ويفرض لمعرفة مشيئة الآلهة أن يخاطب - فيما بعد - ذلك الذي يقبض على زمام السلطة في البلد والذي ينتحل - بحكم الطبيعة - قدرة خارقة للعادة، والذي يصرح بأنه وارث لأوزيرس وابن له، ويقع هذا منذ عهد الدولة القديمة؛ أي قبل إقامة منفيس. وينادي الملك الأول الذي وحد شمال مصر وجنوبها - مينا - بنفسه وارثا لأوزيرس وملكا للأرض الخصيبة، وكان هذا قبل الميلاد بثلاثة آلاف سنة.
وكان باني الهرم الأعظم خوفو قد حمل لقب ابن أوزيرس، «ابن رع»، موحدا السماء والأرض بذلك، وإذ إن فرعون ابن لله وكاهن وحاكم وقائد جيوش وساحر فإن له كل شيء، فإن له الينابيع والنبات والحيوان والإنسان، وعادت الأرض في هذا البلد، حيث كان الحكم لأشجع الناس وحيث كان هذا الشخص يقدم حسابا عن نفقاته لأمثاله في كل عام مرتين، ملك إله لا رقيب عليه، ولهذا الإله أن يقرر كل نظام للمجتمع حتى في مملكة الأموات، وقد أبيح كل شيء لابن أوزيرس، وقد صار كل شيء ممكنا لابن أوزيرس، أفلم يقرأ في سايس على قاعدة أمه إيزيس: «إنني كل شيء كان ويكون وسيكون، وما استطاع إنسان أن يرفع النقاب الذي يسترني»؟ ويعني هذا عند فرعون «أن كل شيء يروقني عادل وأن كل شيء يكدرني جائر.»
وكان القوم يسجدون أمامه كما يسجدون أمام صنم، وكان من الحظوة أن تقبل رجله بدلا من تقبيل الأرض التي أمامه، ولم يكن لينطق باسمه في البلاط. وكان يقال: الطاعة في القصر، الإله، أمر به، فيكف يحافظ وارث أو حديث نعمة على توازنه تجاه هذا؟ وإذا سأل مستشارو فرعون رأيه حول بئر تحفر في حد الصحراء أخذ الوزير يقول: «أنت شبيه برع في كل شيء، وكل شيء يود فؤادك كائن، وإذا رغبت في شيء ليلا حقق فجرا، وإذا قلت للماء: اعل الجبل هاج البحر المحيط وماج.»
وكان فرعون - الذي لا يستطيع النوم مع هذا الخطاب - يأخذ من أمراء حلفاء بآسية مثل الكتاب الآتي: «أرسل إلي ذهبا، فقد كان أبوك يرسل إلي ذهبا.» وعجب حموه الأمير البعيد ببابل من عدم أخذه ذهبا فقال: «تستقبل رسلي بناتي المتزوجات ملوكا فيقدمن إلي ذهبا معهم.» واسمع جواب توتموزيس عن ذلك: «أجل، إن جوارك من الملوك أقوياء جدا، ولكن ماذا تملك ابنتك التي هي بجانبي؟ فلو حدث أن أرسلتها إلي مع شيء قليل منك لأرسلت الآن هدية ثمينة إليك ؛ وذلك لأنك تزوج بناتك لتنال فوائد من وراء ذلك.»
وكان لحكومتهم الإلهية نظام عجيب ، ولكن مع عدم صلة بعالم الآلهة الحقيقي، فكان هذا النظام ينمو ويزول كالغابة البكر، وكان ما يدور حول الآلهة التي كان فرعون ابنا لها من عقائد وأساطير وأسماء وخصائص يتغير في غضون القرون، ويتبدل بحسب الأماكن في الوقت نفسه، ويعد أمون رع الإله الأعلى على العموم.
وتضع امرأة أحد الفراعنة قبل الميلاد بثلاثة آلاف سنة، ولكن بفضل «الروح القدس».
ولم يصلح هذا الأصل المزعوم أنه إلهي لغير تلقين الجماعات، ولم يظل ضربا من الطقوس فقط، وكان الرجال الذين ما انفكوا يؤلفون أسرا مالكة جديدة، ويبدون رؤساء للجيش أو الأقاليم، يعتقدون صحة ما لم يكن لدى آبائهم الساذجين الماكرين سوى وسيلة للسيطرة، وكانت تعوزهم روح النقد والنكتة والحكمة، وكانوا يعتقدون أنهم من الآلهة حقا، وبلغت الآلهة والأجداد والآباء من النزول عن المرتبة ما عادت معه لا تكون سوى خيال للفراعنة، ولم يعتم الكهان أن وضعوا جميع ما تقدم في صيغ دينية.
ويظهر أن أمنوفيس الثالث كان أول من أنشأ معابد لنفسه فيعبد فيها مثاله في أثناء حياته، وكان أمون يشكر هنالك «لابنه ومثاله الحي» ويهتف هنالك قائلا: «أتيت بالمعجزات من أجل جلالتك، وأولي وجهي شطر الجنوب حتى يخضع أكابر بلاد النوبة لك.»
وظلت عبادة النفس قائمة على مر القرون مجردة من أي تبجيل للآباء، حتى إن من الفراعنة الأتقياء - كرمسيس الثاني - من طمس في المعابد اسم أجداده الحقيقيين حتى يستبدل اسمه بها، وبلغت تماثيل الآلهة المنحوتة من مشابهة الفراعنة ما كان يقال معه إن أمون شبيه بفرعون الحالي، بدلا من أن يقال إن فرعون الحالي شبيه بأمون.
الفصل الرابع عشر
كان لا بد من تخدير مسرحي حملا للشعب على دوام الإيمان بطبيعة فرعون الإلهية، وكان لا بد من حروب تتم بنصر عزيز، أو كان لا بد من إقامة أعياد كثيرة في أثناء السنة يعين عليها الكهان حتى يبدو فرعون مغريا، وكان ملوك الدولة القديمة يطوفون فرسانا مزينين بأذناب أسد بهرا للناس.
وكان الجمهور المبهوت يبصر في طيبة - وعلى طول شارع تماثيل أبي الهول - مرور موكب من الأسرى والكهنة والمشعوذين وأنواع الحيوان، ثم يظهر محمل على أكتاف اثني عشر جنديا، ويحف من حول هؤلاء الجنود حملة مذاب
1
ويتقدم المحمل عداة
2
يدحرون الحضور بالعصي فيزيدون بذلك حب الاطلاع فيهم! ويجلس فرعون في المحمل صاحبا لحية حادة مستعارة، وواضعا على رأسه تاجا مزينا بصل
3
ذهبي منتصب أمام أعدائه، ويعلو الصل تاج مزدوج رمزا إلى مصر العليا ومصر الدنيا، ويحمل بيده صولجانا وسوطا فيقوم هذان الرمزان في الوقت نفسه مقام المذبة عند هذا المصري العملي، ثم تأتي محامل النساء والأميرات وعرباتهن وتأتي بطانة كما في الناي السحري.
4
وكانت السفينة الملكية الكبرى تسير على النيل مع شراعها العظيم الذي يمسكه بالسارية الكبرى حبل متين فيستقر فرعون تحته أمام حجيرته، ويفسح الجذاف في المجال للحجيرات والحاشية والماشية فيصطفون حول حيزوم السفينة.
5
وكان الوهم يجدد في كل عيد، وكانت تنصب على جدر جميع المعابد صور عظيمة لفرعون وهو يسحق أعداءه، وإذا ما ملكت القوم ملكة بجلت نفسها بمثل صورة الإله في جميع الأمور الربانية.
وهل كان كثير من المصريين يعتقدون ألوهية من يملكونهم؟ كان القوم البسطاء بعض البساطة في الدولة القديمة يمجدون - مثل إله - فرعون الجوال بينهم، الظاهر لجميعهم، الموزع للأجر والعقاب بينهم، وينهض مبكرا فيطوف راكبا حصانا ويزور المقالع ويأمر بحفر القنوات، ويأكل وينام كسائر الناس ويخاطر بحياته في المعارك، ويعد خالدا مع ذلك لأنه هوروس وإن كان يعبد الإله هوروس.
ويمر الزمن، ويبلغ النظام المدني والديني من التعقيد، ويغدو المعنى الاجتماعي من النمو لدى الشعب، ما يرى فرعون بلا انقطاع أن يوكد معه اكتراثه ورحمته وتبعته تجاه الشعب وإخلاصه نحو الدولة، وعاد فرعون لا يفرض نفسه على الجميع مثل إله لا يصل إليه سلطان النقد، بل أخذ يبدو مثل ملك كريم يوم فيضان النيل - في العام الجديد - فيوزع العربات الفضية ويوزع تمثاله العاجي وتماثيل لأبي الهول على صورته وعدد أسلحة وجعابا
6
وسيوفا ومرايا من المعادن الثمينة، ومن النادر أن كان يوقد نار الحرب.
وليس التاريخ من عمل الحرب في تلك الواحة، وما كان ذلك الوادي العجيب الواقع بين صحراوين والعاطل من المطر والجار ليحض على الفتوح أو ليبتلي الفاتحين، وكان لا مناص من البحث عن الذهب. أجل، كان كثير من الأدوات يرد إلى الدلتا بواسطة شعوب سورية. ولكن التجارة في قرون كثيرة ظلت وسيلة صلات بين مصر وآسية الصغرى وشرق أفريقية، ولم تعان مصر سلطان الأجنبي غير ثلاثمائة سنة من 2700 سنة، ولم يحتل الإثيوبيون والليبيون مصر إلا جزئيا ولوقت قصير، ولم يبق من الهكسوس،
7
الذين مكثوا بمصر قرنا فكان أمر عرقهم موضع جدل بين العلماء، غير رأيهم في قرن الخيل بالعربات الحربية وغير أحدوثتهم المسلية القائلة: إن أحد ملوكهم الساكن في الدلتا طلب من أمير طيبة أن يذبح ما كان في النيل من بقر الماء لعدم نومه بسبب خواره.
قرية على شاطئ النيل.
ولم يبق أثر للعروق الثلاثة أو الأربعة التي غزت البلاد، ولم تنل مصر فائدة من الفتوح التي قامت بها، ولم يأت المحاربون العظماء توتموزيس الثالث وأمنوفيس الثاني وسيتوس الأول بشيء في سبيل مجد مصر، ولا يعرف المؤرخ غير خبر مآثرهم؛ أي أنهم بلغوا الفرات والنيل الأبيض، بيد أن العالم ينظر بعين الإعجاب إلى أعمدة معابد رمسيس الثاني الذي لم يقم في عهده؛ أي في سبع وستين سنة، بأي فتح، والذي ترك شمال سورية للحيثيين كسبا لصداقتهم، وما كانت الواحات لتسفر عن محاربين، وكان أحسن الجنود لدى أصحاب هذه الواحات من النوبيين وأسرى الآسيويين الذين يذهبون إلى الحرب غير آسفين على النيل غير مفكرين فيه.
ويعبر أستاذ
8
في تاريخ شعبي، في ضرب من الشعر المدرسي، عن الرأي السائر حول الجندي كما يأتي:
أو تظن أن نصيبه أفضل من نصيب الكاتب؟ هو يؤخذ في صباه ويحتبس في ثكنة، ويضرب على بطنه وعلى حاجبه فيبدو كأنه كسير الرأس، ثم يخبط كما يخبط البردي. وهل أقص عليك نبأ زحفه إلى سورية؟ هو يحمل خبزا وماء كالحمار فيظهر أحدب الظهرش، ثم لا يكون عنده غير ماء نتن، ثم يلوح العدو فيقع أسيرا كالعصفور لتصلب أعضائه، وإذا ما قيض له أن يعود إلى بلده كان كالخشب النخر، وأعيد على حمار، وقد سرقت ثيابه منذ زمن طويل لرحيل خادمه، فغير رأيك أيها الكاتب إنينه وقل إذن: إن نصيب الكاتب خير من نصيب الجندي.
وفي أسطورة إلهة الحرب التي لها رأس اللبؤة
9
سيكمت تعبير عن كآبة فظاعة الحرب. فلما شاب رع أرسلها إلى الأرض لاستئصال أعدائه الناس، فانطلقت وغمرت إحدى المدن بحمام من الدماء، فلما أبصر رع ذلك وقت الصباح قال مذعورا لخدمه: «أفضل حماية البشر ... فلتغمر جميع الحقول بالمسكر من السائل الأحمر.» وتعود الإلهة وتنظر إلى خيالها في المائع وتشرب منه وتسكر فلا تعرف الناس بعدئذ وتدعهم آمنين.
الفصل الخامس عشر
النيل - لا الحرب - هو الذي عين مصير ذلك الشعب، وما أسفر عنه النيل من اكتساب البلد شكلا ملتويا كالحية فقد حال دون نيل وليه وجهة نظر يرقبه بها، ويمكن طرفه أن يفصل عنه كالثعبان من غير أن يؤثر ذلك في أعضائه المركزية. وكان فرعون - لكي يضع حدا لصراع الرؤساء المتصل ضده - يعمل على إلقاء الرعب في قلوبهم بما له من أصل إلهي، وكان يرقبهم بما لديه من سلسلة مراتب وما يوجبه من إعجابهم به، وما بين الآلهة من صلة دينية، وما في النظام القرطاسي من علاقة واقعية، فتقوم عليهما طرق فرعون في الحكم.
وعلى ما لسيد الناس والأراضي هذا من سلطان كان يعرض لضياع كل شيء عند كل فيضان للنيل إذا لم يهيمن على هذا الفيضان؛ إذ لم يوزع الماء بقنواته، إذا لم يزد الأرزاق والجرايات،
1
وما كان حتى اليوم من استعمال أمراء البرابرة لقواهم في مغازي قطع الطرق وفي محاربة ضعاف الجيران أو أغنيائهم، فكانت حكومة الفراعنة تتخذه في إصلاح نظامها. والنيل - منذ تلك الأزمنة القديمة - حمل الفراعنة على تأليف أمة من الفلاحين - لا من المحاربين - والنيل - بدلا من الجبروت - حمل الفراعنة على إقامة دولة إقطاعية اكتشف فيها العلم والفن لقهر النهر وارتقت فيها إطاعة العبيد إلى مرتبة الألفة ودرجة التعاون. وفي سبيل دراسة النيل يفرق بين البروج في عالم النجوم، وفي سبيل توزيع النيل تقسم الأرض إلى قسائم تصغر مقدارا فمقدارا، والنيل من ناحيته يقوي قابليات هذه الأمة وميلها إلى التعاون داخلا وخارجا.
وكان إيمان فلاح أدفو بحكمة الحكومة يزيد كلما أبصر الرسول الحامل علامات مقياس النيل من جزيرة الفيل يصل ليقدم أرقامه في قوائم ملكية ويقابل فيما بينها، وكان زعم فرعون أنه ابن لهوروس يؤيد بحذقه في حساب المحصول سلفا. وكان فرعون حليف العناصر، وكان الفلاح يسأل في نفسه - مستطلعا - عن مدى خضوع هذه العناصر لفرعون، وكان يقال للفلاح في المعبد: «إن فرعون يأمر النيل بالارتفاع، فيطيعه النيل في أحرج ساعة؛ أي حين يوشك أن يتوارى في الهاوية.»
وإن الأمر لكذلك؛ إذ يسمع الفلاح ابتهال الكاهن إلى النيل بنشيد بالغ القدم منقول على جدر طيبة، وإليكه:
السلام عليك أيها النيل الذي يخرج من الأرض ليغذي مصر، والذي يخرج من الظلمات إلى النور ليشاد بوروده، أنت تسقي الحقول، وقد خلقك رع لتطعم القطاع. أنت تروي حتى الصحراء البعيدة من كل ماء، ما دام الطل هو الذي ينزل من السماء. وإذا ما كان النيل مكسالا سدت الأنوف وهزل الناس وزالت القرابين وماتت الملايين. وإذا ما ارتفع النيل كانت الأرض في سرور، وكانت المعد في حبور، وضحكت الظهور وابتسمت الثغور.
والنيل هو الذي ينبت الشجر وينتج السفن لتعذر صنعها من الحجارة. ومن ذا الذي يجرؤ أن يشبهك بالبحر الذي لا يخرج حبا أيها النيل الكريم الذي يروي المروج ويهب القوة إلى الناس؟
وإذا ما جاء فيضانك قدمنا الضحايا إليك، وذبحنا بقرا وسمنا إوزا واحتبلنا
2
وعولا في الصحراء لنرد إليك الخير الذي تنعم به علينا، ولنتوسل إلى الآلهة التسعة إذن، ولنخش القدرة التي يبديها سيد الدنيا. أنت الذي يجعل الضفاف خضرا، أنت الذي يقوت الناس بفضل قطاعه، أنت الذي يقوت القطاع بفضل المرعى. أيها النيل، أنت تخضر! أيها النيل، أنت تخضر!
وهكذا يمتزج بعض رموز الآلهة وأعمالها ببعض امتزاجا جميلا ، وكان المصريون يجهلون سلسلة المراتب بين الآلهة لعجزهم عن تنظيم ما يتعذر إدراكه، والمصريون - على العكس من ذلك - كان لهم بما هو مادي من فن الإنسان وقدرة الدولة ما يصلح لإقامة الهرم العجيب. والنيل - عنصرا - قوة غامضة هائلة. والنيل في الدولة أمر منظم، وكل حوض يحدث ولاية زراعية، ويتوقف أمر كل منطقة على المناطق المجاورة، ويدير الماء كل مدير ناظرا إلى حساب الجار، ويعبر المديرون عن رغائبهم للسلطة المركزية فتقرر هذه السلطة ما ترى، وهكذا يؤدي النيل إلى نظام الحكم المطلق، ولم يغد فرعون ابنا حقيقيا لإله إلا بعد أن انتحل لقب ابن هبيس، فصار يخشى - من بين جميع الآلهة - هبيس، النيل، على الخصوص.
ويشتمل «عمود سني المجاعة السبع» على كتابة من أقدم كتابات مصر، ويحتمل أن هذه الكتابة أقدم من الأهرام، ويئن أحد الفراعنة على هذا العمود بما يأتي: «لم يرتفع النيل منذ سبع سنين، ويعوزنا الحب، وقد جفت الحقول، وعاد الرجل لا يدفن جاره، وصار الجميع يفر على ألا يرجع، ويبكي الولد، ويذوي الشاب، ويذبل الشائب، وتزول قوة سوقهم، ويجلسون القرفصاء على الأرض متكتفين.» ويكون النيل مؤذيا إذا زادت قوته كثيرا، ويمضي ألفا سنة على ذلك فيقول أحد فراعنة الأسرة الثالثة والعشرين متحسرا: «أصبح الوادي بحرا بأسره، وملئت المعابد بالماء، فيلوح أن الناس تحولوا إلى طيور مائية.»
ومع ذلك يندر أن تضعضع نكبة كتلك بنيان تلك السلسلة المحكم، ذلك النظام الذي هو أعجب ما في القرون القديمة، والذي لم يفقه شيء عصري قط. ويشتمل هذا النظام على «جميع ما أسسه فتاح وكتبه في السماء، وتبصر الشمس والقمر والعناصر الأخرى في الأعلى، ثم يأتي العالم بأجمعه من الموجودات العلوية والآلهة والإلهات والملك والملكة ووزير الملك إلى موظفي طيبة والولاية والوادي مع كل ما يخص المعابد والقانون والمالية والجيش فإلى كتبة الملك وصناعه ونحاتيه ونجاريه وحذائيه»، وتقف القائمة عند هذا الحد.
وإن نظاما كنظام بقاء الدولة هذا يسير من الشمس حتى الحذاء لإظهار فرعون قريبا من الشمس ويهيمن على شعب مؤلف من ثمانية ملايين نفس مما لم يعرفه التاريخ قبل ذلك قط. وسيبهر هذا النظام جميع طغاة المستقبل المفطورين، وكان هنالك شعب يؤله ملوكه. ولم تكن المصادفة هي التي ساقت قيصر ونابليون إلى أبي الهول، وساورت الأغارقة الأولين الذين دنوا من النيل رؤى روائية، وما فتئ النيل بعدهم يشبع جميع من دخلوا مصر من الروح الفرعونية، وكان الإنكليز آخرهم.
ويأتي الكهنة على ذروة الهرم وبعيد الملك. أجل، إن فرعون يعلوهم إلها، ولكنهم لا يغفلون عنه طرفة عين، والكهنة يتداولون السلطان مدة أقدم من مدة أسر الملوك المتبدلة، والكهنة أسقطوا أكثر من فرعون واحد. وإذا ما توجه فرعون - عن نعمة - إلى تمثال أبيه الرب أمسك كاهنان يديه، وإذا ما رفع فرعون عينيه وضع كاهنان قناع الباز وقنضاع إبيس لتمثيل هوروس وتوت، وإذا ما ركع فرعون وتعاقب هو والكهنة تلاوة الأدعية عانى تعزيمهم
3
على الدوام. ولما حاول أكثر الفراعنة إمتاعا أن يثور على الكهنة ذات مرة خرج من ذلك خاسرا.
وكان هم الكهنة مصروفا إلى نيل الذهب والمواشي والأراضي، وأن يتمتعوا - هكذا - بأطايب الحياة وملاذ السلطان، وما يقدم إلى المعبد وما هو خاص بالمعبد فيعد مالا لهم، وتدل سجلات قبور الفراعنة على أن الكهنة كانوا يملكون في طيبة وحدها 80000 عبد و420000 رأس غنم و2400 كيلومتر مربع من الأراضي الصالحة للزراعة و83 سفينة و46 مرسى و56 قرية، و50 كيلوغراما من الذهب و1000 كيلوغرام من الفضة و2400 كيلوغرام من النحاس و25000 قلة مسطار
4
وخمر، و300 كيس من البر و290 من الطير. وقد أدى الفلاحون هذه الكنوز إلى الكهنة ثمنا للحب، ولا يزال يوجد عندنا من وثائق الإيصال ما يثبت ذلك، وقد قال غوته ذات مرة: «من المحتمل أن كان كهان مصر يعرفون مهنتهم كما في كل مكان، فلم يكن ضجيجهم حول الأموات إلا ليسيطروا على الأحياء.»
وإذا كان الكهان حملة جميع المعارف وكانوا ساحرين وعلماء حقيقيين فإنهم كانوا يتخذون سلطانهم الديني للتهديد، وكانوا يتخذون صلاتهم بالآلهة وسيلة للسلب، ويعم الخط الدارج بين الناس نتيجة إصلاح، ويوفق الكهان لحفظ كل ما كان خفيا، وما فتئ الكهان في قرون كثيرة يؤثرون في الجمهور بتمثال سايس المقنع مع أن القناع لم يستر سوى سهمين متعارضين. وزد على ذلك أن الكهنة كانوا يرقبون الناس بمدارس طبهم وبمغاسلهم وببيع كل ما هو ضروري للتحنيط واللحد وبالإقبال على التماثيل المصفوفة ما خص الكرنك معه بخمسمائة من إلهات الحروب ذوات الرءوس الأسدية، وبالعناية بالحيوانات المقدسة كالهررة والبقر والسمك والتماسيح والجعلان التي تتطلب جيشا من الحرس للمحافظة عليها.
وإلى ذلك أضيفوا الأعياد التي أسبغ عليها ملوك الدولة الجديدة المطلقون مظهرا ديمقراطيا عن لباقة، فكان القوم يحضرونها ويأكلون ويشربون مجانا فيها. ويعد الجمهور نفسه سعيدا يوما وليلة عندما يشاهد في أهم الأعياد، في مهرجان زيادة النيل، موكب الكهنة الحاملين زورق أمون رع المقدس، وقدم تماثيل قدماء الملوك هذا الموكب، وعقب فرعون هذا الموكب، وأعيادا جديرة بألف ليلة وليلة مضاءة بألوف المصابيح، وصدر فرعون في بلاق إلى حمامه الرمزية بماء النيل، وليس اللحم، ولا المزر،
5
هما اللذان كانا يملآن نفوسهم المعبدة آمالا. وإنما النيل وحده، وإنما النيل بفيضانه الذي ابتهل إليه كثيرا، وإنما النيل الذي تبل أمواجه عمد معبد أبيدوس كأنها تبحث عن قارب الرب.
وإذا ما وصل الموج من طيبة إلى منفيس وفتحت الأسداد بدا العيد الشعبي عيد غرام أيضا، فكان يحتفل بالنيل غاصبا معشوقته مالكا للأرض، وكانت ليالي الحب والقران تحيا تحت رعايته، وكان العاشق يغني:
أعبر النهر! ويجذف في الفيضان، وتزين الأزهار عمرتي،
6
وأهرع مع الجمهور إلى الآلهة، إلى فتاح الأكبر! أنعم علي بمن أحب، وليذهب الخمر والزهر. سأكون بجانبها في هذه الليلة، هي ذات بصر مملوء وجدا، ولكن ابتسامها في الصباح يكون مزدوجا جمالا؛ أي منفيس! أيتها الزاخرة شذا
7
وضجيجا! احتفي بنا فسنتوارى جيدا!
واسمع جوابها:
أركب الزورق هنالك حيث خرير الماء المقدس، وأكون تحت السرادق فأسمعهم يفتحون القنوات. وهل ألاقيه، يا روحي؟ وهل نتبادل الأزهار عند أبواب الجداول؟ أدنو منه باسمة مسدولة الشعر إسكارا له، عندما أكون بجانبه أشعر بأنني كبنات فرعون، ولي أمرنا في كلتا المملكتين!
صخور عالية على الضفة الشرقية.
وفي المهرجان يصار إلى زواج النهر الذكر زواجا رمزيا بعذراء تحريضا له على إخصاب الأرض. وكثير عدد الأساطير التي تذكرنا بقدرة النيل الجنسية الابتدائية. وأقدم الآثار يعرض النيل جامعا للذكورة والأنوثة، وارجع البصر إلى ذكورته تجد صورتها الغريبة ذات ثديين كبيرين، وبطن راب أيضا دليلا على الخصب.
وكان فرعون - قبيل الفيضان - يركب النيل - أحيانا - متوجها إلى مجراه الفوقاني فيبلغ السلسلة ويغيب في مضيقه الضيق ويحاول استعطافه بالهدايا، فيقدم إليه ثورا أورق،
8
ويقذف في أمواجه ملفا من البردي مشتملا على كلام سحري، وذلك ليحمله على الخروج من الأرض.
وكانت هذه الأعياد تؤدي إلى زيادة سلطان الكهنة السياسي والاجتماعي، وكان الموظفون يبدون بجانب الكهان راجين أن ينالوا قسطا من الأصل الرباني الذي يعدل السيادة العليا. وسر من فرعون إلى مدير المكوس تجد الجميع يتمسك يوم الموكب بالتقاليد نيلا لقطعة معينة من كل ثور أو لقلة جعة. وأوجب وجود ألوف من الموظفين بلا عمل تعيين «مدير حقيقي للوظائف» وتعيين «قاض حقيقي» بجانب مدير الوظائف، وذلك على حين كان موظفو البلاط يحملون مثل الألقاب: «رئيس مديرية النيل»، و«مفتش القرون والحوافر والريش»، و«مزين فرعون وحفافه»، و«مستشار التاج الخاص»، و«رئيس أسرار الصباح»، و«رئيس مفتشي قاعة حمام الملكة الكبرى»، و«مدير جميع النزه الجميلة»، وأضخم من ذلك كله لقب «قائد الصحراء».
وكان الكاتب دولاب ذلك النظام الرئيس، ووجد في أحد القبور تصوير جداري لمكتب ينظم الكتبة فيه محاضر ويحسبون ويقيدون ويرسلون بإشراف رئيس كاتب بلا عمل، فتلك هي صورة إدارة أساءت استعمال خط اخترع حديثا.
وكان سيزوستريس،
9
حوالي سنة 2000 قبل الميلاد، قد قسم الأراضي إلى مربعات صغيرة بين جميع المصريين. وكان على الذي يزيل النيل قطعة له أن يمثل بين يدي فرعون شاكيا، ويمضي الزمن، وتزدهر طيبة، فتشتمل على زمر من المهندسين والجباة ومهندسي المياه وعلى جمعيات للعناية بالمعابد والجداول وصيادي السمك والحطابين والمقابر، حتى إن العفاريت الذين يجرون سفينة الشمس إلى الجحيم ليلا كانت لهم نقابة. ويلوح أن ما لا حد له من القوائم لم يوضع إلا لشغل الكاتب، وتملأ خزائن الوثائق وملفات البردي بيوتا بأسرها، وفي كلام الناس تشبيه للكاتب بالحمار الذي يسوق الموظفين المثقلين كما يهوى.
وبلغ أمر إحصاء السكان من التقدم ما غدا الكاتب معه أقوى في المصر والولاية، وبلغ الأريب أمازيس - الذي هو من أواخر الفراعنة المحليين - من الغلو في النظام القرطاسي والاشتراكية الحكومية ما كان يجب معه على كل مصري في كل سنة أن يصرح لشرطة مديريته بوسائل عيشه، فكان يحكم بالموت على من لم يكن لديه من وسائل العيش ما يمكن تحقيقه. وكان سولون قد أدخل إلى أثينة قانونا مماثلا مقتبسا من مصر على ما يحتمل.
ورقابة حكومية مثل تلك يراد إعادتها في أيامنا هي مما يحتمل بين أناس من الأحرار، وسلطان مثل ذلك في دولة مؤلفة من عبيد أو آدميين معبدين لا يمكن قيامه إلا بالإرهاب.
الفصل السادس عشر
وماذا كان على فرعون أن يخشى؟ كان عليه أن يخاف المرض قبل كل شيء؛ لأنه قد يقضي على حياته أو على سلطانه على الأقل. ومما نعرف أن الكهنة بمروى الواقعة على النيل الأوسط كانوا يقتلونه ليحلوا روحه في بدن خلف أقوى شكيمة، ولا تزال هذه العادة موجودة لدى الشلك في النيل الأعلى. وفرعون كان يجازف بتاجه بعد حرب خاسرة أو محصول رديء. وفي التوراة نص على مسئوليته عن السنوات السبع الشداد في زمن يوسف، وعن جوائح مصر في زمن موسى، وأشد ما يحيق بالفراعنة من خطر هو ما كان يصدر عن شعبهم.
ونجهل أي الفراعنة حقر أو مقت؛ وذلك لأن التاريخ - الذي يعرض بكتابات وتصاوير على جدر المعابد والقبور على المسلات، صادر عن العقيدة القائلة بالنسب الإلهي وعن عوامل حكومية.
وقبض على زمام الحكم بمصر ثلاثون أسرة في ثلاثة آلاف سنة، فيكون المعدل المتوسط لكل أسرة قرنا واحدا ، وما كان من نسب إلهي ولؤم شعبي ليصون فرعون من حذر عميق تجاه أولئك الذين جردهم من كل حق. فهو إذا ما كان على شرفة قصره ساورته الريب - لا ريب - حول ما يأتي به النهر إلى العاصمة وحول ما يحمله الفلاحون أو العمال على ظهورهم من حجارة استخرجها هؤلاء العبيد من المقالع، ومن محصول قطعوه ودرسوه بأنفسهم، وأبصر العرق يتصبب على سيقانهم عندما يصطفون على سد النيل، فيقول في نفسه: إن أمون رع وهبيس لم يكونا من غير البلايا على هؤلاء التعساء المحكوم عليهم بنزف الماء وحمله مدى حياتهم.
وما كان الفلاح ليمتاز من البهائم بغير الغذاء والفكر. وكان غذاء الفلاح أردأ من غذاء البهائم في الغالب؛ وذلك لأن الناس كثير، ويسهل استبدال بعضهم ببعض، ولم يكن لدى الفلاح - مهما كان حرا - سوى فكر الفراعنة، وكان لأسرى الحرب مثل نصيب الأهلين تقريبا، وما كان من عملهم على ضفاف النيل وفي الحقول وفي المقالع والقبور فيؤدي إلى مثل ضنى أولئك. وكانت الحرية حراما على كلا الفريقين وإن لم يحمل الفلاح اسم الرقيق، وكان الجميع من الفدادين خلا طبقة متوسطة قليلة العدد من التجار والصناع، وللجميع مثل نصيب آبائهم فيندر أن يرتقي الواحد منهم إلى ما هو فوق حاله. وفي الأمثال: «لا يولد الولد إلا لينزع من ذراعي أمه، فإذا صار رجلا كسرت عظامه.» وهم يوسمون في ذرعانهم كالمواشي.
وليست المنزفة أشق أعمالهم، ويجب عليهم في المقالع - حيث تستخرج التماثيل الضخمة من غير استعانة بآلة - أن ينقروا خروقا في الصخر، وكان المئات من الناس يعملون عامهم في نقل جندل يبلغ من الطول خمسة أمتار ومن الوزن ألف قنطار إلى كفرين، وكان قياس كل من حجري سقف معبد بالفيوم ثمانية أمتار، وكان طول كثير من المسلات يزيد على 33 مترا، وكان يؤتى بغرانيت التماثيل والنواويس الأسود من خلال الصحراء على مراكب خشبية بلا عجل، ويرى في أحد النقوش البارزة عريف واقف على ركبتي تمثال ضخم يجره مئات العبيد إلى أحد القبور فيصرخ لكي يروي الطريق مئات من الناس فيحولوا بذلك دون التهاب الخشب.
وكان الفلاح لا يعرف بالضبط مدى تملكه لحقله، وهل كان الحاكم أو الملتزم أو فرعون نفسه ولي عمله وصاحب أرضه؟ وإذ كان الفلاح في بدء الأمر يعمل هو وأهله فيقيم قرية معهم فإنه كان يبدو حرا إذا ما قيس بأسير الحرب. والتقاليد - لا القوانين - هي التي كانت تبيح بيعه، ويتجلى لنا مصير ألوف الفلاحين عندما نقرأ على البردي وصف حياة الفلاحين المؤثر الآتي:
قرضت الحشرات نصف الحبوب، والتهم بقر الماء نصفها الآخر، وتبدو الفئران كثيرة في الحقول، ويأتي الجراد، وتطعم الماشية، وتنقر العصافير، ويأخذ اللصوص ما بقي في الجرن،
1
وهلكت الأنعام من الحرث ودرس البر. وهنالك يأتي الكاتب على زورقه جمعا للغلة، وويل للفلاح! ولدى الموظفين عصي، ولدى الزنوج جذوع،
2
ويقولون صارخين: سلم حبك! وإذا لم يكن عنده من الحب شيء ضربوه وقيدوه وقذفوه في القناة حتى يغرق، وتوثق زوجه وأولاده أمامه، ويفر الجيران إنقاذا لقمحهم.
وفيم يفكر الطواب عندما يحفر النحات كتابة مأتمية لحاكم ممقوت أساء استعمال الحياة كما يأتي: «لم أسئ قط معاملة بنت من بنات الشعب، ولم أبغ قط على أيم، ولم أسجن قط راعيا ولم آخذ قط عمال مستصنع؟» وفيم يفكر الفلاح عندما ينزل الكاتب من القارب إلى قريته وينبئ الجمهور المهرول
3
بمرور فرعون عما قليل وبضرورة إعداد ما يأتي على الضفة: «15000 رغيف جيد من خمسة أنواع، و14200 رغيف آخر، و2000 كعكة، و70 جرة، و2000 وعاء آخر، و1000 سلة لحم مجفف، و60 قلة لبن، و90 قلة زبدة، وكثير من الحطب الضروري للطهي، وكثير من سلال التين والعنب، وكثير من طاقات الزهر لتزيين الموائد؟»
وفي الحين نفسه يضرب العمال الذين ينشئون مدينة رمسيس المأتمية ليعطوا أرزاقا، وما انتهى إلينا من وثائق ستة أشهر فيظهرهم وقوفا في أول الأمر، ثم يبديهم سائرين ضارعين قائلين: «لم يكن عندنا ما نأكله من سمك وخبز وخضر منذ ثمانية عشر يوما، فالحق أنه يسلك مسلك خبيث في هذا المكان من المملكة.» فبهذه الوسيلة ينالون من الكتبة والشرطة خمسين كيسا من الحب في كل شهر؛ مع أن هذه الإدارة تسلم إلى كهنة طيبة وحدهم 10000 كيس من الحب في كل سنة.
ومما يكرره أولئك كون فرعون قد أعطى إحدى نسائه ضرائب محصول مديرية بأسرها لتدفع ثمن أحذيتها، وكون دخل خمر أنتيلس بالدلتا خصص لدفع ثمن مشاد
4
امرأة أخرى ونطقها، على حين يضرمون النار لإذابة ما تقتضيه مصاريع أبواب معبد طيبة العظيمة من برونز، أو على حين يجلبون من بلاق قطعة حجر واحدة بالغة من الوزن ستة آلاف قنطار؛ أي ما تطلب عمل ألفي رجل في ثلاث سنين.
ومما يقع أحيانا أن تدور بين الشعب أهاجي شديدة فينسخها كاتب ليسلي سيده بها:
رأيت عامل المعادن حين عمله، فأبصرت أصابعه كالتمساح، وهو يلاقي من التعب في الليل أكثر مما تحتمله ذرعانه، وإذا ما أنجز النحات عمله وقع منهوكا على حجر، ويبحث الحلاق عن زبن له حتى ساعة متأخرة من الليل فيكاد يقطع أذرعه ليملأ جوفه، ويعمل الملاح الذي ينقل سلعه حتى الدلتا أكثر مما تستطيع سواعده ويقتله البعوض، ويجلس الحائك القرفصاء في مصنعه على ما هو أسوأ من حال امرأة فلا يكاد يتنفس، ويذهب الرسول إلى البلاد الأجنبية فيوصي بأمواله لزوجه وأولاده؛ خوفا من الآساد والآسيويين، ويحلف السكان دوما ويأكل جلده، ويغسل الغسال الثياب على الرصيف ويكون جارا للتماسيح، ويزيد صياد السمك عليه سوءا لأنه أقرب إلى التماسيح منه.
وتدوم تلك الحال عدة قرون.
ومع كل ذلك ثار فلاحو مصر وعمالها واشتاطوا
5
على سادتهم ذات مرة، فأسفرت الفتنة عن كسر شوكة الأغنياء والكهنة، وتدوم الثورة مدة طويلة، تدوم في أواخر الدولة القديمة من سنة 2350 إلى سنة 2150 قبل الميلاد؛ أي قبل يوسف بمدة كبيرة، ويحتمل أن تكون قد بدأت بعصيان ضد عاهل ظالم اسمه كيتي أو نشأت عن زواج أحد الفراعنة بإحدى بنات الشعب كما يرى بعض العلماء. ومهما يكن الأمر فقد صدرت مسئولية فرعون تجاه الأمة عن ذلك، وقد نقل الكهنة هذه المسئولية - منذ الأسرة الخامسة - من السمك إلى الأرض على نمط البروتستان.
وهذه هي الثورة الوحيدة التي اشتعلت في تاريخ ذلك العالم فلم تنته إلينا وثائق عنها غير التي جاءت من المغلوب، وليس عندنا خبر عنها من الغالبين ما دام الخط الهيروغليفي وحده هو الذي كان موجودا، ولم يكن الكهان من الشجاعة ما يذكرون الوقائع معه، وما وصل إلينا من أنباء عن العويل والأنين فمبهم محول إلى رموز وأمثال على نحو الأحاديث الإسرائيلية والقصص العربية المنسجمة، وهو ممتع بروعته، طريف بسهولة نقله من لهجة المغلوبين الصغرى إلى لهجة الغالب الكبرى. وقد قال أحد كهان هليوبوليس: «ضاع البلد، وعادت الشمس لا تضيء، وغدا النيل فارغا، فيمكنك أن تعبره ماشيا، وتشرب ضواري الصحراء من نهر مصر، وينهض أعداء في الشرق فيرون هذا البلد في مأتم وألم، وكل واحد يقتل الآخر، ويسود الحقد بين أهل المدن، ويحمل الفم المتكلم على السكوت، وينقلب كلام الآخرين إلى نار في الفؤاد.»
وإليك كيف يصف موظف سلطان الفقراء: «الفقراء ينتصرون، ولنقهر الأقوياء، ويغلب أولئك الذين يلبسون النسج الناعمة، ويبرز من لم ير النور قط، وينال المناصب. وعلى من يرد أن يعمل أن يتسلح. والنيل يفيض، ولكنه لا يعمل شيء بعد، فكل يقول: لا نعرف ماذا يحدث في البلد، وتضل القطاع بلا راع، ويهلك الحرث، وتعوزنا الثياب والتوابل والزيت، وتهدم المخازن ويقتل حرسها، ويؤكل من الكلأ ويشرب من الماء، ولا تلد النساء، ولم نجل
6
بي أبي؟ ويفر من المدن، وتنصب الخيام مجددا، فقد حرقت الأبواب والأعمدة والجدران.
وأصبح صاحب سرير من كان غير ذي حائط ينام عليه، وأصبح ينام تحت الشجر من كان غير ذي فيء،
7
وأصبح عرضة للرياح والزوابع من كان ذا ظل، وأصبح مالكا هريا من كان لا يجد خبزا، وأصبح حائزا قيثارة من كان يطلب كنارة،
8
وصارت ذات جرار زيوت عطرية من كانت غير ذات خضاب، وصارت صاحبة مرآة من كانت ترى خيالها في النيل فقط.
بيد أن الكبار جياع يبكون، وما كانت الأهرام تخبئه فقد غدا فارغا وكشف القناع عما هو خفي، ولم يعد لفرعون عوائد مع أن الحب والسمك والطيور والبرونز والزيت وجميع الأشياء الطيبة مال له، وعطل الوزير من خادم لما لم يبق من خدم، ومن كانوا يحملون الآخرين على بناء قبورهم صاروا يعملون بأيديهم. وأين نجد الراتينج لتطهير الموتى والزيت لتحنيطها؟ ومن يذهب للبحث عنها في بيبلوس؟
9
ويرمى الموتى في النهر، ويضحى النيل مدينة الأموات، وتخادع الآلهة في المعابد فيقدم إليها الإوز بدلا من البقر، ومن الملحدين من يقول: لو كنت أعرف أين الرب لقدمت إليه قرباني، وتوارى الضحك، وصار أمرا غير معروف. واها واها، يا ليت هذا آخر العالم، إذن لكان هذا آخر الشغب والاضطراب!»
وستظل تلك الثورة الوحيدة التي قام بها الفلاح المصري في غضون خمسين من القرون غامضة الأمر إلى الأبد كما تشهد بذلك قبور الفقراء القليلة المصنوعة من الآجر والمدرجة بين قبور العظماء الهيف التي أنشئت في ذلك العصر. وكل ما صنع أن اطلع - بعد الحل - على شكاوى الأغنياء المغلوبين الفريدة بما تحويه من سوداء. ولنا بالتحولات التي أوجبها ملوك طيبة في الدولة الوسطى - حوالي سنة 2000 قبل الميلاد، وأيام الأسرتين المالكتين الحادية عشرة والثانية عشرة - فكر عن نتائج تلك الثورة. فلما اعتبر الأمراء والكهان بالكارثة التي أصابت آباءهم منحوا الشعب بعض الحقوق، فسمحوا له بالاشتراك في الطقوس الدينية، وأخذوا يعرضون حياته وطبائعه على القبور، وصاروا يصرحون بأن الخلود يكتب لمن يخلص للعادات؛ وذلك لأن الشعب غدا مطلعا على أسرار معبد أوزيريس بانتهابه، وتسكن هذه الدعابة الكلبية الجمهور المتوعد.
وهكذا يفرغ الغم - قبل القديس بولس بألفي سنة - عن المضطهدين والمكروبين ببعث مرجو في الله حيث يكون الجميع متساوين، ويسلك سبيل الوضوح فيؤذن للموظفين - وللصناع أيضا - في إنشاء قبور لأنفسهم وفي الاشتراك في الخلود على هذا الوجه.
تأتي الثورة من عل ولمرة واحدة في تاريخ مصر، وهي من عمل إخناتون، فرعون الوحيد الذي يستحق أن يكتب تاريخ لحياته. وإخناتون هذا هو أمينوفيس الرابع الذي تحركنا صوره حتى في هذه الأيام، ويجعل فرعون هذا من الشمس سيد العالم فيكتب النشيد الآتي في سبيلها:
أنت ترتقي جميلا إلى أفق السماء - يا أتون - يا من هو مطلع على أسرار الحياة، وأنت حينما تستدير في الأفق تملأ الأرض من جمالك، وأنت تبدو منيرا فوق الأرض، فتغشاها بأنوارشك كما تغشى كل شيء خلقته. وإذا ما ركنت إلى الراحة في الأفق الغربي أظلمت الأرض كأنها ميتة ونام الناس في غرفهم وأمكنت سرقة كل ما يضعونه تحت رءوسهم من غير أن يروا ذلك.
ولكنك إذا ما بدوت في الأفق بددت الظلام، وعم الأرضين سرور، ويثب الناس على أرجلهم، ويغتسلون ويلبسون ثيابهم ويرفعون أكفهم إليك عند طلوعك عابدين، وتعمل الأرض بأسرها، وترضى الحيوانات بأقواتها، وتنمو الأشجار والنباتات وتقفز الحملان، وتطير الطيور من وكناتها،
10
وتسبح لك بأجنحتها، ويتضح كل طريق بنور أشعتك، وتمخر السفن في النهر طلوعا ونزولا، وتطفر
11
الأسماك نحوك لنفوذ أنوارك عميقة في البحر، وتنمي الأولاد في بطون أمهاتهم، وتهدئهم فيها لكيلا يبكوا، ثم تهب إليهم صفة التنفس. وإذا ما وضع الوليد فتحت فمه وقمت باحتياجه، وإذا ما كان الفرخ في القيض
12
منحته روحا وقوة لنقف
13
البيض. وها هو ذا يسير ويرتاد.
وكل شيء خلقته عظيم، ومما خلقت نذكر الناس والحيوانات والكبار والصغار وجميع ما يدوس تراب الأرض، وجميع ما يطير في الهواء وبلاد سورية والنوبة وقطر مصر، وتضع كل إنسان في مكانه وتنعم عليه بما يحتاج إليه. وقد قسمت الناس إلى شعوب مختلفة اللغات والأشكال والألوان.
وأنت خلقت النيل في العالم الأدنى فأتيت به إلى حيث تود إطعام الناس يا رب الجميع. وقد وضعت النيل في السماء - أيضا - لكي ينزل نحوهم فيلطم الجبال بأمواجه كبحر ويسقي حقولهم بما فيه الكفاية. وفي السماء نيل واحد للبلاد الجبلية ولجميع الحيوانات التي تذهب إلى سفوحها، وقد وهبت نيل العالم الأدنى لمصر.
وأنت خلقت السماء البعيدة لتصعد إليها، ولتبصر من عل كل ما أبدعت وحدك. والجميع يرفع بصره إليك، أنت أيها الشمس، ومكانك في قلبي، ولا أحد يدرك أمرك غيري. أنا ابنك إخناتون، وقد أطلعته على خططك. أنت يا حياتنا ويا من نعيش به، وقد نشأت - منذ خلقت الأرض - جميع الناس في سبيل ابنك الذي خرج من صلبك وفي سبيل من يحب، في سبيل الملكة التي تعيش وتسعد سعادة أبدية.
الفصل السابع عشر
نشأ الخط المصري من عاملين: النيل الذي هو سبب الإدارة، ورجاء البقاء الذي أسفر عن إيجاد المحاضر؛ ومن ثم كان أعظم الاكتشافات البالغ القدم، والذي يرجع إلى الأسر المالكة الثلاث الأولى، وما على الأعمدة والجسور والتماثيل من كتابات فينم على خلق المصري وصراحته وقناعته ومزاجه العملي واستعداده للنظام. والكتابة المصرية أجمل من كتابة السومريين الذين كانوا ينقرون في الحجر، ومن كتابة الأشوريين الذين كانوا يطبعون حروفهم المسمارية على الآجر. وبما أن غرين النيل كان يتفتت بين أصابع المصريين كان هؤلاء يتخذون قصبا حاد الأطراف على شكات مطثات
1
أو فراجين،
2
وكانوا يتخذون أوعية صغيرة حمرا وسودا للكتابة على ألواح خشبية أو على البردي.
أجل، كانت الكتابات تتألف من مدائح على الخصوص، ولكن هل ترك لنا معظم قدماء المؤرخين أمورا أخرى؟ لقد عرض الكاتب المقدس وإله الكتبة توت على شكل قرد ذي شعور بيض، وكان عرضه على هذه الصورة وفق الخيال الشعبي ككل دعابة في مصر. والدعابة مما لا تجد له أثرا عند الفراعنة، ومما أدت إليه الكتابة نفسها وجود طبقات بين الفراعنة والشعب. وغدا الكاتب موظفا قويا محترما مثل الأمراء في الدولة القديمة، وكان يوجد اختلاف بين الكاتب والجندي كما في كل مكان، وذلك مع رجحان كفة الكاتب؛ وذلك لأن المصريين ظلوا قوما غير محاربين حتى النهاية.
وفي مصر كانت تلك الكتابة - والعلم معها - من الأمور الواقعية التي تهدف إلى غاية مادية؛ ولذا لا تجد واحدة من تلك الأقاصيص التي كتب الخلود بها للفلسفة أو للمعنى الفني عند الأمم الأخرى. وقد حكم النيل على المصريين بأن يكونوا من الحاسبين، وقد وجه المصريون ذكاءهم إلى حل ما فرضه النيل عليهم من عمل حلا عمليا.
وفي أي القرون التي لا حد لها رصد الفلك أبناء الصحراء أولئك ليكتشفوا التقويم قبل الفراعنة الأولين بألف سنة؟ لقد أثبت أنهم استعملوا التقويم قبل الميلاد ب 4236 سنة، وقد كانوا يقسمون السنة إلى ثلاثة أقسام: الفيضان والبذر والحصاد، وذلك مع علمهم منذ أقدم الأزمان كون السنة مؤلفة من 365 يوما ونصف يوم، وذلك مع جعلهم السنة اثني عشر شهرا، وجعلهم الشهر الواحد ثلاثين يوما مضيفين إلى هذه الشهور خمسة أيام. وهكذا كان يؤخر ست ساعات في كل سنة، فإذا ما مضى خمسمائة سنة قلب نظام الفصول قلبا تاما، ثم وجب في نهاية سنة 1460 وضع سنة 1461 كسنة كبيسة ردا للسنين إلى محلها.
ووقع ذلك للمرة الأولى في سنة 2776 قبل الميلاد؛ أي في عهد أحد الفراعنة زوزيري الذي بنى الهرم ذا الدرجات، ووقع ذلك للمرة الثانية في عهد خلف لإخناتون في سنة 1316 قبل الميلاد. وأما في المرة الثالثة - أي في سنة 144 بعد الميلاد - فقد كان الفراعنة الحقيقيون قد غابوا، وكان الملك قبصة بطليموس الذي هو أعظم رياضيي عصره. وأما المرة الرابعة فقد كانت في عصر المماليك، ولم يغز الجنرال بونابارت مصر إلا بعدها بقرنين. فهذه هي أدوار أمة اكتشفت التقويم منذ ستة آلاف سنة، وهي تثير في الذهن رؤيا قصر عجيب يسمع تحته صوت نهر حافل بالأسرار.
وإذا كانت الساقية ترفع مقدارا معينا من الماء في زمن معين فإن النيل أعان على تقسيم الزمان أيضا. وقد اخترع المصريون المزولة
3
للنهار والساعة المائية لليل. وهذه الساعة هي حوض حجري نقش في داخله مدرج يشير إلى الساعات، ويجري الماء منه بخروق ذات اتساعات مختلفة الفصول وطول الليالي. وكان المصريون ينتفعون بالنجوم أيضا، وكان يستوي كاهنان متواجهان على سقف المعبد، فينظر أحدهما إلى الشمال وينظر الآخر إلى الجنوب، ويمسكان بيد زيجا لبروج كل ليلة ويمسكان بيد أخرى جهازا صالحا للرصد. فيمكن تعيين الساعة بحسب وضع النجم، وبعد النظر إلى المرفق الأيمن والأذن المواجهة اليسرى.
وإذا كان المصريون يحسبون حركات النجوم والقمر من أبراج معابدهم على ذلك الوجه فإن واقعيتهم لم تؤد إلى استنباط أية نتيجة من وضع الكواكب، وهم في ذلك على عكس البابليين، وهم كانوا يجدون في زيادة معارفهم تنظيما لأعمالهم، وهم إذا ما دلوا الميت في القبر إلى حركات النجوم كان ذلك للأسبوعين الآتيين فقط مقدرين أن الميت يستطيع صنع مثل ذلك في المستقبل لما يكون لديه من الوقت ما يكفي للحساب، وهم في زمن الدولة الجديدة قد وضعوا اثنتي عشرة علامة لمنطقة البروج واكتشفوا خمسا من السيارات وجعلوا لها أسماء، فوجب انقضاء ثلاثة آلاف سنة لاكتشاف سيارتين أخريين. وهم - لكي يقطعوا الحقول بجداول على طول النيل - قد اخترعوا القدم والذراع، كما اخترعوا النظام العشري الذي غابت روعته عن الإنكليز حتى الوقت الحاضر.
وإذا كانت روح المصريين إنشائية أكثر من أن تكون فنية فإن تلك الاكتشافات تثير إعجابنا أكثر مما تثيره مبانيهم مع أن شيد هذه المباني ينطوي على فن يصعب إدراكه ولو نظر إلى ملايين العبيد الذين قاموا بها.
وقد سهل النيل جميع الأعمال الذهنية والجماعية. وقد حال النيل دون إقامة مبان حيث يكون الحجر، وتجد المعابد منتشرة في كل مكان من وادي النيل خلا هنالك، وتضاف هذه الظاهرة السيئة إلى ظاهرة أخرى تجعل تلك المعابد أدنى قيمة من آثار الأغارقة، فبينما يبدو حجر الكرنك الكلسي غير جميل إلا إذا كان تحت أشعة القمر ترى البارتنون يعرض رخامه لشعاع شمس الخليج فيؤدي مر القرون إلى زيادة زنجاره
4
الأصفر والوردي، ويترك النيل خلفه، وعلى أثر دخوله مصر، على أثر دخوله أسوان، تلك الصخور الرائعة، ذلك الغرانيت النوبي الذي يحكي الذهب، ويقلل السهل - من ناحية أخرى - تأثير ما يقام عليه من قصور ومعابد ما دمنا قد تعودنا وضع الرب والملك على التلال فوقنا.
وتتجلى حيوية المصري وتعطشه إلى الخلود في المسلات المنفصلة عن الصخور الابتدائية، والتي يلوح أن نموذجها مقتبس من الطبيعة. وقد أحسن العالم الجيولوجي، غوته، الذي كان يدرس الكون ببصيرة إله، تقدير ذلك فقال: «إنني حين درست أشكال الغرانيت المختلفة عن كثب أبصرت مطابقة عامة تقريبا، أبصرت الأجرام المتوازية السطوح التي تتألف منها مقطعة تقطيعا منحرفا فاكتسبت بذلك شكل مسلتين. ويرجح أن كان هذا الحادث كثير الظهور في صوان جبال مصر العليا، وكما أنه ينصب حجر كبير للدلالة على محل ذي بال نرى أنه بحث في ذلك البلد عن حجارة حادة كبيرة، نادرة على ما يحتمل، لتصنع منها آثار عامة.»
ويا لكثرة ما واجه تلك الأعمدة من مغامرات! فمن المسلات الأربع التي نقش عليها أحد الفراعنة الأقوياء توتموزيس الثالث مآثره نقل الإمبراطور قسطنطين واحدة إلى بزنطة، ونقلت أخرى إلى رومة فأقيمت في الميدان العام، ثم ظلت ملقاة هنالك عدة قرون إلى أن نصبها أحد البابوات أمام اللاتران حوالي سنة 1600، وبقيت المسلة الثالثة ملقاة ألف سنة، ثم أخذت إلى إنكلترة سنة 1800 ونصبت على رصيف التايمس.
وترى المسلة الرابعة في الحديقة المركزية بنيويورك، وتبهرنا آثار فرعون ذلك بعد ألوف السنين إذا وجد من يقرؤها، ويقرأ أحد كهنة أمون على ابن أخ للإمبراطور طيبريوس تلك الكتابة التي يشاد فيها بالانتصارات على مادي وفارس وبفتح ليدية وسورية، والتي يذكر فيها عدد العربات الحربية ومقادير ما أخذ من الذهب والعاج فيصرح بأن صاحب هذه المفاخر هو رمسيس الأكبر. واليوم لا يزال ترجمان السياح الدليل يغزو جميع هذه الأمور المصرية الرائعة إلى رمسيس الأكبر.
وتدور السيارات حول تلك المسلات في أجمل ميادين باريس ورومة ولندن ونيويورك، وتبصرها في أثناء النهار محاطة بعيون ماء كان فرعون ينفق نصف كنوزه على منظرها لو علم أمرها. أجل، لا أحد يفقه معنى ما تحويه من كتابة، غير أن تضاء في الليل بنور سحري يأتي من تحتها، فكأن أوزيرس لا يزال ينير مجد ابنه من العالم الأدنى.
ويلوح أن فن النحت المصري مقتبس من فن البناء من بعض الوجوه، ويتغلب توازن الأجرام على الخطوط عند المصريين، ويصدر عن فن البناء أكثر مما عن فن النحت المكعب
5
الذي يخرج منه رأس صغير ورأس كبير تمثيلا لموظف بلاط ممسك أميرة. وتعرض جميع هذه التماثيل أشخاصا هادئين وقاعدين القرفصاء وجالسين ومتقدمين مع سكون وعطل من الخصومة والرغبة . وجميع هؤلاء الأشخاص ضلع
6
متوانون في أفكارهم ومشاعرهم محتملون من غيرهم واثقون بأنفسهم، والرءوس وحدها هي التي تكمل عادة، وأما استدارات الأجسام فهي مرسومة رسما خفيفا بسيطا كما لو أريد أن يدل بها على حياة لخصت بحواش مكتوبة في أسفلها.
وللآثار التي انتهت إلينا من الدولة القديمة تأثير كثير الاختلاف تابع لاتساعها وموادها ما دام الأثر الهندسي الماثل لا يكون تام التأثير إلا بالحجر وفي المباني. وانظر إلى الزمرة الصغيرة المشهورة المصنوعة من الحجر الكلسي والمؤلفة من الزوج والزوجة القاعدين المتكتفين تبد لك الزوجة من ملامحها ربة منزل ويبد لك الزوج من ملامحه مطواعا، ويبد لك كل منهما مضحكا كما تبدو الزمر الأخرى في متحف القاهرة. ويظهر ملوك الدولة الوسطى العراة برسومهم المكعبة كالألغاز الرياضية. وعكس ذلك أمر رنافر ذي الحجم الطبيعي؛ فهو لا يزال ذا سناء مع مرور أربعة آلاف سنة على رأسه، وهو يظهر صنديدا معتدلا مشابها لسباحة معاصرة، وهو يظهر مثال الرجل الهادئ الثابت العزم بعنقه المكشوف وشعره المكور كالمغفر وعينيه الثابتتين مع حسن تقويم، وفمه ذي الشفتين الدالتين على الشهوة دلالة خفيفة، وذي الروعة الذي ليس كبيرا فلا يكاد يزيد على أنفه القوي عرضا، وارجع البصر إلى تمثال تي تجده مماثلا لذلك، ولكن مع زيادة على ما في الطبيعة، ولكن مع فم وأنف أكثر اتساعا وشهوة أشد بروزا وقليل أثر للذعر، ثم ارجع البصر إلى رأس برهرنغرت ذي النظرة الأعظم نبها وهلعا وذي الفم الخفيف الميل تجده صاحب شخصية كالتمثال الخشبي الصغير الرائع المجهول الاسم (متحف القاهرة 2606)، مع نظرته الحائرة التي تنم على الفتاء.
وارجع البصر إلى تلك التصاوير أيضا، إلى تمثال زوزيري النصفي الذي هو أقدم ما لدينا على ما يحتمل تجده ذا أذنين بلغتا من التعبير القوي ما نتمثل معه الأنف والعينين العاطل منهما، ويعد جد الآلهة وخالق الآلهة والأشياء فتاح إله الفن أيضا، وكان المصريون يقولون إن إبداع الأثر الفني يعني منحه الحياة.
ويعلمهم النيل الكتابة فيتعلمون التلوين، وترى على أقدم التماثيل روعة الألوان، وتخرج هذه التماثيل - بفضل الجو، وفي الغالب - سليمة من الغرف المأتمية، فتدل على الحياة كما كانت عند أولئك الذين عرضوا على ذلك الوجه، ونبصر زوجين من الأسرة الرابعة، نبصر راحوتب وزوجه نفريت، جالسين على عرشين أبيضين، وتظهر الزوجة على أحدث طراز، تظهر طافحة صحة مستديرة ضمن معطفها، ملونة بالأبيض والأصفر مع قليل بقع من الأخضر والأحمر في جيدها، وتصنع عيناها من الحجارة الملونة، وتبدو شعورها والخطوط الهيروغليفية سودا، ويبدو الزوج متزويا أحمر داجنا فيلوح أنه ملاكم ساذج غبي فيحزر من ملامحهما تاريخ نهرهما ولياليهما وأولادهما وخصوماتهما وسعادتهما.
وما لفن تصوير أولئك القوم من قيمة هزيلة فيدل على أنهم لم يبالوا بغير ثلاثة أبعاد فقط. وقد كانوا يعرفون تلوين تمثال، ومن النادر أن كانوا يعرفون نقش جسم بشري، ولا يدل أحسن ما لدينا من التصاوير الجدارية الكثيرة على غير قليل من الحذق الفني، ومع ذلك ترى في مصليات معبد سيتوس بأبيدوس قليلا من النقوش البارزة الملونة التي هي على جانب كبير من الجمال فترجع إلى القرن الثالث عشر، ويؤدي الملك واجب الاحترام إلى إيزيس، إلى هذه الإلهة الصفراء اللون مع حمرة خفيفة على غطاء الرأس. ويظهر الملك أحمر أو ضاربا إلى حمرة مع شعر وتاج أصفرين، وهكذا يمتاز الرجال في وضح النهار من كبريات السيدات المتخضبات.
ولم يصنع المصريون - على العموم - أشياء عظيمة من غير الحجر الذي هو مصري، ولم يكن لدى المصريين خشب، وكان المصريون يأتون بالنحاس من الخارج أيضا. وقد نما حس الطراز الحجري لديهم في ثلاثة آلاف سنة من غير أن يثار أو يحتج على فن البناء هذا.
بيد أن الأسر المالكة الأولى أنشأت - حوالي سنة 3000، في داخل المعابد العظيمة - مصليات صغيرة كانت سوق البردي تدعم فيها مظلة خفيفة كما زينت على هذا النمط ضخم التماثيل بأروع الأسورة والقلائد. بيد أن طريقة المصريين في صقل الفيروز وفي مطل حليهم المخرمة الدقيقة ظلت خافية علينا كالوسائل التي كانوا يرفعون بها حجارة الأهرام الكبيرة.
الفصل الثامن عشر
كاد جميع ذلك الماضي المترجح بين خمسة وثلاثين قرنا وأربعين قرنا يظل مجهولا لدينا تقريبا، وكدنا نعتمد مع الحذر على القصص الناقصة الممتعة الحية التي جاء بها هيرودوتس وسترابون وديودورس؛ فقد عاد الخط الهيروغليفي لا يستعمل منذ قرون التاريخ النصراني الأولى. ومما حدث في القرن الثالث من الميلاد أن ظهر كاهن مصري كبير اسمه مانيتون عالم باللغتين اليونانية والأهلية فوضع جدولا مهما للأسر المالكة والملوك قائما على تقسيم لخمسة قرون، فلما أغلقت معابد إيزيس غابت لغة الكهنة وغابت معها معرفة الخط الهيروغليفي، وأخذ رهبان الأقباط - الذين كانوا يستعملون تلك اللغة في بدء الأمر - ينتحلون اليونانية كجميع العالم، وصارت القبطية لا تمارس في سوى الصلوات المصرية النصرانية.
ولكن كلما ستر صدأ القرون تلك الكتابة استولى عليها الخيال، ومن كان في القرون الوسطى يريد أن يدثر بالأسرار من الصليب الوردي والبنائين الأحرار وضروب التصوف لم ير بدا من الرجوع إلى العالم المصري الكثير الإلغاز ما ظل حقلا طليقا للوهم. وعند السياح أن «الشفق المقدس» أو لغة تماثيل أبي الهول السحرية تلائم سجية النيل العجيبة، ولم يعن لأحد كون التماع الجو يتضمن وضوح الطبائع والأفكار.
ويدوم ذلك الجهل قرونا، يدوم حتى وصول بونابارت. أجل، لم يحقق بونابارت أية خطة من التي كانت تساوره، غير أن إحدى فكره جعلت من تلك الحملة الضارة حادثا ذا شأن في تاريخ العالم، فقد بحث عن المجد على ضفاف النيل، بحث عن مجد الفاتح مرجحا، عن مجد العالم الأثري في جميع الأحوال. ولو لم يأت بونابارت معه بكتيبة من العلماء لكسر جنوده ما يلاقونه من تحف على ما يحتمل.
وما أهمية حجر مستور بإشارات غير مقروءة يخرجه من الأرض جنوده عند حفرهم خندقا بالقرب من رشيد في شرق الدلتا؟ ويأمر الضابط بحمل الحجر إلى القاهرة، ويرى أن مرسوما أصدره بطليموس الخامس سنة 196 قبل الميلاد نقش على ذلك الحجر مع عنوان: «بالخط المقدس والخط الدارج والخط اليوناني.»
ويا لبهجة العلماء وجذلهم! ويقرءون النص الإغريقي، ولكن أيجدون عين النص في الأسفل بالخط الهيروغليفي والخط الدارج؟ ولعلهم يهتفون طائعين كما هتف فاوست غوته في الدور نفسه:
ألزم الباب، فلا بد من أن يكون المفتاح لديكم، غير أن سن مفتاحكم هو من شدة البضع ما لا يحرك لسان القفل معه.
ويحاول حل اللغز بعناد، ويدير المفتاح في القفل الصدئ أقدر القفالين، ويعودون فيديرونه، ويظل الباب مغلقا مع ما بذل من جهود وما سمع من قلقلة، أويمثل الهيروغليف أفكارا أم أصواتا؟ وهل الهيروغليف خط تصويري أو خط صوتي؟! وأين تكون أسماء الأعلام التي يستعان بها على ذلك؟ ويمضي خمس عشرة سنة في نقاش تمازجه مسائل قومية، ويحتل الإنكليز مصر فيسلبون ذلك الحجر الشهير ويرسلونه إلى المتحف البريطاني حيث لا يزال موجودا، ويكون لدى الفرنسيين نسخ صالحة عنه فلا يألون جهدا في كشف معنى ذلك الشيء الذي كان أعداؤهم قد اغتصبوه منهم.
ويضاف إلى عاملي الطموح والمنافسة ما تأصل بالتدريج من وجود قطر مصري حافل بالأسرار، وتدور الحميا في رءوس الباحثين فيجدون في كشف السر، وفي ذلك الدور يدرس العالم الطبيعي الإنكليزي المعروف توماس يانغ حنجرة الإنسان لتعيين درج الأصوات فيه، وفي ذلك الدور يبحث ذلك العالم في جميع الأبجديات القديمة والحديثة ليصل إلى تلك الغاية فيجد نفسه أمام ذلك الحجر المعمى، وفي ذلك الدور يغوص ذلك العالم في هذه المعضلة بما أوتي من ولع وهوى فيطلع على صوتية الهيروغليف، غير أن ذلك العالم هو من الروح العلمية والرياضية ومن الانهماك في حساباته ما لا يبلغ الهدف معه.
ويستحوذ شيطان البحث على أحد الفتيان في الناحية الأخرى من المانش، فقد كان شنبوليون (1790-1832) منذ صباه موسوما بالقدر، وما تذرع به شنبوليون من حماسة وإصرار فقد أوجب انتصاره.
بلغ شنبوليون الخامسة من سنيه، وما فتئ يلازم دكان أبيه الكتبي بالقرب من غرينوبل فيقطع حروفا في كتاب صلوات لأمه ويؤلف منها كلمات، وما كان عليه من وجه بيضي ومن حدقتين سوداوين محاطتين بأجزاء صفر فيعطيه ملامح شرقية ويجعله عرضة لكثير من المماحكات التي لم تنقطع إلا حين رفض بونابارت أن يجلب إلى مصر أخاه الشاب العالم الذي يزيد عليه في العمر اثني عشر عاما، ويغدو بلد رمسيس من التقديس ما لا يجرؤ أحد معه أن يتكلم عنه.
ويمر ست سنين (وكان شنبوليون في السنة الرابعة عشرة من عمره) فيعين مدير جديد لإيزر، يعين فوريه المساعد العلمي المفضال للحملة المصرية نتيجة لسقوط حظوة لدى الإمبراطور، وتصبح مصر موضوع بحث ثانية، ويتكلم جميع العالم عن زيج دندرة الذي اكتشف حديثا، فيعنى به العالم الغرينوبلي الناشئ أكثر من عناية نابليون، ويحلم شنبوليون برمسيس، ويلاحظ فرويه هذا الغلام المتمرد على نظام الكلية العسكري، والذي يتعلم الصينية والقبطية والعربية، والذي يخفي معاجمه تحت وسادته للدراسة على نور أحد المصابيح.
ويعين الغلام - عند خروجه من الكلية - عضوا في أكاديمية غرينوبل لما كان من عرضه عليها مذكرة عن جغرافية مصر، ويبلغ السابعة عشرة من سنيه ويبدأ بتصيد الكتابات الهيروغليفية، ويصير طالبا بباريس ويتصل بالأقباط من الطلاب، ويتغير رنين صوته بفعل تكلمه اللغة العربية، ويخلف أستاذ العربية فيلقبه الطلاب الأكبر من سنا بالبطرك، ويرى أن يتمرن فيستنسخ نصوصا قبطية بالخط الدارج، ويوشك أن يكشف سر الخط الهيروغليفي، وإن لم يسطع أن يفكه، ويعرف قبل يانغ بأربع سنين أن تلك إشارات صوتية فيقول في إحدى رسائله: «تبلغ شعورنا المستعارة درجة الهذيان حينما تزعم أنها تمثل فكرة، وأجادل حتى في تمثيلها كلمة واحدة.»
وتساوره الظنون ويحركه عدم الصبر فيولي وجهه شطر الباب المغلق الذي ينتصب وراءه رمسيس المستولي على أخيلته.
وهل يذهب إلى مصر؟ لم يخطر ذلك على قلب فرنسي في سنة 1812، وما كانت نفقة السفر لتدفع إلى الطالب لو أراد ذلك، ومن حسن الحظ أن كان أخوه يعتقد نبوغه وأن كان موضع سره ورجائه، وهو لعلمه وفضله يعين مادة ذلك الأخ الأصغر النحيل ويساعده على أعماله، ولكن الذي كان يميز الأخ الأصغر من الأخ الأكبر ومن جميع العلماء المقرونين بالمسألة المصرية هو ما كان يحثه من اقتران العمل والنظر واقتران الوجهة والمنهج، هو اقتران الإيمان الغوتي
1
وروح البحث .
ويعد اليوم الثامن من شهر مارس سنة 1815 تاريخا جديرا بالذكر عنده؛ فقد مثل فيه بين يدي نابليون الذي ناهضه هو وأقرباؤه سرا، وكان ذلك بعد العود من جزيرة إلبة بثمانية أيام، ويجد الإمبراطور وقتا لاستقبال جانعة غرينوبل، ويتحادث في أكثر من ساعة هو والأخوان شنبوليون، ويطلع على آثار الأخ الأصغر حول اللغة القبطية، ويحلم في جعلها لغة مصر الرسمية، ويتكلم عن النيل وعن ألوف الترع التي لا بد منها ضمانا لمستقبل واديه، وهو إذ يبدو واقفا لابسا معطفه الرمادي القديم ويواجه جميع العالم للمرة الثانية ويحتمل نتائج ذلك يلقي نظرة على الماضي ويفكر في مستقبل مصر! ويحلم الشاب الهزيل الخجل - الذي يطلعه على أعماله - بماض يريد أن يفكه، ومع ذلك يشعر كل من الرجلين - اللذين يأخذ أحدهما العروش ويدعي الآخر منهما قدرته على البحث - بأنه أدرك أمر صاحبه.
وما كان أحد بين العلماء ليعرف قيمة أعمال شنبوليون، وقد اكتشف يانغ أن كتابة في حلقة تعني ملكا، ويعرف فيما بعد أن الكلمة المحاطة بإطار في حجر رشيد تدل على اسم بطليموس، ويرى الباحث الإنكليزي والباحث الفرنسي أول وهلة أن مما يخالف الصواب أن تعتقد الحقائق الخفية التي تحفظها إشارات لغزية من فضول الجمهور، وأن عليهما أن يعالجا كتابة واضحة مناسبة مؤلفة من إشارات أكثرها صوتي وأقلها تصويري، بيد أن رمسيس يقف دوما خلف الباب المقفل.
وتمر أعوام، أعوام كفاح ضد الزملاء الذين يقاومونه نتيجة لتشجيع أخيه، أعوام سقم وفقر تحول دون سفره إلى لندن لدراسة أوراق البردي، ويعيش شنبوليون بباريس في محترف مصور لأصدقائه ويصور على المرقاة حلقا ملكية وإشارات غريبة، ويعرف كتابة الاسمين كليوباترة وبطليموس بالخط الهيروغليفي، ولكن مع عجز عن إثبات عدم زلله، ويبلغ السنة الحادية والثلاثين من عمره، ويسلك الدرب الصالح، ولكنه لا يقنع أحدا، وقد قال: «هذه هي دار الصناعة التي أطرق الحديد وأعد أسلحتي فيها.» وعنده المفاتيح مع أسنانها الغريبة، والمفاتيح أقل قلقلة، ولكنها لا تفتح شيئا.
ويجلب الرحالة كايو نماذج قطن إلى مصر في تلك الأثناء ويعود من بلاق بطبع حجري لمسلة مستورة بإشارات، ومن هذه الإشارات واحدة مخاطة بدائرة، ويفترض شنبوليون - بعلامة يونانية - أن الأمر خاص بكليوباترة، ويحقق ويعيد تأليف اسمها تأليفا مضبوطا على هذا الوجه . وكان قدماء المصريين يكتبون كما فرض الشاب الفرنسي، ويمس الحل، ويكاد الباب يذعن، ولا يزال القفل يقاوم.
ويمضي زمن فترسل إلى شنبوليون نسخ من النقوش البارزة في المعابد، ترسل إليه الورقة الأولى من أبي سنبل، ويميز في الدائرة الملكية حرف «س» مضاعفا، ويقرب أحدهما من إشارة أخرى وتسفر المقابلة بالقبطي عن حل مقطع «مس»، وترى فوقه الدائرة الشمسية، التي تمثل «رع»؛ أي الإله الشمس، فيقرأ «رع، مس» رعمسيس، ويعيد النظر في الورقة فيجد وجوها كثيرة لهذا الاسم الذي يبحث عنه منذ عشرين عاما، ويكسر القفل ويسقط الغطاء.
ولم يك هنالك أمر سري، فقد كان ذلك الخط أثر وضوح ونتيجة عقل، ويجيء ما هو مصدق لافتراضات ذلك الفرنسي الواقعي العقلي وتثبت صحة نظريته، ويستطيع فيما بعد أن يقرأ الكتابات وأوراق البردي، وأن يظهر تاريخ أقدم أمم الأرض وحضارتها. وقد قام بهذا الاكتشاف على بعد ألف ميل من مصر، في غرفة صغيرة مستعينا بأوراق وصور قليلة، ومن غير انتفاع بمدق العالم الأثري ومطرقه.
ويهرع إلى أخيه حاملا أوراقه ويضعها على المنضدة ويقول بصوت عال: «لقد أمسكت الأمر.» ثم يقع على الأرض، وتمضي خمسة أيام قبل أن يشفى، ويلزم السرير ستة أيام مع خوفه أن يرى إفلات شرف اكتشافه منه، ويملي على أخيه مجموعة كاملة من الخط الهيروغليفي، وتمضي خمسة عشر يوما، ويعرض الأمر على جمع من العلماء جامع ليانغ وهنبولد، ويعمل - مع ذلك - برأي أخيه العارف بأمور الحياة فيكتم فجاءة اكتشافه ويقدمه نتيجة لأعمال متصلة وفق الواقع من الأساس! ويغدو شنبوليون مشهورا على الرغم من حملات الحسد التي قام بها المتخصصون بالآثار المصرية من الفرنسيين، ومن الألمان على الخصوص.
بيد أنه ينتظر ست سنين قبل أن يوجه بنفسه بعثة إلى مصر، ويحسب من فضائل النيل الطريفة أن يقصد مصر فاتح بلا فرسان ولا مدافع قابض على مفتاح سحري فتكلمه القبور والمسلات وجدر المعابد وتحدثه عن تاريخ بلدها، وقد أرخى لحيته وبدا عربيا بملامحه ولبس ثوبا عربيا، وصار الجمهور يحيي هذا الأجنبي الذي يقرأ كتابة الحجارة، ويدعوه الباشا في ختام هذه الرحلة ويطلب منه أن يقص عليه حوادث بلده في الماضي، فظهر كل من ولي الأمر والساحر مواجها للآخر بذلك، وكان أحدهما يعرف ماذا ينظم في الغد كنابليون في غرينوبل، وكان الآخر يعرف الماضي، ولكنه كان أسن منه ثلاث عشرة سنة، وكانت أيامه معدودات.
ويعود «المصري»، ويحمل هذا اللقب منذ زمن طويل، ويزور جاره
2
القديم فوريه الذي كان راغبا أن يعرف ماذا صنع هذا التلميذ الذي فاقه، وينصت له بدقة، ويموت في الغد، ويبدو التلميذ نفسه منهوكا أيضا، وقد أغمي عليه في ضريح رمسيس الرابع، ويحمل بعد عامين - أي قبل أن يموت في المنزل - على إيصاله إلى الغرفة «حيث نبت علمه، ولم نصنع غير واحد، وليكن كتاب نحوي وبطاقة زيارتي للأعقاب.»
الفصل التاسع عشر
تظهر واحات في صحراء التاريخ القديم، ويربط ما بين هذه الواحات طرق غير سالكة لم يعرفها غير قليل من الرواد المدونين للتاريخ، ومن كان من الشعوب ذا صلة بمصر التي هي أعظم هذه الواحات فقد دخل حظيرة التاريخ. ولولا مصر لظل السومريون والكنعانيون والهكسوس والإثيوبيون الذين ظهروا قبل الميلاد بألفي سنة أو ثلاثة آلاف سنة مجهولي الأمر. وإذا ما أغضي عما بين النهرين - دجلة والفرات - وجدنا شعبا واحدا اتصل بالمصريين وساواهم أو فاقهم صيتا، وهذا الشعب هو أول من وجه أنظار الناس إلى مصر مع عدم قضائه طويل زمن هنالك ومع عطله من السلطان في ذلك البلد. والتوراة قد أدخلت مصر إلى أدب العالم، ولا تزال الملايين من الآدميين ترى أن فرعون هو اسم ملك معين لعرضه على هذا الوجه في سفر الخروج.
ولم يصل اليهود إلى مصر فاتحين، وفي البداءة استقرت أسرة يهودية واحدة بمصر، وزاد عدد اليهود بمصر، وهم كلما زاد عددهم في مصر صار وضعهم غير ثابت فهجروا هذا البلد الذي كان يعبدهم في نهاية الأمر، وهم، مع ذلك، قد عملوا على ذيوع صيت مصر أكثر مما عملت جميع الأمم التي غزتها وملكتها، وقد أدت بضع صفحات من كتاب دونه الأعداء بلسان معروف قليلا إلى تخليد الشعب الذي مثل هنالك دور الباغي، وقد أثار رجلان أعزلان خيال جميع العالم بفضل ذكائهما، ومن المحتمل، أيضا، أن أحاطت أغاني شاعر ذينك الرجلين بنسيج ساطع من الأساطير، ومن الأجيال ألوف ومن الأمم مئات تجهل رمسيس وأمينوفيس وتعرف تاريخ يوسف وموسى، ولا ريب في أنهما عاشا هنالك، ثم أسفرت دراسة الكتابات الهيروغليفية عن إقناع العلماء في ذلك، وأثبتت أ. س. يهودا، بما قام به من مباحث ممتازة، دقة التوراة التاريخية فجعل يوسف في مصر حوالي سنة 1850 قبل الميلاد، وجعل خروج العبريين مع موسى منها سنة 1450 قبل الميلاد.
ومن الواضح عطلنا من أية وثيقة كانت، ما لم نعد من الوثائق ما وجد في الدلتا من الخنافس مع خطوط من الهيروغليف دالة على يعقوب. ومهما يكن من أمر فإن المقابلة بين النصوص التورائية والعادات المصورة على القبور وأوراق البردي تظهر من الأدلة ما لا يمكن دحضه، وإن لم تكن الأسماء بعينها هنالك، وذلك إلى أننا نستطيع بما عندنا من علم بأحوال الدولة الجديدة أن نعين التاريخ الذي سبق قيام يوسف بانقلابه في طيبة، وذلك إلى قرب قلعة زارو التي سجن يوسف فيها من حدود آسية، وإلى كون رؤيا البقرات السبع تطابق بقرات هاتور السبع المقدسة في المديريات السبع، وإلى العدائين الذين يتقدمون عربة الوزير كما صنع ذلك في زمن اللورد كرومر، وإلى حمل الوزير قلادة حول العنق وسوق يوسف إلى فرعون وحلق لحيته الآسيوية الكثيفة، ويسكن يوسف إخوته أرض جاسان، وتقع هذه الواحة في شرق الدلتا بين النيل والطرف الشمالي من البحر الأحمر. وقد امتدح خصبها كاتب في عهد رمسيس الثاني.
وكل شيء في يوسف يبدو غريبا في مصر. ويوسف هو اليهودي الخيالي المملوء لطفا ووقارا، ويوسف هو الفتى الذي يفتن النساء؛ وذلك لأنه - على حسب رواية التوراة - ذو قوام جميل ووجه وسيم مع حسن سلوك، ويوسف - في الوقت نفسه - هو رجل الأعمال النبيه الذي أغنى مليكه من غير أن يحرم أحدا حقه، وهو الدبلمي الماهر في كتم مشاعره، وهو الصابر الذي يدع خططه تنضج رويدا رويدا، وهو البالغ الشرف الكاتم للسر الإنساني مع البصر بالأمور، وإذا عدوت هواه أبا وأخا لم تجد الشهوة سبيلا إلى اعتداله واتزانه ذكاء وخيالا وشعوره بقيمته الشخصية؛ أي إلى الأمور التي يجد بها مواهب حياته طبيعية. وما كان من اقتران ذكائه وقلبه وزخور مشاعره العميقة وأفكاره الحكيمة فقد جعلت منه يهوديا عظيما كديسرائيلي
1
بعد زمن طويل.
وذلك الخلق وحده هو الذي أمكن به نجاحه، وذلك النجاح وحيد في التاريخ، وذلك الفوز قد ناله أجنبي لا جار له ولا سلاح عنده ولا معارف خاصة لديه، وهو - مع هوى العناصر وعدم المطر في إثيوبية وفيضان النيل مدة سبع سنين - قد جعل من الملك سيد جميع البلاد حين وجب عليه أن يهاب الثورة، ويرهب الردى، ويجمع الحب في سني الخير السبع «فلم يكتل منه لكثرته»، ويحسب سلطانه الاستبدادي مقدما تقديرا للمجاعة الآتية وللزمن الذي يصبح فرعون فيه بائع الحب الوحيد. وهكذا يقصدون فرعون ليعرضوا عليه أنعامهم وأبدانهم وأطيانهم إذا ما أنعم عليهم بالطعام، «وهكذا يحول يوسف بذكائه وبصره دون موت المصريين جوعا ويضمن للملك جميع أملاك البلد بمضاربة لم تسمع بمثلها أذن.»
ويلخص غوته بتلك الكلمات عبقرية رجل الدولة والعمل يوسف، ويظفر يوسف بثلاث سلطات دفعة واحدة، فيبجل الفلاحون ذلك الذي أنقذهم من الزعماء المحليين الوسطاء بينهم وبين فرعون مرجحين أن يكونوا تابعين لفرعون رأسا لما يرون فيه ربا منقذا، ويكون لدى فرعون من الأسباب الكثيرة ما يثني معه عليه، ويخضع له النيل، ويوسف هو الرجل الوحيد الذي سيطر على النيل حتى ذلك الحين.
تم النصر لذلك الذي بلغ الثلاثين من عمره؛ وذلك لأنه كان قادرا على استخراج درس من أحلامه وتفسيرها تفسيرا عمليا؛ وذلك لأن هذا الواقعي اهتدى بخياله وانتقل من أنغام الطنبور إلى ميدان العمل، وينم ذلك العمل الفذ في السياسة الاجتماعية على إنسانيته ونبله ومساواته فيهما لفرعون الذي وثق به واعتمد عليه. وهذا الغريب هو من كرم المحتد ما ينسى معه أنه بدأ عمله عند موظف في البلاط، ولا مراء في أن هذه هي المرة الأولى التي يخلع فرعون فيها ثيابا كتانية ناعمة على أسير لا يعرف مأتاه، ويضع بين عشية وضحاها قلادة من ذهب حول عنقه ويلبسه خاتمه ويسميه «مقيت الدولة» قبل أن يختبره، وبعد أن أصغى لخطة نشأت عن رؤيا!
إذن، لا عجب في انحناء فرعون أمام رجل للمرة الأولى. أجل، إن أبا يوسف - يعقوب - كان في السنة الثلاثين بعد المائة من عمره كما روي، وإن هذا السبب كان يكفي لاحترامه، غير أن يعقوب الأجنبي نهض في نهاية اجتماعه بفرعون وبارك له وفق العادة الأجنبية، ويحني مثال الرب في الأرض - ابن رع - رأسه أمام حفيد رئيس لقبيلة بعيدة وينال البركة من إله لا توجد حتى صورة له.
سيطر يوسف على النيل، واجتنب نتائج أهوائه، وعد موسى ابنا للنيل، وكاد موسى يقتل مع جميع الأولاد الذكور من العبريين الذين كثر عددهم في مصر، وجددت ابنة فرعون موسى في سفط
2
ويسمى موشه، وتجيء كلمة «مو» بمعنى الابن وكلمة «شه» بمعنى الحوض أو النيل.
ويبدو وجه النبي العبوس المقرن وراء وجه الأمير الفاتن اللطيف السعيد، ويظهر بعد ذلك الذي أبعد جوائح مصر هذا الذي جلبها إليها، ولم يك موسى محبوبا من زمنه ولا من الأعقاب، وكانت شخصيته أقل ظهورا؛ وذلك لأنه واسطة بين الرب والناس قبل كل شيء، ولأن رسالته الروائية هي من شدة الرمزية ما لا تصح معه على ذلك الوجه، وما كانت القصة التي تتوج كل أسطورة فتضمن صحتها الأولى لتدوم إلا من أجل ولادته، ويلوح أن القتل الذي اقترفه يذكر بأمر معروف، وكان العبري موسى - الذي قتل مصريا لإيذائه عبريا - رجلا عنيدا مستقلا مدافعا بغريزته عن شرف عرقه الذي مسه لئيم بسوء ، ويمتاز موسى من الأنبياء الذين بدوا بعده منفذين أذلاء لأوامر الرب.
ولا ريب في أن موسى لم يكن أمام الشعب الذي واجهه يوسف، وكان على موسى أن يعالج أمر أناس عسراء لم يتحولوا إلى أمة إلا بفضله، وكان الراعي المجهول - الذي خدم أجنبيا فبدا زعيما قوميا لجمع ناقص التكوين - يثير حوله من الخصومة أكثر مما أثار يوسف الذي حماه فرعون فعمل له، وهذا إلى أن موسى كان يخاطب شعبا مضطهدا فتزيده العبودية والحقد قوة.
ولم يكن العبريون أول من خدم المصريين في طرف الدلتا، فقد مر أناس من تروادة وبابل ليعبدوا هنالك، ومن المحتمل أن كان فرعون الذي أراد إبادة العبريين مع رفضه السماح لهم بالذهاب هو أمينوفيس الثاني، وفي سفر الملوك ما يجيز هذا الافتراض، وهو في جميع الأحوال فاسق ظالم تجد له مثيلا بين طغاة زماننا، ويرسل اليهود إلى معتقلات مركزية وينزع منهم التبن الضروري لصنع الآجر مع مطالبتهم بمقدار من الآجر كما في الماضي، ويكره فرعون على تركهم يرتحلون في نهاية الأمر، ويردد فرعون صدى الطاغية الذي يغدو عاجزا حين يقول: «وباركوني أيضا؟!»
ويدل عمل موسى في مصر على أنه ابن ظافر لأجداد أشداء، ولم يبق أثر فيه لتربيته في البلاط أو بإشراف البلاط، ولا للحضارة المصرية، ولا لصلته بالقبيلة التي تزوج امرأة أصيلة منها، ولم يطبعه اسمه - ابن النيل - وصباه بطابعهما قط، فهو ابن الصحراء المعتزل دوما المحاور ربه المنهوك عن انتظار للمفاخر الجديرة بقوة ذراعيه، وما كان في سنين كثيرة ليعرف شيئا عن قومه خلا ما تأتيه به القوافل من أخبار، ويملك نفسه، وتوحي حياة البادية إلى هذا المتهوس برغبة في إعادة أولئك القوم الذين لم يتصل بهم إلى بلاد أجدادهم.
طيبة والأقصر.
بيد أن هذا الرجل العبوس البسيط التفكير لم يتردد في اعتقاده مخادعة طاغية كفرعون يمعن في إبادة العبريين بالأعمال الشاقة وسوء المعاملة ويذبح أبناءهم ويحول دون رحيل هذا الشعب الذي يزعم حقده عليه والذي يريد الفرار، ويسخر من موسى وهارون ويدعي أن هؤلاء الغرباء تعلموا حرث الأرض وصاروا صناعا في بلاده، ويهدف إلى استئصالهم خوفا من محالفتهم أعداءه، والآن يمنعهم من الرحيل بعد أن حرمهم كل حق. والآن يقول عن حماقة ككل طاغية: «لقد كثر عدد هؤلاء القوم في البلاد في الوقت الحاضر، وأنتم تريدون قطع ما اتصل من سخرتهم.»
ولم يبال فرعون بإله العبريين، ولا بموسى الذي يقابل المكر بالمكر، وما كان من قتل موسى في شبابه مصريا عن حب للانتقام فيحفزه إلى ذبح أبناء المصريين الذين كانوا يقتلون أبناء قومه. ومن الراجح أن وجد اليهود ما يشجعهم على النضال في ذكرى جدهم يوسف الذي أنقذ المصريين من الجوع فيما مضى.
ومن المحتمل أن مروا من بين البحيرات الكبيرة المرة والبحر الأحمر، ومن المحتمل أن مروا من طريق غزة حتى سيناء على طول البحر، ثم من خلال بلاد المدينيين والمؤابيين حتى الأردن، ومن المحتمل أن جابوا البادية.
ويرى غوته أن من المستحيل أن يحمل رجل فعال حازم نشيط كموسى قوما كثيري العدد على التيه أربعين عاما بلا سبب وصولا إلى غاية رائعة يود بلوغها، حتى إن غوته هزأ بعالم فرنسي حاول أن يوضح ذلك الإبطاء جغرافيا، فقال: «إن هذا يعني رقص بولونية لقافلة.»
ويفترض غوته نفسه أن ساقة العبريين كانت مؤلفة من أناس قست قلوبهم بذبح الأبناء المولودين حديثا فكان المجال ملائما لأسلوبهم في القتال لا ريب. ومهما يكن الأمر فإن البحر الأحمر قد ابتلع عربات فرعون الحربية البالغة ستمائة.
الفصل العشرون
تغيب في الأفق رويدا رويدا أعمدة الكرنك التي هي شهود الفراعنة.
وما يحيط بالنيل في مجراه التحتاني من طيبة هو أقدم - أو أحدث - من الدولة الطيبية، ويرجع في جوار القاهرة إلى ما قبل الميلاد بأربعة آلاف سنة أو ثلاثة آلاف سنة، وتبلغ مصر أمم البحر المتوسط بعد طويل زمن، ويتجمع سلطانها بالقرب من الساحل وعند بدء الدلتا؛ أي في المكان الذي يدور الآن كل شيء فيه حول القطن وحول التجارة العالمية. ويبلغ النهر في سهل الأقصر ذروة مجده، ويؤسس النيل في المجرى التحتاني عاصمة أخرى للدنيا، ويقيم الإسكندرية التي لم تكن غير ذات مجد موقت كطيبة، وتسيطر جبال صحراء العرب على ال 400 كيلومتر من المجرى الفوقاني قبل القاهرة، وتتجه هذه الجبال نحو الغرب فتفرض على النيل قوسا يكاد يكون تاما فتعد قنا والواسطي طرفيه. وتتقدم هذه السلسة حتى النهر فيكون قسم الوادي العريض الخصيب على الضفة اليسرى كما في مصر العليا، ويعين ذلك وضع القنوات.
ولا يمر آخر مسير للنهر الشائب من غير حوادث، فالنهر يعاني ضغطين؛ فمن ناحية تفرض عليه جبال الشرق - وجبال الغرب أيضا - مقدارا من التلافيف والتعاريج والأضواج فيحمله ذلك على تكوين عدد من الجزر كما لو كانت آخر نداء لرجل يجر كرها، ومن ناحية أخرى تقيده يد الإنسان بما ينشئه من جداول وأسداد، ويظهر النيل كعملاق غضوب مكبل
1
فيقاوم ويشعر الإنسان بقوته.
وتمسك الأسداد - التي تعزز سد أسوان بين أسوان والقاهرة - من الغرين الكثير (نحو 58 في المائة) ما يجب معه جرف النيل دوما، وإن كانت الجزر تظهر وتزول بلا انقطاع، وكان يحاط بجزيرة جرجا من الشرق في بدء الأمر ثم من الغرب، والآن تبلغ هذه الجزيرة من الاتساع ما تبلغ معه من الضفة الشرقية مشيا على الأقدام.
ولا يمكن أن يصنع كما في أنهار أوروبة فيحول النيل بالقرب من الأسداد؛ ولذا يجب في بعض الأماكن أن يفرغ كثير من السفن الشراعية حجارة من مسافة خمسين كيلومترا أو مما هو أبعد من ذلك رفعا لمستوى النهر ما بين متر ومترين. وهكذا يدوم اصطراع الإنسان والنيل مع تفاوت، وذلك مع وجود ما يرضاه النهر من إكراهه الإنسان على الحذر في كل وقت، ويزيد السكان كثافة وتعظم الحركة مقدارا فمقدارا، ويرى النيل حين مروره ازدهار الحياة التي أوجبها، وتحسب الأسداد طرقا يلتقي المسافرون عليها.
وإليك رجلا طويلا نحيفا - من قبيل دوت كيشوت - مسلحا بقصبة سكر كبيرة، وتجاوزه سيارة فورد قديمة مشتملة على ستة من العرب اللابسين عمائم بيضا وجبابا متموجة بفعل الريح، ومن الوقار عند هؤلاء أن يلبسوا ثيابا كثيرة في أثناء السفر، وتتقدم - مع حمل ثقيل وهدف إلى النقل - أربعة جمال وحماران وجمع من الأولاد رجلا وزوجته، ويتجاذب هذه القافلة الصغيرة التي أرادت ذلك أو حملت على ذلك عاملا الخوف والرجاء، ويتعارض برقعا فتاتين لابستين جلبابين أسودين، ويجلب غلام بعيرا كبيرا إلى الحوض، ويصلي ثلاثة شباب تحت جميزة محركين أبدانهم ورافعين أيديهم إلى آذانهم، وترتم
2
خيل بجانبهم، وتبدو ظلال سمر بين زعفران الصحراء الأصفر والفيروز السماوي الأزرق. وتبصر بين حجارة الجبل الرملية الصفر رجلا طويلا أبيض الثياب ذاهبا إلى المقلع كما لو كان موسى حين نزوله من جبل حوريب.
وانظر إلى هذا الجمع المؤلف من رجال حاملين سلاسلا على أكتافهم فتبدو أشباحهم واضحة في الأفق مجعدة مع حياة منفصلة عن جدار أحد المعابد، ويرى هيكل عظمي لجمل على ضفة مرتفعة فإذا هو يتحول إلى هيكل قارب ترك حيث أنشئ فيرفعه الفيضان في الصيف القادم، فالنيل آت للبحث عن سفنه، والنيل قد أزال التراب عن أسفل شجرة أثل قديمة فبدت جذورها، والنيل إذا ما كانت كهوف الجبال قريبة منه ألقى الصيادون أشراكهم فيه. ومن النادر أن ترى في هذا النهر زورق تجذيف بلا شراع.
وفي وسط أحد الحقول تبصر ثلاث منازف ترفع الماء من سماط تحت الأرض، فتتكون بئر هنالك ما دامت الأرض أعمق من الأحواض مترا ونصف متر، ويقوم بهذا العمل في أربعين يوما ستة رجال قائم بعضهم فوق بعض، ومن كان من هؤلاء في الأسفل فأحسن مكانا في الصيف، ولكنه في هذا الزمن - في يناير - يعمل في الظلام والبرد فيغني دالا على حياته، ويمر قطيع من المعز ويعدو الغلام الذي يحرسه بما أوتي من قوة ليدركه، ويعبر النيل في زورق كبير فريق من الرجال والحيوانات فيسير في الوحل على الضفة غير المتماسكة وتلحقهم امرأة محجبة بالأسود على حمار ذي قوائم دقيقة، ويسلك هؤلاء سبيل السهل الضيق الخصيب وصولا إلى الصحراء، فالواحة هي هدف سفرهم لا ريب.
ويتموج قصب السكر على جزيرة طويلة فينزل عشرون جملا من الساقية نحو الضفة، ويرى على بعد بضعة أمتار أربع عربات كبيرة فوق سفن تجرها باخرة صغيرة. ويرى بضع عشرات من الفلاحين العراة يحطون الأثقال عن الجمال، ويرى فلاحون آخرون ينقلون قصب السكر إلى تلك السفن التي يمنع نقص الماء من ربطها بقلوس،
3
وتجر تلك الباخرة ذلك الأسطول الصغير إلى رصيف في المجرى التحتاني حيث تعاد العربات إلى خط حديدي وإلى مصنع سكر قريب، وقد انتفع بحجارة معبد خرب لبطليموس في إنشاء معبد إله السكر هذا.
ويهتز النهر قريبا من القاهرة، ويصلي الملاح مساء فيقعد منحرفا في قاربه الضيق، فهو يعرف أين تكون مكة على الرغم من جميع التعاريج، ويدير الجارية
4
جريان النهر قليلا ويغير الرجل مكانه من فوره ويظل متوجها إلى جهة نبيه، وترى في جزيرة بعيدة من الشاطئ بعض البعد امرأة وأولادا قعودا بجانب حمير ترتم، ويصطاد الزوج سمكا بصنارة سابحا في رؤياه، ولا يرى منزلهم، فيشعر بأنهم أبطال أسطورة محاطون بنور شفقي في سواء النيل، وتصل باخرة متمهلة وتقف فارغة تقريبا، ويرفع رجل دراعته
5
ويبلغ المركب ويغرز في الأرض مسمارا طوله متر، ويدخل رجال آخرون أوتادا إلى الأرض بمطارق طويلة من خشب كما في غابر الأزمان، ويمد نسيج حول السفينة، وينتظر المسافر الليلة في خليج.
وتؤلف تلال الشرق رصيفا ثلاثيا قريبا من الضفة، وتبصر في الأسفل قاعدة ذات درجتين متوازيتين تماما، ثم تبصر بقعة مركزية رملية حفرتها الريح، ثم تبصر هضبة صخرية وخطوطا عمودية هابطة نحو القاعدة التي يلوح أن أقدام أفيال نقشت آثارها فيها، وتلقي هضبة عالية موحدة في النفس أثرا فنيا صادرا عنها، فيظن أنها قطعة موسيقية لباخ.
6
وتدنو جبال العرب من النيل في منفلوط والقوصية، وتغدو المناظر الجيولوجية ذات وقع في النفس مقدارا فمقدارا، ويكون للطبقات الرسوبية الكلسية المتفتتة بفعل الماء والريح ما للسحب من تغير الأشكال، وتبدو هضبة صحراوية جديبة فوق الخضرة على ارتفاع مترين، وتبدو قاعدة سودها غرين النيل وقرضتها الريح، فكأنها وجه متكرش لشائب، وتبدو هنالك لهوب
7
كظهور الفيول وأعمدة معبد محطمة ، وتبدو في وسط ذلك كله قطعة أرض لا يكاد طولها يبلغ مائة خطوة وعرضها عشرين خطوة حيث يسقي فوله فلاح لابس جلبابا أزرق وممسك دلوا بيده فيصعد المنحدر وينزل منه متواضعا باحثا عن الماء، وعن الماء على الدوام.
الفصل الحادي والعشرون
في قنا، وبعد المجرى التحتاني من طيبة بقليل، وحيث آخر أضواج
1
النيل الكبرى، لا يبعد النيل غير مائة كيلومتر من البحر الأحمر، ويعتقد كثير من علماء الأرض أن النيل كان في البداءة يصب في البحر الأحمر بعد أن يجري من وهدة جبال العرب. ولو صح الأمر وحافظ النيل على هذا الاتجاه لكان غير ما هو عليه جميع التاريخ القديم الذي لم يك - إذ ذاك - تاريخا للبحر المتوسط. ولا ريب في وجود حصي مدحرجة في ذلك الانخفاض. وفي القرون القديمة كان يذهب من هنالك إلى البحر بحثا عن اللبان، وكان نحاتو تماثيل الفراعنة يجدون حجارتهم القاسية السود هنالك، وكان يحتل تلك البقعة كتائب مصرية، وكان يعبد فيها إله المسافرين في الصحراء مين، ولا تزال ترى فيها طريقا مؤديا إلى البحر الأحمر وإلى مكة.
واليوم يصنع هنالك ملايين الجرار ليرفع الماء بها، وإذا كان النيل إله ذلك البلد فإن هذه الجرار كهنته الذين يوزعون بين الناس روح هذا الإله. وكان الفراعنة يعرفون صلاح تلك الأرض للفخار فيدعونها قنا؛ أي الأرض السوداء، معارضين بذلك صفرة رمل الصحراء. ويرى بعضهم اشتقاق كلمة الكيمياء من تلك الكلمة، وللناس الذين يسيرون دولاب الفخار - أبا عن جد، ومنذ قرون - ضرب من القدرة السحرية، ولولاهم ما دارت الناعورة ولظل قسم من مصر جديبا.
ويعد نساء قنا العجين الزيتي تحت ظل النخل بدوسه مع قليل ماء وتبن مجزأ، غير أن العمل الإبداعي، غير أن صنع الفخار، يظل خاصا بالرجل، ويجلس الرجل في خلوة مصنوعة من آجر ومغطاة بموص
2
ومفتوحة من الأمام، ويديرها برجليه كما لو كان يجب ألا يعوق الدولاب شيء، ويضع قليلا من الطين على الدولاب المبلل، وينزع قليلا منه، ولكن لا بالمقدار نفسه، ومن بين ال 3000000 قلة - التي تصنع في كل عام فيستخرج بها الماء أو يصب للشرب - لا تجد واحدة مطابقة للأخرى مطابقة تامة، ويطفو الإبهام المبدع من عدم الانتظام عليها كما في جرار - وإناء - القبور ونقوشها البارزة. ومن الممكن جدا أن يكون الرجل الذي يصنعها اليوم من ذرية الرجل الذي كان يصنعها منذ ثلاثة آلاف سنة فيمثل أقدم أسر العالم على هذا الوجه، وهو لا يحاط بأطلال، وتسد خروق الجدر بكسر، وينثلم الإبريق الذي يشرب منه.
وتجفف تلك القلل تحت الشمس في أربعة أيام صيفا وفي ثمانية أيام شتاء، ثم تنقل إلى الوادي المجاور في سلال خفيفة، وتوضع في الأتون
3
مدة أربع وعشرين ساعة، وتكدس في زورق بالمئات بعد أن تحاط بموص مفتول فتلا فنيا، وتسير مع النيل وتهتز كما لو كانت على ظهر جمل مثقل بحمل، وينتفع بها قواديس للنواعير فيرفع بها الماء.
ويرجع استعمال المراخم
4
إلى ذلك القدم في سوهاج بعد قليل من مجرى النهر التحتاني، ويلوح أنه أتي بها إلى مصر من الصين مارة من العراق، ويعجب السياح بها في كل زمن، وهي خاصة - منذ القديم - ببضع قرى يذهب سكانها بانتظام إلى الدلتا ليعنوا بالأفران التي هي من هذا النوع، والتي تبلغ 25 مترا من الطول و8 أمتار من العرض، والتي تدفأ ساعة واحدة في الصباح والمساء، ويوضع فيها أربعة آلاف بيضة دفعة واحدة فينتج 98 في المائة منها فراخا في ثلاثة أسابيع، فتقسم مناصفة بين المكتري ومالك الرنقاء الذي يكرر العمل عينه عشر مرات في العام.
نقوش بارزة.
وفي سواء عالم الفلاحين - هؤلاء الذين يعيشون مع فراخهم وخزفهم كما في زمن الفراعنة - أنشئت ثلاثة أسداد في السنين الثلاثين الأخيرة على مسافة مائتي كيلومتر بإسنا ونجع حمادي وأسيوط، فتضمن الماء في جميع العام لثلاث مديرات من أجل إنتاج القطن، وليس لسد أسيوط، الذي يشتمل على 111 خوخة،
5
غير ما يعدل نصف طول سد أسوان وثلث ارتفاعه. وقد جلب الغرانيت الذي استعمل في بنائه من مسافة ثلاثمائة كيلومتر على مجرى النهر الفوقاني. وتسقي هذه الأسداد الأربعة في مركز وادي مصر، حيث يعد 21 كيلومترا مزروعا على عرض 25 كيلومترا، نبات القطن في أشد شهور السنة جفافا بين أبريل وسبتمبر، فتغني ذلك القطر بذلك، وتظل الأسداد مفاتيح حياة مصر ومستقبلها كما منح شنبوليون مفتاح ماضيها، ولو كانت هنالك زيادة في إنتاج القطن، أو لو أدى عمل القطن الصناعي إلى ترك زراعته.
ويشعر النهر بذلك، وتزبد أمواجه المقهورة وتقصف متكسرة على أبواب الكوى التي فتحت للملاحة على طرف كل سد. وإذا ما أدار الرجال في الليل الحلق العظيمة التي تحرك الأبواب الحديدية على مدارها أخذوا يغنون، وهم كلما زاد عملهم سرعة أسرعوا في الغناء. ومن المحتمل أن كان هذا إحياء للغناء الذي كان أجدادهم يحاولون به تسكين النيل، وهم - حين يقفون فوق السد الحجري وينتصبون كآلهة نحو السماء ذات الكواكب - يقتادون السفينة المربوطة بقلوس ذات كلاليب ثابتة في الجدار ويكونون من اليقظة ما يحولون به دون كل تحاك.
وتغلق الأبواب العليا بصرير كزئير الضاري، وتقاد بأيدي حفظة السد السمر الهادئة على حين تمسك أرجلهم المجردة بمرقاة الجدار الحديدية، وتملأ الغرفة بالماء في بضع دقائق، وتصر الأبواب السفلى، وتفتح وتمر السفينة، ويعود الصرير، ويحول الماء المزبد دون انغلاق البابين انغلاقا تاما آية على آخر مقاومة تصدر عن العنصر المغلوب، ويفتح وقاد الباخرة موقدها ويندلع اللهب من بطنها وينير الجدر الرمادية التي غادرها فغدت وراءه، وهكذا يتلهى كل من الماء والنار بجانب الآخر، ولكن بين يدي الإنسان، ويظل كل من صفيرهما ونورهما متوعدا، ولا يمكن أن يعتمد عليهما أبدا.
ويغدو النيل - بعيد آخر هذه الأسداد - من تقدم السن ما لا يقوم معه بمغامرات أخرى، وينقاد النيل بعيدها لهوى غريب، ويعود النيل بعد العطبرة غير ذي روافد، ويصنع النيل من نفسه نيلا آخر يبعد منه نحو اثني عشر كيلومترا ويرافقه أكثر من 250 كيلومترا، ويكون النيل عددا من الأضواج غير المفيدة التي لم تنشأ عن جبال أو عن علل أخرى فتسفر عن زيادة ثمانين كيلومترا في طوله. وهذا هو بحر يوسف الذي يظهر في ديروط فيعد ضربا من ظل النيل، وهو يسمى قناة يوسف أيضا، وتربطه القصة بيوسف، وإن كان مجراه المعوج يناقضها.
والآن لا يزال الفلاحون يقصون أسطورة البطرك يوسف، فيذكرون أن رجال البلاط سئموا منه كما يسأمون من كل وزير يحتفظ بالسلطان زمنا طويلا، فودوا أن يتخلصوا منه فأخذوا ينتقصونه أمام فرعون ويقولون له: «يا فرعون العظيم. لقد شاب يوسف كثيرا، وقل ذكاؤه وزال جماله وضعف رأيه.» غير أن فرعون - الذي لم ينس ما تم على يد يوسف من عمل معلم - أراد أن يريهم ما لا يزال عند يوسف من قدرة سحرية عظيمة فقال لهم: «والآن، أثبتوا لي ذلك، والآن اسألوه أن يقوم بعمل عظيم لا يقدر على إنجازه.» فقال خصوم يوسف: «مره أن يستنزف ماء النيل من الأراضي المستغدرة تحت البحيرة، وأن يجفف هذه الأرضي وأن يسقيها فيكون لك بذلك ولاية جديدة ودخل جديد.»
ويظهر فرعون إشارة القبول، ويدعو يوسف ويقول له: «يوسف! لي ابنة مفضلة أريد أن أحسن جهازها، ولكن ليس عندنا أراض، أفتقدر أن تحول البقعة المستغدرة هنالك إلى ولاية؟ هي حسنة الموقع، وهي غير بعيدة من عاصمتي، وهي في وسط الصحارى، وستكون ابنتي مستقلة فيها.»
وهنالك يسأل يوسف: «ومتى تريد ذلك يا فرعون العظيم؟ فسيكون ذلك بعون الله.»
وهنالك يجيب فرعون قائلا ككل صاحب سلطان: «بما يمكن من السرعة.»
وهنالك يأمر الله يوسف بأن ينشئ ثلاث قنوات، فتكون إحداها من مصر العليا، وتكون الثانية من الشرق، والثالثة من الغرب، فتستنزف الأرض بهذه القنوات، ويغرس يوسف فيها أشجارا وألفا من الأثل، ويدخل النيل في وقت الفيضان إحدى القنوات ويسقي البلد المجفف ويخرج من القناة الأخرى، ويتم كل شيء في سبعين يوما. ويقول فرعون لرجال بلاطه حينئذ: «هذا هو الذي عمله يوسف الشائب الضعيف الرأي، وهذا ما لا تقدرون على صنعه في ألف يوم!» وما فتئ ذلك البلد يسمى بلد ألف يوم أو الفيوم!
وقناة إبراهيم هي أطول قناة بمصر في الوقت الحاضر؟ وهي تمتد على شاطئ النيل الأيسر موازية للخط الحديدي بعد سد أسيوط؛ ولذا ترى بعد ديروط ثلاثة أنيال يروي اثنان منها واحة الفيوم، وليست هذه القنوات كاملة، صغيرة كانت أو كبيرة، ويستعد في كل وقت لإصلاحها وتجديدها وتوسيعها، ويعمل فيها داخلا وخارجا كما في الكنائس القوطية الزاخرة بصقالات
6
البناء دوما، ويعج ما يجف وما يصنع من هذه القنوات بالمئات من ناقلي التراب كما في زمن الفراعنة، ويتم كل عمل بيد الإنسان.
ويشير العريف إلى هذا الجمهور ويقول: «ستة ملايين متر مكعب.» ويتصرف كل ناقل تراب في ثلاثة أشخاص أحدث منه سنا، ويشتغل معهم اثنتي عشرة ساعة أو أربع عشرة ساعة من كل يوم، ويعد عمله أقسى من العمل في الساقية، ويتألف طعامه من الخبز الأسود والبصل والفجل فقط، ويختار عمال كل زمرة، في كل يومين، من يمسك السوط، وينقل كل حمال في اليوم الواحد 125 قفة مشتملة كل واحدة منها على اثنين وعشرين كيلوغراما؛ أي ما يعدل ثلاثة أمتار مكعبة ونصف متر مكعب في كل يوم؛ ومن ثم تساوي ستة الملايين من الأمتار المكعبة نحو 214285000 قفة تراب، وأجرة الرجل شلن إنكليزي واحد في كل يوم، ولا يحسب ما يسيل من العرق، ويعهد إلى عمال بالغي البراعة أمر المنحدرات والدرجات، ويزيد ما ينالونه من أجرة يومية نصف شلن على ما يناله أولئك، ويعرفون القياس والكتابة ويعلمون أين يجب أن تبنى المنحدرات مقدرين قرض الزوابع للضفة.
وإذا ما غدت تلك القنوات فارغة في الشتاء أكريت أقساما صغيرة كأنها حقول حب. ويرى الفلاح أن قليل انخفاض في الأرض يسفر عن كثير غرين، فيختار هذه القطعة ويحصد زرعها في شهر مايو.
ويشابه النيل المسن ثوريا هدأ عن مشيب فتساوره فورات تهور، فيزيح الجزر سنة بعد سنة، ويزيغ مجراه بقوة نحو الغرب في بعض الأماكن كما في منفلوط، غير أن الرجل أكثر مكرا منه، فسر النهر يكشف بلونه الذي يعرف به الفلاح أنه لا يستطيع المرور حيث مر في العام الماضي بمتر و25 سنتيمترا من دخول المركب في الماء.
وتعارض أعمال الدفاع على طول الضفاف سنن النهر نفسها لما يبنى من رصفات من حجارة حادة للهيمنة على الغرين وإنقاذ الأسداد. ومن الطبيعي أن يثير شكل الحجارة مناقشات بين المهندسين، فإذا أراد الإنكليز أن تكون مثلثة القاعدة وأن يكون طرفها متجها إلى الأسفل اكتسب الجدال حول المسألة صفة سياسية، وينتقم النهر لنفسه - وعلى أسلوبه - من كيد الإنسان هذا؛ فإذا ما قسمت جزيرة لتقنيته تجمع الغرين في وسط مجراه، وساخت الباخرة فيه، فوجب لتعويمها قضاء ساعات عمل مضن مقرون بدعوة الرب وصب اللعنات.
والعمل في الصحراء المجاورة أشد من ذلك وأقسى، ففي الصحراء تبصر صخر العصر الجليدي ممزوجا بالكلس فينسف هذا الحجر بالديناميت. وفي المساء يرى الفلاحون على نور النار - حين يجلسون القرفصاء قريبا منها - عيون بنات آوى والضباع اللامعة ويسمعون عواءها.
وقد أحدثت قناة يوسف أخصب الواحات وأقربها بين تلك التي تخط صحراء مصر على طول النيل، وتفصل الصحراء والجبل الفيوم عن النيل، ولم تترك تلال ليبية - التي تحد واديه من الغرب بجوار بني سويف - غير معبر ضيق صالح لمرور تلك القناة الطبيعية. ولولا ذلك المنفذ الذي يجاوزه القطار في بضع دقائق ما وجدت تلك المديرية التي هي أخصب مديريات مصر على ما يحتمل، ومن شأن طول هذه القناة وعدم الانحدار أن يمسكا الماء حتى بعد الفيضان.
وكانت بحيرة قارون، وهي بحيرة موريس فيما مضى، ضرورية في الفيوم
7
لتنظيم قناة يوسف، وكان يظن في القرون القديمة أنها مصنوعة حينما كان يحدث عن قناة وعن حوض، لا عن نهر وعن بحيرة، ويلوح أن الطبيعة والري أنقصا أبعاد هذه البحيرة التي كانت تتخذ منذ أيام استرابون، خزانا في زمن الفيضان، فترد ما يزيد من مائها إلى النيل في الفصل الجاف، وكانت الطبيعة تساعد بكوى يعلو بها الماء، وكان ذلك العالم الجغرافي الإغريقي يسمى هذه الظاهرة «ترويض الطبيعة»، وطمرت آثار حضارة ترجع في القدم إلى ثمانية آلاف سنة في هذه البحيرة، وما وجد من سكاكين وحجارة مصقولة وبقايا أدوات مستعملة فينم على وجود أناس كانوا قبل الميلاد بستة آلاف سنة يعيشون من الصيد، ومن الزراعة أيضا، هنالك حيث لا تجد الآن غير صيادين.
ولا تجد في جميع وادي النيل مكانا أحسن من هذا المكان يتوقف فن الري فيه على حكمة الطبيعة وعلى أهوائها على ما يحتمل، وقد ضاقت تلك البحيرة في ألوف السنين على حين كانت القناة تتسع، وقد حول البطالمة تلك المناقع إلى حقول حب، وغيروا الزراعة في الدلتا من هذه الناحية، وبلغوا من تغييرهم إياها ما نستطيع أن نتتبع به جميع المراحل حتى أعمال الري العظيمة في أيامنا.
وتلك البحيرة مالحة غامرة غير مقراة ضاربة إلى خضرة فيتفلت الإوز البري فيها من الصائد، وما كانت عين الإنسان الجزوع لتقر إلا بمنظر ما على طرف الواحه الجنوبي من خضرة وخصب، والبحيرة هي دون مستوى البحر بأربعين مترا، ومما تؤدي إليه أنقاض المعابد والمدن الواقعة على شواطئها أن تزيدها كآبة، وإذا ما قرأنا أن الشاب إخناتون عاش هنا مع حاشية أمه لم يبلغ ذلك دائرة المعاينة ولم يعد ذلك حد الفكر.
وليست تلك الواحة الخصيبة، التي فتنت هيرودوتس، والتي رآها استرابون مستورة بشجر الزيتون والعنب، جميلة في غير جنوب البحيرة، وتبدو الفيوم ضربا من المراعي الخصيبة التي يحلم بها الفلاح بما فيها من مئات الجداول الصادرة عن القناة نفسها وبما هي مكسوة به من البر والأرز والزيتون والخضر، ولكنها عادت غير ملك للفلاح ككل بقعة بالغة الغنى بمصر.
الفصل الثاني والعشرون
يدنو النيل من أكبر مدينة في مجراه وقارته متئدا هادئا، ويصل النيل إلى حيث يفقد وحدته، إلى حيث يقسم إلى عدد من الشعب حين يحيط بجزر عظيمة وتحف به بقعة واسعة مخضرة من ناحية الغرب وتمسكه جبال من ناحية الشرق، ولكن النيل يبصر على القسم الشمالي من عرض الفيوم، يبصر عن الشمال، بناء غريبا من الحجر، يبصر هرم ميدوم، ثم سلسلة أهرام أخرى في الكيلومترات الثمانين التي تسبق القاهرة، ولا ترى أقل من ست مجموعات من الأهرام في مكان منفيس، وهي تبرز في وضح الجو وأمام التلال الغربية العالية مقدارا فمقدارا. ويقع آخر الأهرام على عرض القاهرة تقريبا، ويجانبها
1
النيل قبل أن يصل إلى مآذن العاصمة وقبابها وقصورها، وأهرام الجيزة الثلاثة هي أقدم مباني البشر الحجرية، أو أقدم ما ظل قائما من هذه المباني.
ولا تدهشنا روعة هذه الآثار بمقدار ما اقتضاه النيل والإقليم من الصفات الأساسية كروح الناس الواضحة الحاسبة وميلهم الجامح إلى قهر الموت بما لم يسمع به من العدد المؤدية إلى برودة الخطوط المحترقة بالشمس وتوترها فسخرت الرياضيات لأهداف مضحكة وسخر الوضوح العجيب لغايات غير مجدية، وما كان من الاختراعات العظيمة للظفر بعنصر بلدهم الأساسي؛ أي رفع الماء وتوزيعه؛ أي جميع ما أدركوه وعرفوه قبل غيرهم، أدى إلى هذه النتيجة الطائشة، إلى أن هذه الأماكن لم تقم تمجيدا لإله أو تبجيلا لسلطان ملك أو بلوغا لمسرة عاهل أو تمتعا بمعاشق سرية، وإنما نصبت هذه الجدر التي تناطح السماء نتيجة خنزوانة ملك ممسوس أو نتيجة خوف عاهل مفتون.
وتبدو مجموعتها الرمادية فوق صحراء صفراء مع ظلال واضحة تمتد بعد الظهر، وتزيد الوجوه المائلة تلك الأشكال الهندسية توترا، وعلى ما هو واقع من تأثر الجميع بتلك الآثار البالغة البساطة لا يستطيع الإنسان أن يمنع نفسه من إنعام النظر في عدم فائدتها. وقد يكون للعقم روعته، والعقم هنا منطقي فقط، وقضى فقدان كل تصور فني على الخيال تحت هذا النور الشديد، ولم يبق غير المفاجأة التي تسفر عنها تلك الخطوط المستقيمة بين تموج تلال الصحراء.
ولا نعرف عن الملوك الثلاثة - الذين بنوا تلك المباني المعدودة أعظم المزارات - عملا أو فكرا أو رأيا غير ما يهدف إلى حمل شعب على نقل حجارة في مائة سنة لستر نواويسهم بأبنية مضاعفة لم يبلغ لها ارتفاع ولا ثقل، وكل ما نعلمه عن خوفو هو أن الغم كان يستحوذ عليه دوما فيأتي من منفيس بساحر ليسليه بقصص وأحاديث، فيعرض هذا الساحر عليه أن يلزق رأسا مقطوعا ببدنه الذي فصل عنه.
فرعون (صائحا) :
إيتوني بمحكوم عليه!
الساحر :
كلا، لا رجل، بل حيوان من زرابك،
2 (ويذبح إوزة ويقطع رأسها ويعيده إلى حيث كان، وينطلق هذا الطير خافق الجناحين) .
وتطابق أسطورة ابنته خزعبلات تلك الحياة، فهو يكرهها على البغاء وعلى مطالبة كل واحد من عشاقها بحجر لقبر أبيها، وكان هذا القبر يتطلب مليونين ونصف مليون من الأمتار المكعبة. فلو افترضنا أن تلك البنت كانت لها قوة الحديد، وأنها اتخذت ذلك العمل حرفة لها مدة مائة سنة ما استطاعت بذلك أن تساعد على أكثر من حجارة ذروة الهرم.
وعن لخفرع الذي شاد الهرم الثاني فكر، فهو لما كان أمام تمثاله، أمام ذلك الوجه العريض البسيط (إذا كان الرجل العاري الذي يحمل اسمه يمثله حقا)، لم يلاحظ في بدء الأمر أن هوروس - الصقر - يستتر وراءه، وأن جناحيه المبسوطين يحفظان رأسه وعنقه، وكان منكرع ثالث الثلاثة، ورئي أنه أحسن من سلفيه فعد ملكا صالحا، وقد اكتفى بهرم أقل ارتفاعا من ذلك بمقدار النصف، وقد بدا عاشقا لابنته بدلا من أن يبيعها فشنقت نفسها غما، وقد دفنها أبوها في عجل من ذهب، فكان هذا العجل موجودا في زمن هيرودوتس، وقد أوصت قبيل موتها بأن ترى الشمس مرة واحدة في كل سنة فصار يسار بالعجل مرة في كل عام.
وتطبق تلك الأساطير البربرية على أناس كان همهم مصروفا إلى بناء ضرائحهم، ولم يرتفع غير صوت بشري واحد بين تلك الأقاصيص الكريهة، غير صوت فتاة تريد أن ترى شمس مصر دقيقة واحدة.
وما بقي لا يفوق طاقة البشر، بل ينافي الإنسانية، ويطابق أقدم الروايات ما حقق في الوقت الحاضر، فقد وجب مرور أكثر من مائة سنة على أولئك الفراعنة الثلاثة (على اثنين منهم على ما يحتمل) لبناء ضرائحهم، وهم قد حشدوا - إذن - ثلاثمائة ألف رجل أو أربعمائة ألف رجل في أشهر فيضان النيل الأربعة لجلب الحجارة من جبال العرب حتى النهر ونقلها من ضفة إلى أخرى ثم نقلها من طريق جديدة إلى الورشة
3
حيث تسوى وتصلح ثم توضع في محلها بآلات لا تخطر على قلب أحد. وهكذا كانت مصر بأسرها قيد العبودية فأغلقت المعابد مدة قرن، وإلى ذلك أضيفوا المعابد التي تقام والتماثيل التي تنصب حول ذلك للقضاء على العزلة التي تحيط في الوقت الحاضر بتلك الكتل الهائلة، ويقال إن خفرع وضع سبعة وعشرين تمثالا ضخما حول هرمه.
وماذا بقي من جميع ذلك؟
بقي اسم خوفو مقرونا بذلك البناء الذي ظل أعظم ما في العالم. أجل، نسي الاسمان الآخران في الوقت الحاضر، غير أن الجميع شنع عليهم في ألوف السنين من قبل الشعب الذي أكره على التضحية بأربعة أجيال منه في سبيل ذلك الهوى الحجري الملكي، وما فتئ الناس في زمن هيرودوتس يعدون هؤلاء الملوك من العفاريت والسحرة، وكان الناس يجتنبون النطق بأسمائهم اللعينة فيدعون المكان الذي وجدت الأهرام فيه بفيليتيس؛ أي باسم الراعي الذي كان يرعى قطاعه هنالك.
ومع ذلك عاد داخل الأهرام الذي أفرط في الدفاع عنه لا يشتمل على شيء، فقد فرغ النهابون - الذين هم أمهر من البنائين - النواويس وكسروها فلم يبق أي اسم، لم يبق غير ما وجد على قبة من سمة حمراء، غير لافتة تشير إلى عمل نحات. ومما بقي على جدار منذ زمن طويل كتابة قائلة إن العمال كانوا قد أكلوا ما قيمته ستة ملايين فرنك ذهبي من البصل والفجل والثوم.
ومن ثم ترى ثلاثة من الفراعنة قد طلبوا الخلود بأعظم ما في العالم من كتل حجرية، فبقي اسم راع وسمة عامل وحساب بصل، ومن ثم ترى الفلاح قد قهر سادته الفراعنة في نهاية الأمر.
ودهش جغرافيو القرون القديمة الثلاثة واستحوذ عليهم الوجد تجاه الأهرام كإحدى عجائب الدنيا، ويعدلهم حيرة أمام أوابد مهندسي مصر القدماء كل من يعرف حدود الفن القديم. ومما كان يعزى إليهم ما في الأعداد من السر المكنون، ولم ينقطع هذا العبث حينما أماط شنبوليون اللثام عن تمثال سايس.
4
بيد أن أحدا من أولئك المؤلفين الثلاثة لم يتكلم عن أبي الهول الرابض أمام الهرم الثاني، وهو إذ كان شبه مطمور في الرمل فإن من المحتمل أن يكون في زمن هيرودوتس واسترابون غير ظاهر تقريبا، وكان توتموزيس الرابع قد أبرزه قبل هيرودوتس بألف سنة. ومما يقص أن توتموزيس هذا كان في أثناء الصيد قد نام ذات يوم عند قدم أبي الهول فقال له أبو الهول : «سأجعلك من الفراعنة إذا ما أخرجتني من الرمل.»
وما كان أبو الهول ليبدو حافلا بالأسرار لدى المصريين ما دام قد نحت رمزا لخفرع، وكان لا بد من ظهور الأغارقة حتى يخيفهم أبو الهول، وقد أبدع - إذن - أثر فني لا يقاس بشيء في العالم في سهل الأهرام الثلاثة حيث كل شيء فكر وحساب؛ وذلك لأنه لا يزال قريبا من الطبيعة على ما يحتمل.
وكلما نظرنا إلى أبي الهول عند غروب الشمس غير هذا الملك الأسد منظره، ويبدو وجهه الصامت المشوه ناطقا ذا معنى، ولا نشعر بما توحي به التماثيل النصفية المبتورة من الشفقة عندما نراه، فما عليه وضعه من سناء فلا يجعلنا نرثي لطالعه الدنيوي.
وإذا رئي مواجهة - ومن غير نظر إلى تاجه الفرعوني - وجد رأس شاب طويل العنق، ضيق الجبين، بارز الأذنين، واسع الأنف مع تطامن كأنف الفلاح، ذي ثخن في شفته السفلى مع نسك عن قرض، ذوي وجه أصم مملوء صبرا، ولكن مع إيحاء محجرين عظيمين بين جفنين كبيرين مفتوحين بحنين إلى الوطن يعجز القلم عن وصفه، وعلى الرغم من جميع هذه القوة والهدوء. «فلقد فقت بعظمتك جميع أولئك الذين كانوا قبلك؛ وذلك لأن عظمتهم هبطت إليك، أنت الأقوى؛ لأنك جوهر غير منقسم، أنت تزهد في مظاهر السلطان والجمال؛ لأنك تخفي قوتك في جسم حيوان، أنت تتأصل ببدنك في الأرض التي ندوسها والتي نجلس عليها القرفصاء لسؤالك، أنت قوي القول فتصطك ركبنا بريح كلامك العظيم. أنت ذو صوت يدوي في الصحراء الواسعة مع سكوتك، أنت تبرز من الرمال التي جمعتها القرون في عزلة البرية. أنت تحيا حياة ذات أسرار بين الرمل والسماء وبالقرب من قبور ملوك مجهولين.
أنت رجل، ويؤيد ذلك غضن جبينك وقوة صدغيك وضمور خديك. أنت مصري ذو وجنتين بارزتين وفم كبير. أنت نشأت بين الرمل والصحراء وغرين النيل. أنت لست إلها؛ لأن نظرك الحيواني يرتفع إلى الشفق، نحو النجوم، من محجري عينيك. وبما أنك ترنو إلى البروج ببصرك فإننا نتبع ذلك، ولا نستطيع أن ندرك ذلك النظام الذي قد تحيط به في صموتك وراء حاجبيك فلا تطلعنا عليه.»
الجزء
الفم الذهبي
يحمل الأطلس بيوتا من الأرز على كتفيه العظيمتين، ويخفق على رأسه ألف علم شاهد على سلطانه، وهكذا يهدر سرورا ويحمل إخوته وأولاده وخزائنه في صدر الأب المنتظر.
غوته
أحد الفراعنة.
الفصل الأول
تمتد الظلال، ويقبل الليل، ويدنو النهر العظيم المهتز من آخر مجراه، غير أن العجائب التي أوجدتها الطبيعة هي نتيجة استعداد كثير وجهد كبير فلا تضحي الطبيعة بها مع عدم اكتراث كالذي تضحي معه بالملايين من الموجودات الأخرى، «ولها - كما قال غوته - مفضلوها الذين تعطيهم بسخاء، وهي تحمي ما هو عظيم»، وتنتفع الطبيعة بفسوق الإسكندر لنهك قواه، وكان لا بد من اثني عشر قاتلا لطعن قيصر بالخناجر، وكان لا بد لها من قبائل الشمال لهدم دولة الرومان، وكان لا بد من البراكين لإهلاك بساتين البرتقال في مسينة، وكان لا بد من جزيرة قفر لهد نابليون، وما كانت الطبيعة لتترك أدعى الأنهار إلى العجب لطالعه من دون أن يجد شكلا جديدا غير مرتقب، من دون أن يجد حلا جديرا به.
ويسير موج النيل من خط الاستواء إلى القاهرة في مائة وخمسين يوما، ويقطع أكثر من خمسة آلاف كيلومتر مجاوزا ما يزيد على ثلاثين درجة من العرض، وهل يصب في البحر كموج ألوف الأنهار التي تصل اليابسة بالمحيط؟ وتعيد الطبيعة إلى النيل قدرته على الإبداع مرة أخرى، وينقسم النيل قبل مصبه، ويستفيد قاهر النهر الإنسان من هوى الطبيعة هذا ويحدث أرضا جديدة زاخرة بالغلات، وإذا ما هبط أحد الموجودات منهوكا بدت للعنصر صولة عظيمة، فالنهر في الكيلومترات ال 150 الأخيرات من مجراه يكون أخصب أقسام العالم المعمور، ويعمم معنى كلمة الدلتا وتدل على كل مصب من ذلك النوع.
وبما أن سنن الطبيعة تفسر أسرار النيل ومغامراته الغريبة فإن العلماء بحثوا في أمر هذا المثلث الأرضي المائي المحير، وقالوا موكدين: إن الدلتا بلغت من السن 13860 سنة، وأثبتوا ذلك كما يأتي:
كان النيل المقسوم إلى فروع كثيرة يتوارى في الدور الابتدائي في مناقع كبيرة مستورة بغابة بكر يقيم بها جمع لا يحصيه عد من الطيور وذوات القوائم الأربع، وحفرت قنوات وأنشئت أسداد لتجفيف تلك المناقع وتحويلها إلى أراض خصيبة قبل الفراعنة بطويل زمن، ومن الحين الذي أعمل الإنسان ذكاءه وحذقه هنالك، والطبيعة تطيع، وتتحول تلك البقاع البائرة مقدارا فمقدارا، وتتغير صورة الدلتا الجانبية وتبسط في الأزمنة التاريخية في نهاية الأمر.
ويقال في بعض الأحيان: إن الدلتا هي أكبر جزر النيل، وكانت الشعبتان اللتان تحيطان بها - وهما كانوب وبيلوزه - أعرض من الشعبتين الحاضرتين: رشيد ودمياط، وقد عرف للنيل ثلاث شعب في بدء الأمر، وتكلم هيرودوتس عن خمس شعب له، ورأى استرابون وبليني وغيرهما سبع شعب له. وعد الإدريسي - الذي هو أكبر جغرافيي العرب - ست شعب له، ووضع الإدريسي رأس الدلتا شمال ما هو عليه في الوقت الحاضر، ولم يضعه في المكان الذي وضع فيه سابقا، وكان أرسطو يعتقد أن الشعبة الغربية هي الشعبة الطبيعية، وأن الشعب الأخرى كانت قنوات مصنوعة، ومن ينظر إلى الخرائط القديمة يبصر أن بعض القنوات غير مكانه خمس مرات، وما وقع من تبديل في القرون ال 15 الأخيرة فقد ضيق الدلتا، ولم يبق منها في الغرب غير اسم الشعبة السابعة الجميل، غير الاسم الرعائي الذي كانت تدعى به قبيلة من الرعاة نازلة مع قطاعها هنالك.
وكيف ينال ما فيه الكفاية من الماء في هذه الأراضي التي انتزعها الإنسان من المستنقع مع أن هذه التربة الغرينية لا ترتفع كتربة مصر العليا؟ نعلم من أقدم المقاييس - التي دل عليها قياس النيل بالروضة القريبة من القاهرة، ومن أحدث المقاييس - أن ارتفاع الدلتا المتوسط هو ثمانية عشر مترا، وهو ما يعبر عنه بكلمة «سجل 18 مترا». وبما أن نظام المياه بمصر حتى القاهرة لم يتغير في غضون القرون، وبما أن وادي النيل الطويل الضيق بلا دوافع كان ذا عرض واحد في كل مكان تقريبا، فإن ارتفاع الأرض ظل كما هو مع تعاقب الزمن.
والواقع هو أن فرق المستوى بين أسوان والقاهرة 72 مترا؛ أي ما يدل على أن الانحدار هو تسعة سنتيمترات في كل كيلومتر على مسافة 830 كيلومترا، ويكون الانحدار في الدلتا اثني عشر سنتيمترا، ويجب أن يكون الارتفاع في السنة الواحدة وفي القرن الواحد أدنى مما في أقسام مصر الأخرى إذن، والارتفاع واحد مع ذلك.
ومع ما عليه جريان شعب الدلتا من سرعة أعظم من سرعة النيل قبل أن يقسم نرى أن ارتفاع التربة ناشئ عن رواسب الغرين التي تتوقف على سرعة النهر وطوله، ويدلنا قياس النيل بالروضة على مقدار ذلك الارتفاع في غضون القرون، ويساعدنا قياس النيل هذا على اكتشاف حيل الطبيعة، فارجع البصر إلى ما سجله ذوو البصائر من الناس في ألف سنة من قياسات، ثم انظر إلى ما انتهى إليه أحدث طرق البحث تر التراب بالدلتا يرتفع مترا واحدا في كل 770 سنة. وبما أن مستوى الدلتا الحاضر ثمانية عشر مترا على ستة سطوح يتألف كل واحد منها من نحو ثلاثة أمتار، وبما أن كل سطح تم في 2310 سنوات، فإن تكوين الدلتا يكون قد تم في 13860 سنة على الأقل.
ولا نشعوذ بالأرقام، فتلك الحسابات تقوم على أقدم مباحث العرب، وترجع المباحث الأولى في مصر الدنيا إلى ما قبل الميلاد بخمسة آلاف سنة، ويمكن خيالنا أن يتمثل الدلتا أيام بناء الهرم الأعظم، ويدلنا على الأدوار القريبة ما في قبور الدولة القديمة من تصاوير جدارية، فبهذه التصاوير نبصر مراعي هادئة ورعاة يحتمون من المطر بحصر ما عادت الدلتا غير صحراء في ذلك الحين، وما دام البحر يفرض سنته وما دام الماء ينزل من السماء، وبهذه التصاوير الجدارية نرى الراعي ينام بجانب المناقع، ونرى كلبا حاد الأذنين يحرسه عند قدميه، ونرى الماشية تعبر الماء، ونرى رجالا عراة يرفعون ذرعانهم ضارعين إلى التمساح المتوعد.
ويروي سياح الأغارقة أن هؤلاء الرعاة تحولوا إلى لصوص يسكنون جزرا وشباه جزر منيعة تقريبا فيخرجون منها في قواربهم المنقورة في سوق الشجر. وكان هؤلاء رجالا جلادا
1
طوالا صغار الأرجل مسلحين برماح حادة فيركبون خيلا غير مسروجة ويسمون بالبياميين في الوثائق الهيروغليفية؛ أي الآسيويين والأجانب الذين يحتمل أنهم من بقايا الهكسوس. وقد حاول ملوك مصر - على غير جدوى - أن يذللوا هؤلاء الناس الذين حمتهم الطبيعة بتحصنهم خلف مناقعهم، والذين كانوا يخرجون مباغتين لانتهاب بضع مدن في زمن ماركوس أوريليوس كما في زمن الخلفاء الأولين، وكان وغيهم
2
يخيف جنود بونابارت.
والآن - وعلى بعد نصف ساعة من القاهرة بالطائرة - تتفلت هذه القبائل من كل رقابة في جزر مقصاة وفي الطرف الشرقي من الدلتا، وتركب هذه القبائل زوارق ذات شرع مثلثة الزوايا، وتشرب الماء بمثل منقار البجع وحوصلته، ويعد هؤلاء الآدميون في المرتبة دون البدويين الذين يقيسونهم بهم؛ وذلك لأنهم لا ينتفعون - كالبدويين - بطول ظلهم لمعرفة الساعة، وهم لا يعرفون غير الصباح والظهر والمساء تقسيما للوقت، وهم لا يزالون يملحون السمك كما كانوا يصنعون في زمن هيرودوتس.
الفصل الثاني
لا يعرف التاريخ من ألوف السنين الأربعة عشر التي نستطيع بها أن نتتبع تحول الدلتا غير ثلاثة آلاف، وليس لدينا سوى علم افتراضي عما حدث في عهد الدولة القديمة، ولو لم تكن الأهرام هنالك لكانت أعمال الحفر في منفيس القديمة أقل إثارة بمراحل حول ذلك الماضي مما تثيره أعمال الحفر عن الدولة الطيبية في مجرى النهر الفوقاني. أجل، إن الأسر المالكة التي ظهرت بعد ذلك أقامت بمنفيس مجددا حوالي ألف سنة قبل الميلاد، غير أن هذه الأسر لم تظل باقية إلا إلى سنة 300 قبل الميلاد.
وهلكت طيبة بعد أن ظلت عاصمة العالم نحو ألف عام، وذهبت طيبة ضحية تبديل السادة باستمرار، ويبدأ تماس الأمم، وتكثر صلات بعضها ببعض، ويصل الآسيويون من الشرق، ويصل الأفريقيون من الجنوب، ويأتي أحد الفريقين بالسلع ويأتي الفريق الآخر بعربات الحرب، وتتتابع أسر مالكة مصرية في سبعة قرون، ويتصل قتالها الأمراء المحليين على حين كانت أسلحة الأجانب الفاتحين الغريبي الأطوار من بيض وسود تلمع، وعلى حين كان هؤلاء يغتسلون في النيل أمام معابده اللامعة، وتختلط أنواع الثياب والعادات واللغات والديانات في تلك الواحة الضيقة، وتختلط بأكثر من ذلك في الدلتا الواسعة التي لم تعتم أن اشتركت في يقظة البحر المتوسط.
وكانت الأمم تسير على طول النيل في ستمائة سنة إلى أن وقع الغزو الفارسي. ومما يقف نظرنا أمام النقوش البارزة الفرعونية اختلاف أسماء هذه الأمم الأسطورية أو التورائية وأسلحتها وأزيائها الغريبة. ومن هذه الأمم نذكر الفلسطينيين ذوي الدروع النحاسية والسيوف الطويلة والتروس المدورة والخوذ المريشة، ونذكر الآكيين والسردينيين الذين أبصروا مينوتور في أقريطش، والسكال وغيرهم من القرصان الذين يتعذر النطق بأسمائهم، والذين يعدون نورمان القرون القديمة لما كان من نزولهم إلى الدلتا، ويجوب الملك سليمان الصحراء ليصالح فرعون الذي غزا أرض كنعان وليتزوج ابنته، وليسترد المدن التي أخذت منه كجهاز للعروس، ولم يسطع سليمان البالغ الحكمة والراغب في الملاذ أن يضمن السلطان لذريته، فقد سلب أحد ملوك ليبية الهمج خزائنه وخزائن ربه الذي لا تدركه الأبصار.
ويبدو الملك الزنجي بيانكي أقوى منه، ويمشي هذا الملك بخيله الرائعة آتيا من بلاد النوبة، ويمثل الإله أمون في نباتة ويود أن يبجل إلهه في وطنه طيبة، ويسخط فرعون من ذلك، ويحلم بالمستعمرات النوبية كأجداده قبل ألف سنة، ويحاصره الإثيوبي ويقتل من رجاله عددا كثيرا، ويذعر المصري من الطاعون ورائحة الجثث ويعلو السور ويقدم إلى الغالب حصانا جميلا كدليل على الصلح، وتمتد مصر إلى إثيوبية من جديد بمرأى من الزنجي الظافر، وتقلب الأوضاع بتبادل المستعمرة وأم الوكن مقاميهما، فالجنوب هو الذي يملك الشمال.
ثم يأتي الآشوريون من الشرق غزاة ويفتحون البلاد، ويفر الإثيوبي أمامهم، ويزحف الغالب حتى طيبة، ويخرب عاصمة العالم هذه سنة 661 قبل الميلاد. ولم يكن الغالب همجيا في المطالبة بما يهوى من الخيل، وكان الغالب عارفا بعض المعرفة بالأدوات الذهبية على الخصوص، فكان أول من علم فاتحي المستقبل كنابليون والإنكليز كيف يأخذون خمسة وخمسين تمثالا ومسلة فكانت سبيكتها الفضية والذهبية وحدها تعدل 2500 وزنة.
وفيما كانت تتنازع أمر مصر قارتان إذ ظهر للمرة الأخيرة سيد من الأمراء المحليين المتقاتلين، وكان بسامتيك قد نفي من سايس إلى شاطئ الدلتا عن وحي من الآلهة ، وينزل من البحر إلى هنالك قرصان مسلحون من اليونان والكاريين، ويغدون مرتزقة عنده، ويهزم الأمراء المصريون من قبل هؤلاء المحاربين الرعابين
1
المدرعين،
2
ويترك أولئك الأمراء تاج الفراعنة لبسامتيك، ولدينا تمثال لهذا، ومنه نعلم أنه كان متقبض الوجه أذلف
3
الأنف كبير الأذنين قبيح الفم، ويقطع مرتزقته أطيانا في الدلتا فاصلا بينها بشعب النيل لكيلا يتذابحوا، ويستخدمهم في حمايته من رعيته، وهكذا يفتح أبواب مصر للأغارقة الذين يمخرون فيما بين جزر الأرخبيل فيعد فتح بلده من قبل الهلاد.
4
ويخلد التاريخ أحد الفراعنة، نيخاو، لما كان يساوره من روح التمدين قبل المسيح بستمائة سنة. وقد حاول أن يحفر قناة السويس التي لم يتم أمرها إلا في زماننا.
بيد أنه لم يضف إلى العبقرية الإنشائية وإلى الذهب، وإلى عرق العبيد الذي روض الفراعنة نهر النيل بفضله، رغبة الخروج من الواحة وربط النيل بالبحر؛ أي ربط عنصر حياتهم بعنصر جيرانهم من الأمم البحرية. فالأدمغة والأيدي التي أقامت الأهرام والمسلات والمعابد والأحواض والترع تستطيع أن تحفر تلك القناة أيضا لو بدت لها رؤيا اتحاد الصحراء والبحر.
وكان لا بد من ظهور ذلك الملك بعد حين، وكان لا بد من ظهور نخاو الذي أبصر فاتحي الأجانب يغزون بلاد آبائه، والذي وسع نطاق الدفاع حتى سورية، لتدرك روح البحر وروح التجارة، ويبني أسطولا، ويبلغ من كثرة الدعاية له ما لبست سيدات البلاط معه دبابيس صدر على شكل سفن صغيرة، ويعثر على هذه الحلي بعد مرور 2500 سنة ويضع في الوقت نفسه مشروع قناة تكون من العرض ما يمكن سفينتين أن تلتقيا فيها.
وكانت القناة التي يمدها النيل بمائه تقطع بقعة خصيبة حتى أيامنا فتدع السفن الذاهبة من الشعبة الشرقية في الدلتا بالقرب من بوبستيس
5
تصل في أربعة أيام إلى المكان القائمة عليه الإسماعيلية في الوقت الحاضر. وكان على تلك القناة أن تنحرف بعد ذلك إلى الجنوب فتبلغ البحر الأحمر. أجل، لم يحفر البرزخ، غير أنه كان يمكن الدلتا أن تصل البحر المتوسط بالبحر الأحمر. وهكذا كان النيل في آخر مجراه واسطة صالحة بين مراكز حضارة ذلك الزمن، وهكذا كان الفينقيون والأغارقة يجلبون - رأسا - حرير الصين وحجارة الهند الكريمة إلى منفيس وإلى أقريطش، وهكذا لم يكن على صاحب السفينة أن ينقل من مركب إلى آخر رجاله وجماله.
حفر قناة.
ويحبط المشروع مرة أخرى مع ذلك، ووحي الآلهة - لا تراكم الرمال، ولا موت 120000 عبد قيل إنهم هلكوا في أثناء الإنشاء - هو الذي يقف مشروع فرعون. وكانت القناة قد تم نصفها عندما أنبأه الكهنة بأنه يقوم بذلك العمل في سبيل بربري، وتحول عوامل سياسية خالصة ينطق بها الكهنة على لسان الآلهة دون إكمال ذلك العمل، وذلك كما وقع في الوقت الحاضر في أمر النفق الذي يصل بين كاليه ودوفر فوقف عن تخوف كل من الجارين الخفي من أن يستخدم لمقاصد الآخر البربرية.
ويمضي قرن فيظهر البربري، فيفتح دارا الفارسي مصر، ويداوم على عمل القناة ويكملها على ما يحتمل ويمكن الكتابة التي رسمت بخمس لغات على عمود كسير تمجيدا لآثاره أن تفسر على وجوه مختلفة. وعند ديودورس أن دارا كان يفكر في حفر البرزخ أيضا، وأنه لم يقلع عن هذا المشروع إلا خوفا من إغراق مصر الواقعة على طبقة مائلة إلى الأسفل كما كان يعتقد ومن تحويلها إلى مستنقع.
ومما رئي في قرني الفاتحين من الأجانب أو قرونشهم الثلاثة وجود فوائد حربية وتجارية في قناة للسويس، وهم لم يقعدهم عن عمل ذلك غير خوفهم من أن ينتفع به بربري من الضفة الأخرى كمزاحم وفاتح. غير أن كل واحد منهم كان يود أن تساعد القناة على إعلاء جاهه فكانت تسمى «نهر بطليموس، ونهر تراجان، ونهر أمير المؤمنين»، وما كان من هذا التنافس أدى إلى تغيير اتجاهها على ما يحتمل. ويزعم حاج إيرلندي في القرن الثامن أنه سافر على سفينة من النيل إلى خليج السويس من غير أن ينتقل من مركب إلى آخر.
ومهما يكن الأمر فإن السياسة العليا حالت ذات مرة دون تقارب الجارين الطبيعي، فقد أدت فتنة اشتعلت في مكة إلى أمر الخليفة بسد القناة تجويعا للقتلة، ثم يتصدى الدين للأمر، فقد امتنع هارون الرشيد عن إعادة القناة خشية اتخاذها ممرا لقرصان من النصارى يختطفون حجاج المسلمين في البحر الأحمر.
واليوم؛ أي بعد أحد عشر قرنا من ظهور ذلك الخليفة الذي ترانا مدينين للياليه بأروع القصص، لا تزال تلك السياسة عمياء، فهي تهدف إلى سد قناة السويس بعد إكمالها بسبعين عاما، وذلك منعا للدول الاستعمارية من أن يهدد بعضها بعضا، فكأن القلب يتوعد الرأس بقطع الشريان.
الفصل الثالث
نرى بين الفراعنة الأخيرين الذين ملكوا الدلتا واحدا جديرا بالذكر، وكان أمازيس من أصل وضيع، ولم يكن ليخشى أن يذكر حتى في كتابات المعابد أنه كاتب خزينة سابق، وأن يصرح فيها لرعاياه بأنه لم يملك إلا إلى وقت الظهر؛ وذلك لأنه يجب حل القوس بعد أن تستعمل، ويعزل القضاة الذين برءوه في فتائه؛ وذلك لأنهم صدقوا صرخاته ببراءته مثبتا جهلهم، ويكافئ من حكموا عليه في شبابه، وذلك لما أبدوه من فطنة، ويأمر بصهر طست من ذهب كان يغسل فيه رجليه وبأن يصنع منه تمثال للرب، ويبجل الندماء هذا التمثال ويخبرهم أمازيس بأنه صنعه من الطست الذي كان يبصق فيه.
وينتقل أمر مصر إلى الفرس في عهد خلفه الضعيف، ويصل سادة العالم الجدد هؤلاء إلى ضفاف النيل لابسين معاطف واسعة مزخرفة ذات حواش من فراء وقلانس دقيقة طويلة ذات أطراف عريضة وأحذية مذربة وسيوفا طويلة، ويدثر ملكاهم، قمبيز ودارا، بمعاطف قصيرة كمعاطف جنود الهيكل ويضعون على رءوسهم عمائم بيضا كعمائم المماليك، وتتبعهم نبالة حاملون جعابا
1
على ظهورهم، ويتبعهم آخرون حاملون رماحا طويلة، ويبدو جميعهم من الألاحي،
2
وتزيدهم شعورهم الطويلة مهابة ويبقون في وادي النيل مائتي عام، يبقون إلى حين وصول الإسكندر.
ومع ذلك ثار المصريون عليهم عدة مرات. ومما كان يحدث أحيانا أن ينزع أمير محلي منهم فتاتا من السلطة، وكان آخر أولئك الأمراء يخرج من المناقع الواقعة في شمال الدلتا الشرقي، من تلك البقعة المنيعة الخاصة بالرعاة والصائدين، من تلك الجزر العائمة التي لا يجدها أحد، من تلك الغياض ذات الأعشاب العالية والآجام ذات الأشجار الكبيرة، من تلك المخابئ والجداول التي يلجأ إليها الفرار منذ أنجب إيزيس الطريد بابنه، وهنالك رؤساء عصابة من ذوي البأس كانوا يحالفون مرتزقة من الأغارقة، ومن أغارقة إسبارطة، الذي يخدمون من يدفع إليهم رواتب، والذين يتسربون في مصر من القرن الرابع قبل الميلاد مقدارا فمقدارا.
وتصحو حيوية الفراعنة في مؤسس آخر أسرهم الثلاثين، ويقيم هذا الباني معابد بالكرنك وبلاق وحصونا في الدلتا ويستدرج أسطول فرنباز الكبير ويطبق عليه في شعبة النيل التي كانت لا مخرج لها، ويتقدم الفرس إلى منفيس مع ذلك، بيد أن عدوا غير منتظر يقفهم، بيد أن فيضانا عنيفا يردهم إلى الدلتا فيعودون إلى البحر في نهاية الأمر، وهكذا ينقذ النيل مصر مرة أخرى.
وتمضي عشرون سنة، ويصل الفرس إلى الدلتا مجددا بجيش عظيم ويكتب لهم النصر، ويفر آخر فراعنة مصر ويركب النيل ويتوجه نحو مجراه الأعلى مع خزائنه ويلجأ إلى إثيوبية، فكانت هذه خاتمة آخر الفراعنة. وهكذا تدفعه آسية البالغة القوة إلى سود الشلالات كما لو ودت أن تحمله على طي تاريخ النهر إلى الخلف.
وتنهار دولة الفرس بعد عشر سنين، ولم يبق في مصر من الفرس غير شجرة الدراق التي أتى بها قمبيز من إثيوبية كما يظهر، وتسقط تلك الدولة الآسيوية العظمى تحت ضربات قسم من أوروبة الحديثة سار حاملا مبدأ النصر.
وضمن للأغارقة فتح قسم من العالم المادي والعالم الروحي بذلك المبدأ الذي يعرف ب «كالون كاغاتون»، ويمكن أن يفسر ذلك للولد باجتماع الذكاء والجمال الموجب للخير. ومن المتعذر أن تجد من التباين بين أمتين كتباين الفلاح والإغريقي، ويظل كل من الفلاح والإغريقي غريبا عن الآخر، ويسلي مغنو الأغارقة الأثني الصغير بالسخر من المصري العابد للبقر بدلا من أكله والمؤله للسنور بدلا من سلخه. ولو تواجه فلاحو النيل وفلاحو الإغريق لتفاهما من فورهما، ولكن الجنود والتجار هم الذين يجيئون من ساموس وقبرس وأقريطش وأثينة، ويدخلون إلى البلاد شجر الزيتون والعنب كما يدخلون إليها عاداتهم وآلهتهم، ويؤسسون مدنا في الدلتا.
ويقيم رجال إجين معابد لجوبيتر، ويقيم رجال ساموس معابد لجونون، وذلك مع إنشائهم مرافئ حرة لكيلا يدفعوا مكوسا، ويتساءل المصريون حائرين عما يعن لأولئك الآدميين من فرض عاداتهم الأجنبية على شعب يوجد خلفه تاريخ أربعة آلاف سنة، وما كان أولئك الغرباء ليدركوا أن هؤلاء الفلاحين يعيشون مختلطين بأنعامهم على حين يقبض كهانهم على ناصية الحكمة العليا.
وتتعارض الأمتان: الديمقراطية والملكية، ولا يدرك شعب الجزيرة أمر شعب الواحة، ويشعر كل منهما بأنه ليس من البرابرة، والفارق بينهما هو أن يظل شأن المصريين الذين يستعملون جميع الوسائل الكيماوية حفظا للجثث خافيا على الأغارقة الذين يحرقون موتاهم، ويعارض الوضوح والظرف بتصوف تعوزه وسائل التعبير، وتعارض حرية الفكر والنشاط والشك بضغط التقاليد والثقل والإيمان، ويعارض الجمال والمرونة بجمود الجمهور، ويعارض بلد الجبال والينابيع والجداول بالصحراء، ويعارض البحر بالنهر.
الفصل الرابع
كان الإسكندر الأكبر في الرابعة والعشرين من سنيه عندما بلغ الدلتا، ولا ندري هل تتشابه صوره النصفية كثيرا، وإنما الذي نعرفه هو أنه لم يدار بها، غير أن لنا بتاريخ روحه ومجده صورة له، ولكل واحد منا أن يتمثل الإسكندر من خلال نقوده وصوره النصفية وتماثيله، وما كان جمال الرجل ليؤثر في حياته تأثيرا قاطعا، وما انتهى إلينا من أحاديث معاصريه فيؤكد أمر هذه الموهبة التي تميزه من جميع الفاتحين، ولم يحدث أن فاق نفوذه الشخصي ما عند إنسان آخر من نفوذ، ولم يكن المجد والجمال لديه من خصائص الغالب، وإنما سر ذلك في القوى التي تدفعه من فورها إلى فتح العالم، ما دامت الآلهة لم تنعم عليه بغير حياة قصيرة.
وهو قد حمل على ذلك بزعمه أنه سليل الآلهة، وأنه من عنصر أشيل، وأنه ابن لتتيس، وكان يحاط بالشعراء، ويحسد أشيل لما كان من تغني أوميرس به، فإذا ما جن
1
الليل وضع أوميرس بجانب سيفه في علبة فارسية مطوقة بالفضة كانت تشتمل على عطور.
وتراه مدينا برأسه الأسدي لشعره المفروق في ذروة هامته والمتدلي من الجانبين ولشدة حركة عينيه المذكورة في كل مكان والتي يشوبها شيء من الأنوثة فيعزى نظره إلى أفروديت، وله - بالعكس - فم شاب، وهذا الفم لحيم من غير أن يكون كبيرا، وما عليه شفتاه من إحساس مقلص فتخففه نظرة متحولة إلى اليمين وإلى السماء كثيرا ويخففه ميل العنق قليلا إلى الكتف الشمالية، وكان ذا جبين غير متساو مع نتوء ضئيل في الأسفل ككثير من المصارعين، وكان ذقنه يدل على العزم وعلى البعد من الفن وعلى البراعة في الرماية، لا في هز أوتار المزهر.
2
وتظهره جميع صوره بعد انتصاراته، حتى إن ليزيب
3
جعل له وضعا عصريا تام الجدة، وفسيفساء بونبشيي وتمثال هركولانوم وحدهما يبديانه في حومة القتال، فيبدو في أحدهما فاقد الخوذة طائر الشعر مدافعا عن نفسه فوق حصانه الشابي،
4
ويبدو في الآخر مهاجما العدو بيضي الوجه مفتح العينين، وكان قد خاض أقسى معاركه عندما وصل إلى مصر، وكان قد انتصر في إسوس واستولى على صور وغزة، وكاد يقتل في غزة. وغدت دولة الفرس غير موجودة، وصار ما بين البحر الأسود ومصب النيل قبضة هذا الشاب، ولم يكن للولاية الفارسة - مصر - غير أمل قليل في مقاومته.
دخل الإسكندر مصر هادئا، وتم دور مهم في حياته بعد الفتح بست سنوات، ومن المحتمل قليلا أن كان يساوره شعور بدنو أجله.
وجادت عليه الحياة بكل ما يرضيه، وكانت سعادته في دخوله ميدان الوغى بنفسه، وما فتئ يثق بصديقه وإن حذر منه، وكان يعتقد أن من الممكن أن يسالم عدوه وفق قانون المزراق الذي يرى أنه مدين به لجده أشيل، ولم يعمل بنصيحة أرسطو فيعامل البرابرة المغلوبين كما تعامل الحيوانات والنباتات، بل عزم على تقرير الأمر بنفسه مهتديا بقول معلمه: «لا تقاس العبقرية بشيء، وهي إله بين البشر، ومن المضحك أن تفرض قوانين عليها.» وينظم الإسكندر حياته بحسب هذا الكلام، ولا يكون لرغائبه - ولا لأعماله - حد، وتستقبله مصر إلها.
ومصر - إذ استغلها ملوك من الأجانب مدة ثلاثة قرون - اعتقدت - مرة أخرى - أن السيد الجديد هو خير السادة، ويلوح كل شيء أسطوريا في هذه المرة، ولم يحتج الإسكندر إلى غير ثمانية أيام حتى يصل من غزة إلى بيلوزة، ويسير وشعبة النيل الشرقية ويبلغ منفيس من غير أن يطلق نبال سهما، ويبرز للجمهور وارثا لآخر الفراعنة - لا فاتحا - ويقدم قرابين إلى الإله فتاح وإلى الثور المقدس، ويكرم الكهنة الذين استذلهم الفرس، ويأتي من بلاد اليونان بمئات المصارعين ليشتركوا في الألعاب التي ينظمها، فتحس مصر بذلك أنها آمنة تحت حمايته، وتضم مصر إلى أعظم دولة عرفها التاريخ حتى ذلك الحين فلا تعاني أثرا لمثل ما كان يقع من الحروب بين الفرس والأغارقة، ويستولي الأغارقة على جميع شواطئ البحر المتوسط، ويعود الاتصال بآسية إلى ما كان عليه مع ذلك، وما تركه الفاتح من حاميات قوية فيلقي في الروع أنها كتائب لجمعية أمم، ويخضع المرزبان
5
الفارسي في الحال، وتصبح سياسة برقلس القائلة «إن مصر هي لأثينة» سياسة السلم العالمية، ويقع ذلك سنة 332 قبل الميلاد.
ويذهب الإسكندر من شعبة النيل الغربية - من ناحية المثلث الأخرى - ليعزز في طريقه مدينة الأغارقة، ويبلغ البحر بجوار رشيد، ويدهش الناس حين وصوله إلى اللسان الذي يفصل البحر عن بحيرة مريوط. وماذا يصنع في الغرب حين تدعوه رسالته إلى الشرق؟ يتبين من فوره وجود مرفأ لا تكدره الرياح في ذلك الخليج المنعزل صالح لوصل مصر بالبحر فلا يملؤه غرين النيل، ويرى وجوب إقامة دولة مدنية هنالك، ويرى تشجيع رواد الأغارقة على ضمان ما يشرى من محاصيل مصر، ويرى إثارة خيال العالم بإنشاء مدينة مناسبة لمجد مجاهد سيد للعالم.
ويرسم الإسكندر خريطة هذه المدينة كما لو كان من أمريكيي هذا الزمن الحاضر، ويعين الإسكندر أماكن المباني العامة كما يعين مكان الطريقين الرئيسين المتلاقيين على زوايا مستقيمة للمرة الأولى دالا عليها بحروف الأبجدية. ومما وضعه أيضا رسم رصيف يربط البر بجزيرة فاروس حيث يشاد معبد يقدس فيه لإيزيس وزوس معا توحيدا للشعوب بأن يسمى فوق الأمم، وفيما تتكون أوروبة إذ يعجل بناء الإسكندرية تلك الحركة التي حملت الفراعنة من طيبة إلى منفيس فجعلت من مصر دولة من دول البحر المتوسط وجذبت النيل إلى منطقة النفوذ الإغريقي.
وتقول القصة: إن الإسكندر بسط الدقيق على مائدة كبيرة في العراء رسما لاتجاه الطرق وأماكن الميادين فانقضت جماعة من الطير على الدقيق وأكلته، وهنالك يصرخ عراف قائلا: «إن هذا دليل على غنى المدينة ورخائها»، ويتحقق ما أنبأ به.
وفيما يسير الإسكندر على هذا الوجه؛ إذ يبدو ألعوبة قوى خفية، ويترك الأشغال الأولى في مدينته الجديدة ويتوجه إلى الغرب مبتعدا عن هدفه مقدارا فمقدارا وصولا إلى أقصى طرف من طوافه نحو الغرب، ويسير اثني عشر يوما على طول الساحل مع حرس صغير، ويوغل في الصحراء، ويبلغ واحة حيث لا يجد ما يفتحه غير الكلام، وهو يذهب إلى الآلهة - إلى وحيها - بدلا من أن يدعوها، ولا ريب في مساورة كثير من الأفكار العميقة إياه في أثناء هذا السفر، في أثناء ركوبه سنام جمل، قاطعا الصحراء ليسأل إلها مجهولا. ولا غرو، فقد كانت أمه عرافة تجول بين الجبال حاملة دبوسا
6
بيدها فقصت عليه أنها رأت في المنام برقا ينفذ صدرها فولد بعد ذلك بزمن قليل، وما كان من تسريح فيليب هذه الأم ومن جميع الآلام التي هزت صباه فأقصاه من أبيه المقدوني الذي عده ديموستين
7
من البرابرة.
ولم يكن بعيدا ذلك الزمن الذي كان الشعراء الهجاءون في أثينة يسخرون فيه من طبائع المقدونيين وعاداتهم المستكرهة في بلاد اليونان. فصار الخوف يحملهم على السكوت، وكان الأغارقة قد نصبوا هيكلا لليزاندر
8
واقترحوا إقامة معبد لأجيزيلاس،
9
فيمكن - إذن - أن يؤله الإسكندر الذي لم يبجل تبجيلا إلهيا بعد مع أنه اتفق له من المفاخر ما لم يتفق لأولئك الناس.
ويذهب الإسكندر للبحث في أقدم البلدان عما ضن به عليه زوس
10
دودون
11
وأبولون
12
دلف،
13
يذهب إلى معبد حافل بالأسرار خفي في الصحراء، يذهب إلى إله أجنبي كان بندار
14
قد أشاد بذكر وحيه الألفي، ولم يرد الإسكندر أن يتوج في منفيس كفرعون وأن يهبط في أعين أولئك القوم الذين أخضعهم، وإنما كان يود أن يقلب الخيال بأن يباركه كهان أقدم أديان الدنيا، في حضرة شهود قليلين، في صحراء لم يدخلها إغريقي قط.
وكان هركول
15
قد سأل الآلهة قبل أن يقاتل أنته
16
وبرسه
17
وقبل أن يقتل الغول، وكان هؤلاء من أنصاف الآلهة، وقد جرؤ هركول على مقاتلة آلهة الخالدين وغير الخالدين من الآدميين، وكانت تلك الأفكار والحكم والقصص والدينيات والدنيويات، وكانت ذكريات الأب والأم، تزيد الإسكندر عدم صبر - لا ريب - في أثناء تلك الرحلة نحو واحة أمون.
ومما لا مراء فيه أن الإسكندر كان يعرف تعريف أرسطو للإله اليوناني حيث قال: «إنه الكائن المحرك من غير أن يتحرك، إنه الكائن القيوم.»
18
فيجد أن ذلك يطابق بعض صيغ كهان أمون حتى في التفصيل، وأن هؤلاء مستعدون لاستقباله وإن لم ينبئهم رسول بقدوم العاهل الجديد.
وأخيرا تبدو النخل في الأفق، ويروي المؤرخ الوصاف الذي جاء مع الإسكندر أن سكون ذلك المكان - المحاط بالنخيل والزيتون والينابيع المالحة والمياه المعدنية - استهوى الإسكندر، ويدخل الإسكندر في المعبد وحده قبل أن يخرج موكب الكهنة المقدس إلى لقائه، ويحييه الكاهن الأكبر ويسير به إلى قدس الأقداس، ويقول ذلك القاص: إنه خرج من هنالك بعد بضع دقائق طليق الوجه ويصرح بأن جواب الإله ملائم لرغبته، ثم يحضر الموكب، ويسار بالمركب المقدس في أثناء ذلك ويوزع الهدايا ويعود إلى منفيس رأسا.
ولا تجد واحدة من الأساطير التي نسجت في ذلك الحين حول ذلك المنظر، ولا واحدا من الأسئلة التي عزيت إليه، ولا سيادة العالم التي وعد بها، ولا الوجه الذي حياه به الكاهن الأكبر داعيا إياه ابنا للآلهة، يعدل ذلك الأثر الذي أوجبه هذان السطران لما تستشف الحقيقة به من خلال جفافهما الفاتر: زيارة قصيرة ووجه طليق وتصريح باسم من العاهل، وكل شيء على ما يرام، ويرى دنوه من الكاهن المذعور، ويعرب له عن رغائبه بأسئلة صغيرة، ويغادر المعبد بعد أن حمل على توكيد كونه ابن أمون ما دام فرعون مصر مضحيا في هذا السبيل بشهر من حياته القصيرة. ويسأله أصدقاؤه في السنوات القادمة عن وحي الآلهة ذلك فلم يقل شيئا ولم ينكر شيئا.
ويغادر ابن زوس أمون - الإسكندر - مصر على ألا يراها، وينظم الأمور في البلاد استعدادا لإدارتها من غير ملك لزمن طويل، فيسلم السلطة إلى ثلاثة قواد من الأغارقة ويسلم الشئون الداخلية إلى مصريين، ويتخذ من التدابير ما يضمن حماية الكهنة، ويبدو قرنا أمون بين خصل شعره في النقود الذهبية المشتملة على صورته، وهو، لو لم يكن الإسكندر الأكبر بسبب مآثره، لكان عندنا كما عند العرب الذين يسمونه الإسكندر ذا القرنين.
وما أخذه من مصر هو وحي الصحراء الذي أله به، ويقول قرنه
19
الوحيد نابليون في أواخر حياته: «زادت شهرة الإسكندر بتأسيسه الإسكندرية، وبتفكيره في جعلها مقر إمبراطورية أكثر مما بانتصاراته الباهرة، فكان يجب أن تكون تلك المدينة عاصمة الدنيا.»
الفصل الخامس
لم تلبث الإسكندرية أن أصبحت عاصمة عظيمة، وصارت في القرن الثالث قبل الميلاد - وبعد إنشائها بمائة عام - تشتمل على مليون من السكان، فأضحت - كطيبة فيما مضى - أكثر بلاد الدنيا أهلا، وهي لم تلبث - بفضل موقعها الذي هو أقوى من موقع طيبة - أن زادت وادي النيل أهمية بربطه بالبحر المتوسط، بربطه بمركز العالم القديم. والحق أن إنشاء تلك المدينة أهم حادث في تاريخ مصر، والحق أن العرب والإنكليز لم يستطيعوا أن يمنحوا مصر مرفأ آخر.
وتنعت الإسكندرية بأنها المصر الوحيد الذي لا يعرف أحد معنى البطالة فيه، ويقول الإمبراطور هادريان: «هنالك تجد رجلا يصنع زجاجا بالنفخ، وتجد رجلا آخر يعد أوراق البردي، وتجد رجلا ثالثا ينسج الكتان، ولكل صنعة فيها، أو يلوح أنه ذو صنعة فيها، وللعاجزين عمل، وللعميان شغل، ولا ترى مبتلى بداء المفاصل عاطلا، فالجميع يعبد إلها واحدا، يعبد المال.» وكان التجار يصرخون في الأسواق لفتا للأنظار إلى زيتهم وملحهم وخشبهم الأجنبي كما في الوقت الحاضر. وكانت السيدات في الحمامات العامة الباردة والحارة يعرضن فتونهن، فتنصب الموائد على الماء، ولما طرد جميع المصريين من الإسكندرية قضت الضرورة باستثناء وقادي الحمامات منهم، فكل شيء كان إغريقيا، وكل شيء كان استعماريا.
وكان المكان غير واسع، وكان المكان يبلغ من الطول ستة كيلومترات ومن العرض كيلومترا ونصف كيلومتر، فيشبه برداء قديم ذي حواش من ضحاضح تصب في بحيرة مريوط، ويوصل المرفأ البحري بالمرفأ الداخلي، وتقام مخازن للسلع على طول المرفأ التجاري من الجهة الشرقية، في مكان زال الآن كل أثر للتجارة فيه، ويوسع من الجهة نفسها القصر الملكي الذي لم يلبث أن أحيط بمكتبة ومتحف ومسرح وميدان وملعب ومحاكم ومستودعات للوثائق، وكانت تحفظ هنالك طوامير
1
البردي حيث تحمل رافعات الأثقال رزم القطن في الوقت الحاضر إلى السفن، ثم يوضع مصباح عظيم في برج بأقصى جزيرة فاروس فينشر نورا ساطعا منعكسا على مرآة مقعرة للمرة الأولى، ويرى ملاحو البلاد البعيدة أن اسم هذه الجزيرة التي اختارها الإسكندر مرداف لكلمة الحماية والسلامة.
ويصير بطليموس - الذي كان من قواد الإسكندر، وكان من أشراف مقدونية الأصاغر، وكان أكبر من مولاه سنا - ملكا لمصر، ويقع هذا عند موت الإسكندر وبعد إنشاء الإسكندرية بتسع سنين، ويختلف بطليموس عن الإسكندر بعض الاختلاف فيظهر أنه خلق ليكون حاميا للآداب والفنون أكثر من أن يكون ملكا، ومع ذلك كان من النشاط ما يحفظ به منصبه الملكي، ويدوم سلطان هذه الأسرة المالكة التي هي من الدرجة الثانية ثلاثمائة سنة، وتنطفئ أسرة الإسكندر معه، فالعبقرية ليست أمرا وراثيا.
وكان هم بطليموس الأول مصروفا إلى حيازة جثمان الإسكندر. وقد مات الإسكندر وغدا غير قادر على الدفاع عن نفسه، وينتقل من يد إلى يد، ويسرق في بدء الأمر طمعا في تابوته المصنوع من ذهب، ثم يحمله جحفل فيلي، ثم يجرد من تابوته الذهبي، ومن كان يحوزه - ومن كان يحوز إله تلك الإمبراطورية وتلك المدينة - يشعر بأنه موضع لعون روحه، غير أن آل بطليموس الذين حازوه قرونا لم يرثوا سوى طالعه.
أجل، كانت حسنة الطالع تلك الأسرة التي هي إغريقية بأفكارها وكلامها وحكومتها، والتي لم تكن مصرية ولا مقدونية، فقضت جميع الأوطار وتمتعت بضروب ترف الحياة وذاقت طعم الزهو واللذة والانتقام والحضارة من غير أن تسأل عن الوسائل التي تؤدي بها ما يقتضيه ذلك من النفقات، وكان لأولئك الملوك بلاط عرائس وأخدان وفلاسفة ومجرمين، وشاد أولئك الملوك أجمل معابد مصر وبدوا أكثر الناس قتلا لأسرهم، وكان حب الحياة يثير الجنون فيدفع أولئك إلى تأليه خليلاتهم وجعلهن إلهات، وكانوا يستخدمون نغلاءهم في حوك الدسائس حول وراثة العرش وحول المخالفات الخارجية، وما كانوا يزورونه من وصايا فيسوغ قبضهم على زمام السلطة.
ومما كان يحدث أن تقتل الملكة بعلها لتتزوج أخاه الأصغر، ومما كان يرى أن يتخذ الذهب الذي يجمع على عجل ضمانا ضد الفتن والحروب، ومما كان يشاهد - مع ذلك - تجمع نوابغ الزمن حول أولئك فيثيرون حسد أثينة في دور زوالها وحسد رومة في دور نهوضها. ومما يدهش له أن يفني أولئك الناس حياتهم ويسيئوا استعمالها إلى سن متقدمة نسبيا، وهم - لندور انتظارهم موت سلفهم موتا طبيعيا - كانوا يقبضون على زمام السلطة صبيانا وشبانا، وتجد غير واحد منهم دام سلطانه مدة تترجح بين الثلاثين والأربعين من السنين.
ومن المحتمل أن النساء في جميع تاريخ الغرب لم يكن لهن من السلطان الكبير مثل ما كان لهن هنالك، ولا تجد في غير ذلك المكان نساء لا حق لهن في الملك يصنفن كالملوك فيرثن ما للخليلات المشهورات من اسم، وكان يسفر طمعهن البالغ عن جمع جميع الأدوات الثمينة التي تنهب من البلاد البعيدة، وكان ولي الأمر العاشق لهن يضحك إذا ما وزعن بين الناس تماثيلهن الصغيرة ذات الوجوه المحمرة والقمصان القصيرة، ولكنه يروى أن الملك كان يحسد الفلاح الجالس تحت نافذته ليأكل خبزا وبصلا.
ومع ذلك ظهر من أولئك الملوك من كان لديه من الوقت والإقدام ما يسير به على غرار الإسكندر في الفتح؛ فقد بلغ بطليموس الثالث نهر الفرات وقهر السلوقيين مستعينا بقائد قدير، وظل أقوى ملوك عصره بضع سنين، وقد كان أول من ضرب نقودا تعلو رأسه الكبير الرخو فيها مذراة ذات ثلاث شعب رمزا إلى سلطانه على البحار، وقد وضع تاج الفراعنة المضاعف على رأس برنيكي الثانية الجميل المزرفن الشعر .
وقد كان هذا المغامر صديقا للعلماء في الوقت نفسه، وقد بهره ما كان من ملاحظة تلميذ لأقليدس
2
أطلعه بها على وجود شذوذ في التقويم المصري في آخر الآلاف الأربعة من السنين، وعلى ضرورة إضافة يوم لتلافي ذلك، وكان خلفه بطليموس الرابع تلميذا لإراتوستن
3
فلم يقتبس من العلم غير ما لذ وطاب، وكان عابدا لديونيزوس
4
فسار نحو مجرى النيل الفوقاني راكبا ذهبية رائعة مع خليلته ونديمه، وبهت إذ وجد في طيبة أمراء محليين معدودين ظلالا لقدماء الفراعنة يقومون بشئون الحكم مستقلين منذ سنوات قليلة، وتسبق زوجه وأخته اللتان قتلتا أخاه الذي مات غرقا في حمامه وأمه التي ماتت مسمومة.
وأخذ البطالمة يرسلون حبوبا من مصر إلى رومة حوالي ذلك الدور؛ أي بعد خراب قرطاجة، وبدأ البطالمة يقعون تحت نير رومة شيئا فشيئا، وذلك مع الإسراع في الانحطاط داخل البلاد.
وكانت نتيجة اصطراع رومة والإسكندرية أمرا مشكوكا فيه حتى قبل بدئه، وكانت معاطف البطالمة من الطول والجمال، وكانت وجوه البطالمة من اللحم
5
وأفواههم من العيب ومقابض سيوفهم من النفاسة ما لا يستطيعون معه أن يدافعوا عن أنفسهم تجاه سلاح من يطالبون مصر بجزية كأنها بلد تم لهم فتحه وضد رءوس هؤلاء القاسية وشفاههم الرقيقة.
ويذكر أواخر البطالمة في ذلك الحين وينتحلون اسم الإسكندر الأول واسم الإسكندر الثاني فيبدو الأول راقصا بارعا عارضا مواهبه على الجمهور، ويريد أن يسرق تابوت الإسكندر فيثور جنوده ضده في أثناء فراره، ويتزوج الآخر حماته ثم يقتلها، ويقتله الشعب الثائر في الملعب، وكان أعداؤهم الرومان يتمون فتح البحر المتوسط في ذلك الحين، وكانت أورشليم
6
وقبرس قبضتهم، وهرب الزمار بطليموس أوليت إلى رومة حينما طردته ابنته فوقف في رودس التي كان كاتون مديرا لها، ولم ينهض هذا حتى لقبوله، وإنما اقتصر على دعوته إلى الجلوس بجانبه.
الفصل السادس
ومهما يكن من أمر فإن الإسكندرية - لا رومة - هي التي كانت عاصمة العالم في القرون الثلاثة الأخيرة قبل الميلاد، وكان ذهب الملوك هو الذي يجذب إليها رجال العلم والأدب، ويبلغ سحر النساء غايته، وتثير شهرته حب الاطلاع في الإنسان، ويغدو الميناء خط وصل بين القارات الثلاث.
وكان لاختلاط العروق عمل واسع خصيب كما في كل مكان، وكان الملوك فراعنة لدى المصريين في أمور الدين على الخصوص، وكان الملوك الذين هذه هي حالهم ينتوون أن يبدوا إخوانا للأغارقة الذين يديرون شئون البلد.
والواقع أن كلا من الفريقين لم يكن مخدوعا، فكهان مصر يزدرون هؤلاء المتوجين الحديثي النعمة الذين لا ترى وراءهم حضارة أربعة آلاف سنة، والأغارقة يعدون الكهنة كالمقدونيين الذين هم من شباه البرابرة، وكان اليهود أغنياء أقوياء في الإسكندرية فيرون أنفسهم فوق الجميع كشعب مختار. وأما البطالمة فيجدون أنهم ورثة الإسكندر، وأن من الواجب أن يكونوا سادة العالم، ويوكدون أصلهم العادي بلبسهم أحذية طويلة وقلانس عريضة من لبد
1
مع التكلم بلهجة مقدونية، وقد رأوا تقليد عادات الإسكندر في أواخر حياته فأدخلوا طرق المرازبة إلى موائدهم.
حقا إن الولائم والأعياد كانت أهم ما يشغل بلاط الإسكندرية، وكان بعض الملوك يحتفلون بعيد ميلادهم في كل شهر فيجوبون الشوارع راكبين عربات مزينة بالعنب موزعين خمرا بين الجمهور، وإذا ما تصاعدت رائحة الجمهور إلى عربة الملك الفضية ارتمت أرسينويه الثانية الحسناء إلى الوراء متميزة من الغيظ،
2
وترى السفينة العظيمة راسية في الميناء محلا لإعجاب العالم بأجمه بالغة من الطول 150 مترا صالحة لركوب ثلاثة آلاف شخص.
ولما أنشأ بطليموس المكتبة جمع فيها مائة ألف طومار من البردي. ولما حرقت هذه المكتبة كانت أهم مكتبة في القرون القديمة، وبلغ البطالمة من الزهو بها ما رأوا معه أن يحولوا دون منافسة فرغامس
3
لها فحظروا إصدار ورق البردي، ويتفق لهم كما يتفق لكل من هو حديث عهد بالملك، وذلك أنهم كانوا يغرون بالذهب فيجتذبون الأدباء والعلماء من أكثر المدن ثقافة، فيلبي الرياضيون والجغرافيون والأطباء والخبراء الصحيون دعوتهم، ويبقى من هؤلاء كثير في الإسكندرية، ويتذوق أبيقور - الذي هو أكثرهم حكمة - ملاذ الحياة هنالك، فيكتب رسالته الأخيرة الخالدة.
وما ابتدعه بطليموس الثاني بتلك المكتبة فقد كان أمرا جديدا وحيدا في القرون القديمة، وقد كانت أول مؤسسة أقيمت على غير مأرب نفعي من وراء المباحث العلمية، فكان ينفق عليها بسخاء. أجل، كان لا يتمتع هنالك بحرية فكرية مطلقة كما في النظم الجمهورية الحاضرة، غير أن الأول والثاني من البطالمة كانا لا يحملان أحدا على تغيير عقائده بالذهب، وكان الأساتذة والطلبة يردون إلى هنالك من جميع البلدان.
وكان المصريون واليهود - قبل وصول الرومان - يقاومون مغريات الثقافة اليونانية بعناد، وإن سلكت الأكثرية سبيل الاندماج كما في كل مكان.
واثنان من أحياء الإسكندرية الخمسة كانا خاصين باليهود، وكان اليهود أقل من الأغارقة وجاهة، ولكنهم كانوا أحسن من المصريين مقاما، فينطوي هذا على جور مضاعف وعلى سبب مزدوج لاضطهاد يقع في المستقبل، وكان ذلك فاتحة هجرتهم، فاتحة ذلك المصير الذي يحملهم على ملاءمة أي شعب يعيشون بينه مع عدهم أجانب مع ذلك، وعلى تركهم قسما كبيرا أحيانا - صغيرا أحيانا - من تراث آبائهم، وعلى تأليفهم دولة روحية ضمن الدولة مع عطل من القوة المادية، ويبدون بين الأغارقة أغارقة باللغة والطبائع، ويتمتعون بجميع نعم الحياة، وينال أناس كثير منهم حق المدينة، ويديرون شئون أنفسهم بأنفسهم، ويقيمون زمنا طويلا من غير أن يؤذوا، ويصبحون من الإغريقية ما يريد أحد كبار كهانهم معه أن يجعل أورشليم إغريقية، وكان لدى كليوباترة قواد من اليهود.
وكان عدد قواد المصريين ومديريهم أقل من عدد قواد اليهود ومديريهم على الراجح. ويلوح أن الأغارقة عدوا مصر القديمة ضريحا لمجموعة عظام من الحيوان والإنسان ينعم السائح نظره فيه صامتا من غير أن يبالي بالحرس. وهم - إذ يفرضون لغتهم ويبدون سادة البلاد - يوافقون على أن أفلاطون كان تلميذا لكهنة المصريين، ولكن مع حظرهم تزاوج العرقين. وكانوا يتكلمون عن زوس أمون، وكانوا في الفيوم يقدمون قرابين إلى نميزيس
4
وإيزيس معا، وكانوا يعنون في الإسكندرية بثور مقدس مع عدهم ذلك أمرا مضحكا، وكانوا يتركون للكهنة دخل عرض هذا الثور على الجمهور، وكانوا يؤدون عند موته نفقة تكفينه الغالية، ولكن مع إلزام كهنة المصريين بتعلم اليونانية على نفقتهم، ويرفع مستوى الديانة المصرية الروحي بتأثير الديانة الإغريقية، وتظل مسألة الحياة بعد الموت - التي هي أصعب ما في الديانة المصرية - أثرا غامضا مع ذلك الاختلاط.
وقاوم الشعب المصري الهادئ جميع العروق وجميع اللغات التي غزت الدلتا، وتتابع السادة الجدد مع عادات ولهجات مختلفة، فكان حفدة الفرس والآشوريين يقيمون بالنيل الأعلى، وكان السوريون يوغلون في الفيوم، وكان اليهود يوغلون في الدلتا، وكان التراكيون والسليزيون والليبيون والغلاطيون يتجمعون في هذه البقعة التي هي أخصب ما في الأرض. غير أن الأغارقة هم الذين كانوا يصدرون حبوبهم إلى الشاطئ الآخر من البحر المتوسط، فإذا ما عادت مراكبهم كانت مشحونة بطائفة من الأدوات التافهة التي يذكر الإسكندري بها بلاد أجداده، والتي تفرض على الفلاح المستطلع كأنها عجائب آتية من بلاد بعيدة، ويغني ملاحو الإغريق ما يأتي في ذلك الميناء الكبير الذي يلتقي فيه البحر والنيل:
أيها الملاحون الذين يمرون على الأمواج المالحة، أيها الملاحون الذين يقتحمون الأخطار بين الأمواج المزبدة، انظروا إلى هؤلاء النواتي الذين يوحلون في النيل، أعندهم لآلئ؟ هم يدخلونه هادئين، وأما أنا فأعيش كالكلب!
وكان للفلاح الخالد أن يمقت الإغريقي الذي يغتني من غير كد، والذي لم يكن عليه إلا أن يستأجر مركبا وأن يذهب إلى الجزر، وأن يقوم ببعض الأشرية، وأن يشحن المركب بها، وأن يبيع سلعه من سيدات غنيات بعشرة أضعاف ما تساويه من ثمن.
أجل، يجيد الحائك المصري العمل. أجل، يقوم الحائك المصري بعمله متأنيا فلا يستطيع أن ينجز ما تقضى به جميع تلك الحاجات، غير أن الصائغ وصانع الشماعد
5
والآنية يتخذان الآن نماذج إغريقية لتزيين موائد البلاط وموائد الأغنياء، وتدوي الدواليب والمصانع في جميع المدينة، وتؤلف نقابات لوجود ألوف من العمال بجانب العبيد، وتواجه جمعيات رأسمالية تقول برفع الأسعار وخفض الأجور، وتقع إضرابات وتشتعل فتن.
بيد أن أساس جميع تلك الحركة التجارية وجميع الحياة في الدلتا هو الحب الذي يبذره الفلاح ويحصده على طول النيل كما كان عليه الأمر منذ أربعة آلاف سنة. والفلاح لكي يشري منه ذلك، والفلاح لكي يستطيع العيش مع أسرته، يجب عليه أن يدفع ضريبة عن كل ساقية وعن كل شبر من الأرض. وإذا ما أنشأ ولي الأمر أسدادا وقنوات مقابلة وجب إتقان ذلك، ويبدو البطالمة أبرع من الفراعنة في أمور المال فيحتكرون الزيت والخمر ويفرضون رسوما على كل من يريد أن يعيش، فتؤخذ ضريبة عن الجعة وعن الممثلين والأخدان، وعن السطح الذي ينام عليه في ليالي الصيف بعد عمل مضن في النهار. فالحق أن البطالمة هم الذين اخترعوا ضريبة الهواء الذي يتنفس به.
الفصل السابع
من الراجح أن كليوباترة أصغر سنا من جميع النساء المشهورات، ولكنك لا تجد من تمتع بالحياة مثلها بينهن حتى موتها في التاسعة والثلاثين من سنها؛ فهي قد قبضت على زمام الملك عشرين عاما ودام دور غرامها ثمانية وعشرين عاما على الأقل، وكانت الفتن تهز بلادها وفؤادها في أثناء تلك المدة، ولكنها لم تغلب قط، ويحتمل أنه لم يصبها خزي غير مرة فقط، وما نالته من نصر هو من الانتصارات النسوية، ولم يحدث أن بدت على أعمالها الجريئة وأفعالها الجارمة سمة الرجولة، وعنها قال هوراس: «إنها امرأة متغطرسة.»
وهذا الحكم ناقص؛ وذلك لأنها قضت حياتها بدهاء أكثر مما اتفق لأية ملكة أخرى، وما كانت لتخشى أن تكون ذات ولد في أثناء ثمل حياة حفت بالمخاطر، وكانت تذعن لاندفاعات غريزتها مع أنها لم تكن أكثر قسوة من أسلافها. ومع أنها كانت تظهر مروءة تجاه ما خف من الشتائم، ومع أنها كانت تظمأ إلى الانتقام تجاه ما عظم منها، ومع أنها كانت تعرف عدة لغات وكانت كثيرة الثقافة، وهي مدينة لفتونها بكل شيء، وهي قد وضعت حدا لحياة أضحت لا معنى لها عندما أبصرت رجلا يقاوم سحرها ذلك.
وقد تكون أقل جمالا مما جاء في القصة. أجل، يبدو إقدامها أظهر من حسنها في الأوسمة النادرة الموثوق بها، غير أن المعدن لا يقدر على إظهار سحرها، ولم تكن الصورة - ولا الأسطورة - لتظهر صوتها وحديثها وعذوبة لحظها وسحر نظرها. والحق أنه كان يعوزها شاعر كبير ليتغنى بها، وما نالته من انتصارات على ثلاثة من أعاظم الرومان فينم على ذلك السحر، ويعد هؤلاء الأكابر شعراء لفتونها.
ومن يرد أن يتبين أساس خلقها واقتران المجانة
1
بجهل الخير والشر فليذكر أنها وليدة عدة عروق، وهي المشرقية التي ثملت بسموم مصر، وهي حفيدة خليلة مشهورة وابنة نغيل مجرم، وهي فتاة الإسكندرية التي بلغت من العمر ثلاثمائة سنة فأخذ نجمها يأفل بعد موتها، ولو سألت عن هذه المدينة التي نشأت فيها تلك الفتاة لعلمت أنها تقع بين قسمي العالم الخاضعين لرومة، وأنها مجاورة لجزر أوروبة وحدود آسية، وأنها أفريقية مع ذلك، وأنها على شاطئ البحر، وأنها قريبة من النيل، وما كان من انتظار نهاية العالم ومن صليل السلاح في الشوارع وفي قصرها ومن نزول المرتزقة المختلفي الأجناس إلى الدلتا فقد أثار شوقها إلى الملاذ.
وقد انتزعت من القدر - مع ذلك - بضع سنين من الغرام تعد قصيدة رعائية تقريبا. ومن المصادفات المباركة التي لا يقع منها غير واحدة في عشرة قرون انجذاب أقوى رؤساء الدول إلى بلادها، ويأتي هؤلاء للبحث عن حبوب فيجدون فاتنة.
ويعود أبوها الذي كان يحمل اسما ماجنا - يحمل اسم نيوس ديونيزوس فلقبه الشعب بالزمار - من رومة التي لجأ إليها فقتل فيها مائة من أهل الإسكندرية أتوا ليسوغوا عصيانهم ضده، ويكتفي في عاصمته بقتل زوجته ورؤساء الحزب المعارض الموالين لها ويزوج ابنته الكبرى - كليوباترة - البالغة من العمر أربع عشرة سنة، بأخيها البالغ من العمر تسع سنين ليرثا عرشه، ثم يموت مغمورا بالازدراء. وكان بونبي هو الرجل الذي نصبه مجلس الشيوخ الروماني وصيا على هذين الزوجين الصغيرين، وكان بونبي هذا موضع نقاش عنيف في مجلس الشيوخ ذلك ومحل شغب دام في الفوروم،
2
وكان مثل هذه المصادمات يقع في ميدان الإسكندرية في ذلك الحين.
وكانت كليوباترة في العشرين من عمرها عندما أبصرت اقتتال بونبي وقيصر، وقد راقها بونبي - لا ريب - ما دامت قد أمدته بخمسين سفينة لم يكتب لها الرجوع قط. وكانت كليوباترة السابعة - وهذا هو لقبها في ذلك الحين - قد بلغت من مقت العاصمة لها ما طردها معه حزب أخيها وزوجها، وتجمع كتائب على الحدود العربية حيث تتكلم بلغة قبائلها، وإنها لتزحف ضد أخيها إذ تشاهد رومانيا آخر يصل إلى الدلتا بعد قتله بونبي.
أصبح قيصر سيد رومة وسيد العالم بعد انتصاره في معركة فرسالوس، وما كان يعوزه سوى شيء واحد - سوى المال - ويجيء مصر للبحث عن المال، ولم يكن من الفضول أن يرى تلك الملكة المترجلة التي كانت قد أيدت خصمه، ويسبق كليوباترة ويدخل المدينة، ويدخل القصر، منصورا خلف حملة الفئوس من ضباط الرومان وعلى مرأى من الجمهور الساخط، بيد أن الملكة تركب السفينة من بيلوزة متنكرة وتبلغ الإسكندرية وتلف وتحمل إلى القصر حيث قيصر وأخوها وزوجها، وينشر البساط أمام قيصر الذي اعتقد أنه هدية فتخرج منه كليوباترة.
ويرمي أخوها التاج على أقدامها مغاضبا، وعلى قيصر أن يختار بين صبي مغيظ وامرأة فاتنة، ويحاول من النافذة أن يسكن المجنون المتوعد، ويعمل بوصية بطليموس الزمار ويعيد كلا الزوجين إلى العرش، غير أن رئيسا لمرتزقة الأغارقة يطالب بمكافأة لإنقاذه الملك، ويثور الجمهور، ويشعل قيصر السفن المصرية التي كانت في الميناء والتي كان عددها اثنتين وسبعين، فيمتد اللهب إلى المكتبة بفعل الرياح ويحرقها فيتحول بذلك أربعمائة ألف طومار من ورق البردي إلى رماد، ويعلن في الميدان الواسع نصب خصي قائدا للكتائب.
ويظل قيصر وكليوباترة وحدهما في القصر المحاصر، وكان في السنة الثانية والخمسين من عمره وكانت في السنة الثانية والعشرين من عمرها، وتضاء ليالي غرامهما الأولى باحتراق حكمة العالم كلها.
ويقيم قيصر بمصر نحو عام أي ضعفي إقامة الإسكندر بها، وفيما كان أنصار بونبي يجمعون قواهم في إسبانية وأفريقية كان الكهل الأصلع قيصر يرافق قاصرة تابعة لهواها فيتوجهان إلى مجرى النهر الفوقاني راكبين سفينة فاخرة، وفيما كان عالم جديد يثور ضد الفاتح الكبير كان هذا الفاتح يدرس أعمدة عالم قديم وكتاباته كما يدرس سحر آخر فرعونة، ويغدو الزوج شابا مزعجا متطلبا فيغرق في النيل في إحدى المعارك، ويذهب قيصر في نهاية الأمر، ويهزم فرناس ويرسل إلى مجلس الشيوخ كلمته المشهورة: «جئت فأبصرت فغلبت»، التي ليست - على ما يحتمل - سوى كلمة غرام ظافر سرت على لسان كليوباترة المنصورة، ويترك لها ثلاث كتائب وأمل ولادة ولد، فتسميه قيصرون.
ويمضي عام، فتذهب إلى رومة، وستضم نصف إله بين ذراعيها، وهذا اللقب هو الذي كان يقرأ على قاعدة تمثاله في الكابيتول على الأقل، وتجلس على المنصة حينما كان قيصر يبصر أعداءه المقهورين مقرنين في الأصفاد بالفوروم، وتبصر بينهم أختها أرسينويه التي كانت تمقتها كثيرا، ومما كانت تفكر فيه - لا ريب - أن ذلك يكون مصيرها لو لم تفتن عدوها القوي وقت الحصار ووقت الحريق، وتتحقق أحلام زهوها في رومة، ولو لم تتحقق أحلام غرامها، واستطاعت أن تظهر سعادتها مع الافتخار في عامين، ولا عجب، فقد كانت خليلة سيد العالم، وكانت أغنى منه، ويحافظ قيصر على شرف امرأته، فهو يجد زوجا صبيا للمصرية ويظهرهما أمام الجمهور معا، ويحملهما على العيش معا، ويدعوها قيصر إلى منزل جميل عبر نهر التيبر، ويغيظ سيرها الفرعوني قدماء الجمهوريين الذين هم من طراز شيشرون، ويزعم أنها تحرض قيصر على لبس التاج.
بيد أن قيصر يحب كليوباترة، وهو إذا ما زارها أبصر صورته في ابنه البالغ سنتين من العمر لتشابههما تشابها غريبا، ومن المحتمل أن كانت تجد ترويحا لها بعودة ربيبه أكتافيوس الصاخبة، فتعد خصم الغد هذا فاتنا، ويرفض قيصر التاج الذي عرضه أنطونيوس عليه في مجلس الشيوخ، ولكن قيصر ينصب في ذلك الحين تمثالا ذهبيا لخليلته في معبد فينوس، ولكن قيصر يعد قانونا يحل له أن يكون ذا أزواج شرعيات كثيرات، فكان كل شيء يلوح مهيأ لجعل ابنة النغيل المصري كليوباترة إمبراطورة حينما قتل قيصر.
وهي لم تتفلت من الاضطرابات التي عقبت ذلك إلا بمعجزة، حتى إنها لم تهرب، حتى إنها لم تعد إلى الإسكندرية إلا بعد بضعة أسابيع، ويتوارى أخوها وزوجها الثاني في تلك الساعة النفسية، ويتعقبها سادة رومة، كما لو كانت هذه الساحرة تجتذبهم إلى مصر، ويكتفي أنطونيوس بتقليد قيصر فلا يألو جهدا في نيل حظوة لدى عشيقته الشهيرة تلك، ولولا ذلك ما جذبه شيء إلى مصر، وهو لكيلا يستحوذ عليه ظل قيصر يجب عليه أن يجرد من كل قناع تلك التي شغفت قلبه حبا منذ سنتين في ولائم قيصر.
وكان أنطونيوس - الشعبي الجندي ابن الجندي الفاجر المعرض لغيرة امرأته - دون قيصر من كل ناحية، ولكنه كان يفوقه فتاء، وكان شريكا في تراث إمبراطورية العالم، ولكنه كان طالب لذة ومعاقر خمرة قبل كل شيء، وكان يخيل إليه - على ما يحتمل - وجود شبه بينه وبين الإسكندر على هذا الوجه فيفضل أن يكون باخوس في أفسوس
3
على أن يكون إمبراطورا في رومة.
ويدعو كليوباترة إلى أفسوس كمتهمة، فلا تلبي دعوته، ويكون في طرسوس، وإنه ليقصد إقامة العدل في ميدانها العام؛ إذ ينبأ بوجود سفينة فاخرة ذات شراع أرجواني ومجاديف فضية تسير في المجرى الفوقاني من نهر البردان،
4
ولا يتزن، فيذهب إلى الضفة ويساعد الملكة حين نزولها إلى البر - بين العطر والزهر وصوت المزهر - على وضع رجلها الصغيرة فوق الأرض، وكانت كليوباترة في السابعة والعشرين من عمرها حينما واجهت هذا الروماني الثالث، ولم يكن أنطونيوس في الأربعين من عمره كما أنه لم يكن أصلع، وكان أنطونيوس دون قيصر طموحا وحكمة، وكان أقرب إلى الشرقي بمزاجه وذوقه، وكان له بذلك اللقاء تقرير لمصيره، مع أن كليوباترة لم تكن غير حادث عرضي في حياة قيصر.
وتبدأ الملكة فصلا جديدا في حياتها في الإسكندرية نفسها، وفي القصر نفسه، وعلى مرأى من رجال البلاط أنفسهم، وضمن الحد الذي لم تتخلص منه، وينطوي ذلك الفصل على المغامرة الكبرى، ويدوم عشر سنين.
ولم تتجل عظمة قيصر في خلفه. ولما أعطاها هذا الخلف الروماني مائتي ألف طومار من ورق البردي لتجديد المكتبة لم يعدل في عينها ذلك الذي حرق ضعفي ذلك ليشعل ليلة غرامها الأولى، ويلوح أنها خافته أقل مما خافت قيصر، ومع ذلك كان لديها من الوقت ما تقابل فيه بين الرجلين والحكومتين وتقرر فيه ما كانت تستطيع أن تصنعه إلى حد ما من اتخاذ رومة أو الإسكندرية عاصمة للعالم، ولا يتوقف هذا القرار عليها وحدها؛ وذلك أن عاشقها الجديد توارى بعد أول شتاء ليتزوج أكتافية أخت منافسه أكتافيوس، فلا تعرف كليوباترة هل يعود أو لا، ما دام الأمر زواجا سياسيا، فصار عليها أن ترسم خطة جديدة لترجعه إلى حظيرتها.
ويستولي السأم على أنطونيوس في شهر عسله مع زوجه الرومانية العذراء، وتضع كليوباترة توءما، «تضع الملك الشمس والملكة القمر» وفق تعبيرها، وتزف إليه هذه البشرى، وتخبره بنبوءة منجم قائلة: إن مجرى النجوم لا يمن عليه بنصر في غير الشرق، أوليست ساحرة؟ ولم تلازمه أكتافية الفاضلة مع أنفها المستقيم وأساريرها الجافية؟ ويتركها في أثينة، حيث كانت فولفيه قد ماتت غيرة، متذرعا بأنه يود أن يجنبها بذلك عناء حرب ضد الفرطانيين، ثم يدعو كليوباترة إلى اللحاق به في منتصف الطريق، وهو يمنحها بعض الجزر وجزءا من فنيقية لعدم استطاعته أن يعطيها أورشليم من غير أن يجرد صديقه هيرودس.
غير أن سوء الحظ يلم به، فيهزمه الفرطانيون على حين ينال أكتافيوس نصرا بعد نصر، ولن يرسل هذا المنافس إليه مددا ما لم يترك تلك المصرية، ومن حسن الطالع أن كانت الإمبراطورية الرومانية من الاتساع ما تسترد معه سمعتها بأن تتوجه ضد شعب آخر، ويغلب الأرمن، ويرجع إلى الإسكندرية حيث يعرض موكب النصر أمام كليوباترة التي صارت زوجة أنطونيوس الشرعية أيضا. ويبدو القائد الروماني والملكة المصرية على دكة فضية واحدة ويجلس أحدهما بجانب الآخر على عرش من الذهب، وتظهر ابنة للخامسة والثلاثين من عمرها على زي إيزيس وتنتحل أشعرتها، ويظهر على زي ديونيزوس، ويظهر التوءمان فلادلفيا وسلينه أمامهما في السنة السادسة من عمرهما، ويظهر بجانبهما صبي جميل في العاشرة من عمره، يظهر قيصرون الذي يذكر بتلك السياحة الزاهية فوق النيل مع قيصر، ويلبس الأولاد أحذية مقدونية؛ وذلك لأن الإسكندر ترك هنالك أحد البرابرة منذ ثلاثمائة سنة، ترك جد عرقهم.
ويعرض أسرى البرابرة مقيدين بسلاسل ذهبية، وتتأذى كليوباترة - على ما يحتمل - حينما يحيونها بوجه عبوس من غير أن يركعوا أمامها، وينصب الأولاد الثلاثة ملوكا لولايات رومانية.
ويعني ذلك قطع العلاقات برومة، ويعد ذلك دليل القتال، ويتحدى أكتافيوس أنطونيوس ويغلبه في أكسيوم أمام كليوباترة، لا عن خطأ اقترفته كما زعم، ولو تم النصر لأنطونيوس لصارت مصر مركز العالم وصارت الإسكندرية عاصمته ولغدا النيل ملك الأنهار ونهر الملوك. ويعود المغلوبون إلى مصر هادئين، ويحاول أنطونيوس أن يفاوض قاهره علنا، ويرسل إليه ابنه مع هدايا، وترسل كليوباترة أشعرة المملكة المصرية إلى أكتافيوس سرا، وترى أن تقوم بلعبها مرة أخرى.
والواقع أن هذا الروماني الرابع هو روماني أكثر من أسلافه، فهو لا يريد أن يتلهى، وهو لا يرى من الكرامة أن يحوز خليلة قيصر، وإنما كان يفكر في أخذها مقيدة بسلاسل ضمن موكب نصره برومة، وذلك عن مقت لقيصرون - الابن الحقيقي لقيصر - وذلك لما يبصره من إمكان منازعته إمبراطورية العالم، وكان يعوزه الذهب والحب فيجيء مصر للبحث عنهما، ويرفض الذهاب إلى مجرى النيل الفوقاني، ويرفض أن يكون فريسة الواحة المسحورة وفريسة حر شمسها وفريسة أساليب نسائها السحرية.
وتلقي سفن أكتافيوس مراسيها، وتنزل الكتائب الرومانية إلى البر، ويذكر أنطونيوس أنه روماني، ويقع على سيفه، ويؤتى به محتضرا إلى كليوباترة، وتختبئ في ضريحها هي وابنتها وماشطتها، ويموت أنطونيوس، ويحمل سيفه الدامي إلى أكتافيوس. ويروى أن أكتافيوس سكب دموعا عند هذا المنظر كما صنع قيصر أمام رأس بونبي. ويدخل أكتافيوس الإسكندرية ويعفو عن الشعب، «احتراما للإسكندر الأكبر وإرضاء لصديقه الفيلسوف أريوس»، وكان أول عمل قام به أن جلب إليه قيصرون ووعده بأن يكون صديقه.
ويزور كليوباترة المريضة المستلقية على سريرها في قصرها بعد بضعة أيام، فترتمي على قدميه عند دخوله وتسلم إليه قائمة بكنوزها، ويتهمها أحد موظفي البلاط المطلع على الحقيقة بأنها أخفت قسما منها، ويضحك أكتافيوس ويبدو مهذبا ويسر من حسن صحتها لاستطاعته أن يأتي بها أسيرة إلى رومة، بيد أن هذا الرجل سيقع في شرك خداعها، وتجرب حظها للمرة الأخيرة ما دامت تنحاز إلى الغالب في كل وقت، ويحبط ما سعت إليه، ولكن مع تمكنها من عدم المراقبة، وفيما هو يجوب القصر صاعدا نازلا متمثلا نصره الآتي؛ إذ تقتل أسيرته نفسها تحت سقف واحد بلدغة حية على ما يحتمل، فتموت موتة خليقة بملكة وبخليلة قيصر، ويمثل قيصرون أمام أكتافيوس خاضغا فيقتله أكتافيوس، وهكذا يقضي في دقيقة واحدة على عرق الإسكندر ودم قيصر.
الفصل الثامن
ينال النيل في العهد الروماني أعظم تبجيل في تاريخه، وتحظر رومة على جميع الشيوخ والفرسان أن يطئوا أرض مصر، ويبلغ هذا البلد من عظم الإغراء ما كان يجب معه أن يحرم دخوله على كبار موظفي الإمبراطورية، وكان العامل في ذلك الحظر الفريد في بابه هو أن الروماني يشعر بأنه سيد العالم إذا ما بدا سيد ذلك النبر الكبير، وفي ذلك الحين يعقد ديودرس أكاليل الثناء على المصريين فيقول: إنهم أكثر شعوب العالم عرفانا بالجميل.
وتصبح مصر ولاية رومانية بعد موت كليوباترة، وتظل كذلك سبعمائة سنة، ويكافح الرومان كل شيء يوناني هنالك كما يفعلون في كل مكان، وتقرب صفاتهم من صفات الفراعنة فيما يصدر عنهم من الأوامر على الأقل، ويتصفون كالفراعنة بروح النظام والتنظيم والإدارة والبناء.
وكان الرومان يدركون أمر النيل، أمر هذا النهر الذي يمكن أن يلاحظ ويقاس على الدوام، ومن العناصر عنصر تتوقف فائدته على ذكاء سكان الضفاف وبراعتهم فيزيد من الخلال ما يدني المصريين من أمريكيي الوقت الحاضر. ومما كان يلائمهم أن تحفر قنوات وتنشأ أسداد وتوضع علامات لوصول الفيضان، وأن تنظم تقارير وحسابات. وكان الأباطرة يحملون رجال الكتائب على قياس ارتفاع النهر فيكتب أحدهم إلى عامله بمصر: «بلغ النيل في اليوم العشرين من سبتمبر خمس عشرة ذراعا وفق تقرير القائد، وكن سعيدا بأن تعرف ذلك مني عندما لا تعرفه من أحد.» وينم هذا الكتاب الذي أرسل من رومة إلى الإسكندرية على دقة الروماني وغلظته الممزوجتين بالزهو الإمبراطوري، ويظهر من هذا الكتاب ما بين الإدارة المدنية والإدارة العسكرية من تعارض يتجلى في هذا الوقت.
وإلى ذلك الزمن يرجع تمثال النيل الذي يصور لنا رجلا لحيانيا مع ستة عشر ولدا رمزا إلى أذرع الفيضان ال 16، كما يدل على الروح العملية لدى أولئك الواقعيين أمام ذلك النهر العجيب.
ويغدو ذلك النهر نهر ذهب، فينتج نصف ما تحتاج إليه إيطالية من الحبوب، فإذا ما وصل الأسطول المصري إليها في شهر يونيو أقيم مهرجان شعبي فيها. وكان الرومان يعنون بحماية ذلك البلد عن غيرة، وكانوا يسكنون «بنائين» هنالك ليرقبوا الجداول الصغيرة ويرفعوا الغرين ويصلوا ما بين القنوات ليمكن المرور من بعض شعب النيل السبع إلى بعض، وقد عبدوا طرقا في الصحراء لعدم قدرتهم على قضاء شهوة إنشاء الطرق كاملة بمصر. ويوسع تراجان قناة نخلو السويسية فيجعلها صالحة لسير السفن التجارية الكبيرة، ويجدد مسح الحقول دوما، ويسعى في زيادة إنتاجها، ويلجأ كل مدير إلى الزراعة القسرية إرضاء لإمبراطوره؛ وذلك لأن تلك الولاية عدت ملكا خاصا به مقدارا فمقدارا فصار ينظر إليها ولاية نموذجية.
خزان أسوان.
وكانت مصر في الوقت نفسه تعد صندوقا يستعين به الإمبراطور لمكافأة ذوي الحظوة لديه. وكانت حيازة مصر تقرر وراثة التاج غير مرة، ومع ذلك لم يزر ضفاف النيل غير قليل من الأباطرة. والأباطرة كانوا يعتمدون على خصبها من غير أن يتساءلوا عن الشعب الذي يقضي ضروب المشاق في سبيلهم.
ولكن الرومان عادوا لا يدفنون الثور المقدس كما كان الإسكندر والبطالمة يصنعون، ولكن الرومان عادوا لا يأذنون للمصريين في الحلف بآلهتهم، ولكن الرومان أخذوا يرقبون الكهان فصاروا يأخذون نصف دخلهم، فإذا ما سمحوا لهؤلاء بإنشاء معابد على الطراز المصري عرضوا فيها على أنهم خلفاء الفراعنة، وكانوا يعتقدون أنهم يستطيعون أن يحكموا في أقدم الشعوب كما يحكمون في الدرويد ببريطانية. وكان السياح من الرومان ينشدون أغاني رومة الشعبية في أبواب المعابد القديمة ويسخرون في هذه المعابد بما هو مقدس من الهررة والإبيس، وتشمل الموضة
1
آلهة مصر فيبتدع هوروس قيصر، يبتدع محارب روماني ذو رأس صقري وتاج شوكي، وتنتقم الآلهة المصرية لنفسها ذات يوم بسبب عدم الاحترام ذلك، فلما مد الأمير جرمانيكوس قطعة من الحلوى إلى الثور إبيس انثنى هذا الحيوان المقدس ووقف هذا الروماني حيث كان، ويسفر هذا الحادث الطفيف عن هيجان كبير في مصر فيدل ذلك على درجة ما كان يساورها من توتر.
ولم يختلف الأباطرة القليلون الذين زاروا مصر عن هادريان الذي نعت المصريين بالخفة والشر والكسل والثلب، ويسفك كراكلا الدماء انتقاما تجاه أغاني الإسكندريين المهينة، ويدعو المصريين بالأجلاف الغلاظ، وكان ذلك البلد يمدهم بالحب وببقر الماء والتماسيح التي كان الجمهور المتجمع في الميدان يتلهى باصطراعها. ومركوس أورليوس وحده هو الذي ذهب إلى مصر ليتعلم فجلس في مجمع الإسكندرية العلمي عند أقدام أكابر العلماء وناقش لوسيان الذي كان موظفا بمصر، ومجد النيل بقوله الشعري:
تلك أرض راضية عن خيراتها، تلك أرض راغبة عن غير سلعها، هي غير مفتقرة إلى جوبيتر ما دام النيل محل ثقتها.
وجعل الرومان من ذلك المجمع الذي كان أهم ما في ذلك العصر مدرسة فنية عالية، فاخترع هارون فيها أول آلة بياعة تخرج لك هدية إذا ما أدخلت إليها قطعة من النقود. وأنشأ آخرون فيها أول عربة تسير بنفسها، وأول آلة بخارية، وأول مدفع، وابتدع الاختزال الذي هو سيارة الكاتب عالم موهوب فيها، ويظهر العالم الجغرافي بطليموس الذي هو آخر من نبغ في الإسكندرية فعد مكتشفا لسر منابع النيل، والذي هو بقية أكابر الباحثين الذين عاشوا هنالك، ما كان ذلك البلد وتلك المدينة قبضة الأغارقة.
وظل الأغارقة سادة مدة ثلاثة قرون في تلك العاصمة الجامعة بين العقل والعاطفة فصاروا يأسفون على البطالمة وعلى أبهتهم وإسرافهم وعلى جرائمهم الطريفة. وكان الأغارقة يقطبون تجاه النظام العسكري، وتجاه ما يرونه من فتور وعدم خيال لدى الحكام الرومان الذين يميزون جميع المنازل بأرقام فيحملونها على نظافة لا تطاق، والذين لا يرغبون في غير أمر واحد، في غير فرز ثروة كافية يتمكنون بها من استنشاق هواء رومة مجددا، وتفرض على الأغارقة في تلك الأثناء وظائف فخرية فيحتملون نفقاتها ويفتقرون من أجلها، وما كان فينيو القرون القديمة هؤلاء ليطيقوا الهواء البروسي. وكان أصحاب ذلك البلد الحقيقيون محتقرين هنالك مع ذلك، وبيان ذلك أن المصريين لم يعدوا البطالمة من الفاتحين قط، وأن هؤلاء البطالمة من ناحيتهم كانوا يثقون بالمصريين، وأن الرومان كانوا يحسبون المصريين من الأعداء المغلوبين، فلما تتابعت القرون تحولت مشاعر المغلوب من حقد إلى بغضاء، وإذا نظرت إلى كثير من الرسائل والتقارير وجدتها تنص على «أن المصري ليس إنسانا.»
وإذا كان الرومان قد حظروا على موظفيهم لطويل زمن كل زواج باليونانيات فإن حق الوطني - وحق الانتساب إلى الجيش الروماني أيضا - كانا محرمين على المصري حتى في القرن الثالث، وكان يحق للرومان وللأغارقة أن يجمعوا الأولاد الذين تتركهم أمهاتهم على الردوم وأن يربوهم عبيدا لهم، وكان يعاقب المصري الذي يجرؤ على إنقاذ ولد روماني من الموت جوعا!
ويجري سيل ذهب من الدلتا إلى رومة في قرون، وتحولت أمور التجارة هنالك منذ صارت الإسكندرية - التي هي أكبر ميناء تجاري في العالم، والتي هي محل مبادلة سلع الشرق بأجمعها - جزءا من الإمبراطورية الرومانية، فصار تجار الرومان يحسبون غير ما كان تجار اليونان يحسبون، فتجلب سفنهم الأبازير والحجارة الثمينة من الهند وتجلب النسائج الحريرية من الصين، وتدخل إلى مصر خمر سورية وخيلها وثيابا للرومان وجنودهم وتصدر منها زجاجا وبرديا ونسجا، وحبا على الخصوص، وتأتي بذلك حتى الرين. ومن المحتمل أن يكون أغسطس قد قاوم قيام دولة عربية ليحول دون انحطاط الإسكندرية.
وتبلغ الودائع والسفاتج
2
من التضخم ما لا يرى مثله قبل وصول الإنكليز، وتترجح فوائد النقود بين 16 و24 في المائة، ويأتي للمرة الأولى سياح من الرومان للإعجاب بآثار مصر، وتجهز سفن للسياحة في شعب النيل، وتنظم نزه ليلية مغالاة في الأجور.
وأكثر الناس بؤسا هو الذي لولاه لظلت الأهراء فارغة، هو الفلاح، ويحمل الفلاح على الإغريقية مدة ثلاثة قرون من غير أن يتعلم كلمة يونانية. والآن يجب عليه أن يصبح لاتينيا، ويقاوم ذلك بما فطر عليه من غريزة بالغة القوة. وكانت أمور الجباية الإمبراطورية تسير كما في عهد الفراعنة فلم يتفلت منها أحد، وكان طيبريوس يقرر مقدار الضريبة التي يجب على مصر أن تدفعها في العام القادم، وكان الحكام والمديرون يكلفون بتحصيل ذلك فيأخذون معلوما في المائة لأنفسهم، ونعلم من مذكرات الطلب أن الفلاح كان يدفع تسعة في المائة فائدة عن ديونه بدلا من عشرة في المائة كما في العهد الفرعوني، وأن جنود الرومان كانوا يحجزون جمله وحماره، وثياب أمه العجوز أيضا، وكان يؤخذ رسم عن كل موميا، وكانت تؤخذ ضريبة إضافية عن كل كرمة باسم باخوس، وكان حديثو النعمة في ذلك الدور أساتذة في فن ابتداع الأسماء الجميلة اعتصارا للشعب.
ومن مقتضيات النظام القرطاسي الروماني المشهور إكراه الفلاح على التصريح لعمدة القرية بعدد العجول التي يود أن يأتي بها إلى السوق، وكان الفلاح يحمل على حفر مقدار معين من الأرض لإنشاء جداول جديدة وحفظ القديم منها في حال جيدة، فالكاتب موجود هنالك على الدوام، وأما الغني المصري فكان يبتاع من السلطة الرومانية وظيفة كاهن أو يكتري قرية ليجور على الفلاح كما يشاء، ويبلغ سكان مصر في العهد الإمبراطوري سبعة ملايين، وما نفع الفلاح من جميع ذلك؟ ويؤلف الفلاحون تسعين في المائة من الأهلين، ومع ذلك لم يكن لدى هؤلاء الفلاحين المحكوم عليهم بالعمل والهلاك ما يحتمل به ارتقاؤهم إلى حال أعلى مما هم عليه في الوقت الحاضر.
ولم يستثن من الضرائب غير أمر واحد: حق الفلاح في نقل موتاه إلى ضفة النيل اليسرى ليدفنهم في الغرب، فقد ترك الرومان له حق الموت!
الفصل التاسع
ملك الفرس والأغارقة والرومان مصر سبعة قرون بقوة السلاح، ثم يتوجه نحو مجرى النيل الفوقاني - للمرة الأولى - أناس عزل من السيوف والدروع والسهام والأقواس، وذلك على شكل زمر ومن غير رغبة في بيع الفلاح شيئا من السلع، وهم لا يسألونه أجرا على ما يجلبون إليه، أجرا على الدين الجديد ، أو المذهب الجديد تقريبا على الأقل، وكانت الشعوب الأخرى تبحث في مصر عن الحبوب وتدع الآلهة، فلما جاء أولئك الناس تركوا الحبوب في مصر وأتوها بإله جديد، وما فتئت مصر تكون ملجأ للنصارى منذ القرن الثاني.
وكانت الصحراء تجتذبهم، وكانوا يردون بلدا تكفي خطوة فيه للانتقال من ضوضاء الحياة إلى العزلة، ومن الشمس والرمل إلى تلك العزلة الكبرى التي لا تشابه سوى عزلة الصحراء والبحر وحقل الجليد. وإذا عدوت الغرفة في فندق عصري لم تجد في مكان ما هو أسهل من عيش الناسك في صحارى مصر، وما كان على يسوع والقديس يوحنا أن يبحثا عنه خارج فلسطين وجده النصارى الحقيقيون الأولون على طرف الطريق هنا، وهم لولا هجرتهم إلى واحات لكانوا قريبين دوما من واحة النيل الكبرى للبحث فيها عن أدنى حد ضروري للحياة، وهذا إلى أنك لا ترى زاهدا ظل في الدلتا، وجميع الزهاد توجهوا إلى الجنوب الغربي، إلى النيل الأعلى على الخصوص، وهذا إلى أنك ترى الكثيرين قد رغبوا في استنشاق هواء البلد الذي عاش فيه موسى وعيسى وليدين.
ويتصرف الرجل التعب من تقلبات الزمن في جزء من برية يلجأ إليها، ولا يبقى أولئك الأطهار منعزلين في هجرتهم زمنا طويلا، وهم يتجمعون في البداءة اثنين اثنين ثم يتجمعون زمرا، ويصبح الناسك راهبا، ويقوم الدير مقام الكهف، فلا يمكن بعد ذلك أن يدع الرجل أمره إلى الله وأن يتحد به تماما.
ويدلنا القديس أنطوان في القرن الثالث على أن الذي يبحث عن الله محكوم عليه - خلافا لمقاصده - بتأليف زمرة وبالتدخل نهائيا في منازعات هذا العالم الذي كان يود الفرار منه، وكان ذلك القديس ابنا لغني في جوار طيبة، فلما بلغ العشرين من عمره ترك جميع ماله طالبا نجاة روحه، فانزوى في الصحراء خنقا لشهواته في المكان الذي كان الفراعنة يصطادون الأسود والظباء فيه منذ بضعة آلاف سنة، فإذا ما حل وقت المساء بهرتهم ثياب نسائهم الشفافة، ويبلغ الخامسة والثلاثين من سنيه فيشعر بأنه قهر نفسه ويقيم بحصن خرب في إحدى الواحات حيث يتمتع بعزلة كاملة في عشرين سنة كما يظهر، وفي ذلك الحين يصر عليه رجال ضعاف من محبي الخير، ومن الباحثين عن قدوة لهم، بأن يكون معلمهم، فينشئ هذا الزاهد الذي أصبح في السبعين من عمره والذي عاش خمسين عاما وحيدا مع الرب - أول دير - فكان أول راهب في التاريخ.
إذن، يصير أبا للصحراء ناصرا للإيمان والنبي، ويسافر إلى الإسكندرية في دور من الاضطهاد تثبيتا لقلوب النصارى، ثم يقول لأصحابه: «تموت الأسماك إذا ما أخرجت من الماء، ويفقد الرهبان كل نشاط إذا ما صاروا في المصر، فلنرجع إلى جبالنا بسرعة.» وهكذا يعترف هذا الشائب النشيط بأن النسك في الصحراء أسهل مما في العاصمة، وما قيمة ما يمكن الإمبراطور قسطنطين أن يعرضه عليه من طلب وضيع ليصلي بعد الآن من أجل بزنطة، من أجل رومة الجديدة، لا من أجل رومة القديمة؟! ومن أروع مظاهر سجيته أن كان يسمو فوق هذه المطالب، وكان جميلا طيب المزاج عندما مات في ديره مجاوزا المائة من العمر.
ومن المحتمل أن كان سلفه بولس المصري أكثر انقيادا لنداء ضميره، فهو - بعد أن عاش تسعين عاما بجانب ينبوع في الصحراء - لم يترك حين وفاته غير قميصه الذي أوصى به للقديس أنطوان، وما كان هذا الأخير ليلبسه في سوى الأعياد الكبرى، وهو في هذا كفرسان الرومان الذين كانوا يلبسون دروعهم المنتقلة إليهم إرثا.
والحق أن ذينك الشخصين كانا يمثلان مبدأين للحياة يفصلان بينهما كما كان يفصل فرعون عن الفلاح. وإذا كان القديس أنطوان قد وفق للتوفيق بينهما فإن ذلك لم يكن ممكنا لدى ألوف الرهبان الذين كانوا في القرن الرابع والقرن الخامس قد تجمعوا في أديار محصنة على طول النيل للدفاع عن أنفسهم تجاه الأشرار، حتى إنهم أقاموا مدنا حقيقية، حتى إنه كان يوجد بالقرب من مكان السويس الحاضر جمع دبر مؤلف من عشرة آلاف راهب يحرث الأرض ويكسب المال ويرتل في المساء أناشيد حمد الرب، وكانت الممثلات والخليلات يأتين من الإسكندرية ليشاهدن ذلك المنظر اللانسوي ، وكان يجتمع في القرن الخامس خمسون ألف راهب فيؤلفون مؤتمرا سنويا.
والواقع أن الألوف من أولئك كانوا من الفلاحين، وليس من المحتمل أن ينتحل الرهبانية ملايين الفلاحين مع استمرارهم على زرع حقول أجدادهم. وقد عانى الفلاحون طائفة من المكاره مدة ثلاثة آلاف سنة من عهد الفراعنة، ومدة سبعمائة سنة من السلطان الأجنبي، وللمرة الأولى يقول أناس من أقوياء الإيمان للعبيد المضطهدين على ضفاف النيل ما ليس لديهم عنه غير فكر مبهم، يقولون لهم إن الإنسان في الحياة الآخرة يحاكم على مقياس آخر فتتوقف سلامته على طهارة قلبه، لا على أبهة ضريحه.
وتعلن هذه البشرى السارة بلغة الفلاح لأول مرة، وكان الفلاح كارها لإغريقية أنصار الأفلاطونية الجديدة وللاتينية عباد جوبيتر كابيتولينوس، أو إن هؤلاء وأولئك كانوا يبدون له - على الأقل - غرباء مثل كهان مصر القديمة بلغتهم المقدسة، وكان الفقر سمة المهاجرين والقديسين من النصارى الأولين، وكانوا - كالفلاح - يغتذون بحفنة من الفول والبصل، وقد عرفوا لغة الفلاح فصاروا يرسمونها بالحروف اللاتينية، وقد استقروا بعيدين من المدن. وما كان الأغارقة والرومان ليوغلوا كثيرا في تلك المنطقة الطيبية حيث يعلم أناس من ذوي الحماسة فريق المكروبين أن يصبروا على مصير ليس غير موقت بالحقيقة، ويكتسح المذهب الجديد وادي النيل بأسرع مما في أي مكان آخر من العالم.
هرم.
ويظهر كهنة إيزيس عزلا، ويمكن الفقراء أن يشعلوا ثورة كالتي وقعت منذ ثلاثة آلاف سنة، ويتصرفون في الأمر ببراعة فيوجهون الجموع ضد الأجنبي، ويعد الأغارقة والرومان من عبدة الأصنام للمرة الأولى - لا من قبل النصارى - بل من قبل أتباع الدور القديم بمصر.
وظاهرة ما بعد ذلك الحين هي اختلاط الأديان، لا اختلاط الشعوب واللغات وحده، واذهب إلى جزيرة بلاق الصغيرة - التي يطاف حولها في نصف ساعة - تر أنه كان يقام في وقت واحد من كل يوم بشعائر يسوع وإيزيس، وينقلب معبد الملكة حاتشبست المأتمي إلى مصح يوناني ثم إلى دير نصراني.
واذهب إلى شواطئ بحيرة مريوط تر زمرة يهودية كانت تحتفل في كل خمسين يوما بعيد مشتق من أسطورة للإسكندر حولتها البدهية (البوذية)، واذهب إلى معبد الكرنك تر أنه استعمل كنيسة، ويجعل النصارى الجدد بأدفو القديس أبولون من خليفة هوروس، وتظهر على الجدر - التي حذف إخناتون أسلافه منها، فجاء الإسكندر ليحذفه منها - وجوه أناس من ذوي الهوس مجدوا بأسلوب جديد فقام التاج مقام مفتاح الحياة فوق رءوسهم.
ويستمع الفلاح إلى هؤلاء الرهبان الذين كانوا يسألون الرب الجديد أن يرفع ماء النيل، ويسمع الفلاح هؤلاء الرهبان الذين كانوا يقولون إن يسوع الإله ذا الهالة ليس غير أوزيرس المحول، وإنه ليس عليه أن ينزع عنه التميمة التي يحملها على عنقه، ومما كتب رمسيس الثاني على الجدر: «سيظل هذا بيت الرب إلى الأبد»، فكان ذلك، ولا قيمة للاسم في ذلك.
ويعقب الحماسة الأولى تنظيم، ويتحول المتعصبون إلى مبشرين، ويبدو فوق الرهبان أساقفة فتقف رومة في وجههم، ولا عجب، فهؤلاء الناس يجرءون على القول بأن جميع الشعوب متساوية أمام الله فيرفض ألوف الناس حمل السلاح في سبيل رومة، حتى إن أحد الأديار المحصنة يقدم على طرد رسول الإمبراطور خارج أبوابه، ويكترث الإمبراطور من فوره للثور هابي الذي كان محل احتقاره فيما مضى، ويأمر بتقديم القرابين إلى آلهة مصر، وذلك لما يساوره من غم بسبب ذلك اليهودي الشاذ الأطوار الذي قيل إنه صلب أمام راية الرومان. ومن جهة أخرى يبدأ الرومان - بعد أن هدموا معابد اليهود - بمقت هؤلاء اليهود الذين ما فتئوا يقدرون صدقهم.
ومع ذلك يشد الاضطهاد عزائم جموع النصارى، ويتنزل أغنياء من الأغارقة عن أموالهم للكنيسة التي قامت بأعمال إصدار كبيرة فأرسلت إلى ما وراء البحر ثلاثة عشر مركبا خاصا بها. ولم يلبث بطرك الإسكندرية أن صار غنيا كالبطالمة في الماضي، ولم ينفك الناس يرون ظهور متهوسين، ومن هؤلاء أفروزين الباهرة الجمال التي هجرت زوجها - عن افتضاح في العاصمة - لتعيش في حجيرة فتقضي ثمانية وثلاثين عاما في الصلاة، ومن هؤلاء شريف روماني شاب صديق لمركس أوريليوس وحامل لاسم تيطس فلافيوس قد اعتنق النصرانية وانتحل اسم كليمان فصار يحمل على لبس الثياب القصيرة التي تبدو منها الركب كما يحمل على الذيول السابغة
1
التي تكنس الأرض، وعلى النسائج الشفافة والجوارب الرقيقة فيغدو محل حديث غرف الاستقبال.
ويعترف بالنصرانية في القرن الرابع فيفوق نصارى مصر مضطهديهم عنفا ، ويظهر من هؤلاء النصارى أناس بلغوا من التعصب ما يهدمون به المعابد والكتابات والتماثيل والصور الجدارية التي لم يمسها أي شعب أجنبي في ألوف السنين، ويقتل من يزعم أنهم وثنيون بالمئات، وتقطع تلميذة أفلاطون الحسناء ومعلمة علم الفلك في الجامعة، هيباتية، إربا إربا وتحرق كصنيعة للشيطان. ولما نهب معبد السرابيوم من غير أن تنزل صاعقة على الهدامين كان ذلك خاتمة لأحد وجوه العالم القديم.
ويتنبأ أحد حكماء الإسكندرية المتأخرين - أسكليبيوس - بما يأتي:
يقترب الوقت الذي لا يعرف فيه أحد ديانة المصريين، وسيهجر بلدنا؛ وستكون القبور والموتى - فقط - شهودا عليه. فيا مصر! لن يبقى من مذهبك سوى أساطير لا يؤمن بها أحد من الأعقاب، ولن يبقى غير الكلام المنقوش على الحجر والذي يحدث عن قدماء الآلهة.
الفصل العاشر
يحطم الفراعنة على الجدران، ويعتنق الفلاحون الدين الجديد فرحين. والآن يبدو الرب أقرب إليهم مما إلى آبائهم؛ وذلك لأنه يتكلم المصرية، وهم سعداء منذ أخذ الرهبان يتلون عليهم الإنجيل بلهجتهم التي لم تقض عليها لغة الكهان الهيروغليفية الجليلة، وما كان ليزعجهم أن يروا كتابة لغتهم بالحروف اليونانية ما داموا يجهلون القراءة، وقد أتاهم نداء من بعيد فهز فؤادهم.
والواقع أن رومة عادت لا تملك من القوة ما تعارض به النصرانية، وكان النصارى شبانا والرومان شيبا. ويقترف الرومان أعظم خطأ باعتناقهم دين أعدائهم لما ينطوي عليه ذلك من الحكم بهلاك أنفسهم، لما يؤدي إليه من نزع سلاحهم وتسليم سيوفهم إلى أولئك الذين قاتلوهم، بيد أن من المألوف - حتى في زماننا - أن ينتحل الورثة ما كافحوه زمنا طويلا من سياسية ووسائل عمل، ويصبح الإمبراطور أسقف رومة المسلح.
ويسير البرابرة إلى فتح العالم بين ذينك المبدأين، ويغادر هؤلاء البرابرة - الذين هم قبائل وحشية من لابسي جلود الحيوان - غابات البلوط، ويرتدي هؤلاء الجرمان ثياب مرتزقة الرومان مع بحث عن مغامرات لحسابهم الخاص فيفرضون أنفسهم على ضفاف النيل بالحديد والنار، وتجد في كتابة مأتمية بأدفو قولا عن الهياطلة،
1
الذين «اعتنقوا النصرانية فصاروا دخلاء في كل مكان»، كما ذهب إليه حديثا أحد علماء الألمان، ويهود الفيوم وبلاق وحدهم هم الذين لم يتعرض إليهم هؤلاء. ومما حدث أن امرأة حسناء من ضفاف الرين - وقد كانت أمة فيما مضى - رافقت هؤلاء الوندال وتنبأت لمصر بمستقبل زاهر تحت سلطان الجرمان!
وتتداعى الأسداد والقنوات تحت أحذية هذه العشائر التي صارت كتائب الرومان المرهوبة عاجزة عن وقفها، وعادت الناعورة لا تدور، وأخذ الذهب يقل مقدارا فمقدارا، وصار عدد العبيد يزيد، وبدأ الحب ينقص بين عام وعام، وأصبح نقله إلى أوستيا
2
يتطلب ربع ما كان يجب من السفن، ويتصرف بضع أسر كبيرة في الدلتا الخصيبة وفي السهول الخضر الواقعة عند حد الصحراء فتقف مراكب حب منافسيها وتسد قنوات أعدائها، ويفر ألوف من الفلاحين تخلصا من الضرائب الجائرة المطلقة التي تفرضها، ويقطع هؤلاء الفلاحون السابلة، ويؤلفون عصابات مستعينين بمرتزقة الجرمان لنهب الأديار وقصور الأغارقة وسلب ما فيها من مال وأنعام.
وتؤدي تلك الفوضى إلى انهيار مصر، وتحتاج مصر إلى النظام أكثر من أي بلد كان، ولم يسطع جوستينيان أن يشمل النيل بعدله، ولم يأل جوستينيان جهدا في نصر النصرانية فحمل البدويين والبليمي، وزنوج جوار دنقلة أيضا، على العماد،
3
وكان هذا قبل ولادة محمد بزمن قليل، وما كان من نزاع بين المذاهب وضعف في الحكومة البزنطية فقد اجتذب الفرس مرة ثانية فدام احتلالهم العاصمة عشر سنين، ولكن القضاء على تلك الفوضى كان يتطلب أمة ألفت مثل ذلك الإقليم وتعودت شدة الحرارة مع عدم عبادة إله بلا عتاد، مع عبادة إله قومي قائل بالقوة، ولكن القضاء على تلك الفوضى كان يتطلب أمة جديدة لم يقدر على استعبادها الآشوريون والفرس والمصريون والبطالمة والرومان.
كان أولئك الناس يحملون عن شمالهم سيوفا طويلة، وكانوا يحملون عن يمينهم سيوفا قصيرة محدبة النصل داخلة في منطق، وكانوا يحملون تروسا مدورة، وكان النبالة منهم يلبسون جوارب وأحذية مستوية، وكان الفرسان منهم يلبسون جراميق وصدرات قصيرة، وثلاثة أوشحة ملونة ملفوفة حول الخصر والصدر والرأس، ويدخل العرب في سنة 640؛ أي بعد وفاة محمد بسنين ثمان، حظيرة التاريخ والدلتا عن انطلاق ديني حربي، يدخلها أبناء البحر والصحراء هؤلاء، يدخلها سكان شبه الجزيرة المجاورة هؤلاء.
ويستولي عمرو بن العاص - وكان قائدا لجيش الخليفة الثاني عمر - على ميناء بيلوزة وهليوبوليس ومدن أخرى في الدلتا، ويقوم عمرو بن العاص، ويعد نشيده مجدا لمصر، بذلك العمل خلافا لأمر مولاه عمر الذي قدر عدم كفاية أربعة آلاف فارس لذلك الفتح. ومن النادر أن تسفر مثل تلك المخالفة عن مثل تلك الفائدة، ويدوم سلطان العرب هنالك تسعمائة سنة بفضل تلك اليد القوية.
ويخيل إلى بطرك الإسكندرية وقواد بزنطة أنهم لا يواجهون غير أخلاط من الأعراب الهمج الذين جابوا الصحراء على حين كان العرب الحقيقيون يعملون في سورية وفلسطين، ويدلون بذلك على جهلهم عواطف الأقباط، عواطف فلاحي النصارى، الذين عدوا الفاتح الجديد منقذا، فساروا على غرضار آبائهم الذين هتفوا لقيصر منذ ستمائة سنة وللإسكندر منذ تسعمائة سنة.
ويلقي الفاتح حيرة في قلوب البزنطيين؛ إذ يخيرهم بين اعتناق المصريين دين الإسلام فيغدون إخوانا للمسلمين وبين إعطائهم الجزية، ويناقش في الأمر ولا يوصل إلى حل، ويقترح قيصر بزنطة أن يؤخذ بأحد الأمرين الغريبين الآتيين وهما: أن يعتنق القائد العربي دين النصارى ويتزوج ابنة القيصر أو أن تدوم الحرب، ويرفض القائد العربي ذلك، ويعتمد على الشعب فيزحف إلى الإسكندرية ويحاصرها نحو عام، ويسلم البطرك هذه المدينة التي لم تعان مجاعة ولم تصب بهزيمة، ويرضى البطرك إعطاء جزية في مقابل حرية شعائر دينه، وهل سلم الإسكندرية اجتنابا لملحمة؟ لم تكن لدى العدو سفن، وكان يمكنه أن يفك الحصار عن الإسكندرية مستعينا بأسطول القسطنطينية، وهل كان ماكرا أو جبانا، أو متدينا فقط، فضحى بالإسكندرية إنقاذا للإيمان؟
ويروى أنه مات بعد زمن قليل معذب الضمير شاهدا على صرامة الفاتحين، ويتوجه الأسطول إلى بزنطة مقهورا، وتلوح عودته خاتمة قصة محزنة أكثر من أن تلوح خاتمة احتلال قرنين، وتقوم بزنطة بآخر محاولة لاسترداد الإسكندرية فتجد جميع مصر مكافحة لها بجانب سادتها الجدد، وتهدم أسوار الإسكندرية بعد أن ظلت عاصمة الدنيا ثلاثة قرون ثم عاصمة مصر وأهم مرافئ البحر المتوسط ستة قرون، ويبدو جميع نصارى مصر أنصارا شديدي الحمية للعرب الفاتحين الذين طردوا السادة من الأجانب فتركوا للأقباط الابن الذي هو من جوهر الآب، ولم يكرهوهم على عبادة إله واحد ليس ذلك الابن من جوهره.
ويبنى حصن جديد، يبنى الفسطاط بالقرب من منفيس وعلى رأس الدلتا، وينقل نحو الشمال نقلا خفيفا في غضون القرون الآتية، ويغدو عاصمة مصر، ويطلق العرب عليه اسم إحدى السيارات مارس التي مرت في ساعات إنشائه الأولى من دائرة نصف نهاره فيدعونه «القاهرة».
الفصل الحادي عشر
ينزل غبار كثيف من الشمال الشرقي إلى القاهرة، وهذه هي طريق الصحراء الكبرى، وهي تسوق إلى العاصمة كل من يصل من سورية، سواء من ناحية دمياط أو على طول القناة القديمة الآتية من البحر الأحمر، ويتجمع الجمهور أمام أسوار المدينة سائرا بسرعة من جميع القرى المجاورة، فسيحتفل غدا بوفاء النيل، وترانا في 15 من أغسطس سنة 1395، والوقت بعد الظهر، ويحسب الفارس السنة وفق التاريخ الهجري، فيقول إنها سنة 773.
وذلك الفارس غريب عنا، وذلك الفارس تركي حارب تحت إمرة برقوق من غير أن ينال مرتبة أو أن يحوز صيتا، ولكن بمثل شجاعة من ساعدهم الحظ فغدوا من عظماء التاريخ، ومن المحتمل أن سلب مغوليا من قتلى جيش تيمورلنك في معركة دارت رحاها في تلك السنوات، ولما يمض كبير زمن على عودة القائد الذي يدفع إليه أجره، على عودة برقوق إلى القاهرة منصورا. وبرقوق هذا كان مملوكا شركسيا فقبض على زمام السلطة مرتين عن جسارة وحيلة ومثل دور سلطان مصر في سورة من الجهد والإجرام، ويتبع ذلك الفارس برقوق في مخاطره ومغامراته طمعا في مشاهدة تلك المدينة المشهورة الزاهرة منذ قرون كثيرة، ويعرض مضياف شريف على ذلك الفارس التركي أن يكون نزيله، وقد يقضي شهرا هنا، وقد يقضي جميع حياته هنا إذا أراد الله ذلك.
وليس السفر شاقا؛ فطريق الصحراء موشاة بسلسلة من الفنادق العامة التي يجد فيها الحجاج والبرد والمهاجرون والمسافرون ما يحتاجون إليه هم وجمالهم من الماء والطعام؛ وذلك لأن الفاطميين وخلفاءهم أنشئوا لسعاتهم وكتائبهم طريقا بين مصر والشام بلغت من الجودة، ومرابط بلغت من حسن النظام، ما كان البريد يقطع معه ما بين القاهرة ودمشق في أربعة أيام.
ويشق ذلك الفارس طريقا لنفسه بين الغبار والحر وبين أصوات الإنسان والحيوان فيزيده إسراعه تعبا، ويرافقه عبد واحد فقط، يرافقه سائس فرسه؛ ولا يستطيع الناظر من بعيد أن يميز أحد الرجلين الأعفرين من الآخر، ويبصر الناظر من قريب أن أحدهما راكب جوادا أصيلا حامل سلاحا أحسن مما لدى الآخر.
والآن يبصر الفارس من خلال الهواء المهتز حرارة سورا أصفر عاليا مع عدة أبراج بارزة بين زرقة السماء، ولكن أين القلعة؟ ولكن أين القباب والمآذن؟ ولكن أين النيل الذي حدث عنه كثيرا ولم ير غير شعب هزيلة وترع ضيقة له؟ هو لم يشاهد حتى الآن ما يختلف عما رآه في آسية.
وتدنو الدهماء من باب النصر ذي الأبراج المربعة المدورة قليلا نحو الخارج فتبدو هذه الأبراج أقرب إلى الوعيد مما إلى الترحيب، ويصرخ الصرافون والمكاسون ورجال الشرطة بين الغبار وتدافع الناس، وتلمع تحت الأقواس العربية - وفي الكوات - سيوف وحراب، فمما حدث غير مرة أن أسفر الهجوم المفاجئ على أحد تلك الأبواب عن تقرير مصير أسرة مالكة بأسرها، ويسر السياح، فهنالك ظل! والسياح يفرحون بتلك الدقائق القليلة التي يقضونها في حمى من النور بين تلك الحجارة العظيمة الحامية، بين الآتين والمنتظرين، بين نتن العرق والنسيم المحرق، بين دنس الإبل، والسياح يشعرون بمثل بهجة كل من يجوب الصحراء، وذلك لما يرون أنفسهم محاطين بجدر تقيهم تلك الشمس اللعينة.
ويلوح كل شيء تحت قبة، وتبدو الطريق المؤدية إلى الباب ضيقة كجميع طرق الشرق، وتسقف الشرفات نيلا لظل كامل، وتمد البسط والنسج بين صف وصف من المنازل فلا يرى القادم غير الظل بين الجدران العالية، غير ضياء بخاري قاتم تميز به السطور، وفي الغالب يتبين القادم ما يراه بما يصدر من صوت وما ينبعث من رائحة.
ويبلغ الفارس غاية رحلته ، ويشعر بنشاط مجدد، ويود أن يلقي نظرة على المدينة من فوره مع تطلع مملوكه إلى المنزل الذي يكسل فيه كما يريد، ويحاول غلام أن يجتذبه بصوته العالي إلى أحد الفنادق، وما زال مجهولا أمر القهوة والتبغ اللذين هما من أعظم النعم لدى الشرقي في الوقت الحاضر، والخمر من المحرمات.
ويجلس الفارس على وسادة أمام الباب وينتظر صابرا، ثم يأتيه غلام ناعس بشراب من عسل أو بقصب سكر أو بشمام أو بتمر، ثم يحضر ثلاثة سقائين حاملين على أكتافهم قربا جلدية ترشح ماء على ثيابهم البالية فيعرضون عليه أن يقوموا بواجب خدمته، ويدنو منه أناس مختلفو العمر، فيمد أحدهم إليه ذراعه المقطوعة اليد (لاحتمال كونه سارقا أقيم عليه الحد)، ويريه أعرج ساقه البتراء وعطله من الرجل، ويرتل الجميع بصوت أغن: «حمدا لمن ألقى الرحمة في قلوب العباد، تصدق علينا بما يمسك رمقنا.» ويطردهم رقيق الفندق إلى الشارع صارخا: «يا أولاد الكلب! يا أولاد المرأة!» وفيما يقزل
1
الأعرج؛ إذ يلتقط كسرة خبز يابسة، ويضعها على جبينه قبل أن يأكلها، ثم ينتحل وضع ولي.
وتتقدم طبول ومزامير موكبا نازلا من الطريق الضيقة، ويتظاهر الجمهور بالسير مع الموسيقيين، ويتعثر أمامهم صبيان للتسول أو لوقف النظر، ويخرج الناس من حوانيتهم المعرضة لكل ريح كما يخرجون من كل قاعة ليشاهدوا موكب العرس، حتى النساء ينظرن إليه من وراء شبابيكهن الخشبية، والنساء - مع أنهم يلعن ذكرى زواجهن في الغالب أكثر من أن يباركنها - يهزهن ذلك الموكب؛ لما يثيره منظر العروس من صورة ضحية ومن خيال حافل بالأسرار.
وإليك جمعا يشق طريقه بين تلك الجوقة والعروس، إليك أناسا مع حصان مستأجر ليقود ولدين إلى الختان، ويظهر الولدان على الحصان فيمسك أحدهما السرج ويتشبث الآخر بأبيه خشية أن يذهبا ضحية أيضا، ويلبسان ثياب بنات دفعا للعين الشريرة، وإن كان هذا التنكر من الأمور المعروفة التي تنم على حقيقة الجنس، ويمشي مساعد الحلاق أمام الحصان المحاط بجمع من الأقرباء والأصدقاء.
ويلبس مساعد الحلاق هذا ثوبا ملونا ويمسك بيده صندوقا صغيرا محفورا مزينا بمرايا، ويهز الحلاق اللابس ثوبا أبيض سكينه ساخرا كأنه يحول مهنته إلى مهزأة، ثم يستمر موكب العرس على سيره، وتشعر العروس في هودجها المحمول على جمل بغم كالذي يشعر به ذانك الصبيان، ومع ذلك تلقى العروس تشجيعا من صديقاتها، ومع ذلك يهتف لها الحضور، فيكتسب هذا المنظر صورة مأساة ممزوجة بهزل.
ويخلو الطريق، ويثب الفارس على حصان بعد راحة، ويرى من خلال باحة برجين عاليين، ويسأل فيقال له: إن ذلك هو «الأزهر»، ويكترث للأمر كثيرا ويقف أمام أقدم جامعة إسلامية سمع جميع الشرق حديثا عنها، ولا يدل مظهرها على أنها بالغة من العمر أربعمائة عام؛ وذلك لأن بناءها جدد منذ مائة سنة نتيجة للحريق الكبير. ويعجب الفارس بارتفاع المآذن ويخلع نعليه قبل أن يدخل الجامع الأزهر، وذلك في الرواق الذي يجلس فيه بعض الطلبة على كراسي قصيرة منتظرين نوبة حلق رءوسهم، ويوسم كل ما يعلم في الأزهر، من الفقه والبيان والفيزياء والجبر والعروض، بسمة الدين كما في تفسير القرآن الذي يشغل أهم قسم من التعليم.
ومن الفقراء أولئك الذين يسيرون في الرواق الكبير حول الحوض، وأولئك الذين يجلسون القرفصاء ويضطجعون، وأولئك الذين يدرسون ويثرثرون وينامون، وأولئك الذين يعنون بالأمور الذهنية فلا يبالون بعيش ولا بمستقبل، وتبصر عشرين أو أكثر منهم جالسين على حصير حول أستاذهم مستندين إلى عمود، ويفسر الأستاذ بصوت نمطي آية من القرآن الذي يعنى بدراسته أكثر من العناية بالتوراة والإنجيل وكل كتاب آخر في العالم لما ينطوي عليه من مبادئ الحياة في الدنيا والآخرة، وتبلغ الغاية في تلك الدراسة الخاصة بالقرآن وحده والتي تدوم عشر سنين في بعض الأحيان، ومن يحفظ القرآن بأجمعه على ظهر القلب ويقدر على تفسيره يؤذن له في تعليمه، أجل، يقضي التلاميذ أياما في البطالة، ولكنهم من الحاضرين، والسلطان يطعم الأساتيذ والتلاميذ، ولا يضغط أحد منهم.
ويسمع ضجيج كبير في زاوية مظلمة من الرواق، ويسمع الفارس شتائم وأصوات مضاربة بالعصي ويهرع الفارس إلى مكان الضوضاء فيرى رجالا يقاتلون الهواء كالمجانين، يرى تلاميذ من العميان، والعميان لا يبصرون النور الخارجي ولا يرون غير ما هو فيهم، والعميان أسرع انفعالا وأكثر تشاجرا من رفقائهم المبصرين لهذا السبب، ويسمعون صوت مناد، فالشيخ يمر ويقف تنازعهم، ويتوجهون إلى الرواق متلمسين، ويموجون على غير هدى كالخفافيش، ويؤتى بهم إلى أستاذهم في نهاية الأمر، ويمسكون يده ويقبلونها مرتجفين.
الفصل الثاني عشر
يمشي الفارس في الأسواق المجاورة للأزهر، وسوق المكتبات هي أول ما يدخل، وينشأ جو ثقيل أعفر نتن عن تزاحم الإنسان والحيوان والسلع في هذه الطرق الضيقة، وتتحاك الجمال الراشحة عرقا والحمير الناهقة، ويظهر أن الناس والأشياء يعيشان منذ قرون في عالم واحد من الجمود والقذارة، والحريق وحده هو الذي نظف كل شيء بهدمه كل شيء.
وذلك التاجر ينام على ماله كتنين الأسطورة، وما يصدر عن وعاء نحاسي أو نسيج حريري من لمعان فأقوى من نظرة حراسهما الشيب، ولا يكترث الفارس للمصاحف القديمة المكتوبة بالخط الكوفي، وتجتذبه الأسلحة، ويتوسل إليه الباعة فيجلس على وسادة أمام حانوت ضيق، ويروز قوسا مرصعة بزبارج
1
كبيرة، ويفكر في قتلى المغول أو الراقصات الجميلات على ما يحتمل، ولا يرى أن يشتري، ويسير ماشيا تاركا مملوكه يمسك الحصان بيده، ويقدم تاجر إليه عمامة ويقيسها ليريه أنها أطول من رأسه سبع مرات وأنها تصلح كفنا له ذات يوم إذا ما أراد الله.
ويقف طبق كبير من عقيق نظر الفارس الغريب أكثر مما تقدم، ويبدو هذا الطبق أثرا فنيا ذا تسعة عشر وجها فتلمع بجانبه مصابيح من بلور ومقابض أبواب من برونز، وفيما هو أبعد من ذلك ترى صدرات مخططة من حرير ومعاطف ذات خيوط من ذهب يخرجها البائع التعب من رزمها كما يخرج الله الطائر المسحور الذي ذكرته القصة.
ويسمع بغتة صوت من أصغر الحوانيت، وتسطع من هذا الحانوت الصغير رائحة عطر فلا يسع الفارس سوى دخوله، ويرفع ساحر العطور زجاجة وأخرى من رفوف صغيرة شاب بينها، ويمسكها من غير أن يلتفت، ويجتذب إليه يد الغريب الغليظة، ويضع صمامة على راحته ويدعه يشم، وهذا هو شذا الياسمين، فشذا العنبر والطيب، فريا
2
القرنفل، ثم يريه المساحيق والمتبلرات من مسك ومر
3
ولبان، وينتقل الفارس بخياله إلى أمة تنتظره في منزله فيزيدها عطر من مصر البعيدة فتونا، ويبصر الشائب ما يدور في خلد هذا المحارب وما يتنوره هذا المسلم الحقيقي من ماض بعيد حول ليال علم فيها أن العطور تولد الحب.
ويداوم الفارس على سيره فيبصر أذرعا سمرا ترفع آنية نحاسية لامعة من صنع بلغارية، ويبصر حريرا من صنع أرمينية ينشر بين يدي شائب تعب، ويبصر نسيجا من فلاندر يخشخش بين أصابع غلام أبيض اللون جلب في السفينة نفسها على ما يحتمل، ويبصر خلف الزجاج اللامع الوارد من قبرس امرأة مبرقعة تتبعه بعينيها.
ويصل الفارس إلى الشارع الرئيس في نهاية الأمر، ويقال بصوت عال: من يريد ماء؟ وفي كل مكان أنشئت عيون عن تقوى وتوبة؛ وذلك أن محمدا سئل عن خير الأعمال فقال ابن الصحراء هذا بتوزيع الماء بين الناس.
وتكثر المساجد والمدارس في هذا الحي، ويقيم برقوق - الذي صار سلطانا في ذلك الحين - بناء فيجعله ضريحا له، ويفضل برقوق أن يميت الآخرين في الزمن الراهن. وترى في بناء آخر - أقامه السلطان قلاوون منذ قرن - رتاجا
4
مصنوعا من رخام أسود وأبيض فيؤدي هذا الرتاج إلى قبر تعلوه قبة ذات كتابات صدفية فتلمع هذه الكتابات في الظل كما تلمع أعمدة المحراب السماقية.
وتنتصب جدر القلعة فوق الفارس الغريب في نهاية الأمر، ويحاول الفارس أن يغذ في السير فلم يسطع من شدة الزحام، ويقفه بناء مهم مرة أخرى، ولم يحدث أن رأى حجارة منقوشة ضخمة كالتي وجدها فيه، وهذا هو مسجد السلطان حسن الذي نشأ عن قتله جلوس السلطان الحاضر على العرش، ويبرز الجدار في السماء الزرقاء مقسوما إلى خمس عصائب صفر ضاربة إلى لون بنفسجي، وتظهر أبواب وأقواس مضاعفة وطاقات ثلاثية مزخرفة مصنوعة من ملاط واقعة بين وردة جميلة، ويتعب البصر بالمتدليات في الخارج، ويقر البصر بها في الداخل؛ وذلك لأنك ترى في وسط ساحة واسعة مربعة مبلطة بالرخام بركة كبيرة يغسل أناس كثيرون أرجلهم فيها، وما عليه المصليات الجانبية من تناسق وما عليه البناء من أبعاد واسعة فيلقي السكينة في قلب المؤمن، وما على الجدر من شرف فيطمئن له الجندي.
وإذا ما رفع الفارس بصره وأبصر الجدار عموديا رأى أعلى أبراج القاهرة، وإذا ما خفض الفارس بصره أبصر على طول الأقواس العربية سلاسل حديدية تعلق المصابيح بها لتضوأ ليلا في أول العيد، ويدل الكرسي الثابت من المنبر إلى الوراء على الروح التي توجه جميع ذلك، كما تدل عليها الآية القرآنية البارزة بحروفها البيض حول أعلى جدار الساحة الأسمر، ويتطارد الحمام تحت سماء الله حتى يظهر هوروس، حتى يظهر الصقر الأكبر، فيطرد الحمام جميعا.
ويركب الفارس حصانه ويبلغ باب القلعة الهائل ويدخل منه، وتستند قدرة الإسلام منذ قرون إلى هذه الأسوار والأبراج التي ما فتئ يبدلها ويقويها بين جيل وجيل كلما تقدم فن الحصار؛ وذلك لأن تلال جبل المقطم تشرف على القلعة وتهددها، وتكدف
5
الخيل في الساحة وتصهل، ويمسك العبيد بركب الأمراء المتكبرين اللابسين معاطف ملونة، ويضربهم هؤلاء الأمراء على ظهورهم بالسياط إذا لم يبدوا نشاطا كافيا.
ويهرع مائة من الرجال لحط سلعة غريبة عن الجمال تسيل قطرة قطرة من رزم كثيفة، ومنذ عهد الفاطميين تجلب قافلة في كل يوم رزما مشتملة على ثلج من لبنان لكي يرتشف السلطان ورجال بلاطه أشربة باردة في فصل الصيف بمصر، وتدون رحلة القافلة في الصحراء بضعة أسابيع ويبرد الله الحيوان والإنسان في أثناء هذا الحج العجيب، ويذهب صراخ الخزنة في وجه السائقين أدراج الرياح، ولا يحول ذلك دون ذوبان نصف الأحمال.
ويقف بجانب خيل أولئك وجمالهم - التي يحيط بها جنود عابسون وشرط راصدون، برد من كوش ونوبية، ومن غزة والإسكندرية، ومن بعلبك وبيروت وصيدا، حاملون رسائل من ولاة وأصدقاء وشباه أعداء، ويحرس في ساحة مجاورة أربعة مسلحين خيمة للأمير قائمة على مزراقين، وتبدو القاهرة للأمير من فرجة في الجدار الخلفي.
المساء على ضفاف النيل.
وأخيرا يشاهد الفارس الغريب هذا المنظر الذي امتدحه له كثير من المحاربين والحجاج والقاصين، وتسيطر الأبراج والقباب على العاصمة على مدى البصر، فمن الأسفل يرتفع نحو الفارس طنين لا ينقطع، ترتفع إليه أصوات وصرخات مختلطة من كل نوع، وفي الشرق وراءه تقع الصحراء وصخرها، وفي الغرب - وعلى ضوء الشمس - يظهر له واد أخضر على ضفاف النهر العريض الذي يجري إلى الشمال فتحيط أضواجه
6
بجزيرتين طويلتين ضيقتين، ويغطي النهر مئات من الزوارق تنتفخ أشرعتها بنسيم قوي بعض القوة.
ويرى الفارس النيل بعرضه الكامل للمرة الأولى، ويعلو إلى السماء ذات اللون البنفسجي عدد من الخيام الحجرية العظيمة على حد الأراضي المزروعة، تعلو أهرام الجيزة، وتعلو أهرام سقارة من بعيد، فتعد هذه الأهرام صوى
7
للتاريخ يتعذر زوالها.
ويجب على الفارس أن يمر من حي زاخر بالسكان حتى يجد منزل صاحبه؛ وذلك لأن بعض الأغنياء والفقراء يسكن قريبا من بعض في تلك العاصمة، ويرى الفارس أكواخا مبنية من الآجر المجفف في الهواء أكثر من أن يرى بيوتا، ويرى الفارس أمام باب امرأة سافرة لابسة ثوبا أزرق جالسة القرفصاء، وترفع البرقع على وجهها بحركة متئدة رمزية عندما ينظر الفارس إليها، وتهيئ لأولادها طعام المساء المؤلف من بيض وجبن ولبن وأرز، ويشم الرجل رائحة البصل المقلي على موقد يشغل طول الغرفة الوحيدة، والرجل في فصل الشتاء ينام في منزله هو وزوجه على الموقد الساخن بخثي
8
البقر، مع أن أولادهما ينامون على حصير فوق الأرض.
ثم يبلغ منزل صاحبه، ومنزل صاحبه هذا مزلج
9
كجميع بيوت الأغنياء، كبيوت وطنه دمشق وكبيوت العالم الإسلامي. وهل هذا هو لحفظ سلامته؟ لا يستطيع المالك أن يدفع هجوما عن نفسه، ويكفي قفل محكم للوقاية من اللصوص. ولبيوت المسلمين هيئة الحصون بسبب النساء اللائي لا يخرجن إلا نادرا، والنساء يسيطرن على الحياة بأسرها مع عطلهن من الحقوق، ويحيط الرجل منزله بسياج من الحذر، فتحجب أفواه النساء وآذانهن، وهن لا يتصلن بالعالم إلا بعيونهن. ومن المحتمل أن تكون هذه العادات قد عاقت تقدم الإسلام الذي هو أكثر الأديان رجولة، ومن المحتمل أن يكون هوان المرأة قد أفقده العالم بعد أن كان قبضته.
ويوقظ وقوف الخيل فجأة بواب المنزل النائم على الأرض، ويرتجف البواب، ويسمع صوت، ويصر الباب، ويظهر حارس آخر حامل رمحا، ويبحث ويحذر، ويهرع ويعنى بالخيل، وينزل الخائل
10
من الدرج وقورا ويسلم على الغريب ماسا الأرض بيده وفؤاده وجبينه، وتصر النوافذ، وتسمع النساء وجود غريب هنالك، ومن النساء امرأتان كانتا جالستين في الساحة بالقرب من البركة فتصعدان من باب سري إلى دائرة الحريم التي تكون في الطبقة الأولى.
ولا تسرع النساء ما دام مجاز
11
البيت ملتويا فلا يستطيع أحد أن يرى ما في الساحة من الباب، ولا يحق للنساء أن يبصرن، ولا يجوز أن يبصرن، حتى إن المؤذن الذي يدعو المؤمنين إلى الصلاة خمس مرات في كل يوم يكون من العميان على قدر الإمكان، وذلك لكيلا يرى من فوق المئذنة امرأة في ساحة بيت مسلم غني.
ويدخل نور ضئيل من نوافذ شبكية إلى رداه الرجال في الأسفل، وهذه النوافذ مقسومة إلى مئات من المربعات الفسيفسائية أو الخشبية المحفورة على العموم ما دامت معرضة للحر، ونصف الردهة مرتفع، وتحيط بها من الداخل متكآت مغطاة بفرش ووسائد ونسائج ثمينة، ويشوش كل شيء، وذلك لنهوض الرجال حتى يحيوا القادم، ويتقدم رب المنزل بود وبوقار لا يرى مثله في غير الشرق.
ويبدو رب المنزل لابسا قميصا أبيض متدليا على سرواله ولابسا صدرة بلا كم وجلبابا حريريا مخططا ذا كمين ساترين لليد، وحذاء حاد الطرف مصنوعا من جلد مراكشي أحمر، وعمرة قصيرة على الرأس، ويقف أمام صديقه الفارس لحيانيا ضاحكا على حين يخلع الخدم نعلي المسافر ويسعفونه بالماء، ولن يسأله عن مأتاه ومآبه مهما كلفه ذلك، وكل ما في الأمر أنه يريه هدية كان الآخر قد أتاه بها، ويبلغ احترام حرية الفرد وحياة الغريب درجة لا يحاول شخص أن يسأل معها صديقا له عن أصله وفصله وماضيه وأهدافه، ومع ذلك يرقب كل منهما الآخر عند تذوق شراب فيلاحظ كل حركة وأقل نظرة إلى الرقيق وإلى الباب، ويدرس كل منهما وضع الآخر وثروته وسلامته من غير أن ينبس بكلمة خلا ما هو خاص بعيد الغد.
ويسود همس وثرثرة في الطبقة العلوية، فالنساء يعشن ويأكلن معا، وينمن في الردهة الكبرى عادة، شأن بنات بلادنا في المدارس الداخلية سابقا، والنساء هنالك مجازيع مباطين مغايير مناكيد، والنساء هنالك شبقات كثيرات الاستطلاع، ولا يزيد عددهم هنالك على أربع وفقا لأحكام القرآن، وليست الإماء من هذا العدد، وللإماء مثل نفوذ ربات البيت في بعض الأحيان، وتتشابه النساء في دوائر الحريم، فهن ذوات وجوه ممتلئة محاطة بخصل قصيرة، وهن ذوات بشرة بيضاء عن بعد من الشمس، وهن ذوات حواجب مطولة عمدا، ويلبسن سراويل حريرية واسعة مستقرة تحت الركبة، وتظهر صدورهم شبه عارية، ويبدين عناية كبيرة بأظفارهن وأصابعهن، ويتخذن منذ قرون لعبا معدة للغرام، ويسرهن حوك المكايد كجميع الأسارى، ويوهنهن الاصطفاء، فإذا بلغن العشرين من عمرهن أخذن في الذبول كما يرى العارفون.
لا دوام لاتحاد في تلك البيئة، ولو اقتصر الرجل على زوجة واحدة، وإذ إن حياة المرأة لا تنتهي في العشرين من عمرها فإن الحقد والانتقام والازدراء والوعيد أمور تلم بتلك البيوت المغلقة، والواقع أن هذه البيوت ليست منازل مسرة، وفي هذه المنازل يولد الأولاد ويربون، وفي هذه المنازل لا حد لسلطان الزوج، فإذا ما قال لزوجته «أنت طالق»، وأعاد لها ثلث مهرها كان عاملا بأحكام القرآن ككل مسلم تقي، ومهما يكن من أمر فإنه يحرم عليه أن يقذف زوجه، وهو إذا ما اتهم امرأة بريئة بالزنا، ولو كانت زوجه، عد مقترفا لإحدى الكبائر الست التي ليس البغاء منها.
وهكذا تغزل خيوط الشرف والوفاء هنالك، وترى حيازة البدن هي التي يهدف إليها في تلك البيوت المرتجة
12
جيدا حيث يفك الغرام الحسي جميع الغرائز من عقالها، وحيث يحلم بضروب المغامرات، وحيث تبحث النساء بلا انقطاع في الجزئيات الجثمانية عن خبث ساذج؛ أي في ذلك العالم المقفل حيث يزيد ما يسوده من نعيم على ما يسود الدور العامة، فيحافظ على تلك الحيازة البدنية ويدافع عنها بالإيمان، وبالحسام.
الفصل الثالث عشر
تضاء جزيرة الروضة والضفاف والنهر في الليلة القادمة فيحتفل جميع الناس بوفاء النيل، ويأمر السلطان النيل في الغد بمجاوزة السد الأخير، واحتفل ب «ليلة النقطة» في 17 من يونيو؛ أي قبل شهرين؛ وذلك لأن دموع إيزيس - حين تبكي زوجها - تجعل النهر زاخرا، وذلك هو اليوم الذي يرفع المطر فيه مستوى النيل الأزرق على بعد مئات الأميال كما تدل عليه مباحث علماء الجغرافية قديما وحديثا.
وفي كل أسبوع من زمن الفيضان يبشر منادي النيل - مع جوقة من الصبيان - سكان العاصمة بارتفاع النهر، وفي هذا الصباح ينبئ المنادي بأن الارتفاع بلغ ست عشرة ذراعا، وهل هذا صحيح؟ وهل هذه هي ذريعة أميرية تلجأ إليها الحكومة لتزيد الضرائب؟ ولا ضير، ما دام الجميع راضيا حين يسمعه ينشد هو وجوقته قائلا: «الله أكبر، الله بعث النيل من الموت إلى الحياة، الله لطف بأطياننا، ففاضت القنوات. حمدا لمن أنعم على مصر بالنهر الجاري، افرحوا يا مؤمنين! ست عشرة ذراعا! الله يسقي الأطيان العالية.»
1
ويحتفل بوفاء النيل منذ ألوف السنين، ويخضع جميع الفاتحين لهذه العادة الفرعونية، ولكن هذا الاحتفال لم يكن مضجا في زمن كما في عهد العرب.
ويؤلف باعة البطيخ صفا طويلا فيشقون لأنفسهم طريقا بين الجمهور، ويحملون على رءوسهم هذه الفاكهة القذرة المستورة بالذباب، ولا يكتفون بالدانق الذي يدفع إليهم على العموم، وإذا ما دفع إليهم أكثر من ذلك قالوا بصوت عال: إن النقود زائفة، ويتجمع الناس وتكال التهم، ويكثر اللغط ثم ينتهي الأمر بالضحك، ويبتعد أحد الحضور عن الجمهور أعرج، فهو الذي قد رض، وإليك منظرا غير منتظر، إليك صبيانا ينزعون عمامة شيخ سائر على حماره، فيقول الجمهور ضاحكا: «القطوا تاج الإسلام!» ويتهلل وجه النبي المسن ذات حين، فاليوم يوم الاحتفال بوفاء النيل ، وعلى الإنسان أن يتذرع فيه بالصبر.
ويحيط جمهور فرح بعاريين متبارزين بعصوين كبيرتين؛ وذلك لأن الناس في مثل ذلك اليوم يودون أن يروا عاداتهم موضع هزوء، بيد أن الضحك لم يدم، فلم يلبث الناس أن سمعوا صوتا حادا، فحدقوا إلى درويش غير هازل، فقد بقر هذا الدرويش بطنه بسكين وأخرج منه أمعاءه ثم أعادها إليه كما يعيد الملاح إلى قعر الزورق حبلا مطويا، ويثير المنظر فضول الحضور وذعرهم فيرمون إليه نقودا نحاسية، ويكون أحد الحضور من الوقاحة ما يحاول معه إزلاق دانق في البطن المفتوح.
والآن يأتي دور جمع ذي بال، ولا يجزع هذا الجمع من رائحة الجمهور مرة واحدة في العام، ويتقدم الجمع فرسان لابسون مغافر، ثم يأتي خصي لابس معطفا أحمر واسعا وواضع على رأسه عمامة بالغة من كبر الحجم ما لا تلائم معه وجهه المتورم، ثم يأتي نسوة مبرقعات مستطلعات راكبات حصنا ذات سروج مستورة بأغطية محشوة فيظهرن كأنهن جالسات على متكأ، ثم يأتي خلفهن عبيد يحملون الأولاد على أكتافهم، ويبدو بجانبهن أزواجهن ممتطين جيادا مع إبعاد سيقان وركب إظهارا لزهوهم، وتحجب صبية ظريفة نصف عارية وجهها القذر بطرف ثوب اقتداء بحسان النساء، ويتوسل إليهن على غير جدوى متسولون صغار لابسون أسمالا، ويستنشق هؤلاء السائلون رائحتهن فينقلب إلى مهزأة سوء استعمالهن المسك والزباد، ويتبعهن فريق من الفقراء العمي محيط بعلم أحمر يحمله أحدهم طالبا للصدقة بأصوات غن.
وتسلك الشارع صعدا فرقة موسيقية راكبة حميرا بطرة فيكون لزمرها صوت كبير، وتتقدم هذه الفرقة الحرس؛ وذلك لأن المماليك في ذلك اليوم أيضا يقومون بعملهم جادين فيوجب وقع حوافر خيلهم قليل ارتعاش لدى أولئك الطربين، ويعدو نحو السد ما بين المائة والمائتين من الفرسان، ويلبس هؤلاء الفرسان برانس مقتبسة من الصليبيين، وتصل سراويلهم المنتفخة إلى أحذيتهم تقريبا، وتزين ثلاثة خناجر مختلفة زنار كل واحد منهم، ويكنس سيف كبير خاصرة كل واحدة من مطاياهم.
وكان بضع مئات من العبيد قد أنشئوا في شهر يونيو في المكان الذي يقطع فيه القناة الكبرى - أي الخليج - جسر حجري على بعد مائة متر من منفذها إلى النيل، وبالقرب من الجزيرة الكبرى، سدا ترابيا أضيق في أعلاه مما في أدناه مسيطرا بستة أمتار على المياه الدنيا ومسيطرا بأربعة أمتار أو خمسة أمتار على مستوى القناة، واليوم تبلغ الزيادة مستوى السد. واليوم هو يوم ثقبه، وكان قد رفع بين السد والبحر ركام من تراب على شكل مخروط، وهذا هو عروس النيل، وهذا يذكرنا بالعذراء التي كان يضحى بها في القرون القديمة، وقد جرفه الفيضان منذ نحو عشرة أيام.
ويقترب الفجر، ويأمر أمير حرس المماليك بإعداد منفذ السد، وتكتمل الدهماء، وتجري مع النهر مئات الزوارق المضاءة بمصابيح زجاجية ملونة، وذلك بين الهتافات والأناشيد والمعانقات الغرامية؛ وذلك لأنه صولة النيل على الأراضي التي يخصبها يثير لدى الرجال والنساء خيال الأعراس فيجعل هؤلاء من تلك الليلة ليلة أعراس.
ويجلب حفارون لثقب السد، ولكي يمارس النهر حقوق السيد رمزا، ويساعدهم على ذلك مئات الرجال، ويرفع هؤلاء التراب وينقلونه بقفف ليفرغوه على الضفة. ويتساءل ألوف الناس في الليلة الحارة الفائرة ويتمازحون ويتحاضون بين ضفة وضفة وجزيرة وجزيرة، ومن هؤلاء من يقذفون بأنفسهم في النيل كالمجانين ليخرجوا منه مغتسلين، ومن هؤلاء من يرمون في النيل قطع نقود، فيحاول صبيان من البله أن يلتقطوها بصنانير، وتهتز الزوارق وتنقلب ويعلو الصراخ فيطفو على صوت الموسيقى في المراكب حيث تقوم راقصات برقصة البطن، ويشاهدهن رجال جالسون القرفصاء في القوارب فيهيجون شيئا فشيئا، وترتفع صواريخ إلى السماء، وتمتدح ساحرات نصف عاريات خواص أشربتهن المقوية للباه.
وتختطف كلاب قطع لحم موضوعة على أوضام
2
ثم تعوي تحت السياط، ويمسك لصوص ويضربون، وتمر مواكب من دراويش مجذوبين ويرقص هؤلاء ويدخلون أظافر إلى صدورهم ويضعون نارا تحت آباطهم أو قطعا من زجاج تحت ألسنتهم، ويوضع مشعوذون في أكياس ويقذفون في النهر كما لو كانوا يودون أن يغرقوا فيه، ويزعق هؤلاء الناس المرتجفون ويعرقون حتى يلوح في السماء من ناحية الشرق - خلف أبراج القلعة - ضياء ضئيل ضارب إلى خضرة، ولا يلبث هذا اللون أن يتحول إلى صفرة فإلى زرقة شاحبة.
عودة قطيع.
وفيما ترتفع الشمس في الأفق؛ إذ تبصر ألوف الناس يهرعون نحو السد حيث يدعو الله مائة راقص منتفخ الثوب عن دوران، ويردد الجمهور دعاء هؤلاء ويضرع إلى الله العلي الذي أنعم عليه بالليل والنهار، والذي رفع الماء وخلق النيل الذي هو أصل كل سعادة.
وكان قد نصب سرادق فخم مصنوع من حرير، ويشق المماليك بمزاريقهم طريقا واسعة توصل إليه، فقد وصل السلطان بنفسه.
يأتي السلطان وحاشيته من مسجد جزيرة الروضة حيث احتفى بمقياس النيل، حيث احتفى بذلك العمود الرخامي المثمن الزوايا، والذي ما فتئ منذ عهد الفراعنة يخبر بما في زيادة المياه من خير أو شر، ويغوص مدير النيل والجداول في الماء على الرغم من ثيابه الحريرية الثمينة، ويمسح ذلك العمود المقدس بيده اليسرى بمزيج من الزعفران والطيب المحلول بماء الورد يصبه على يده تلك من إبريق فضي، وذلك مع بقائه على وجه الماء خوفا من الغرق. ويشاهد السلطان - وبطانته من حوله - ذلك المنظر من عل، ويرقب السلطان اقتراب أناس موثوق بهم من ذلك المقياس ليحققوا ارتفاع النيل تحقيقا صحيحا.
ويصل الموكب الرسمي إلى السرادق، ويلاقي الشمس الجديدة سيل من الألوان، ويسطع من مائة ثوب ثمين ومن مقابض سيوف مرصعة لمعان ما في القصر السلطاني من سناء يعرض في الأوقات الأخرى تحت ظل القصور المغلقة، ويعرف السلطان بجواده المطهم الذي لا ينبغي لأمير أن يباريه بمثله كما يعرف بوقوفه في الوسط لابسا عمامة النبي الخضراء، ويومئ السلطان، ويسكت الجمهور، ويتلو الوزير منشورا يحمد السلطان فيه الله على آلائه، ويشكر فيه للنيل فيضانه، ويبتهل فيه إلى الله أن يمن على مصر بالبركة، ويرفع مئات العبيد الذين أنشئوا السد فهدموه مع الحفارين أيديهم نحو معبودهم السلطان ناظرين إليه.
وتقدم إليه مجرفة، ويقذف بها في فرجة السد، ويصل قارب - بعد انتظار بجانب القناة - إلى وسط السد الذي لا يزال قائما في الظاهر، ما دام الماء قد وجد طريقه منذ زمن، وتعمل المجاديف في ذلك القسم الضيق من السد وتشق للقارب سبيلا منه على حين يهدد شلال صغير بإغراق القارب فيسرع إلى الضفة الجديدة إنقاذا لنفسه.
وتخرج مئات الألوف من أصوات الفرح إظهارا لاقتحام المخرج، وتشتعل حزم من الصواريخ في السماء الزرقاء، وتصم الأصوات ولا تبهر أحدا، وتنتهي الليلة الطائشة مع الفجر وتشحب وجوه النساء عند الصباح، ويعود الرجال غير مكترثين لهن ويعيد جذل رجولة نشاطهم إليهم، فمنقذ البلد وأبو الحب النيل هنالك! ويرمي السلطان إلى العبيد - من عل - كيسا مملوءا ذهبا ... وتدور رحى معركة هائلة بينهم لطمع كل واحد منهم أن يأخذ دينار جاره، فالسماء لا تمطر ذهبا سوى مرة واحدة في السنة، وتتوارد الزوارق إلى القناة لتمر من الفرجة وتحت الجسر الحجري، ويقابل السلطان بالتحية في كل مكان، ويهتف للسلطان في كل مكان.
ويقف السلطان فوق الضفة، ويقف وزيره بجانبه، ويساورهما فكر واحد، فأمر الضرائب مضمون، فقد أنبأنا القوم ب 16 ذراعا، ولا أحد من القوم يعلم أنه لم يكن هنالك غير 14 ذراعا.
الفصل الرابع عشر
قبض على زمام الحكم بمصر مدة خمسة قرون أولياء أمر مسلمون مستقلون ليسوا عربا ولا أمراء تابعين لخلفاء بغداد، فكانوا يعلنون أنهم خصوم للخليفة وكانوا يرون أنهم أصدق إيمانا وحديثا من هؤلاء العرب الذين فتحوا مصر حوالي سنة 640، وكان هؤلاء الفاطميون الذين استولوا على مصر ودام ملكهم فيها مائتي عام يدعون أنهم من أبناء فاطمة بنت النبي؛ أي من صلب النبي، وكان الفاطميون مقاتلين لا يعتمدون على غير القوة.
ومما حدث ذات يوم أن سئل الرئيس، الذي جاء هو وعصاباته من طرابلس الغرب فأنشأ القاهرة عن أصله، لما كان من إنكار كثير من الناس أنه من ذرية فاطمة، فاستل سيفه وقال: «هذا نسبي!» ثم نثر نقودا من ذهب على الجمهور وقال: «هذا حسبي!»
وكان أولئك الغزاة الذين هم من شمال أفريقية قد استولوا على صقلية وسورية منذ زمن حينما كان عليهم أن يحاربوا الصليبيين. ولما نزل المعز إلى مصر كان عازما قبل كل شيء على الإقامة بأقوى دولة في قارته؛ وذلك لأنه كان قد أتى بعظام أبيه ليدفنها على شاطئ النيل. ومما لا ريب فيه أن كان ابنه ملكا حقيقيا، وقد كتب يقول: «مما تقر به عيني أن تكون رعيتي مدينة لعملي بكل ما فيه سعادتها من ذهب وفضة وجواهر وخيل وثياب وأراض وبيوت.»
1
وكان حفيده الحاكم هلوعا يلقي في الروع هولا، وكان الحاكم هذا مجنونا يتسكع في المدينة ليلا، وكان الحاكم هذا ابنا لنصرانية فيحميها أولا، ثم ينقلب إلى عدو ضد النصارى ويمعن في حرق الكنائس إلى أن غاب في جبل المقطم غيابا غامضا، ولم يوجد جسمه قط.
وتعقب الفاطميين أسر مالكة أخرى، ويكون رجالها من أهل الحرب، ولكنها لم تلبث أن انحطت، ولم ينقطع صلاح الدين الشهير عن الحرب، فلم يعش في عاصمته غير سنين قليلة، وما كان لصلاح الدين من سلطان بعيد المدى فقد أدى إلى حوك كثير من الأقاصيص عنه على ما يحتمل، وقد بنى صلاح الدين القلعة ضد رعيته أكثر مما ضد أعدائه، وقد كان الرجل الذي عهد إليه في بناء القلعة خصيا - لا جنديا - فهدم هذا الخصي أهراما صغيرة في الجيزة لينتفع بحجارتها في بناء القلعة، ولم يجند صلاح الدين قومه لشيد ضريحه، بل أمر بأن يأتي كل زورق يجري مع النيل بعدد معين من الحجارة فيحمل أسرى من الفرنج على نحتها. ولما دخل السلطان عاصمته ظل يتأمل القلعة التي ينشئها ساعات كثيرة فيتلهى أحيانا بأن يحمل حجرا بنفسه.
ويتجلى الفرق بين الفراعنة والمسلمين في أن الفراعنة أفنوا أجيالا بأجمعها في نقل حجارة إلى ضفة النيل اليسرى نيلا لملجأ يعيشون فيه إلى الأبد، وفي أن المسلمين - في المكان نفسه تقريبا، ولكن على الضفة اليمنى - أتوا بحجارة لإقامة قلعة لم تر مصر مثلها قبل ذلك الحين، وبذلك تبدو لك مقابلة بين ضمان تجاه الموت وضمان في سبيل الأحياء، وفي كلتا الحالين يحرم شعب حريته نتيجة حلم ملك بالسلطان، ويبقى الفلاح عبدا ويداوم على حمل حجارة على ظهره.
ومع ذلك يقع في مصر أمر لا مثيل له سابقا، فللمرة الأولى يقبض العبد - لا الفلاح - على زمام أمور مصر، ويظل ابن البلد التعس تابعا مصريا، ويصل المماليك؛ أي العبيد البيض، من آسية التي يجلب تجار الرقيق منها رجالا أصحاء ملاحا، ولم يحدث أن رأى النيل في جريه الطويل مثل ذلك المنظر، وكثير من المماليك الذين ملكوا مصر نحو ثلاثمائة سنة (1254-1517) ولدوا عبيدا، وجميع هؤلاء المماليك من أصل نذل لم يحاولوا كتمانه فتحار بذلك النفوس.
ونقش جميع فاتحي بلد الملوك المؤلهين هذا صورهم في الجدر على صورة الفراعنة في أكثر من ألف سنة. والآن يصعد في درج العرش أناس من أصل وضيع في المجتمع، أناس عدوا سلعا كسلة تين أو كثوب من حرير، وكان أوائل السلاطين يحافظون رسميا على لقب البحرية، نسبة إلى البحر، نسبة إلى النيل، حيث كان آباؤهم يعملون عراة على ضفته في حصون جزيرة الروضة. ومن أولئك من كانوا يضيفون إلى اسمهم الرسمي اسم تاجر الرقيق الأول الذي باعهم كأنهم يودون تخليد الرجل الذي يرون أنهم مدينون له بسعادتهم، ومن أولئك من كانوا يعتمدون على قوتهم - كالسلطان الفاطمي الذي تكلمنا عنه آنفا - فيحظرون وراثة العرش.
وبما أن السلاطين يحتاجون - دوما - إلى جنود، كانت الضرورة تقضي عليهم بجلب ألوف من العبيد، وبلغ ما اشتراه قلاوون أربعة وعشرين ألف عبد، وكان الوزراء والأمراء والأغنياء يبتاعون عبيدا أيضا؛ وذلك لأن العبيد يحافظون عليهم ويدارونهم ويصانعونهم، وكان العبيد من ناحيتهم يلاطفون بجعلهم قوامين على غلمان حسان مشهورين بطول قدودهم ومواهبهم الفنية.
وكان التجار يعرفون لماذا يبحثون في بلاد القفقاس عن الغلمان والجواري بين الكرجيات والشركسيات اللائي هن أجمل من في العالم، ويسهل على المرء أن يغدو ضروريا بالملاحة ومعرفة حسن السلوك، ويمكن الشخص أن يختار غلاما بنظرة وجيه وبنظرة سلطان أحيانا، وإذا ما أضيف الهيف إلى الدهاء استطاع صاحبهما أن يصبح من الحرس وحرر على العموم، وإذا كان هذا الصاحب من ذوي الحظ ولم يغب عن نظر مولاه صار حامل سيف وحافظ مداد وعين منذ صباه «أمير عشرة»؛ أي نصب صاحبا لأدنى المراتب بين من يقبضون على زمام قيادة، ثم يمثل دوره في دسائس القلعة وينحاز إلى أمير الإصطبل أو إلى الساقي الأكبر الذي هو خصم أمير الإصطبل هذا، ثم يشترك في العام القادم في مؤامرة فيصبح كل شيء ممكنا له.
ويا للحرص على الحياة! ويا للشوق إلى الارتقاء! ويفكر المملوك منذ دنو سفينة التاجر من الإسكندرية، ويفكر المملوك منذ مشاهدته شاطئ أفريقية المستوي للمرة الأولى، في إخوانه الذين كانوا قد نزلوا إلى البر مثله فصاروا وزراء وسلاطين، فتثيره رغبة واحدة، تثيره شدة ميل إلى نيل حريته، وذلك لما يعلمه من جميع المخاطر المباركة التي وقعت في عشرات السنين الأخيرة.
ويقف برقوق الجميل نظر تاجر في قرية من شواطئ البحر الأسود فيشتريه من أبويه بنحو عشرين دينارا، وينقله إلى الإسكندرية على سفينة شراعية ويبيعه من أمير في القاهرة بخمسين دينارا، وتمضي عشرون سنة فينادى ببرقوق سلطانا لمصر، ثم ينادى بالمؤيد سلطانا لمصر بعد أن اشتراه برقوق بربع قرن، وينال قايتباي - الذي صار سلطانا كبيرا بعدئذ - حظوة عند أمير إقطاعي كبير لما اتصف به من حذق في المسايفة والرماية فيعتق، ويزهو قايتباي بأصله فيختار من أبنائه ابن أمة له ليخلفه.
ولم يكن هؤلاء الملوك المجهولو النسب ذوي صلات بملوك من أصل مماثل لأصلهم فقط، بل كانوا - أيضا - ذوي صلات بأمراء بلغوا الذروة من علو النسب، فيضطر هؤلاء إلى معاملتهم معاملة الند للند، ومن ذلك أن تفاوض السلطان قلاوون ورودولف الهابسبرغي، ومن ذلك أن أتم بيبرس ما لم يسطع صلاح الدين أن يتمه فطرد الصليبيين، ومع ذلك كان هؤلاء المماليك يعنون بحفظ سليل حقيقي للخلفاء بجانبهم إبقاء للخلافة في القاهرة، وكان هؤلاء المماليك يظلون في أثناء الاضطرابات والفتن ملوكا للبلاد المقدسة فيرسلون كسوة الكعبة المصنوعة من حرير إلى مكة.
ويستمدون قوتهم من الإسلام، ومع أن النصرانية لم تقبل بحماسة كما قبلت به في وادي النيل دخل نصارى مصر في الإسلام أفواجا فبلغ الإسلام من قوة الاستقرار بمصر في هذه القرون الثلاثة عشر ما يتعذر معه على النصارى أن ينصروها مرة أخرى، وفيم تجد سر ذلك النجاح؟ تجده في المنطق الذي ضمن للإسلام - دون الأديان الحاضرة الأخرى - تلك الوحدة بين القوة والإيمان، بين الدولة والمسجد؛ وذلك لأن مؤسسه جاهد بسيفه في سبيل إله قادر على كل شيء، وتجد ذلك - أيضا - في عدم وجود تناقض دائم يضعف الإسلام ويربكه، كما يؤدي إليه دين الدولة النصراني، قال النبي: «السيف مفتاح الجنة.»
2
وإذا كان الإسلام قد صدر بعض الصدور عن اليهودية - التي تناول أربعة من أنبيائها الستة كما تناول صورتها الأولى ومبادئها الأساسية ذات الرجولة - فإن مذهبه الأصلي الذي ما انفك يحافظ عليه قد لان عن تسامح، فالمسلم - وإن عد نفسه مؤمنا حقيقيا - لا يحسب نفسه صفي الله. ويقول القرآن بتعدد الزوجات، ويوصي القرآن بطيب العيش، ولا يأمر بالزهد، ويجعل القرآن من الزكاة ركنا من أركان الإسلام الأربعة فيأمر بالتصدق على الفقراء، وينص القرآن على أن الجنة لمن يعملون الصالحات وينالون عفو الله، ولا يرى القرآن أن الجنة معمورة بملائكة متفاوتين مرتبة ناظرين إلى إكليل الرب، وللمؤمن هنالك سرادق من لؤلؤ وياقوت وزمرد.
والمسلم - على ما يتناوله دينه من أمور دنيوية - يقول بأعظم الفضائل، يقول بالقضاء والقدر فيسلم أمره إلى الله، والله كتب عليه ما يصيبه، ولو كان شرا، وسيكون له كفن من العمامة التي يضعها فوق رأسه، فإذا ما حضرته الوفاة في الصحراء أمكنه أن يغتسل متيمما بالرمل عند عدم وجود الماء، وأن يحفر لنفسه حفرة، وأن يتلفف بعمامته التي تستره حتى فمه، وأن ينتظر الموت، وهنالك يرسل الله - منعما - ريح الصحراء فتسفي عليه رملا يواريه.
الفصل الخامس عشر
عاش السلاطين على شواطئ النيل مسالمين للنصارى قرونا كثيرة، ويقع الصراع ذات حين، وتصعب معرفة المسئول عن ذلك، ولا عجب، ما دمنا لا نعرف المسئول عن الحوادث العصرية في الغالب، ومع ذلك يلوح أن التبعة تقع على النصارى لما كان من رغبتهم في حمل الناس على دينهم.
وهل انتهك المسلمون حرمة القبر المقدس؟ كان المسيح خامس الأنبياء مرتبة لدى المسلمين، وكان محمد قد صرح بصحة دين اليهود والنصارى الأولين، وبأن كتبهم المقدسة هي التي حرفت، ولم يستول العرب وخلفاؤهم على مصر حملا لها على الإسلام، وما كان من بدئهم بالهجرة إليها قبل محمد دفعهم إلى تلك الأرض الخصيبة طلبا للحب والجزية، لا حبا لحمل الناس على دينهم، وإذ كان العرب يجهلون لغة مصر مع عدم ثقافة فإنهم تركوا إدارة مصر للأقباط الذي كانوا أقدر منهم على الحساب، ويقوم الأقباط بفتن منعا لزيادة الضرائب في الدلتا فيبدي العرب شدة، وتصبح اللغة العربية لغة مصر الرسمية بعد قرنين فتحل بذلك محل اللغة القبطية، ويكون الأقباط أول من يتعلم العربية.
وكان النصارى معتدين عندما حفزهم مقصد نبيل إلى الاستيلاء على القبر المقدس، ولكن القدس لم تظل نصرانية غير 113 سنة من ثلاثة عشر قرنا، ثم غدت قبضة المسلمين نهائيا، ويلوح - إذن - أن الصراع انتهى بعد أن وقع في الأرض وفي السحاب كما في روايات أوميرس.
ولما صار المسلمون يضطهدون النصارى في أثناء الحروب الصليبية كان ذلك عن انتقام لأنفسهم، ثم حظر السلاطين على الأقباط ركوب الخيل وحيازة عبيد من المسلمين وحملوهم على لبس عمائم زرق، وعلى لبس جلاجل حول أعناقهم عند الذهاب إلى الحمامات، وعلى وسم أيديهم بسمة الأسد معاقبين من يخالف بقطع يده، ولم يصدر هذا الاضطهاد - قط - عن مثل ذلك التعصب الذي دفع النصارى - في عهد ديوكليسيان - على التقتيل وعلى هدم معابد مصر القديمة.
ومما يروى أنه كان يوجد حوالي سنة 1300 سلطان من أصل نصراني، وإذا ما صدقت الروايات وجدنا أن أصل لاشين من شواطئ البحر البلطي، وأنه من كتيبة فرسان الألمان فحارب الصقالبة في بدء الأمر ثم اشترك في آخر الحروب الصليبية واعتنق دين أعدائه ونودي به سلطانا في القاهرة حينما نسي جميع الناس أصله، ويقال ردا على مغامرته: إن إناء إسلاميا عجيبا خطف من خزائن المماليك في إحدى القرصنات
1
الجرمانية فأتى به إلى بروسية فتجده اليوم في قصر مارينبرغ.
ولم يسلم ألوف النصارى عن إكراه أو اقتناع، بل أسلموا فرارا من الضرائب الثقيلة، وبلغ عدد من أسلموا من الكثرة ذات حين ما نزل معه دخل بيت المال من ثلاثة ملايين جنيه إلى مليوني جنيه وما ذعر معه أمين بيت المال فطلب إلى السلطان أن يمنع موقتا كل اعتناق جديد للإسلام؛ وذلك درءا لما قد يحيق بماليته وسلطته من خطر.
ويعقب ذلك دور كبير من السلم الديني في مصر، ويعين في أثناء ذلك نصراني وزيرا للملك الناصر كما كان يوسف قد عين وزيرا لأحد الفراعنة، فأخذ الأقباط في أعيادهم يستعيرون الشماعد والبسط من المساجد المجاورة، وصارت جميع الأديان تتحد عند عدم ارتفاع مياه النيل فتؤلف موكبا رسميا على طول النهر فيتقدم السلطان الموكب لابسا ثوبا من صوف أبيض، ويكون الخليفة بجانبه، ثم يأتي قاضي القضاة والشيخ الأكبر، ثم يأتي أحبار اليهود وقسوس القبط، ثم تأتي الكتب الثلاثة - القرآن والتوراة والإنجيل - التي أدت إلى نشوب حروب كثيرة، بجانب بعضها بعضا، ثم يضرع إلى الله باللغات الثلاث، وباسم الأنبياء الثلاثة الغرباء، أن ينزل غيثه على النهر ويستر البلد بالخضر، وكان ذلك يقع في القرون الوسطى، في عصر التعصب والجهل، في بلد التسامح مصر التي قد يكرر فيها ذلك غدا.
وكان سلوك الخليفة عمر أكثر روحانية عندما يتأخر فيضان النيل، فلما رفض فاتح مصر - عمرو بن العاص - تقديم عروس لتكون قربانا للنيل لاح هذا النهر حاقدا، فأبدى عمرو ما يساوره من غم لمولاه عمر الذي كان بدمشق سائلا إياه عما يفعل فأرسل عمر إليه الكتاب الآتي آمرا إياه بأن يقذفه في النيل، وإليكه:
من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر، أما بعد فإن كنت تجري من قبلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك.
ولم يسع النيل تجاه هذا الوعيد الملكي المشتمل على طابع السمو والخشوع معا إلا الخضوع ففاضت مياهه في الغد، وهذا ما رواه المقريزي على الأقل؛ وذلك لأنه كان يؤذن للجغرافيين أن يكونوا من الشعراء.
حتى إن السلاطين انتفعوا بقناة السويس القديمة مجددا، فكانوا ينقلون بها الحبوب إلى جزيرة العرب، فلما اشتعلت الفتن في بلاد العرب أمر الخليفة بإغلاقها كما صنع ذلك ملوك الفرس فيما مضى.
وفي أربعين يوما حفر سلطان آخر قناة واسعة بين القاهرة والإسكندرية فوسع بذلك نطاق جنوب الدلتا الغربي وبني ثلاثون جسرا حجريا فساعد ذلك على نمو التجارة في تلك البقعة، وشيدت هنالك قصور رائعة، وأنشئت هنالك مائة قرية، وأتي بأشجار مثمرة من سورية فستر بها ما عد حتى الآن من الصحارى.
وأنشأ السلاطين طرقا تجارية كبيرة وغرسوا في منطقة النيل الأعلى من غاب السنط ما يكون لهم به خشب ينشئون منه سفنا لهم، وكان يمكن صنع جميع ذلك مع ما يحدث من تبديل مستمر بين أولياء الأمور، وبفضل ما كان من سلسلة مراتب وثيقة بين الجنود تملأ بالسلاح ما يفصل السلطان عن رعيته من هوة، وذلك مع وقوفها دون تأليف نظام إقطاعي، وذلك لعدم القيام بفتوح ولعدم وجود منزل لضابط، ومن ناحية أخرى كان لأقل أمير من أمراء المماليك جنوده؛ أي كان له عشرة عبيد على الأقل كما كان لأمير الطبول من العبيد ما بين الأربعين والثمانين وكان للأمير القائد من العبيد مائة وعشرون، وكان على كل أمير أن يجهز رجاله ويطعمهم بما يخصص له من أرزاق ووظائف، فكان ما ينطوي عليه نظام المماليك هذا من سلطة مركزية قوية ضامنا لسلامة القلعة والعاصمة والبلد.
وقد يقاس المماليك بالفرقة الأجنبية، لما تشتمل عليه من أناس منتسبين إلى عروق مختلفة. والمماليك هم من الترك والشركس والألبان والروم والصرب، ومن فرنسيي الجنوب ومن الجنويين أيضا، فكان في كل سنة ينزل الألوف من هؤلاء إلى الإسكندرية مع حظر الملوك وحرم البابوات. والفارق الوحيد هو أن هؤلاء عبيد عابرون ينتقلون كالخيل بين راكب وراكب وتطمس أسماؤهم وأصولهم فلا يحفظون إلا باسم تاجرهم وسيدهم، وقد ظهر منهم وزراء أقوياء مع ذلك، وقد نقل أبرعهم سلطانهم إلى أبنائهم مع ذلك، فساروا في ذلك على غرار نظار القصر في العهد الفرنجي، وذلك بدلا من أن يجلسوا بأنفسهم على العرش. وهل يمكن سلطة قائمة على مثل تلك الوسائل أن تظل مقبولة لدى الشعب زمنا طويلا؟
وكان المماليك يمارسون صناعات البلد المكتسبة أو ما ورثوه عن آبائهم، فازدهرت حرف الفرس في القاهرة بعض الزمن، وبلغ حسن ما كان يحبك في تنيس ودمياط من نسائج الحرير درجة يبتاع أمراء الأجانب معها كل ثوب بمائة جنيه، وبخمسمائة جنيه إذا كان منيرا
2
بذهب، ومن هنالك جلب معطف روجر الصقلي.
ولم يكن إنشاء المباني ليتم بسرعة كما يهوى المماليك الفاقدو البصر، فإذا لم يكف العبيد للعمل سخر ألوف الناس له بالسياط، وهكذا حول مقلع واقع في القلعة إلى حظيرة غنم بعمل متصل دام خمسة أسابيع. وهكذا كانت الدولة تأخذ فائدة عمل أرباب الحرف، والفلاح - البعيد من رقابتها وحده - هو الذي كان يظل بجانب ساقيته، فيصعد الماء.
والدولة هي السلطان، ويحيق الخطر بذلك النظام في كل مرة يفر فيها السلطان أو يموت أو يقتل، ويقع هذا في كل خمس سنين، ويتعاقب ثلاث وخمسون حكومة من المماليك تنتسب إلى اثنتين وعشرين أسرة في 260 سنة، وقد مات ثلاثة عشر سلطانا على فراشهم، وقد خلع الآخرون أو قتلوا، وكيف يمكن الذكاء أو المال أن يسفر عن عمل كبير في حال خال من الأمن كما رأيت؟ حتى إن إدارة النيل لم تظل باقية إلا لأن الفراعنة ابتدعوها منذ أربعة آلاف سنة.
ويداوم النيل على الجريان، ولكن ما أبعد الأمد بينه وبين الفراعنة! ويعقب أمل الفراعنة في الخلود ذكاء الأغارقة وظرفهم وروح الرومان العملية الفاترة وتعصب النصارى ذوي الأبصار المرتفعة إلى السماء ثم حب القتال الغريزي لدى الآسيويين، ثم تبصر مصر قبضة قساة مغامرين يعيشون يوما بعد يوم ويتهادمون دوما بما يحوكونه من مؤامرات مستمرة.
ومن يملك: آلسلطان أم وزيره أم حريمه أم أمراؤه؟ فهذا هو السؤال الذي كان يحرك العاصمة فتتوقف عليه سعادة من يتصرفون في شئون مصر وتعسهم، ولا تجد في تاريخ مؤلف من تسعمائة صفحة لمصر في العهد العباسي غير وصف لذلك الاستياء العام تقريبا، والسقاء الحامل لقربته والفلاح بجانب ساقيته وحدهما هما اللذان كانا يأملان أن يبصرا شمس الله في الغد إذا ما داومت قلوبهما على الخفقان، وكان الاقتراب من شمس السلطان - أو نيل الحظوة لدى بطانته على الأقل - غاية كل رجل وكل امرأة، وكلما دنا الإنسان من ذلك زاد زلقه، ويسقط معظم الناس قبل بلوغ الغرض.
وصغار الناس وحدهم هم الذين كانوا يكتفون بكسب عيشهم، وأما الآخرون فكانوا يطلبون الذهب. وإذ كانت القلعة هي التي توزع الذهب والصكوك فإن ذلك أسفر عن درجة من المحاباة لم تصل إليها أوروبة في القرن الثامن عشر، ولم تبلغها سان بطرسبرغ قط، فلم تزل بقاياها من القاهرة حتى الآن.
وكان من عادة السلاطين في ذلك الزمن أن يسمنوا ذوي الحظوة لديهم، فإذا ما اكتظوا ذبحوهم ووهبوا خزائنهم لمن يخلفهم في الحظوة، وكان من الخزنة من ينهبون الأوقاف الخيرية عدة سنوات ويبتزون أموال الأمراء من غير أن يمنعهم أحد - حتى السلطان - من إدخال قسم من هذا الذهب إلى جيوبهم، ويمضي زمن فيقدر السلطان - الذي لم يكف عن رقابة هؤلاء الخزنة - أن أحدهم بلغ من الثراء ما يعده معه غنيمة كبيرة، فيسجنه ويعريه ويقيد يديه ويركبه حمارا ويأمر بأن يمر من الشوارع على هذا الوجه، ويكتشف الجلاوزة
3
ما عنده من أكداس الحجارة الكريمة والثياب الثمينة، فيعذبون أمه وإخوته وأصدقاءه نبشا للكثير من المخابئ فيقض السلطان بذلك يوما سعيدا، وكان السلطان الناصر يسأل رسله عن الحلوان الذي يأخذونه من الأمراء، وكان الوزير نخميد يقترض بضعة دوانق من أصدقاء له تظاهرا بالفقر.
الفصل السادس عشر
يداوم ذهب بلاد النوبة على الانصباب من النيل الأوسط في خزائن سادة مصر، ويعمل في المناجم ليلا لكي يسطع التبر
1
على نور المصباح، ويظل بعض الرجال نعسا حتى الصباح، ثم يملئون أكياسا من التبر فتحمل على الجمال حتى الآبار، وهنالك يخلط التبر بالزئبق ويذاب، فيجلب في زوارق مسلحة ليضرب نقودا في القاهرة.
والطمع آفة السلاطين ، ويفاجئ الله هؤلاء الطمعاء بأمر في بعض الأحيان، ومن ذلك أن جاء الطاعون من بلاد الصين حوالي سنة 1350 فمر من مصر قبل أن يجتاح أوروبة، فبلغ عدد من يموتون به في القاهرة في اليوم الواحد عشرين ألف شخص أحيانا، ويفزر السمك فيعود فوق النيل، وتكسى أجسام المواشي بالدمامل، ويفسد الدود ثمار النخيل، ويصادر السلطان جميع المواريث التي يتعذر تنظيم أمرها في أثناء تلك الفوضى السائدة لكل مكان. والواقع أن الطاعون أنقذ سلاطين مصر من الإفلاس مرتين.
والسلاطين كرماء مع ذلك، وإذا كان الشعب قد جعل من القرى أساسا للعلاقات، وإذا كان أفقر مسلم سلطانا في سبيل ضيفه الذي يؤويه تحت سقفه، فما أعظم ما يثبت السلطان به أنه مسلم! وإن السلاطين ليرمون إلى الفقراء ذلك الذهب الذي يضغط ضميرهم كما يضغط ضمير كثير من الأغنياء، فيتقاتل أولئك الفقراء لينالوه، وينشئ السلاطين حمامات ومساجد، ويجزلون العطاء للشعراء والعلماء بلا روية كما ينثرون النقود في الشارع، ويردون الضرائب إلى قرية ما من غير سبب خاص، ويقدمون سلاحا وبزاة إلى أمراء مراضين، ويقدمون إلى الرجل الذي يريدون إكرامه أجمل هدية يعرفها عربي؛ يقدمون إليه جوادا أصيلا.
ومما يروى أن السلطان الظاهر دفع مبلغ 15000 جنيه ثمنا لحصان، وقال سلطان آخر لوزيره الذي كان طبيبا كبيرا فطرح على قدميه كتاب طب: «أريد أن أكافئك بأحسن مما كافأ به الإسكندر أساتذته.» فأقطعه أطيانا عظيمة في الدلتا، ويعزو هذا السلطان في زمن آخر ما انتابه من انحراف إلى مسهل قوي رتبه له ذلك الوزير الطبيب فيأمر بقتله في الغد مع بلوغه الثمانين من سنيه.
والقسوة هي صفتهم الثانية، ومن ذلك أن ناظر بيت مال الناصر محمد النصراني الأصل لم يعد كافيا ما قام به من تعذيب أحد الأغنياء حملا له على الاعتراف فلف يديه بنسيج مبتل بقطران وأشعل هذا النسيج. ومن ذلك أن آخرين كانوا يغطسون في ماء مملح ويغسلون بكلس ثم يرمون على صفائح حجرية باردة، ولم يكن الجلادون وحدهم هم الذين يجلدون ويعمون وينزعون اللسان وينعلون الإنسان كالحصان ويسمرون الناس على السروج، بل كان السلطان يثب من فوق عرشه ليضرب صاحب منصب كبير حتى يدميه، ومن ذلك أن سلطانا آخر التهب غيظا من عدم كفاية الجبابة فأمر بإحضار اثنتي عشرة حمامة وقطع رقابها وقال: «هكذا سأذبحكم جميعا.»
ومن ذلك أنه لم يقتصر على السير في الشوارع برأس مغروز على حربة لعدو مقهور، بل طرحت جثة هذا العدو في بالوعة إيذانا للشعب بأن للسلطان حق الحياة والموت على أكابر الرجال في دولته، ومن ذلك أن السلطان الناصر سجن أحد المقربين لديه وحكم عليه بالموت جوعا، فأرسل إليه في اليوم الثامن ثلاثة أطباق مغطاة، فخيل إلى هذا المحتضر أن السلطان عفا عه فكشف عن الأطباق شرها، فوجد الطبق الأول يشتمل على ذهب، ووجد الطبق الثاني يشتمل على فضة، ووجد الطبق الثالث يشتمل على حجارة كريمة، فلما انقضى اثنا عشر يوما مات الرجل ووجدت في فمه إصبع انتزعها من يده التي قرض راحتها.
وقد يتواضعون من فورهم، فيأمرون الشيخ بألا ينطق باسمهم إلا بعد أن ينزل درجة من المنبر، ويصلون ساجدين على أرض مجردة من بساط، وقد يؤتى إليهم بعدو مقهور معتقد دنو أجله فيرفعونه ويعانقونه، ولكن هذا ليس سوى انحراف عن قسوتهم.
والإسراف صفتهم الثالثة، وأول ما يتجلى هذا الإسراف في دوائر الحريم كما في زماننا، فإذا ما غنت جارية على أنغام عود أعطيت ستين ثوبا حريريا، وأربعة حجارة كريمة وست لآلئ، وأقطع مولاها أطيانا، ويهدي فريق من الأمراء إلى السلطان 311 شمعة مستورة برسوم، ويبلغ وزن كل واحدة منها قنطارا، فيقابل المهدين بعطايا يعدل ثمنها ثلاثة أمثال تلك الهدية، ويزوج أحد السلاطين ابنته فيأمر بنصب خيام مذهبة وبإحضار 11000 قرص سكر محشو بالمرببات.
ويروي المؤرخون أن السلطان صنع مثل ذلك في زواج بناته الإحدى عشرة فقال ناظر بيت المال متحسرا: «أفني حياتي في جمع مال له ثم يبدده.»
ويذهب محمد الناصر إلى مكة حاجا، وتتقدمه أربع سفن في البحر الأحمر، وتشتمل قافلته على ستمائة جمل محمل ألف إوزة وثلاثة آلاف فروجة وعلى قدور مملوءة خضرا طازجة وعلى صناديق مملوءة أزهارا، ويجوب الصحراء مع هذه القافلة، حتى يركع أمام قبر النبي خاشعا.
ومع ذلك يساور الخوف أولئك السلاطين دوما، فكانوا يخشون وجود خنجر قاتل وراء كل ستار، ويكشف استياء المماليك الذين لم يقبضوا رواتبهم عن وجود مؤامرة يحوكها أحد المقربين ليظفر بهم ويقلتهم. ولم يتفق للسلاطين قط مثل ما كان للفراعنة من صفاء عيش فيتمتعوا بأطايب الحياة على حساب عبيدهم ويمتعوا أسرهم بها، وما كان من ريبهم حول كل من يحيط بهم، وما كان من مكايد الخصيان الذين ينتقمون من رجال أصحاء جنوا عليهم، وما كان من دسائس لا حد لها في دوائر الحريم، أمور كان يخيل إلى السلطان معها ائتمار كل شيء به فيضاعف عدد حرسه الليلي من فوره، أمور كانت تحفز السلطان إلى إغلاق دكاكين بائعي السلاح، أمور كانت تحمل السلطان على حظر الرماية على الشبان، وعلى طرد جميع سكان العاصمة من منازلهم، والسلطان إذا ما سافر تحول في الليل من خيمة إلى خيمة غير مرة.
وما كان السلاطين لينجوا من قدر الله، فمما يحدث أن يحاط بهم ذات يوم، وقليل منهم من كان يوفق للفرار، ومن ذلك أن أنقذ السلطان يوسف بفضل مرضعه العجوز التي سنجت
2
وجهه بالسخام وحولته إلى غسال صحون ففر، وهو يحمل طبقا بيده، من الباب الذي كان يمتنع خلفه قبل يوم.
ويسأل المؤرخ الموزع للعدل في نفسه عن وجوب محو ذكرى أولئك الرجال الذين هلكوا كما أهلكوا أعداءهم.
ويمثل الكفاح والخداع والجمال في الإسلام دورا أعظم مما في جميع الأديان الأخرى، ومن هنا تجد ما عند أتباعه من طراز حياة تخالطها روح المغامرة مع إيمان بالقضاء والقدر، ومن هنا تجد فقدان روح المواظبة، ولا تثير تلك القرون التسعة في النفس سوى خيال سيف لامع، وصوت مؤتمر معذب، وصورة جارية فتاة كتب لها الفوز بفضل فتونها.
الفصل السابع عشر
وأقل من ذلك ما تركه الترك - الذين جاءوا بعدئذ - من آثار، وسار الترك على غرار الرومان فلم يعيشوا بمصر، وإنما ابتلعوها جاعلين منها إحدى ولايات دولتهم مع عدم إدخال لنظام الرومان، ولم يبق من هذا العهد الذي دام نحو ثلاثة قرون (1517-1798) غير ذكريات أقل مما بقي من الأمم الست الفاتحة التي أتت قبلهم، ويقال - مع ذلك - إن الخلفاء أذاعوا صيت مصر على شواطئ البحر المتوسط الأخرى بنقلهم أعمدة رائعة من كل دور إلى ضفاف البسفور، وذلك ليدعموا سقف السراي، وذلك مع صبغ نسائهم أظافرهن بمسحوق غير معروف بآسية، وكانت العقاقير والعطور التي ترسل إلى دائرة الحريم تؤلف جزءا من الضرائب العينية التي يجب على الولايات البعيدة أن تعدها لأمير المؤمنين.
وإذا نظر إلى الترك من الناحية التاريخية وجدوا وارثين لأواخر العباسيين؛ وذلك لأن المماليك الذين كانوا قابضين على زمام الأمور من الأمير إلى السلطان منذ زمن طويل هم من الموالي الترك، وينطلق شعب الترك المقاتل من الأناضول فيقيم دولة عظيمة كدولة الرومان، ويقوم جنود الترك بجولات عنيفة فيخضع للترك أمراء البلقان وملوك الجزائر وتونس وخانات القرم وأمراء الموصل والبصرة، ويصبح ما بين الخليج الفارسي والبحر الأسود حتى ملدافية ملكا لهم، وتنهار تلك الإمبراطورية في الحرب العالمية الكبرى فلم يترك الترك أي تراث ثقافي، حتى إن نفوذ الخلافة الذي نزعه فاتح مصر من صاحبه الشرعي الأخير لم يكن من القوة ما تجمع البلاد المفتوحة به حول مثل عال مبدع لحضارة.
ويدخل السلطان المسجد الكبير في سنة 1517؛ أي بعد استيلاء السلطان على مصر، ويعلق راهب غامض الأمر على باب كنيسة بإحدى القرى الألمانية شهر حرب روحية على البابا برومة، وفيما كان السلطان يفرض بالسيف نظاما استبداديا يشمل بلادا بأسرها عدة قرون كان الآخر يؤسس بخياله وإيمانه جمعية ذهنية جديدة، وماذا بقي من عمل السلطان سليم إذا ما قيس بعمل لوثر؟ فالراهب - لا السلطان - هو الذي يبدو بالغ الأثر في حياة الأمم منذ خمسة قرون، ولم يكن لوثر مفكرا، ويعد لوثر مقاتلا عظيما في كل زمن، ومع ذلك يقول لوثر: «أجل، إن الروح والسيف هما اللذان يسيطران على العالم، ولكن النصر يكون حليف الروح في نهاية الأمر.»
ولا شيء يربط أولئك الفاتحين بالبلاد المقهورة، وكل ما يكترث له أولئك الفاتحون هو أن ينالوا منها أقصى ما يمكن نيله من المال، شأن أرباب المال الذين يملكون أسهم مصانع لم يروها قط، ولم يأت خلفاء السلطان إلى مصر حتى لزيارتها، ولم يسر الولاة الذين كانوا يرسلونهم إليها نحو مجرى النيل الفوقاني، وكان هؤلاء الولاة يجهلون الفلاحين كما يجهلون المعابد التي تجتذب مئات السياح منذ هذا الدور، وكان باشوات القرن السادس عشر والقرن السابع عشر من القوة ما يفرضون معه مشيئة مولاهم البعيد، وكان المماليك أنصارا للحكومة كما في الماضي، فينتظرون بعد قتل باشاهم إرسال باشا آخر محترمين مثل هذه الفواصل في الحكم، وكان بلاط القلعة مملوءا بأروع الخيول وأبهى العبيد، وكان البكوات والأمراء يتنافسون في حيازة أثمن الثياب وأحسن السروج وفي الألماس والبنادق والسياط الساطعة فيبدون أجمل من عرفتهم تلك القلعة، فكأن الله لم يأذن في نسيان المئات ممن سبقوهم في ذلك البلاط وخنقها، والحق أنهم مصدر الجمال والهول في تلك العاصمة.
ويقف الذهب عن الجريان في الوقت نفسه، ويجتمع الخيال والذكاء قبل استيلاء الترك على مصر ببضع سنين. وبعد عهد أقوى المماليك بعامين، فيكسران قيد بلدي العالم القديم القويين بلا قتال، فقد نشأ عن مجاوزة فاسكو دوغاما رأس الرجاء الصالح وإلقائه مراسي سفنه البرتغالية الثلاث على ساحل الهند الجنوبي خراب البندقية ومصر. وقد أوجب ذلك مرور منسوجات الصين الحريرية ومنسوجات الهند القطنية والفلفل والسكر وجوز الطيب وعود الند واللآلئ والحجارة الكريمة من الطريق الجديدة لمدة ثلاثمائة سنة، وذلك بعد أن دام مرور هذه الأشياء من دلتا النيل إلى الغرب مدة ألف سنة، وقد أوجب ذلك تحويل الهولنديين والإنكليز سوق العالم إلى أمستردام ولندن.
وهكذا يصيب الضر مماليك مصر فينهبون الفلاح الذي يتلقى الصدمة دوما، سواء أوقف النيل عن الزيادة والفيضان أم اكتشف بعض الأجانب طريقا بحرية جديدة على بعد ألف ميل، وإليك ما ورد في تقرير وضعه قناصل فرنسيون:
لا يقف جشع المماليك عند حد ما لم يعجز الفلاحون عن الدفع، ولا يعرف هؤلاء البائسون سبيلا إلى الخلاص غير الفرار، والفلاح - إذا ما غدا غير قادر على تسكين شره سادته - غادر حقوله ومنزله ، وبحث مع زوجه وأولاده عن أراض يزرعها في قرية أخرى وعن سادة أقل طمعا من أولئك، ويعامل الفلاحون، ويعدون من الفدادين، كأحقر من يقيمون بتلك السلطنة، لا كحفدة شعب فاتح مصري، وهم، لما ليس عندهم من شجاعة وبأس، تجد ما يساور روحهم من وجل وخمول يحول دون اشتراكهم في أصغر الفتن التي تحرك مصر في الغالب، وينظر سادتهم إليهم كما ينظرون إلى حيوانات الزراعة فلا يرأفون بهم، ولا يشملونهم بأية رعاية تقتضيها الإنسانية، ويتصرف سادتهم في أموالهم وحياتهم من غير أن تكافح الحكومة هذا الطغيان، وتحرض الحكومة - بسلوكها - على ذلك الجور بدلا من معالجته، وما أكثر ما أباحت انتهاب قرى بأسرها واستئصال أهلها متذرعة بشكاوى غير صحيحة ...
ويذبح الإنسان في القاهرة كما يذبح الحيوان، ويقوم الضباط الذين يطوفون ليل نهار بشئون القضاء على قارعة الطريق فيحكمون ويشنقون الناس حالا، ومن يشتبه فيه بأنه يحوز مالا وفق وشاية عدو يدعى ليمثل بين يدي البك، فإذا رفض الدعوة أو أنكر وجود مال لديه طرح على الأرض وجلد بالسوط مائتي جلدة أو قتل من فوره.
ويقل سلطان باشوات القاهرة في القرن الثامن عشر مقدارا فمقدارا، فتصبح السلطة قبضة جماعات مؤلفة كل واحدة منها من أعيان يترجح عددهم بين الأربعة والعشرين. ومما كان يحدث أحيانا أن تتقاتل حكومات ثلاثية، ومما كان يحدث أحيانا أن يوفق طاغية للحكم عشر سنين من غير أن يقتل، ويرتعش الباشوات على وسائدهم الحريرية ويحاولون إنقاذ حياتهم على حين كان الجبار إبراهيم يرهب القاهرة، ويقاتل المماليك بكواتهم، ويقاتل البكوات فريق الكاشفية، ويكافح الشيوخ والعلماء فريق الأمراء، ويغتني حفدة العبيد هؤلاء بسرعة فيملكون بيوتا جميلة ونساء ذوات ثياب ثمينة ويؤلف حرسهم من انكشارية يدفعون رواتبهم من مالهم الخاص إغاظة لخصومهم وبهرا لعيون الناس. وأما الجواري البيض اللائي يجمعونهن فلسن من الجمال ما يعدل حسن بنات العرب فيما مضى، فيكتفى بكونهن من السمان «مع وجه كالقمر وأوراك كالوسائد».
وكان لدى الأقباط عبيد أيضا، وكان الغني منهم يحوز ثمانين جارية من البيض والسود والحبشيات معا على ألا يرثه أولاده النغلاء، وإذا مات القبطي أعلنت السلطات إفلاسه وصادرت أمواله؛ ولذا كان القبطي في أثناء حياته يظهر اعتداله ويخفي غناه، وكان محظورا على النصراني في القرن الثامن عشر أن يسير راكبا فرسا في شوارع القاهرة التي هي من أكثر المدن سكانا في ذلك الزمن. وإذا ما كان النصراني راكبا حماره وجب عليه أن يترجل عند مرور أحد البكوات أو مرور شائب من خصيان السراي راكبا جوادا أصيلا. وهكذا ترى القبطي يأسف على أنه لا يستطيع أن يقتني حصانا مطهما، وهكذا ترى الخصي يأسف على أنه لا يستطيع أن يقتني نساء حسانا.
وإذا كان القبطي المزدرى كثيرا قد صار لا بد منه في المعاملات والإدارة كاليهودي فإن نفوذ الترجمان أخذ يعظم شيئا فشيئا، فكان الترجمان واسطة لازمة في جميع الخصومات بين الترك والأوروبيين، ولا يزال الترجمان يثير في الذهن صورة طبيب أسرة يعرف أسرار زواج فيحاول شفاء أمراضه مثيرا حذر الزوجين مع اكتساب ثقة كل منهما.
ولم يكن للإنكليز قناصل مقيمون بالقاهرة حتى في القرن السابع عشر، والإنكليز قد نالوا أهم النتائج الجوهرية بفضل غريب منهم هنالك، فلما عاد بروس في سنة 1773 إلى القاهرة مكتشفا النيل الأزرق بعد مغامرات كثيرة كان من رثوثة الثياب ما أرسل الوالي التركي إليه بدرة
1
ذهب في سلة برتقال، ويرفض بروس البدرة، فيسأله الوالي عما يستطيع أن يصنع له فيجيبه بروس قائلا: «امنحوا أبناء وطني حق جلب سلعهم الهندية بالسفن إلى السويس بدلا من إكراههم على إنزالها إلى جدة.» ويعطى لهم هذا الامتياز، ولم تلبث أهميته أن بدت وأن أدركها التاجر القدير في الشرق الأدنى - بلدوين - الذي عرض مشاريعه على الحكومة الإنكليزية في تقارير كثيرة جاء فيها: «وهكذا نجمع بين الغنج والنيل والتايمس فنشرب على ذروة الهرم نخب إنكلترة.» وكان لا بد من انقضاء عشر سنين حتى تدرك تلك الحكومة فائدة السويس كمرفأ مرور ودرجة اختصار الطريق البرية حتى موانئ الدلتا الشرقية.
وذلك هو الزمن الذي بدأ فيه تنافس فرنسة وإنكلترة على ضفاف النيل، وكان الفرنسيون أكثر حظوة، وينزل قنصل جديد مع النيل من بولاق إلى رشيد بأبهة عظيمة، وذلك في ذهبية منارة كانت كليوباترة تغار من روعتها لو رأتها، ويدنو عهد آل البوربون من نهايته، ويعنى كل موظف بتزيين نفسه بالزنبق قبل فوات الأوان. ولما غيرت الثورة الفرنسية حياة عظماء العالم انتفع بها بكوات الترك أنفسهم في القاهرة، وقد ساروا على طريق أغنياء أوروبة في الزمن الراهن فصرحوا بأن حقوق الإنسان التي أعلنت حديثا جعلتهم معسرين فامتنعوا عن دفع الخراج إلى الخليفة.
وسوف يرون نزول الثورة الفرنسية إلى مصب النيل على شكل غير منتظر عما قليل.
الفصل الثامن عشر
تبدأ غزوة بونابارت لمصر بليبنتز وتختم بجفروا سنت هيلر، وكان أحد هذين المفكرين العظيمين موحيا بهذه الحملة الخائبة، وكان الآخر ظافرا فيها.
إليك فيلسوفا في السادسة والعشرين من سنيه، إليك هذا الكاتب في وزارة إمارة ألمانية صغيرة، قد تمثل وسيلة لإبعاد الفرنسيين من حدود ألمانية، وكان هذا في سنة 1771، وكان هذا حين بلوغ لويس الرابع عشر أوج مجده، وما كان من اتحاد الجيوش الألمانية والجيوش الفرنسية ضد السلطان الذي لم تنهر سلطته مع هزها ألقى في روعه فكرة إمكان فصل قسم من ولاياته من غير أن يثيره ذلك إثارة خاصة، وكانت هذه الفكرة من الفكر الدارجة في ذلك الحين ولكن من دون أن يحددها أحد كما صنع ليبنتز في رسالته: المجمع المصري، ويسعى في شق طريقه إلى الملك الشمس، ولا بد له من تعيين وقت للمقابلة، ويجهزه الأمير بكتاب يقدمه فيه إلى ذلك المليك، أوليست هذه المثالية العملية من شيم الألماني الحقيقي؟ ويود ليبنتز أن يسلم إلى ملك فرنسة مذكرة ينصحه فيها بأن يفتح بلدا تركيا. وينتظر في باريس أربع سنين على غير جدوى، وكان ذلك العاهل المنهمك في حروبه ونسائه يرى أن الملك يكون أذكى من أي فيلسوف كان.
ويغيب الملك ويتوارى الفيلسوف، ومع ذلك تداوم الفكرة على سيرها رويدا رويدا، ومن المغامرين من كانوا يحطون من قيمة الفكرة أحيانا ناظرين إلى عبيد مصر قبل كل شيء، ويمضي قرن فيعود إلى الفكرة قطب سياسي كبير، يعود إليها دوك شوازول في منفاه الرائع بشانتلوب فيفهمها شابا شماسا مجهول الأمر، يفهمها تاليران الذي أبصر دهاءه السياسي قبل كل شخص آخر، ويعرض تاليران تحت تماثيل اللوفر الداعمة، بعد عشرة أعوام - أي في سنة 1797 - «ما يجتنى من المستعمرات الجديدة من فوائد في الأحوال الحاضرة.» وما قاله هنالك عن الشرق ماثل في جميع الذاكرات، فلما تمر ثلاثون سنة على الزمن الذي طرد الإنكليز فيه الفرنسيين من الهند، وكل ما هو حديث في ذلك القول هو ما انطوى عليه من برهنة مظهرة لأهمية مفتاح الغرب: مصر، ونال تاليران نجاحا بيانيا بذلك، وكان تاليران هنالك أقل فتورا من عادته، وكان تاليران في أمريكة الفتاة قد عرف كيف يقدر فتون الحياة الاستعمارية، ويغدو تاليران وزيرا للخارجية بعد خمسة عشر يوما.
ولما قرأ الجنرال بونابارت في مونبلو - بعد انتصاراته الأولى بإيطالية - خطبة الوزير الجديد تلك تأثر مجددا من المشاعر والأفكار السابقة، فيصحو الرياضي والخيالي فيه، وينظر إلى الماضي والمستقبل، وتمتزج ذكرى الإسكندر وقيصر وما نالاه في مصر من مجد بأمله في إيذاء إنكلترة. وكان الملازم الفتى بونابارت قد كافح سأم حياة الحامية بقراءته كتابين عن الهند ومصر مشهورين في ذلك الزمن، فزار مؤلف أحدهما وسجل في يوميته قوله:
يأتي كل مجد من الشرق كما تأتي الشمس منه.
وفي الشرق سيأفل مجده بعد حين، وبما أن بونابارت كان مستعدا دوما للانتفاع بالمدفع درجا لنظرياته الفلسفية أو تخلصا منها فقد كتب - بعد أن قرأ مذكرة تاليران - يقول لحكومة الديركتوار: إن قهر إنكلترة لا يكون في غير البحر المتوسط، وهو لم يعتم أن وضع خططا عظيمة حول البحر المتوسط قائلا: «ولم لا نستولي على جزيرة مالطة؟ وإذا ما وجب علينا أن نتنزل عن رأس الرجاء الصالح نتيجة لمصالحتنا إنكلترة أصبح استيلاؤنا على مصر ضربة لازب، ويمكن السفر من هنا بجيش مؤلف من خمسة وعشرين ألف رجل تحرسهم ثمانية - أو عشرة - مراكب حربية ، وفتح مصر بهؤلاء الجنود، فمصر ليست ملك السلطان.»
ومما ذكره ابن الجزيرة هذا بعد حين موكدا أن البحر المتوسط كان هدف سياسته الأساسي، ويجد في ذلك الوقت - كما يجد كل جندي يرى تسويغ فتوحه - من الأسباب الأدبية ما يبرر خططه، ومن ذلك وجوب إنقاذ أولئك المصريين البائسين من جور السلطان، ومن حسن حظه أن استطاع الانتفاع بتقرير قنصل يتوجع فيه من اعتداءات الحكومة التركية.
ويعد بعد خمسة أشهر حملة لم تجرؤ دولة أوروبية على محاولتها، وما يحيطها به من غموض فيدفعه إلى الإسراع، وهذا هو بدء سباقه الأعظم الذي دام سبع عشرة سنة فانساق فيه هو وزملاؤه وفرنسة والعالم بأجمعه، «فلا ينبغي أن يفرط في دقيقة واحدة»، ويهيئ تلك الحملة في ستة وسبعين يوما، ويبلغ الدلتا بعد سفر مثير، ويسهل عليه بلوغ الدلتا كما سهل على الإسكندر وقيصر من قبل، ولم يكن لأي من هؤلاء الفاتحين أن يخوض غمار معركة بحرية.
بيد أن أول سبب في حبوط عمل بونابارت هو أنه أول من جاء من الغرب لفتح مصر. وإذا كانت الإمبراطورية الرومانية صاحبة السيادة في بلاد الغول عندما استولت على مصر فإن مركز ثقلها كان في الشرق، ولم يكن ليفصل مصر عن جزر البحر المتوسط التابعة لرومة غير وثبة واحدة في ذلك الحين، ولم تزل مدة السفر بين طولون والإسكندرية ثمانية أسابيع من دون رسو في ميناء ومع مرور ألفي عام على ذلك الزمان، ومع ضرورة الإفلات من أسطول العدو، وكان من المتعذر أن تقهر إنكلترة في مصر سنة 1798 كما تعذر قهرها سنة 1915، وكان استقرار الإنكليز بالدلتا نتيجة وحيدة لحملة بونابارت.
والسبب الثاني في حبوط عمل بونابارت هو جهله الحرب البحرية، فمع أن جنوده غلبوا المماليك على الرغم من شدة الحر في شهر يوليو - ومن غير أن يقتل منهم أكثر من خمسين رجلا - غلبوا في البحر بعد عشرة أيام من قبل نلسن.
والسبب الثالث في ذلك الحبوط هو أنه كان على بونابارت أن يقاتل نجدات تأتي من الخارج مع أنه لم يكن على قمبيز، ولا على الإسكندر، ولا على قيصر، أن يخشوا تدخلا أجنبيا من ناحية البحر.
والسبب الرابع - وهو أعمق الأسباب - هو أن الفرنسي، أو نصف الفرنسي بونابارت، كان يبغي الرجوع إلى الغرب بأي ثمن كان، وإن لم يثبت وضعه بمصر بعد، وكان اكتراثه لباريس أكثر من اكتراثه لجميع سور القرآن، ولم يكن المجد الذي يقتطفه على ضفاف النيل - على ضفاف هذا النهر المنسي - ليذكر بجانب ما يجنيه على ضفاف نهر السين، ويفر بونابارت من مصر عندما أدرك ببصيرته أن السلطان بفرنسة صائر إليه، وكان الرجل الذي جاءه بأحدث الأنباء - وقد مضى عليها شهران - وبالجرائد المشتملة على أخبار انكسارات فرنسة، إنكليزيا، ولولا ود هذا الإنكليزي ما غادر بونابارت مركزه، وما ترك ضباطه وجنوده مستخفيا خلافا لكل نظام عسكري، وما قام بانقلابه بعد بضعة أسابيع من عودته مستفيدا من توتر النفوس. وبونابارت قرر كل شيء في ليلة واحدة بالقاهرة قضاها في مطالعة تلك الصحف.
وكان النيل يرتفع يوم معركة الأهرام، وكان النيل بالغا حده الأقصى من الزيادة حينما تسلق بونابارت هرم خوفو في يوم من شهر سبتمبر، ولم ينطق بونابارت بكلام فخم في حضرة أبي الهول، بل أخذ يداعب، وهو لم ينفك يناكد برتيه؛ وذلك لأنه «لا يجد موضع أفكاره في الأعلى هنالك.»
وأراد بعض رفقائه أن ينكص على عقبيه، لما لا يعرف أحد بباريس ذلك، فحملهم بونابارت على بلوغ الغاية من الهرم. والذي يقف نظرنا من نبأ هذا الجولان هو أن بونابارت حمل الآخرين على سبقه، فمن المحتمل أن يكون قد أراد اغتنام بضع دقائق ليواجه أبا الهول وحده كما صنع الإسكندر وقيصر فيما مضى، وتدلنا صورة رسمها فيفان دنون
1
فيما بعد على اتخاذ العلماء وضعا مضحكا لما بدا فيها من وقوفهم على رأس أبي الهول حتى يقيسوا ارتفاعه بفادن.
2
وأدرك بونابارت أمر النيل كما أدركه الرومان، وذلك كما يعلم من قوله الرائع: «ترى النيل بمصر، أو رسول الخير، وترى الصحراء بمصر، أو رسول الشر، حاضرين على الدوام.»
ويضيف بونابارت إلى ذلك قوله بإمكان اكتساب مملكة كاملة في الصحراء إذا ما أنشئت مئات الأسداد والقنوات، ودرس بونابارت أمر القنوات فرسم - حتى في جزيرة القديسة هيلانة - مشاريع للتقنية والزراعة، وسحرت قناة السويس القائد العظيم بونابارت الذي كان لديه مزاج مهندس قبل كل شيء. وإذا كان بونابارت في منفاه لم ينفك يشغل باله بتقنيات النيل فإنه كان - حين قيامه بمنصب ملازم - يقتطف عبارات من مؤلف عن قناة السويس في القرون القديمة فيرى في رسالة تحقيق كتبها أن «حفر البرزخ» عمل يقع على عاتقه.
وذهب بونابارت إلى السويس مخاطرا بحياته، وذلك أن حرسه ظل خلفه وأنه وجد مع دليلين بقايا القناة القديمة فتتبعها مسافة خمسة أميال خاسرا حصانين وأحد الدليلين، وقام بونابارت بتلك الرحلة بلا متاع فعلا، فيروي أهل تلك الناحية بعد زمن أن كل جندي كان يحمل رغيفا مغروزا بحربته، وأن كل جندي كان يعلق قربة بعنقه، وبين بونابارت إمكان حفر البرزخ ووصل البحرين بقناة مجهزة بأسداد.
وكتب نابليون في جزيرة القديسة هيلانة قوله:
تحفر على طول القناة قنوات ري لتوسع مدى الزراعة عن اليمين وعن الشمال عدة أميال ... وإذا ما كان من الأسداد ألف غلب الفيضان ووزع، وتقسم في جميع أنحاء البلاد مليارات أقدام المياه المكعبة التي تضيع كل سنة في البحر بين أقسام الصحراء المنخفضة حتى الواحات وإلى ما هو أبعد من ذلك في جهة الغرب ... ويوجب عدد كبير من المضخات النارية والمطاحن الهوائية رفع المياه إلى المقاسم حيث تؤخذ للسقي ... وستنتشر الحضارة داخل أفريقية بعد حيازة خمسين سنة.
ولا تقل حماسة غوته عن حماسة نابليون في الموضوع، وهكذا يكفي لجعل الأمر محل بحث ماثل للأعين. وتمضي سبعون سنة فتقوم الإمبراطورة أوجيني التي هي زوج لنابليون آخر بالإشارة الرمزية فتجمع البحرين.
ويؤثر الفرنسي في الفلاح عند أول تماس كتأثير جميع الفاتحين السابقين، فيهتف له، وذلك لفرار ظالميه من خلال الصحراء، ولأنه عد ما وقع فجر عهد سعيد. ومما أبصر الفلاح بعد معركة الأهرام حنو الفرنج حرابهم ثانية لتصيد المماليك الغرقى وتجريدهم من ذهبهم، وما أكثر ما اغتنى من جنودهم في ذلك اليوم! ويبصر الفلاح سيدا آخر يحتفل بوفاء النيل، ويعلم الفلاح أن هذا السيد أسس ديوانا جديدا يرأسه في الحين بعد الحين، مع جلوسه على الطريقة الأوروبية ومع ظهوره بهذا - أيضا - أعلى من الترك القاعدين القرفصاء.
ويرى الفلاح حائرا أن النصارى يجوبون الشوارع كالإقطاعيين من غير أن يكرهوا على النزول من فوق حميرهم كما كان في الماضي، ويخيب ظن أهل القاهرة بما رأوا من بساطة باشاهم الجديد، والأذكياء وحدهم هم الذين أدركوا الوضع فقال أحدهم: «إنني تاجر بسيط، ولدي أحد عشر خادما مع ذلك، وليس عند القائد ثلاثة من الخدم، فلا عجب من قهره البك لذلك.»
ويبذل جهد لمعاملة الفلاح بالعدل كالذي أبداه ديزه في أثناء حملته بمصر العليا على الخصوص، وماذا يدور في خلد الفلاح إذا اطلع على ما يبديه الباشا الجديد نحو موسى ومحمد من إعجاب وعلى جعلهما فوق عيسى مرتبة، وعلى الوجه الذي يسخر به من الصليبيين الذين يصلون بدلا من أن يسيروا؟
وإذا رجعت البصر إلى جميع حروب نابليون لم تجد لواحدة منها - حتى لحرب روسية - مثل تلك الصفة غير الحقيقية، مثل تلك الصفة الوهمية. وتثير تلك الحملة في النفس فكرة قطعة ناقصة من الأدب كتبها شاعر في شبابه، وكل ما يقوم بقوة السلاح يزول حالا، وما كان من تسليم فرنسة التام أمام إنكلترة فيعد نتيجة لتلك المغامرة، حتى إن بونابارت أبصر ذلك قبل عودته، فأباحه للقائد الذي خلفه إذا ما اضطر إليه.
زوجان ملكيان من البطالمة.
ومع ذلك امتد دوي هذه الحملة إلى التاريخ الحديث. وقد طلب بونابارت ارتياد وادي النيل ريادا تاما لإنشاء مستعمرة فرنسية فيه، وقد أراد بونابارت أكثر مما هو ضروري نافع قضاء لمطالب الروح، فترك سلطان فرنسة العابر في مصر آثارا بعيدة الغور مع أن النظام التركي المسلم به والذي دام ثلاثمائة عام لم يترك أثرا. فالذي يلوح هو أن ذلك القائد الشاب الذي احتفل في القاهرة ببلوغه الثلاثين من عمره ود لو يضمن نفسه ضد النسيان، وقد أعان العلماء على ذلك، فأحيوا ذكرى ذلك القائد الذي لم يعرف غير قليل نصر في ذلك البلد.
والواقع أنه عن لبونابارت أن يأتي بمعهد للعلوم والفنون حتى يحارب معه، والواقع أنه عن لبونابارت هذا الأمر الذي لم يأت بمثله أحد من الفاتحين السابقين، وما كان من ذيوع صيته ومن تأثير المبادئ العامة في ذلك الزمن حفز أكابر العلماء من ذوي الشعور السمر إلى الإبحار من طولون وإلى الاشتراك في حملة لا يعرفون هدفها، فقال أحدهم، وكان من علماء الأرض: «أذهب إلى ذلك البلد المجهول ما وجد فيه حجر.»
فلما نزل هؤلاء الغلمان والمتفننون ال 143 - الذين عني باختيارهم من كل نوع والذين قسموا إلى خمسة فروع - إلى سفينتهم الشراعية أخذ القائد العام يقيم - في كل مساء، في غرفته بالمركب - حفلة نقاش بعد أن يكون قد بلغهم الموضوع وقت الصباح ليستعدوا، وبعد قليل يقيمون بقصر رائع في القاهرة جدير برواية ألف ليلة وليلة، ذي روضة غناء يتفلسفون فيها على طريقة المشائين، فيرون درجة تقدير القائد لهم، ويشترك هذا القائد في اجتماعاتهم غير حامل حسامه، ويسمي ضباطه هذا المعهد ب «خليلة القائد المفضلة»، ويدرك العلماء أن هذا الرجل الذي يوشك أن يعلو الجميع ليس سائفا عاديا ولا جبارا أميا، وإنما هو عبقري راغب في الاطلاع بلا انقطاع فيحضر كل اجتماع يعقدونه.
وتمضي ثلاثة أسابيع على فتح القاهرة فيطرح الأسئلة الآتية في اجتماعهم الأول وهي: (1) كيف يجب أن تبنى الأفران؟ (2) أويجب أن تكون المطاحن هوائية أم مائية في هذا البلد؟ (3) أي نوع من حشيشة الدينار يجب أن يستعمل في الجعة المحلية؟ (4) تصفية ماء النيل. (5) أويوجد هنا من المواد ما يصلح لصنع البارود؟ (6) أويمكن إصلاح العدل والتربية في هذا البلد وفق رغائب السكان؟
ومما حدث - لمرة واحدة فقط - أن وافق على قراءة صحيفة له بنفسه، وهو الذي سجل نفسه بين الرياضيين مع حفظ مكان له بين الشعراء، فبين له مونج محذرا - بلباقة - أنه لا ينبغي له أن ينتج ما هو متوسط، ويعدل بونابارت عن الكلام بنفسه، ويجعل من شخصه مثلا على الامتناع لم يتبعه الطغاة الأصاغر في الزمن الحاضر.
ويدرس العلماء والمتفننون في ثلاث سنوات جميع ما هو موجود في وادي النيل فيبحثون في نباتاته وحيواناته وطبقات سكانه وتاريخ أهله وفي معابده وقبوره وتماثيله وكتاباته، ويضع بونابارت قائمة عن قنواته لم يسبقه أحد إلى مثلها، ويشار في هذه القائمة إلى درجة الانتفاع بالقنوات وتوسيعها وإلى مساحة الأراضي الصالحة للفلاحة، وهذا عمل عظيم الشأن، وهذا عمل استفاد منه العدو، استفاد منه الإنكليز، وقد أخرج حجر رشيد من الأرض قبيل رجوع بونابارت، فاعترف أعضاء المعهد بأهميته من فورهم، وإن صرحوا بعدم معرفة ثاني الخطوط الثلاثة.
وكادت تلك الوثائق المهمة تضيع، فلما فتح الإنكليز مصر وركب العلماء سفن الإنكليز في سنة 1801 وفق معاهدة الاستسلام أمرهم أمير البحر الإنكليزي بأن يسلموا مجموعاتهم مقدما، ويخرج شرر كما في كل مرة يتصادم فيها السيف والروح، ويخرج الشرر من الروح - لا من السيف - في هذه المرة؛ وذلك أن جوفرواسنت هيلير قال بشدة للإنكليزي الذي حضر للمفاوضة: «نفضل حرق كنوزنا بأيدينا على تسليمها إليكم، والصيت هو ما تهدفون إليه، فكروا في صحائف التاريخ، ذلك يعني حرقا ثانيا لمكتبة الإسكندرية.» وينقذ هذا الاحتجاج البليغ ما بقي من تلك الحملة من أمر وحيد، ويتم النصر للروح على الإنكليزي في المكان الذي انتصرت فيه قنابل الإنكليز على الفرنسيين.
فتح بونابارت مصر في ثلاثة وعشرين يوما من تاريخ وصول أول مركب، ونشرت مجلدات المعهد المصري التسعة في ثلاث وعشرين سنة، وتم صدور آخر المجلدات في عهد آل البوربون، ونزع العلماء من عملهم فوجدوا أنفسهم أمام ملك حينما كانوا منهمكين في تكديس وثائقهم، فكأنهم أناس قضوا ليلة في قصف ولهو فأبصروا الفجر وعادوا إلى منازلهم صحاة عشيا بنور النهار.
وهكذا ختمت الحملة المصرية - كما بدئت - بإشارة من عالم، وكل ما أتى به بونابارت لنفسه من تلك الحملة هو مملوك طويل ينام أمام بابه وجعل نزع من إصبع أحد الفراعنة.
الفصل التاسع عشر
يرجع بعث النيل إلى جنديين، وكما أن اكتشاف منابعه في القرن التاسع عشر كان من عمل صيادين، لا من عمل عالمين، كان قهر مصبه من عمل مستبدين، لا من عمل مهندسين، وما فطر عليه قواد التاريخ العظام الخمسة أو الستة من مزاج جبار قد حملهم على مكافحة العناصر وعلى العدول عن الحروب المخربة الدامية وعلى إيقاد حروب مولدة كائنات جديدة نضرة. وإذا كان حب الإنسانية لم يدفعهم إلى العمل فإن للناس فوائد من أفعالهم على الأقل، وهكذا أخضع نابليون ومحمد علي نهر النيل على وجه جديد قاطع.
ولو لم يفر بونابارت من أفريقية ليصير إمبراطورا في أوروبة لحقق على ضفاف النيل أحلام فتائه كما تغلب بإرادته على الفوضى فيما بعد. والواقع أن بونابارت لم يحلم ببلد كما حلم بمصر فكانت تتمثل له دوما كما تتمثل الفتاة للشاعر، وينتحل خلفه في مصر أفكاره، ويبدو النيل خط وصل بين رجلين يعدان أعظم من في عصرهما من السادة.
وليس ذلك مصادفة صرفة، فهنالك تجانس عميق بين محمد علي ونابليون، بين التركي والفرنسي، وإن شئت فقل بين الألباني والقورسقي، فكلاهما عمل في سبيل عظمة وطنه الثاني، وكلاهما ولد سنة 1769، وكلاهما خرج من طبقة متوسطة، وكلاهما فقد أباه في صباه فنشأ بين إخوة وأخوات كثيرين، وكلاهما اضطر إلى احتمال تبعة أعماله قبل الأوان فأدرك باكرا أهمية وسيلتي السلطان: المال والسلاح، ولم يسمع كل من الرجلين - ابن تاجر القهوة الشاب في قولة وابن المحامي في أجاكسيو - في بيئته حديثا عن غير الأراضي والسفن والمال وطرق جمع ذلك كله بفضل حزبه، ويشترك ابنا البحر المتوسط ذانك منذ البداءة في المنازعات المحلية بوطنيهما الصغيرين، ويؤدي الاضطراب الاجتماعي إلى تميزهما وسيرهما قدما، ويمن وطنهما المنكور عليهما بالدهاء، وتوحي صروف الدهر إليهما بالأحلام الجريئة التي يغامر من أجلها بكل شيء والتي يمكن بها كل شيء، وتسفر هذه العناصر الكثيرة الاختلاف عن واقعية يثيرها الخيال، وعن تحويل الرجل نفسه إلى دبلمي وإلى جندي.
ومع ذلك كان بونابارت الشاب وارثا لثقافة ألفية حينما تمثل كنوز الماضي، ومع ذلك لم يكن وراء محمد علي أي ماض فكان ملكا حينما تعلم القراءة في الأربعين من عمره. وقد قامت رسالة الأول على وضع حد للثورة الفرنسية التي ما فتئت تشتعل منذ عشر سنين، وقد حرك الآخر جمهورا فاترا وأيقظ شعبا ناعسا، وذلك إلى وجود فرق جوهري، وهو أن نابليون أنجز عمله وأبصر انهياره في خمسة عشر عاما مضطربا، وأن محمدا عليا قضى خمسين عاما في إتمام صنعه، فقضى ما بين الثلاثين والثمانين من عمره في إنشاء مصر على الرغم من الحروب. ولما أراد نابليون أن يقوم بعمل جليل سيرته ظلال انتصارات شبابه إلى بقاع بعيدة، ولما أصبح محمد علي شائبا ترك كل ميل إلى الفتح متفرغا لإدارة بلده.
وتجد سر الخاتمتين في اختلاف طموح الرجلين، ولا مراء في أن طموح محمد علي يعدل طموح نابليون، فيصبح تاجر التبغ السابق والضابط المجهول الأمر هذا ملكا ابنا للسادسة والثلاثين؛ أي في السن التي غدا نابليون فيها إمبراطورا، ولكن نابليون يتناول التاج من يدي البابا ليضعه بنفسه على رأسه، ولكن محمدا عليا ينال الولاية من الخليفة، هو حاكم مطلق مع بقائه تابعا، هو لم يأت حركة يصير بها مستقلا، وهو يموت باشا أو عزيز مصر.
ومع ذلك كانت تساور الغاصبين مسألة واحدة، تساورهما وراثة العرش المباشرة، وكان المسلم أوفر حظا من النصراني في هذا الأمر، وكان فؤاد الإمبراطور يفيض حنانا أسريا، ولكن من غير أن يرزق ولدا حتى الأربعين من عمره، وكان محمد علي في التاسعة عشرة من سنيه حينما رزق ابنه الأول، فبلغ عدد أولاده من الذكور والإناث خمسة وتسعين، وما كان ليحتاج إلى إخوته وأخواته إلا قليلا.
وفيما كان محمد علي مقيما بالقاهرة جادا في المفاوضات كان ابنه الأكبر ، كان ابنه الرجل الممتاز، ينال اتتصارات. ولا يقاس محمد علي بنابليون قائدا عسكريا، ولا ريب في أنه يعدل نابليون رجلا دبلميا لكونه شرقيا. أجل، إنه قهر الترك والعرب والزنوج، ولكنه لم يقابل بجيوش أوروبية، فكان يجب عليه أن يستميل بالإقناع ما غلبه نابليون من الدول، ومن دواعي العجب أنه كان يجهل لغات هذه الدول فيقرأ على وجه المفاوضين تبليغ ترجمانه إليه حقيقة الأمر، وما عليه هذا الرجل القصير وذو البصر المنير من فتون فكان يسحر جميع الزائرين وجميع الدبلميين.
وأكبر حظ لمحمد علي هو توطيده سلطانه بين سنة 1803 وسنة 1813 حينما كان نابليون آخذا أوروبة بخناقها وفي اجتذاب الشمس الكبرى لسيارات نصف الكرة الغربي، ولولا نابليون ما وطئ محمد علي أرض مصر برجله على ما يحتمل، وما استولى عليها وما احتفظ بها لا ريب؛ ولذا لا عجب إذا ما أخذ نابليون بمجامع قلبه.
الفصل العشرون
يقال إن الألبان من سلالة المقدونيين، ولما سار أحدهم على غرار الإسكندر كان له حق مضاعف في الادعاء بهذا، وإن لم يكن ابنا لفليب، وإن كان ابنا لتاجر قهوة في قولة، وما فتئ الألبان - والمصريون أيضا - يكونون تركا إلى زمن قريب، وما كان الألباني ليستطيع فتح مصر لهذا السبب، وكان يمكن الألباني أن يملك مصر باسم السلطان فقط لهذا السبب. أجل، بدأ الحكم التركي في سنة 1517، ودام حتى سنة 1914، ولكن كما أن ملك مصر الأول فؤادا كان ابنا لحفيد العصامي المقدوني محمد علي غدا هذا العصامي المقدوني مؤسس الأسرة المالكة الحاضرة في مصر فسلك سبيل بطليموس الذي بدأ أمره قائدا للإسكندر فنقل إلى آله ملك مصر مدة ثلاثة قرون، ويظل صاحب العبقرية عاطلا من اللقب، ويرثه من هم دونه من قواد أو صيارفة فينالون تاجا أو يرتدون شرفا.
ويسدل محمد علي ستارا على دور فتائه، ويدافع جهرا عن صحة أول زواج لزوجته الأولى وصولا إلى شرعية بنوة ابنه الأكبر، ويزور بلده بعد غياب خمسين سنة فلم يعرض راية ولم يلاطف فرقة ولم يضرب وساما تذكاريا، وكل ما صنع هو أنه أسس مدرسة كانت تعوزه في صباه، وكان هذا الضابط الألباني قد ذهب إلى مصر مع الكتائب التركية ابنا للتاسعة والعشرين من سنيه، وكانت هذه الكتائب موجهة ضد بونابارت فحال بونابارت دون نزولها إلى البر، ولم يقع بصر كل من الرجلين على الآخر قط؛ وذلك لأن محمدا عليا سقط في البحر نتيجة للارتباك الذي أسفر عن معركة أبي قير الثانية، فنشله من البحر مركب إنكليزي لم يدر في خلد ربانه أي رجل شديد الشكيمة ينقذ حياته. وتمضي بضعة أشهر من سنة 1799 تلك فيصبح بونابارت القنصل الأول بباريس ويصبح محمد علي قائد حامية القاهرة.
وكان كلا الرجلين يعتمد على السلطات القائمة فيسلط بعض الأحزاب على بعض اصطيادا في الماء العكر، وكان محمد علي يحرض المماليك على الإنكليز الذين يحترسون من الباب العالي ومن القائد الألباني الجديد، ويقبض هذا الأخير على زمام الموقف في أثناء تمرد، ولكنه يجعل عدوا أزرق من الباشا المطرود الذي لا ينفك يحوك الدسائس ضده بالآستانة في سنين كثيرة، ويقيم الألباني بالقلعة ويصبح باشا بفضل مولاه العاجز.
ويجعل من المماليك آلة لقهر الإنكليز الذين عادوا بعد أربعة أعوام، ولكنه يبدي من المهارة في هذه المرة ما لا يعتمد معه على عدو مغلوب. وكان الألباني ابنا للثامنة والثلاثين حين تدخله في السياسة الكبرى على ضفاف النيل، وهو لكي يفلح في عمله الإنشائي ينتفع بكل ما لدى «الفرنج» من فوائد، ويلغي جميع المخازي التي كان النصارى عرضة لها.
وكان السلطان يخشاه فيحترمه، وما كانت الدول المتقاتلة لتنظر في أمره فلم يلبث أن صار محبوبا لدى الجمهور بمصر، وكان يعول على فريق الساخطين منذ البداءة، أي على الشعب المصري الذي يشعر بأنه معتصر، وقد أعلن أنه «مختار الشعب» فصدقه جميع العالم لما كان يعلم من قيادة الجماهير. ولم يبق عليه غير كسر المماليك الذين لا يزالون مسلحين في القاهرة فتخلص منهم بأن قتلهم في يوم واحد.
باب بيت في القاهرة.
والتاريخ حتى اليوم - حتى بعد انقضاء أكثر من مائة عام - يحدث بإسهاب عن ذلك اليوم أكثر من حديثه عن جميع أعمال محمد علي الأخرى، وترانا نزهو على نابليون خلقيا لما كان من قتله دوك دنجان رميا بالرصاص ولما كان من قتله فرائس الطاعون بيافا، ويبدى من الشدة تجاه من يقترفون مثل ذلك الذبح أكثر مما يبدى تجاه من يستأصلون أمما بأسرها؛ وذلك لأنه يرى في هذه الحال أن مجد السلاح يتطلب ضحاياه التقليديين. ويجمع نابليون ومحمد علي لحروبهما ألوف الشبان قسرا فيقضون نحبهم لأسباب لا يهمهم أمرها أو لأسباب يعارضونها مع أنه لم يهلك بالقاهرة في ذلك اليوم من مارس أكثر من 350 رجلا كانوا يتمتعون بضروب السلطان أو الملاذ على حساب سعادة نصف أمة، حتى إن هذا العدد لو زاد على ألف ما عرف التاريخ مملوكا واحدا يأسف عليه.
ومن تقاليد الترك، ومن تقاليد المصريين، أن يصار إلى إنزال تلك الضربات، وكان محمد علي قد قهر المماليك في مصر العليا منذ سنة، ومما ادعاه وجود بينات جديدة على ائتمارهم به، وهذا الادعاء قريب من الصدق، ويدعوهم إلى القلعة لتنظيم حملة، ويستقبلهم محتفلا في الرواق الكبير ويرفع الجسر المتنقل، فلما وقعوا في الفخ أمر محمد علي رجاله من الألبان بإطلاق النار عليهم من فوق الأسوار عند خروجهم من القاعة، ولم يتفلت منهم سوى واحد وثب بحصانه من الجدار، ووصل مملوك آخر متأخرا جدا فوجد الباب مغلقا فرجع فلم يقف حتى بلغ سورية، ويمثل طبيب محمد علي الجنوي بين يدي نائب السلطان هذا ويخبره بنجاح العملية، ويسكت محمد علي، ويومئ بإحضار ما يشربه.
وكان ذلك الانقلاب الذي تم على الطريقة الشرقية أمرا ضروريا لإنجاز مشاريع الباشا الجديد، ولكنه ليس من شيمه، فهو لم يعد إلى مثله، وهو لم يلجأ إليه في أحوال خاصة ولا في السودان. والواقع أن تلك المذبحة خير للبلد الذي يئن منذ قرون تحت نير المماليك فكانت تهدف إلى غير هدف المذابح السابقة، وهذا ما أثبته محمد علي فيما بعد.
ويسلم محمد علي قيادة جنوده في جزيرة العرب إلى ابنه الأكبر إبراهيم فيدهش العالم إذ يبصر ظهور قائد عظيم، وكان يمكن محمدا عليا أن يقطع صلته بالسلطان مستعينا بابنه ذلك فيبدو سيدا لجميع جزيرة العرب، ويجعل من مصر مركز إمبراطورية جديدة كما صنع ابن وطنه الإسكندر المقدوني، ولم لم يفعل ذلك؟
هو لم يفعل ذلك - مع ما ناله من انتصارات سريعة - لما لم يكن عنده من الجرأة البالغة، وهو قد كان - كبعض التماثيل الموضوعة أمام جدر الكنائس القديمة - محتاجا إلى الشعور بوجود جدار الخلافة الكبير وراءه، وهو لم يفتأ يدير ظهره إلى السلطان مع دوام خوفه من انهيار ذلك الجدار وسقوط الإمبراطورية التركية في زمانه، وما تم لابنه من انتصارات قد هيأ له سبيل الانفصال مرتين فكان يمكنه أن يبسط حمايته على الأماكن المقدسة بما اتفق له من سلطة ونفوذ قوي بين ملايين المسلمين، فينادي بنفسه خليفة أو سلطانا كما صنع صلاح الدين النير في وادي النيل منذ سبعة قرون، وهو لم يفعل هذا، بل أعلن أنه لم يستول على سورية وجزيرة العرب إلا تابعا للسلطان عاملا على زيادة شوكته.
وتقطع الصلة بالسلطان مع ذلك، وتتوالى انتصارات إبراهيم فيهدد البسفور، وتتدخل روسية، ثم الدول الخمس العظمى، فتنقذ السلطان؛ وذلك لأن هذه الدول لم تكن لتخشى شيئا كظهور هذا الألباني المرهوب أميرا للإسلام؛ وذلك لأن هذه الدول لم تكن لترغب في شيء أكثر من تجديد عهد المماليك الضعيف القائم على الشهوة والطمع.
والإنكليز على الخصوص هم الذين أفزعهم هذا الباشا الذي كان سلطانه يمتد إلى جبال أرمينية وإلى الخليج الفارسي، ولكن الإنكليز لم يقهروا نابليون الشرقي هذا في عكا - التي ارتد عنها بونابارت منذ أربعين سنة - إلا بمساعدة مراكب الدول الأخرى.
وكان محمد علي في السنة الثالثة والسبعين من عمره حينما خسر الفصل الأخير، ويلزم بتسليم سورية وبدفع جزية إلى السلطان وبترك الأماكن المقدسة له وبالتنزل عن قسم من استقلاله المالي. والشيء الوحيد الذي ناله بتلك المعاهدة هو الشيء الذي كان يتمناه في صميم فؤاده، هو الاعتراف بكون الحكم في ممتلكة مصر التابعة أمرا وراثيا في آله.
وهو إذ لم يقبض على التاج المصري بنفسه كما صنع نابليون فإنه لم يسطع أن يضمن استقلاله، وهو إذ كان له حفدة وتقدم في السن فإنه ضمن لهم وراثة العرش خلافا لنابليون، وهنا يسأل: أي الرجلين أوفر حظا لدى القدر؟
الفصل الحادي والعشرون
وما هو نصيب الفلاح في عهد السيد الجديد؟
انقضى زمن استبداد المماليك، وانقضى معه دور المجاعة ودور أسوأ المزعجات، وصار الفلاح قليل الخوف من نهاب الأعراب، وغدا من النادر أن تسرق قطاعه، ولو سار كل شيء كما يريد السيد الجديد لعدل القاضي عن جلد الفلاح جورا، بيد أن الباشا كان يقوم بعدة جولات في البلاد فلا يبدي نصبا، بل يظهر في الغالب نصيرا كريما، ومع ذلك كان الباشا مستبدا فيقول إنه لا يمكن حمل هؤلاء القوم النعس إلا بالقوة والسوط، وكان بطرس الأكبر قدوة له في ذلك.
وعلى ما يعانيه الفلاح من قهر بالغ كان يسره أن يعرف أن الغرباء عن الأرض لا يجيعونه كأجداده ليعيشوا مترفين أو ليقتلوا أعداءهم، وكان يشعر بوجود رجل في القلعة يعمل في سبيل مصر على الأقل. أجل، كان يكبل ليجر إلى الثكن، وكان يفرض عليه نظام شديد، وكان يرسل إلى بلاد النوبة أو الأناضول، ولكن أولاده كانوا يوضعون في المدارس ويعلمون ويطعمون على حساب الباشا وتدفع إليهم نقود في بعض الأحيان. وأخذ الفلاح يشعر في عهد محمد علي بوجود أمر كان مجهولا لديه، وهو الكرامة الشخصية.
والحق أنه كان يتعذر عليهم أن يدركوا الغاية التي يسعى إليها محمد علي، وقليل من كان يعلم أمره في ذلك الحين، وكان يلوح أنه يسلك سبيل السلب على حين يقوم بأول تجربة لاشتراكية حكومية، ولا ريب في أن هذا المسلم العاجز عن فك حروف القرآن وجد من يتلو عليه قصة يوسف الذي كان وزيرا لفرعون فصادر معظم الأراضي الزراعية بنزع ملكية المماليك وتعويض المزارعين، وهكذا صار أكبر مالك عقاري بمصر فصار تاجرها الأوحد، وأنشأ مصانع أضحى بها منتج السلع الأوحد، وقد أخضع جميع وادي النيل لنظامه الاقتصادي ملزما بما يراه ضروريا من ضروب الزراعة، موجها لهذه الزراعات طاردا ذوي البطالة مكرها الفلاح على بيع حبوبه من الإدارة بثمن معين على أن يقبض بعض الثمن قنودا
1
من معامل سكره، ومن ثم ترى أن وادي النيل لم يكن قبل ستالين بمائة سنة سوى مزرعة حكومية واحدة يديرها نائب السلطان.
والأغنياء الذين انتزع أملاكهم يذعرون، والفلاحون يرتجفون، والوسطاء ينعنون، ولكن البلد يزدهر، ويمضي على النظام الاستبدادي والصلاح الإداري ثلاثون سنة فيتنزه تاجر القهوة بقولة على النيل فيحق له أن يلاعب لحيته الأبوية فيقول في نفسه: إن مصر لم تنل من الرخاء ما نالته في أيامه منذ قرون، وفي عهد أي سلطان، وفي ولاية أي باشا.
أجل، إن محمدا عليا أخذ من الفلاح نقوده وسلبه حريته كما صنع المماليك. أجل، إنه أكره الفلاح على حفر القنوات وشيد المباني وجمع منه جنودا لحروبه. أجل، إنه جلده بالسياط حملا له على دفع الضرائب. أجل، إنه وضع للحبوب أثمانا لا يستطيع أحد أن يؤديها، ولكنه فعل جميع هذا في سبيل بلده، وأما هو فكان يكتفي بكرر يأتيه من كريد وبأحسن أنواع القهوة والتبغ وبقصر جميل حسن الأثاث صالح لاستقبال ضيوفه من الأجانب فيه استقبالا باهرا. وقد قال لألماني ذات يوم: «تحتاجون في بلدكم إلى أيد كثيرة وأما أنا فأدير الآلة وحدي، ويجب أن أكون سيد رعيتي، ويجب أن أكون سيدا شديدا، فأنا طبيب الفلاح العاجز عن معرفة أمراضه.» وما قام به محمد علي من عمل فيثبت درجة ما كان لصنع الجبار من إنتاج في الشرق منذ مائة سنة.
ومن أوروبة اقتبس كل ما يمكن أن ينتفع به، ولكنه كان لا يستدين من غير البيوت التجارية فيبلغ ما يدفعه من القروض سلعا سبعين في المائة، وكان يفضل الفرنسيين على غيرهم، ولا شك في أن إعجابه بنابليون كان يوحي إليه بنفور زائد من إنكلترة. ومما حدث أن حال دون استمرار ضابط سابق من ضباط نابليون على السفر إلى بلاد فارس ليخدم فيها مفوضا إليه تنظيم جيشه، ويعتنق الكولونيل سيف الكاثوليكي دين الإسلام فيدعى المسلم سليمان باشا، وترى جيشا مصريا للمرة الأولى منذ عهد الفراعنة، ويحسن الفلاح القتال في جميع الجبهات .
ولم يكن لدى محمد علي أشرعة لسفنه، فحمل على زراعة القنب الذي لم يتخذ حتى الآن لغير إسكار المصريين، كما حمل على إنشاء مصانع لنسج الأشرعة منه، ويغرس السنط في جميع المديريات نيلا لخشب السفن، وكان يوجد على طرفي الدرب المؤدي إلى قصره مئات من الأبراج الصغيرة المعدة لحماية الشجيرات. وغرس في الفيوم ثلاثون ألف شجرة زيتون لصنع الصابون، وغرس في أماكن أخرى مليون شجرة توت لإنتاج الحرير. وينتشر الطاعون البقري فلا يطلب حماية الآلهة كما كان الفراعنة والسلاطين يصنعون، بل يرسل إلى الحقول ألفا من أحسن خيله ويقرنها بالجمال ويكره الفلاح على الاندفاع معها.
ولم يكن محمد علي محبا للفلاح، ولكن يلوح أنه كان يحب مصر على طريقته، ويصف له شنبوليون - الذي حل الخط الهيروغليفي - بؤس من رأى عيشهم من الفلاحين في أثناء مباحثه فيبتعد عن كل جواب سائلا إياه عن عمله، ففرعون الجديد كان يود قبل كل شيء أن يبين له شنبوليون ماذا كان أمر قدماء الفراعنة، وكان أسده المروض رابضا بجانبه - كسيزوستريس - عن ولع بالأوضاع المسرحية أمام الأجانب، غير أن الفرنسي لم يبد وجلا ولا إعجابا مدركا ما في الحال من غرابة وهزل، شأن محمد علي الذي كان ذا دعابة.
وبحث عن الذهب في النيل الأعلى، وكان يقصد من حملته النوبية أن ينال ذهبا وعبيدا كما قلنا ذلك في جزء آخر، وهو - وإن لم يجد ذهبا قط - كان يأمر بتفتيش كل مركب نيلي في مرفأ القاهرة، فيأخذ منه كل درهم غصبا مؤديا في مقابل ذلك سلعا من مصانعه، ويأمر محمد علي بترجمة قانون نابليون ليدخل إلى بلده بعض الإصلاحات. وكان محمد علي أول ولي أمر منذ عهد الفراعنة ضمن في مصر حرية الأديان وسلامة جميع طبقات المجتمع وأموالها. ومحمد علي هو الذي أمر بفزر القنوات ذات صيف حينما تمرد أناس من الألبان فأغرق قسما من القاهرة وقضى بذلك على العصيان، وهكذا ينتفع بالنيل مع القرون في إنقاذ جبار ذات مرة.
ويصنع محمد علي - من ناحيته - أشياء كثيرة في سبيل النيل، فتشق النهر ستة آلاف سفينة جديدة، وتقام على ضفافه أربعون ألف ساقية جديدة، وينشئ إبراهيم بن محمد علي أولى المضخات البخارية مستعملا فحما إنكليزيا، ويتضمن جميع ذلك معنى السخرة كما في زمن المماليك، ويرى نائب السلطان محمد علي في أثناء سفر إلى الإسكندرية وجوب حفر قناة في مكان ما، ويطلب المهندس الذي دعي لذلك الغرض مدة سنة لإتمام القناة، فيأمر محمد علي بضربه على رجليه مائتي مرة ويتوعده بثلاثمائة جلدة أخرى إذا لم يكن إنشاء القناة قد تم حين عودته بعد أربعة أشهر.
ويروى أن عشرين ألف رجل فقدوا حياتهم في سبيل إنشاء القناة التي تصل الإسكندرية بالنيل، غير أن القناة لم تكد تتم حتى أصبح المرفأ الذي دخل دور الانحطاط منذ قرون كثيرة يكون منفذا لوادي النيل، وذلك على حين يسد رمل البحر وغرين النهر مرفأي دمياط ورشيد بلا انقطاع، ويدعو محمد علي تلك القناة باسم متبوعه وعدوه السلطان محمود، وأعظم مشروع قام به هو السد الذي بناه قبل أسداد الإنكليز بخمسين عاما، وهذا هو بدء دور جديد في حياة النيل، ولم ينبئ به أحد قبل نابليون، ولم يبصره أحد أحسن من نابليون.
والواقع أن نابليون أخبر بإقامة أسداد على رأس الدلتا ذات يوم فتوجه بها المياه مناوبة بين شعبتي النيل فتضاعف بذلك أهمية الفيضان. والواقع أن محمدا عليا جعل بعضهم يقرأ له جميع ما كتبه نابليون في جزيرة القديسة هيلانة عن موضوع النيل. ومن الواقع معرفة محمد علي كل ما هو خاص بالإمبراطور، ومن المحتمل أن يكون هذا الجندي الأشمط قد أبصر مكافحة نابليون لهذا العنصر كما يقاتل عدوا له في ميدان الوغى، موجها جميع قواه نحو نقطة واحدة ليغمر البلد بالماء كما يغمر الخصم بجنوده.
وعن لمحمد علي فكر جائر في بدء الأمر، عن له سد شعبة للنيل سدا نهائيا لكيلا يجري إلى غير دمياط. وقد أثبت له الفرنسي لينان تعذر ذلك، وأبان له أن الإسكندرية تحرم الماء العذب بذلك، وهنالك قرر أن يقيم أسدادا على شعبتي النيل مستعينا بحجارة الأهرام الكبرى، وهو لم يترك هذا المشروع عن شعور فني ما سخر من علماء الآثار، وإنما عدل عنه لما يوجبه النقل من نفقات كثيرة، ويطول إنشاء «سد النيل»، لا لما يتطلبه من نقود كثيرة، ما دام يؤخذ ما يحتاج إليه من العمال قسرا، بل لما انتشر من طاعون، ثم لما كان من قتال السلطان، ثم لما كان من انتقاد المهندس الجديد للمشروع الأول وعدم وضعه ما هو أحسن منه، ويتم بناء السد في تاريخ متأخر إذن، وظل السد أهم الأسداد وألزمها من بعض الوجوه مع قدم طرازه.
والأسداد على النيل تعني القطن على النيل، ويعلم محمد علي من فرنسيين قدرة مصر على إنتاج السكر والقطن وإمكان ربحها منهما أكثر مما تربح من الحبوب. وهذه هي فكرة رائعة مملوءة بالمخاطر، فإذا كان الجو ملائما لتحقيقها فإن نظام الري بمصر يحول دون تطبيقها، وبيان ذلك أن نبات القطن لا يطيق الغرق وأنه يتطلب ريا منتظما في الصيف حين انخفاض المياه كما يتطلب فصلا غير جاف في الدلتا. والسد وحده هو الذي يوجد ما هو ضروري من الأحوال، ولكن مع وجود نظام كامل للمضخات والدواليب والممصات، ولكن مع تعميق القنوات واستخدام سبعة وعشرين رجلا في مائة يوم من العام لتنظيفها، ويقتضي ذلك إنفاق بضعة ملايين، ولا يغتم تاجر القهوة من ذلك المبلغ ما دام عمل السد لا يكلف شيئا. وماذا يحدث عند رداءة المحاصيل وفي زمن الأزمات العالمية ووقت وقف إدخال ما تحتاج إليه مصر من الحبوب فيما بعد؟
ويلوح عدم تأثير هذه المصاعب في محمد علي، ومحمد علي لم يضع أول حجر للسد وفق مشروعه الثاني أو الثالث إلا في سنة 1847؛ أي في أواخر حياته؛ أي حين غمه وثورات غضبه عن قهر إنكلترة إياه، وعاد لا يسمي إنكلترة بغير اسم «ذلك البلد»، وحظر عليه كل توسع في الخارج فحصر نشاطه في داخل مملكته وأنجز من الإصلاحات العظيمة ما صار معه أبا حقيقيا للشعب، وينشئ مئات المدارس في كل مكان، ويرسل أساتذة من الأزهر إلى باريس ولندن ليروا وجود كتب أخرى في العالم غير القرآن، ويؤسس مدرسة مصرية بباريس، ويعمرها بمائة وعشرين طالبا، ويدخل إليها بعض الأمراء من آله غير مفكر فيما يكون لهذه التربية الباريسية من أثر في حفيده إسماعيل، ويوزع كتبا ممتعة مطبوعة في القاهرة.
إذن، يوحي النيل إليه بمشاريع جسام، وقد بدا له قبل خطط الإنكليز الأولى في أسوان بخمسين سنة أن يأخذ ماء من تلك البقعة، وأن يقيم فيها مصانع بخارية، وأن ينشئ في كل ضفة سدا طويلا كمصر، وأن يعزق
2
جميع الأضواج، فيكون خيال فاوست قد حقق من قبل أمير، من قبل تاجر قهوة، ونذكر من عناصر الرخاء الأخرى التي أبصرها في مشيبه ما رآه من تحول عدد السكان من مليونين ونصف مليون إلى أربعة ملايين ونصف مليون على الرغم من الأوبئة.
ويقوم محمد علي بحج قبل موته، ولكن لا إلى البلد المقدس ما دام غير متدين، وما ساوره من غيظ نتيجة لما أصيب به من غلب فيصرفه عن التفكير ثانية في مكة، ويذهب لتقديم ولائه إلى مولاه السلطان وليضع حدا لتخاصمهما المثير للضغائن، ويعود إلى الإسكندرية عود الظافرين حاملا على صدره صورة السلطان المحاطة بإطار مرصع بالألماس. وهكذا يظهر وفاء التابع عن زهو كالذي أظهره بسمارك حينما انحنى أمام ولهلم الثاني الشاب بعد أربعين سنة.
ويصاب محمد علي بضعف في قواه العقلية ابنا للثمانين من عمره، ويحتمل أنه لم يدرك وفاة ابنه إبراهيم ابنا للستين من سنيه سابقا إياه إلى القبر قبل قليل زمن، وما بين الآباء والأبناء من رواية محزنة مثلت بين هذين الرجلين، وما بين الملك وولي العهد من تنافس تجلى على الطريقة الشرقية، ولا يسمع حديث في سنين أربعين عن وراثة طاغية من غير أن يقرض زاجره. وقد أكره إبراهيم على دوس ما فيه من استعداد فكان ما ترك من رسائل هائلة، ومن المتعذر تقدير ما خسرته مصر بموت إبراهيم قبل الأوان، ولو بلغ من العمر ما بلغ أبوه لاحتمل أن يفوقه بمقدار ما فاق الإسكندر - هذا المقدوني الآخر - أباه فليب، وعاد إبراهيم القوي لا يكون تركيا ولا ألبانيا، بل صار مصريا خالصا، وليس ابنه ووارثه غير نصف باريسي.
وحينما كان محمد علي مالكا لقواه العقلية زاره رجل عينه التاريخ ليكون حكما في أمره كما يلوح، فقد أرسل الكونت فالفسكي - الذي كان ابنا لنابليون من بولونية حسناء والذي صار وزيرا للخارجية في المستقبل - إلى القاهرة سنة 1840 ليقوم برسالة خاصة فيها، فاسمع ما قاله عنه:
قد تكون الأثرية - أو الخيلاء - هي التي أملت على محمد علي مشاعره الأولى، غير أن قراراته كانت نتيجة تفكير طويل على الدوام، وما فطر عليه من عبقرية أعظم في حقل الحضارة مما في حقل التنظيم، وهو لم يكن عنده عين النسر فيرى الناس والأشياء من عل، وهو لم يكن عنده من الذكاء العالي ما يتخذ الرجل به قرارات تدهش الناس أول وهلة، ولكنه كان يتصف بذكاء ثاقب وثبات قاطع وعزم قوي وحذق باهر، ولو ولد فرنسيا لكان مثل مترنيخ أو تاليران أكثر من أن يكون مثل نابليون.
وكان جسورا عبقريا بفطرته، وكان للتجربة شأن كبير في حياته، ولم يكن للتعليم أي عمل فيه ما دام لم يقرأ كتابا من الكتب التي تنمي شمائل الأمير كما يقال، وقد أثبت ذلك بنفسه على وجه مسل، فلما سمع حديثا عن مكيافلي ود أن يعرف كيف يصبح الناس بالكتب ما اتفق له بلا كتب، فأمر وزير خارجيته بأن يترجم إلى التركية فصولا من كتاب الأمير وصار الوزير يحضر إليه عشر صفحات في كل يوم. وإليك ما قاله محمد علي في اليوم الرابع:
لم أجد في الصفحات العشر الأولى ما هو جديد ولا ما هو جدير بالذكر فصبرت، ولم تكن الصفحات العشر الثانية خيرا من الأولى. وأما صفحات أمس فعادية تماما، فلا أستطيع أن أتعلم شيئا من هذا الرجل، وأعرف من المكايد أكثر مما يعرف، والآن قف ولا تداوم على الترجمة.
الفصل الثاني والعشرون
من شأن انحطاط أبناء ذوي العبقرية من الملوك والمتفننين، من شأن ضنى الطبيعة هذا بعد جهد كبير، أن تقع أسرهم الجديدة في خطر، وذلك مع اتزان الأسرة القديمة بعد أن تجاوز ظافرة دور المخاطر الأولى. أجل، ضمن محمد علي في خمسين عاما كفاح ميراث ملكه، غير أن القدر حرمه حقه؛ إذ أخذ أحسن بنيه مع بلوغ عددهم خمسة وتسعين، فلما غاب ابنه الأكبر خلف تاجر القهوة المقدوني على عرش الفراعنة رجال صغار، فيسارع حفيده وابن له في السنين الأربع عشرة إلى تغيير الوضع تجاه إنكلترة في ميدان السياسة الخارجية، كما يسارعان في الداخل إلى العدول عن الاشتراكية الحكومية، وهكذا يضعفان ما يخالط العالم من احترام نحو مصر التي كانت تهب من نومها، وهكذا يعودان الدول العظمى على الاعتقاد بأن ما وقع على ضفاف النيل ليس إلا مغامرة نابليونة يمكن صقل نتائجها سريعا بمبدأ الملك الشرعي.
وتمكن مقابلة عهد إسماعيل (1863-1879) بعهد ولهلهم الثاني، فهما، إذ كانا حفيدين لاثنين من بناة الإمبراطوريات الصوارم، لم يكن لديهما رشد كاف حينما جلس كل منهما - ابنا للثلاثين - على عرش لم يكن بعد من القوة ما يقاوم معه مفاجئ الحركات ونزق الإشارات. كلاهما موهوب، كلاهما أنيس، كلاهما بدد تراث أبيه لا عن معايب كريهة، ولا عن حروب طموح، بل كانا ضحيتي دوار صادر عما نالاه بغتة من سلطان لا رقيب عليه تقريبا، فعرفه بسمارك متلهيا بقوله: «إن الإمبراطور يود لو يحتفل بعيد ميلاده كل يوم.»
والواقع أن رجلين من ذوي الجد والوقار شبا في دور ثوري فشقا طريقا لهما على مهل مع مقاومة الدول المسنة فحافظا حتى المشيب على بساطة العيش، ثم خلف كل واحد منهما حفيد غني كاتم لتردده تحت ستار من فخامة المظهر محاول انتزاع احترام العالم له بما ينتحله من كبرياء. والواقع أن إسماعيل وولهلم الثاني - المقيمين ما لا مثيل له من الأعياد والحفلات - قضيا ثلاثين عاما في تبديد تراث عظيم عهد إليهما في المحافظة عليه فخلعا بقرار من الأعداء الذين رأوا أنهما ألحقا ضررا بهم، وقد أمضى الرجلان بقية حياتهما في منفى ذهبي بعيد من المجد والحكمة ملائم لسجيتهما.
ويظهر أن إسماعيل الذي نال قسما كبيرا من تربيته في باريس، والذي وجد ما يفسده ببعثات سياسية في عواصم أوروبة اتخذ أقل ملوك أوروبة رصانة في ذلك الدور مثلا له؛ اتخذ نابليون الثالث قدوة له، ويرى أن يجعل من القاهرة - التي كانت وافرة الغنى حين ارتقائه إلى العرش - باريس ثانية، فلا يكون فيها ما هو أفريقي، وتسكره الإنارة بالغاز والخطوط الحديدية والميادين العامة والشوارع ذات الأشجار والنسائج الحريرية والزخارف، ولا سيما استقبالات البلاط الباهرة، وتعكر ما في دمه من روح تجارية ورثها من محمد علي فأثبت وجودها في البداءة بإدارة أملاكه على الطرق العصرية.
ويبدو كل شيء باسما له عندما قبض على زمام الحكم، فلما أدت حرب الانفصال إلى عدم إصدار القطن الأمريكي اغتنت مصر - المنتجة الجديدة للقطن - من فورها، وما كان العالم المضطر إلى الاكتساء ليبالي بما يدفعه من الأثمان، وما كان من ارتفاع الأسعار بما لم تسمع بمثله أذن قد أثار أسطورة الثراء الخيالي. ويذهب مهندسون إلى مصر طلبا للرزق على ضفاف النيل، وتتنازع فرنسة وإنكلترة حفظا لمركزهما، وتجتذب قناة السويس - التي كانت تنشأ - أبصار الناس إلى مصر، ولا تعجب إذا ما استعدت أعظم مصارف أوروبة لوضع رءوس أموالها تحت تصرف الملك السعيد. وهل في قبول ذلك جريمة لا تغتفر؟ ويقترض إسماعيل من أوروبة تسعة وتسعين مليون جنيه في ست عشرة سنة.
هو لم يبذر كل شيء، فقد حفر في عهده من القنوات ما طوله أربعة عشر ألف كيلومتر، وقد حفر قناة إبراهيم بالقرب من أسيوط، وقد أحيا من الأراضي الصالحة للزراعة ما يعدل ألف ألف فدان على ما يروى مع التوكيد، والبلاد مدينة له بكثير من المرافئ والمناور وبزيادة في إنتاج القطن ما صار يصدر منه بأربعة عشر مليون جنيه بعد أن كان يصدر منه ما قيمته أربعة ملايين من الجنيهات، والبلاد مدينة له برفع عدد مدارسها من مائتي مدرسة إلى خمسة آلاف مدرسة مع تعيين ثمانين ألف جنيه لها في كل عام، ويعد المتحف الكبير الذي أقامه في القاهرة أعجوبة على حسب ذوق الزمن كما يعد جسر الجزيرة الذي أقامه بجانبه.
ومع ذلك كان إسماعيل ضحية الأحوال، كان ضحية زهوه، كان ضحية الدولاب المسنن الذي وضع نفسه عليه فيسرع في الدوران مقدارا فمقدارا، فيصبح في مثل وضع الفلاح الفقير تماما.
ومما حدث أن سن قانون شائن جعل إسماعيل به جميع الأجانب في منجى من سلطان القضاء المصري، ومكن به أرباب رءوس الأموال الشرقيين من استعباد الفلاحين بأن يقرضوهم على حساب محاصيلهم ما هو ضروري من المال لدفع الضرائب المفروضة عليهم، وذلك بربا فاحش يترجح بين الأربعين والخمسين في المائة، ومثل هذا ما كان من أكبر صيارفة أوروبة الذين استغلوا احتياج إسماعيل إلى النقود وعدم اكتراثه لها، فقد بلغوا من غره وغشه برباهم وسمسرتهم ولجانهم ودفعاتهم الوهمية، وقد بلغت مصافق باريس ولندن من ابتكار الحيل، ما يساق الرجل العادي معه إلى غياهب
1
السجون، وقد وصف إنكليزي أولئك الصيارفة الكبار بقروش
2
أوروبة لعدم تسليمهم إلى الملك البطر غير ستين في المائة من حسابه، وإذا وجد رجل جدير بالاحتقار في هذا الأمر فالدائن، لا المدين، هو ذلك الرجل، ولا يشعر المؤرخ بعطف نحو أولئك الذين بدد ذلك المبذر أموالهم على ضفاف النيل.
ولم تكن الأمور قد بلغت تلك المرحلة حينما احتفل إسماعيل بأبهى يوم في حياته، حينما احتفل بافتتاح قناة السويس.
ومن الفرنسيين رجل أهيف ذو ذكاء نادر كان أيام شبابه قد أعطى سلف إسماعيل المحبوب سعيدا دروسا في الفروسية، فنال هذا الفرنسي بمصادقته سعيدا وثيقة ثمينة امتنع محمد علي ومن خلفه عن موافقة أحد عليها حتى الآن، وبهذه الوثيقة المؤلفة من سطرين يؤذن في إنشاء قناة بين السويس، الواقعة على البحر الأحمر، وخليج بيلوزة صالحة لسير سفن البحار، وكان طيف كل من نابليون وغوته يحلقان فوق هذا المشروع، وفيما كان العالم بأسره - ولا سيما عالم التجارة الإنكليزية - يدرك من فوره أهمية المشروع، وفيما كان السانسيمونيون في فرنسة يبدون على رأس الحركة، كان اللورد بلمرستن - الذي هو من أشهر أقطاب السياسة في عصره - يجعل من نفسه مهزأة حين يكتب في سنة 1855 ما يأتي:
تفصل هذه القناة مصر عن تركية، وتعوق هذه القناة سير كتائب السلطان، وهي تجعل مصالح إنكلترة بمصر والهند تابعة لمشيئة فرنسة.
وكان خوفه من فرنسة يضفو على بصره بأمر الإمبراطورية البريطانية، ويرى المتزمتون من البريطان أن يحولوا دون حفر برزخ السويس بما اكتشفوه بغتة من إمكان تسخير الفلاح وجعله تحت الرحمة، ويستبدل أنصار حفر البرزخ الفرنسيون بعض الآلات بالفلاح استبدالا جزئيا، ويسمع صوت جرافات بخارية في البحر الأحمر للمرة الأولى.
نسوة يملأن ماء من النيل.
وقصة قناة السويس خاصة بالتاريخ البشري، لا بتاريخ النيل، والقناة تنافس النيل من بعض الوجوه لأنها تجر مصر إلى البحر، وكان لدى إسماعيل شعور بما سيأتي حينما صرح في حفلة الافتتاح بأن تلك القناة تفصل مصر عن أفريقية وتربطها بأوروبة، وإن غابت الناحية الفاجعة عن مزاجه الطيب لا ريب.
والحق أن الماء الذي يصل تلك الدولة الأفريقية بخط الاستواء أنفع لإسماعيل من الماء الذي قد يفرنجها، والحق أن مما يرى في الساعة الراهنة ارتباط مصير مصر في النيل، لا في البحر المتوسط، والحق أن العالم بأجمعه استفاد من فتح البرزخ، وأن مصر وحدها هي التي خسرت به، وكان إسماعيل راغبا في إنشاء القناة من أجل مصر، لا أن تكون مصر خادمة للقناة، ويحبط مشروعه هذا بسبب سجيته، وهو لم يلبث أن خسر جميع أسهمه وما يجب أن ينال من فوائد.
ويبدو سعيدا يوم الافتتاح من شهر نوفمبر سنة 1869، ويكون إمبراطور الفرنسيين وكثير من الأمراء ضيوفا عنده، ويدير فردي
3
الكبير في أوبرا القاهرة الجديدة أول تمثيل لروايته المصرية، ولن يرى ذلك المسرف الأنيس مثل تلك الفرصة لصب الذهب، ومع ذلك كان يظهر ذانك النجلان لطبقة متوسطة غامضة الأمر على شواطئ البحر المتوسط، ومع ذلك كان يظهر ذانك العاهلان اللذان تدل سيما أحدهما على أنه معلم مدرسة ويدل رأس الآخر منهما على أنه صيرفي، مضحكين لو لم تقطع الإمبراطورة الفاتنة أوجيني التي هي وحي حي لرواية جنسها الخالدة ذلك الشريط الرمزي.
وكان إسماعيل قد دفع الملايين للسلطان نيلا للقب خديو وتنظيما لوراثة العرش بأوثق مما في الماضي، ويعزم إسماعيل أيام افتتاح القناة على التخلص من متبوعه الضعيف بأن يعلن في خطبة مدوية استقلال مصر وينادي بنفسه ملكا، ويمنى هذا المشروع بالإخفاق في الدقيقة الأخيرة لما كان من اعتراض دولة أجنبية.
4
ويسير كل شيء من سيئ إلى ما هو أسوأ منه بعد ذلك الحين، فيخلع الإمبراطور نابليون بعد سنة وتبعد الإمبراطورة، ثم يأتي دور إسماعيل بعد عشر سنين، وتصبح قناة السويس ذات أهمية عالمية، ويرتفع عدد السفن التي تجاوزها من خمسمائة إلى ستة آلاف في خمسين سنة، ويرتفع عدد من يعبرها من السياح من 27000 إلى 250000، ويزيد الدخل على ما كان عليه مائة مرة.
ومما حدث أن اضطر الخديو المتلاف - عن إفلاس قريب الوقوع - إلى بيع أسهمه في قناة السويس بأربعة ملايين جنيه، وفي هذه المرة يبدي الفرنسيون غباوة رفض ما عرضه إسماعيل عليهم، ويحتمل ديسرائيلي سرا مسئولية ذلك الشراء بواسطة روتشيلد، وترد هزيمة الفرنسيين في أفريقية إلى تلك الخطيئة في سنة 1875.
ويغدو إسماعيل خاسرا، ولا يكون لخطته في ضمان حماية فرنسة وإنكلترة لمصر وفي مدارة السلطان بأكداس الذهب قيمة إذا لم يبق متمولا. والواقع أن المدعوين إلى الباخرة البالغة الزخرفة التي تم استقبال الإمبراطورة فيها كانوا ضيوف أنفسهم من بعض الوجوه ما دام إسماعيل قد اضطر - لإقامة ذلك المهرجان - إلى عقد قرض مالي في باريس.
وما حدث من سقوط أثمان القطن ونقص فيضان النيل مرتين وما أسفر عنه هذا النقص من رداءة المحاصيل عجل حدوث الكارثة، وبلغ ممولو الخديو منذ عشر سنوات من الفساد ما لا حد له، فإذا ما طلب منهم مدفع للتجربة أرسلوا اثني عشر مدفعا، ويقدم خياط باريسي في أثناء الارتباك العام قائمة إلى الخديو بمبلغ 150000 فرنك ثمنا لثياب أميرة واحدة، ويطالب المزينون والجمالة والحمارة بما يجب أن يدفع إليهم.
وأخيرا تتدخل الدول، فترسل إلى القاهرة لجنة لتضع يدها على دخل الدولة، ويستقبل إسماعيل دائنيه تحت سرادق من حرير منصوب عند سفح الأهرام، ويقيم مهرجانا عاما فخما لمن فوض إليهم أن يبحثوا في ماليته ويتصدوا لها، وذلك ليشاهد ألوف الفلاحين حسن صلاته بالدول العظمى.
وتشابه لجنة الديون تلك إحدى المهازئ فيرقب إنكليزي الدخل ويرقب فرنسي الخرج، وتجد تلك اللجنة في نيل بعض الشيء للدائنين الهائجين في مصافق أوروبة، وعلى الفلاح أن يدفع الآن - كما كان يدفع - نفقات ما يقيمه الخديو من مهرجانات، وكان أحد أصحاب المناصب العالية من الإنكليز - شيرول - قد ذكر منذ بضع سنين في تقرير له قوله: «كان الفلاحون يجرون من حقولهم ليعملوا في الأراضي الواسعة التي كان الخديو قد اغتصبها منهم، ويهددون بالسياط دوما ليعملوا مسخرين كالعبيد في حفظ القنوات نفعا لغيرهم، وفيما يطلب جمع جائع من النساء والأولاد سنبلة ذرة ترى إسماعيل جالسا على العرش بين حاشيته، وترى مستغليه من المصريين والأوروبيين يغتنون على حسابه.»
ويلقف كل شيء في سبيل دائني باريس ولندن وبرلين الذين طمعوا أن يثروا بلا تعب، فلا يبقى ما يؤدى إلى موظفي المصريين بانتظام، والمحامون لدى المحاكم المختلطة الذين كانوا يغتنون، وعاد الفلاح غير ذي عمامة، وصار الفلاح يقتصر على جلباب أزرق، وإذا ما كان لدى الفلاح ثياب أخرى أخفاها، وليس من القليل أن كنت ترى شيوخا يضطرون إلى هدر كرامتهم فيخرجون بلا جبب.
وتبصر لجنة الرقابة ذات سنة وجود نقص 1500000 جنيه في ال 4800000 جنيه المخصصة للفوائد، وهنالك يرسل إلى جميع أنحاء البلاد اثنان من الباشوات وستة من المرابين لحمل الفلاح على أن يبيع المحاصيل منهم مقدما بنصف الثمن وإن لم يحن وقت حصاد الحب بعد، وذلك على أن يؤدى ذلك الثمن بعد شهر لعدم إدراك الحب، وذلك إلى استيفاء الضريبة مما يملك الفلاح ولو كان قطعا ذهبية مخيطة في براقع نسائه، وهكذا تسلم الحكومة المبلغ الناقص قبل الوقت المعين ببضع ساعات. ومما حدث أن القنصل الإنكليزي جرؤ في تقاريره على الدفاع عن الفلاحين فأوجب الدائنون الجياع إخراجه من منصبه.
وكان الفلاح يجهل مؤتمر برلين جهله مصارف باريس، ومع ذلك قرر بسمارك مصير مصر في أثناء ذلك المؤتمر، وبسمارك كان - منذ عامين - قد نصح الإنكليز بأن يستولوا على مصر راجيا أن يحول هذا الاحتلال دون نشوب حرب في الشرق الأدنى. وبسمارك في هذه المرة يقترح عزل الخديو، ولكن الرجل المسن المريض، ولكن السلطان يظهر بغتة كما يحدث في خاتمة الرواية الهزلية، فبعد أن ترك السلطان نائبه يقوم بشئون الحكم على ضفاف النيل كما يشاء مدة خمسين سنة رأى أن ينتحل وضع الطاغية فيحول بذلك دون تدخل الدول الغربية، فأرسل إلى إسماعيل برقية عنوانها: «إلى خديو مصر السابق بالقاهرة».
ويتخذ إسماعيل من الوضع ما هو كامل، ويروي شاهد عيان أنه دهش، ثم فتح البرقية هادئا وقرأ ما يأتي: «أطيعوا صاحب الجلالة السلطان فسلموا الخديوية إلى خديو مصر محمد توفيق.» ثم طوى الورقة بعناية وقال: «أرسلوا من يبحث عن صاحب السمو توفيق باشا في الحال.» فلما لاح ابنه أسرع إليه مجاوزا القاعة مع طولها ووضع يد ابنه على فمه قائلا: «أهلا بمولاي.» ثم طبع قبلة على خديه وهنأه وتمنى له حسن التوفيق، ولم ينطق بغير ذلك ذاهبا إلى دائرة حريمه تاركا الأمير الشاب حائرا مرتعبا، تاركا ابنه الذي صار ملكا بين ساعة وأخرى، فلما كان الغد قصد القصر، فكان أول من قيد اسمه في دفتر مهنئي ولي الأمر الجديد، ثم وضع أمتعته في حقائبه وأخذ بعض نسائه وأصدقائه ومبلغ ثلاثة ملايين فرنك وتوجه إلى إيطالية بحرا.
وقد قضى إسماعيل ليلته الأخيرة في مصر مع ابنه فقط.
الفصل الثالث والعشرون
ويصحو الفلاح في أسوأ ساعات استعباده، ولم ينهض الفلاح وحده كما صنع أجداده منذ 4500 سنة، بل اتبع من يقوده من الزعماء للمرة الأولى، وقد صدرت القومية المصرية من الأدنى لأول مرة بعد أن أتى محمد علي - هذا الغريب - بها من الأعلى، وتقوض الزوبعة ذلك السرادق الحريري الذي أولم الخديو فيه لدائنيه فأبصره الفلاح يصنع ذلك، ويطوف بعض رجال في القرية بعد الأخرى ملقين خطبا نارية ضد الأجنبي، ويدرك الفلاح أن تلك الأقوال تهدف - أيضا - إلى الباشوات الذين كانوا يغتنون بفضل الأجنبي. وهكذا يتقوى العصيان السياسي بالحقد الاجتماعي، ومن القاهرة أناس ساخطون كانوا يتكلمون عن جمهورية على غرار الديموقراطية السويسرية، فترتبط فيها سورية والحجاز، وقد قال أحدهم: «أرجو ألا أموت قبل أن أرى الجمهورية المصرية، فجميعنا نود رجوع العصر الذهبي.»
وكان زعماء تلك الحركة من علماء الأزهر المعترضين على الأوراد القرآنية القديمة، ومن الضباط الساخطين على محاباة الترك في الجيش، ومن رجال ذوي آراء مختلفة، ولكن مع كون الجميع من المصريين الأصليين الذين هم من الطبقة الوسطى والذين كان محمد علي قد دعاهم إلى تمثيل دور في المجتمع فحرمهم خلفه حقوقهم. وكان محمد علي أول من جعل من الفلاحين ضباطا، ولم يستأصل محمد علي المماليك تماما مع ذلك، فقتل اثنان منهم خليفته، وكان نائبو السلطان يلعبون مع السلطان لعبة الهر والفأر، وكانوا يحاطون بترك في الغالب، ويبرز ضابط بين العصاة الذين يريدون أن تكون «مصر للمصريين».
كان عرابي فلاحا ابنا لشيخ قرية في الدلتا، وولد في عهد محمد علي ونشأ في إحدى المدارس الأولى التي شادها محمد علي، ودرس في الأزهر القرآن والسياسة الجديدة معا، وصار جنديا ثم ضابطا ثم مرافقا لنائب السلطان - سعيد - في أثناء حج، ويروى أن سورة غضب اعترت سعيدا في ذلك الحين فرمى من خيمته كتابا عن «حياة نابليون» فجمعه عرابي فألهبه هذا الكتاب حماسة، والواقع أن مطالعة سيرة نابليون تؤدي إلى نتائج خطرة في الغالب.
وكان عرابي قائد مائة عند موت حاميه، ولما صار إسماعيل يملك مستعينا بالأغنياء والغرباء على الفلاحين والمصريين كان عرابي في الخامسة والعشرين من سنيه فانحاز إلى النشاط من الرجال الذين أخذوا يفكرون في خلع إسماعيل منذ ذلك الحين، ويلقي خطبة نارية تحت نوافذ القصر فيجرده مجلس حربي من رتبته، ويجلد بالسوط على الأرجح، ويصيبه مثل ذلك في أثناء حرب الحبشة، وتجرح كرامته ضابطا مصريا فلاحا ، ويبلغ من النضج ما يصير معه زعيما شعبيا، ويكفيه أن يكون قادرا على الكلام.
وكان عرابي طويل القامة، بطيء الحركة مشابها للفلاح أكثر مما للجندي متوانيا صموتا له نظر الحالم. ولم يكن عرابي موفقا ضابطا ولا سياسيا، ولم يكن عرابي ذا تأثير في غير مخاطبة الجمهور، ويرى الفلاح فيه طرافة لم يسمع بمثلها، ويعده الفلاح ابنه الذي يحدثه عن آلامه بلهجته فيشعر الفلاح بتحقق حلم كما يشعر بصدور سائل من الحماسة عن هذا الرصين الصادق الذي يستشهد بالقرآن فيدل على حسن إسلامه وصلاح مصريته، ويظهر عرابي من جميع الوجوه على النقيض من ذلك الزعيم الذي أعلن في السودان أنه المهدي المنتظر، فرأينا في جزء آخر من هذا الكتاب ما كان يتصف به من خداع وخبث ورثاء.
وكان منظر الشارع يوحي إلى عرابي في كل يوم بما يجب أن يخاطب به الشعب إيقاظا له، فيتكلم عن إسراف إسماعيل، عن تبذير هذا التركي، هذا الأجنبي، كما يتكلم عن امتيازات الترك وبؤس الفلاح مضيفا إلى ذلك إخلاصه للخليفة وقسمه بالقرآن وبسيفه، مفاخرا في كل مكان بإمضائه: عرابي المصري، ولم يبق له أن يعمل كثيرا حتى يصبح شعبيا خطرا، فلم يلبث أن صار «الوحيد»، وصار الملحفون والناصحون يغشون منزله، ولما هاجم الحكومة وطالب بتأليف جيش وطني كبير لم يدرك الشعب غير أمر واحد، غير عزمه على طرد المرابي الأجنبي، غير طرد اليوناني، فيهتف له، ومما قال مجلجلا
1
ذات يوم: «نذكر - نحن الجنود - أن الخليفة عمر في مشيبه قال للناس ذات مرة: من رأى منكم في اعوجاجا فليقومه، فسمع من يقول له: والله لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا.»
ويحاول توفيق - هذا الخديو الجديد - هذا الوارث لديون أبيه وما أدى إليه أبوه من كره الأجانب، أن يداري ذلك الزعيم الشعبي الخطر فيعينه زعيما
2
في الجيش، بيد أن عرابي يرفض إرسال رجاله للعمل في قنوات أملاك الخديو الخاصة، فيوقف ويطلقه جنوده، ويصير بعد الآن زعيم مصر الثائر على الطاغية التركي والبطل الوطني.
ولكنه لم يكن غير نصف بطل، وإن الخديو - وإن لم يكن بطلا - كان يمكنه - على الأقل - أن يعتمد مناوبة على السلطان وعلى الدول العظمى؛ أي على ناحيتين تعدان كل ذلك ضربا من تمرد الجنود، ويزحف عرابي ذات عصر من شهر سبتمبر سنة 1881 إلى القصر مع 2500 رجل، وينتظر الخديو، ويتوقف كل شيء على جرأة كل من الخصمين، وإذا ما صدقنا المرافق الإنكليزي الذي كان مع الخديو وجدنا وضع الخديو مثيرا للضحك، وإذا ما صدقنا قول عرابي نفسه ظهر عرابي لنا ناصحا لا حاسما.
بين قناتين.
وكان الخديو أصغر سنا من عرابي باثنتي عشرة سنة، وكان خلوا من الروح العسكرية، فسأل الإنكليزي مخافتا عما يجب أن يفعل، فيسر إليه الإنكليزي بأن يأمر الزعيم
3
أن يترجل، وأن يغمد سيفه، ويطيع عرابي، بيد أن الخديو لم يكن من الشجاعة ما يعمل معه بنصيحة مرافقه فيطلب من عرابي أن يسلم إليه سيفه، وذلك لما كان يبدو من روح التهديد على خمسين ضابطا متجمعين عند باب القصر، ويعرض عرابي عليه مطاليبه السياسية، ويشتد الخديو بالإنكليزي فيقول: «إنني سيد هذا البلد، وسأصنع ما يروقني.» ويجيب عرابي عن ذلك بقوله: «لسنا عبيدا، ولن يتصرف فينا بعد الآن بحق الوراثة.» وهنا يدخل الخديو قصره ويرتد الجنود.
وذلك المنظر الذي رئي ما هو أعظم منه أمام قصور العواصم الأخرى هو وحيد في تاريخ مصر منذ ستة آلاف سنة، وهو نصف قهر للملك شبيه بما تم ببرلين في شهر مارس سنة 1848، ولكن الثوريين نالوا في القاهرة أكثر مما نالوا في بروسية؛ وذلك لأن الخديو في ذلك اليوم أجاب زعيم الفتنة إلى جميع ما كان يطلبه حزبه تقريبا؛ أي عزل الوزارة وتقوية الجيش ودعوة مجلس للنواب ووعد بسن دستور، ويعين عرابي وزيرا للحربية. والأمر الوحيد الذي منعه مولاه هو عرض الجنود في الشوارع في ذلك المساء مع عزف الموسيقى.
ومن الطبيعي أن يحذر كل من الرجلين صاحبه، فيقول الخديو لعرابي: إن قلبه كان مع الثائرين ويقول للدائنين: إنه سيقضي على الفتنة، وكان السلطان يلعب مع الخديو وعرابي عين اللعب.
ومع ذلك كانت الآلهة القوية؛ أي حكومتا إنكلترة وفرنسة، تقاتل في السحب فوق هؤلاء المصريين وهؤلاء الترك كما وقع أمام تروادة فيما مضى، وكما كان القدر الثابت على العرش يجلس فوق تلك الآلهة، فترمي لجنة الدائنين رعدا وصواعق بين الآلهة والناس لإنقاذ خمسين في المائة على الأقل من ديون إسماعيل خلافا لإرادة الشعب المتزايدة، وتحس فرنسة ما يكون من غلبها في مصر فتخف إلى احتلال ولاية تونس التركية، وتتفق هي ومنافستها إنكلترة فتعرب للخديو عن حمايته تجاه كل حركة ثورية، ويراد استدراج زعماء الفتنة فيطلب عزل عرابي، ولا يوفق لغير إضرام الشعب سخطا ضد الأجانب، ويهيم ألوف الناس خوفا من الفتك بالنصارى ويعزم السلطان على إرسال سفينة في نهاية الأمر، ولا تنزل من السفينة إلى البر مدافع، بل ينزل صندوق ضيق مشتمل على 250 وساما مع تخصيص عرابي، مع تخصيص الثوري التقي الذي ما فتئ يعترف بسيادة الخليفة، بأهمها، وهذا ما كان يخيل للبلاط القديم أن يقف الثورات به! ومع ذلك يتدخل الدائنون، يتدخل ممثلو الأسلوب المعاكس بشدة، لدى حكومتيهم فيحملونهما على إرسال أسطول إلى الإسكندرية، فتلقي مراكب حربية أجنبية مراسيها في مصب النيل، ويذهب الفرنسيون من فورهم، ويخفق العلم البريطاني وحده في الهواء.
هكذا يحمل عرابي على أعمال يتطلب القيام بها رجلا أشد بأسا منه، وينحاز الخديو إلى الأجنبي في الحال فيعزل عرابي كخائن لبلده، ويقابل عرابي الخديو بمثل ذلك، ويتعذر الحكم بإنصاف في الأمر؛ وذلك لأنه لا يجاب عن السؤال «ما هي الخيانة العظمى؟» بغير قول شيلر: «إذا ما نجح صفح عنه.»
ولما اعتقد أن بضع طلقات مدفع تكفي لإعادة النظام إلى نصابه وجدت كل ذريعة صالحة، ويتضارب مالطي وحماره في شارع بالإسكندرية من أجل أجرة، ويبلغ هياج الجمهور غايته بعد ساعة، ويقتل مائتا شخص، ويجرح القنصل الإنكليزي، وتنهب أموال الألوف، وتنشأ هذه الحوادث عن وجود مراكب حربية إنكليزية أغضب وصولها المصريين من كل طبقة، ويضبط عرابي نفسه في ذلك الحين فينذر الإنكليز بقوله: إن أول قذيفة مدفع يطلقونها تؤدي إلى خلاص الشعب المصري من دينه، ويسأل في نفسه عن انضمام سفن السلطان الحربية إلى الأسطول الإنكليزي ويجهز حصونه بالسلاح على عجل، ويحافظ على اعتدال دمه مع ذلك، ويأمل فيتنادر هو وصحبه ويتبادلون الأهاجي ليلة بأسرها، ولكن مع عطل من خطة قتال مقررة، ويفر من الأجانب من يستطيع الفرار، ويستعد الترك للرحيل، وكان أربعة عشر ألفا من النصارى قد غادروا البلاد، وكان ثلاثون ألفا منهم قد هربوا إلى أقسام مصر الأخرى.
وكان عرابي فاقد الحزم في الساعة الحاسمة كما يلوح، وهل كان المدفع أو الإيمان هو الذي يعوزه؟ وهل كان يذكر حرق موسكو، كما يزعم الإنكليز، فأضرم النار في المدينة، أو أن الحريق كان نتيجة انفجار غيظ الأهالي؟ إن الذي لا ريب فيه هو أن الإنكليز ضربوا الإسكندرية بالمدافع ودخلوها حين كانت تأكلها الفوضى، وإن الذي لا ريب فيه هو أن المصريين قاوموا ذلك الغزو الأجنبي في أسابيع بحمية لم يبدوا مثلها في ألوف السنين، كما أنهم أظهروا من العزم والشعور القومي ما لم يظهروا مثله تجاه أي غزو أجنبي وقع في جميع تاريخهم الطويل.
وتنزل كتائب إنكليزية إلى البر لحماية قناة السويس، ويسترد الفرنسيون مراكبهم. والحق أن الفرنسيين تركوا البرزخ الذي صار طريقا عالمية بعد أن أفلتت أسهم إسماعيل منهم، والحق أن الدول الثلاث التي يهمها الأمر لم تكن لتبصر مقدار المسائل الخطيرة التي فصلت في تلك الأيام القليلة.
وكان عرابي مقاتلا - لا قائدا - ويخوض غمار أول معركة، ويسير وفق طلب فرديناند دولسبس وأناس آخرين لم يكونوا ليبالوا بحرية مصر مبالاتهم بقناة السويس فلم يحاصر هذه القناة مع أنه كان يجب عليه أن يسد الطريق في وجه السفن الإنكليزية، ومع ذلك يقف جيشه المؤلف من فلاحين زحف الجيش الإنكليزي العصري مدة شهرين، ولكن ما حدث من خيانة ضباط تبرطلوا أدى إلى هزيمة عرابي ورجاله وهروبهم إلى القاهرة، ويقبض عليه ويحكم بإعدامه ويعفى عنه وينفى إلى سيلان.
وكان عرابي في الثانية والأربعين من عمره في ذلك الحين، ويعود إلى بلده ابنا للستين من سنيه، فيموت في القاهرة سنة 1911 فلاحا منسيا مهملا، فقيرا كما كان دوما، ويرى الإنكليز الذين قاوم نزولهم إلى مصر يسيطرون عليها بأسرها، ويمارسون فيها من السلطة ما لم يتفق مثله للسلطان قبل ذلك قط، وما أسوأ ما بدأ به الإنكليز، ويقول ضابط إنكليزي بعد حين: «إن بداءة سيئة على أرض صالحة خير من بداءة حسنة على أرض سيئة.» وما كان للإنكليز أن يعاملوا عرابيا كما يعاملون العصاة، فهو لم يكن عاصيا ما كان الخديو قد سلم إليه جيشه، أو كان يجب عليهم أن يعلنوا حمايتهم من فورهم كما صنعوا ذلك في بلاد أخرى، وما اتخذه غلادستن، هذا القائل بعدم التوسع الاستعماري، جعل المصريين يرون - بحكم الضرورة - أن كل ما تكترث له إنكلترة هو قناة السويس ورقابة ما تحتاج إليه مصانع لنكشير من القطن.
وفيم كان عرابي الشائب يفكر وحيدا بغرفته الحقيرة بمصر القديمة حينما يسمع صوت عرض الكتائب الإنكليزية في شوارع القاهرة ويبصر ما تم على يد الإنكليز من تقدم بعد عشرين سنة من توطيدهم السلم والنظام اللذين صرحوا بأنهم أتوا من أجلهما؟ وهل كان في سبيل سعادة مصر أو شقائها ما أعطاه «عرابي المصري» من ذريعة للإنكليز حتى يسوغوا نزولهم إلى وطنه ذلك؟ أفلم يكن وجديا أكثر من أن يكون جنديا؟ أولم يكن عليه أن يخاطب الإسكندرية سيدا لمصر ما أصبحت مصر قبضته؟ أولم يكن عليه أن يغلق قناة السويس منعا لوصول نجدات بريطانية؟ وما صرح به لموظف إنكليزي ذات يوم فمن قوة الإخلاص كدفاعه بعد القبض عليه، غير أنه كان من شدة الشرف وكثرة الجهل بالعالم ما لم يسطع معه أن يحول دون أشراك البنوك الأوروبية. وإذا كان عرابي أول فلاح قام بشئون الحكم بمصر فإنه لم يكن فلاحا بدرجة الكفاية، وكانت الساعات الطويلة التي يقضيها في أثناء حربه أليق بالطالب الأزهري مما بالجندي.
ولم يتكلم عنه أحد بأحسن مما تكلم عنه الاسكتلندي النزيه الجنرال غوردون في أثناء تلك المعارك وقبل استيلاء كتائب الإنكليز على القاهرة، قال غوردون:
ومهما يصب به عرابي فإنه سيعيش قرونا في ذاكرة الشعب الذي لن يقول ثانية: خادمكم الخاضع.
الفصل الرابع والعشرون
إذن، استقر الإنكليز بوادي النيل، واستلهموا الرومان أكثر من استلهامهم اليونان؛ وذلك مع كونهم أحسن تسلحا من أسلافهم الذين كانوا قد استولوا على الدلتا خطوة خطوة بالحديد والنار. أجل، إنهم بدوا أقل اطلابا، فلا يزعمون أنهم سادة وادي النيل، ولا يرفعون العلم البريطاني، ولكنهم يوكدون - ولا يزالون يوكدون - أنهم لم يأتوا إلى مصر إلا ليعيدوا النظام إلى نصابه، ثم ينصرفون، وهم قد أقرضوا الخديو المبذر - لا الشعب المصري - ملايينهم بمحض إرادتهم، وهم قد صنعوا ذلك طمعا في ربا فاحش لا ينالونه في الغرب، وهم إذا ما جاءوا الآن فلكي ينقذوا نقودهم ما دام المصريون الصحاة غير مستعدين لأن يؤدوا مقابل ما بدده مسيطر أجنبي عن سفه؛ ولذا يتعذر عليهم أن يرفعوا راياتهم باسم يسوع أو باسم الحرية.
وكان الإسكندر وقيصر قد بلغا تلك الشواطئ بلا عذر معلنين عزمهما على حسن معاملة الشعب المصري إذا ما ضمن سلامة طرق الاتصال بآسية، ويمضي ألفا عام فلا يريد غلادستن، المطلع على تاريخ الرومان والمترجم لكتب من لغة اليونان، غير القطن، وغير طرق الاتصال بآسية، ولكنه ظهر قبل الأوان وبعده فلا يستطيع أن يضع مطاليبه في قالب دعي بالبسيط قبل زمانه وبالدنمي
1
بعد إبانه.
وكان محمد علي قد أحس ذلك فقال: «كبار السمك تأكل صغارها، فإذا ما أفلست الدولة العثمانية استولت إنكلترة على مصر.» وكان سياسيو الإنكليز يعرفون الحقيقة، ولكن من دون أن يعترفوا بها لغير أنفسهم، ويبلغ اللورد بلمرستن في سنة 1859 من القحة ما يكتب معه إلى سفيره بباريس قوله: «لا حاجة لنا بمصر، ونحن إذا رغبنا في امتلاكها فلأننا كذلك الرجل السليم الذوق الذي له عقار في شمال إنكلترة ومنزل في جنوبها فلا يريد أن يملك الفنادق القائمة على طرفي الطريق بينهما، وإنما يطلب أن تكون هذه الفنادق - دوما - مفتحة الأبواب حسنة التنظيم مشتملة على أضلاع غنم وعلى خيول.»
ويمر زمن، فيألم أذكى الإنكليز الذين يعملون في مصر، أو الذين يديرونها من لندن، من ذلك السلوك ذي الوجهين، ومن ذلك أن توجع مالت - سنة 1883 - من تصريح وزير الحربية بدوام الاحتلال ستة أشهر، فقال: «لا ريب في بقائنا هنا زمنا طويلا إذا لم نرد أن نضيع جميع منافع النصر.»
ومن ذلك قول المستشرق ومستشار وزير الدولة في المسألة الشرقية، رولنسن: «لا يمكننا الجلاء عن مصر ما دام الفرنسيون في تونس.» ومن ذلك سيدني لو: «نحن لا نحكم في مصر، وإنما ندير حكام مصر.» ومن ذلك قول ملنر «كان علينا أن نعلن في الحال نوع السلطة التي نريد أن نمارسها هنا، بدلا من أن نكون في وضع شاذ.» ومن ذلك قول مترجم غلادستن، زتلند: «كانت وزارة غلادستن - في سنة 1882 - ترقب كل شيء خلا الطريق التي تتقدم فيها، وتباغت بالمد وتقاد إلى احتلال عسكري، وتقوم باحتلال مصر عابسة، فلما تم لها ذلك دهشت وأظهرت أنه كان على غير إرادتها.»
ومن ذلك قول اللورد لويد: «وتنزع صواري الحكومة فتقول إنها لا تقوم بأعمال كبيرة ولا تبقى في مصر زمنا طويلا ... وقد أردنا في أيام اللورد كرومر أن نعدل عن الاحتلال، وقد وكد أمر البرنامج من غير أن ينجز، وقد كنا مستقرين بمصر - في سنة 1900 - طوعا أو كرها.»
وإذا ما وجه ستة رجال من ذوي البصائر كأولئك انتقادا متماثلا كذلك إلى بلدهم في خمسين سنة وجب أن يعترف بأن الشعور الوطني - لا الأحوال - هو الذي أوجب اتخاذ قرار عظيم الشأن بعيد المدى حول مصر. ومما نراه أن ما عليه الحكومة الإنكليزية من فطنة أسهب في امتداحها كما أسهب في امتداح فطنة الفاتيكان (لما يقال من تفكيرهما في أمور خاصة بقادم القرون) يقوم على غريزة صادقة تملي عليها صالح الأعمال في الوقت المناسب من غير أن تفكر في نتائج أعمالها، ويذكرنا هذا بجواب غوته، وذلك أن غوته - في أول حديث له مع شيلر كان حاسما في تقرير صداقتهما - عرض رأيه في النبات الابتدائي على أنه نتيجة تجربة فقال شيلر معترضا بشدة: ليس ذلك نتيجة تجربة ولا يعدو ذلك حد الفكر، فأجابه غوته بقوله: «لا ضير، فلدي من الأفكار ما لم أعرفه أو أرده.»
وإذا كان الإنكليز - مع كل ذلك - لم يكفوا عن التصريح بأنهم لا يبقون في مصر ما لم يكن وجودهم فيها نافعا لهذا البلد (وقد جمع 49 تصريحا من هذا النوع بين سنة 1882 وسنة 1902) فإنهم كانوا مخلصين في ذلك إخلاص الزوج الذي لا يفارق زوجته الحسناء خطوة واحدة مدعيا أنها تسلك سبيل السوء إذا تركها وحدها ثانية. والحق أن ذلك البلد العجيب - الذي ظل نظامه متقلبا في العهد التركي قرونا، قد اجتذب إليه الدولة القوية في البحر المتوسط على الدوام، وقد زادت قيمته بقناة السويس فغدا جهاده في سبيل الحرية أمرا صعبا؛ وذلك إلى أن بريطانية العظمى قبضت على ناصية مصر بغريزتها عاملة بنظرية نابليون الأول القائلة إنه لا يمكن أمة أن تملك الهند باستمرار من غير أن تملك مصر، وذلك إلى أنه ليس لها أن تأسف عليها مع ما تلاقيه من المصاعب التي لا حد لها، وماذا يحدث للإمبراطورية البريطانية إذا ما اضطرت إنكلترة إلى الجلاء عن مصر، ولم تستفد من الحرب العظمى فتقطع لبضعة أيام تلك الرابطة التي تربط ذلك البلد بتركية؛ أي أن تأتي عملا خافه محمد علي ولم يقدم عليه إسماعيل ولم تجرؤ عليه دولة عظيمة لمقاومته من قبل الدول العظمى الأخرى على الدوام؟
وما بين الغالب والمغلوب من وضع قد يكون فاجعا، ولكنه مسرحي محزن على كل حال، ومن يوقظ جمعا ناعسا من مختلفي الألوان فإنه يطرد من قبل من أمعن في إيقاظهم، شأن غلاته
2
التي دبت الحياة فيها ففرت من مولاها. ويبدو في ذلك الوادي الذي لم يكن عامرا بزنوج جاهلين، بل بحفدة أقدم شعوب العالم حضارة، ذلك الصراع طريفا نظرا إلى وضع كل من الفريقين، ويظل قائما أدبيا كما في كل مشهد جيد، ويعرف أذكى ممثلي تلك الرواية ما تستحقه إنكلترة من شكران وما يجب أن تراعي به مصر ما زادت نروزة
3
فريق السكان المتعلم يوما بعد يوم.
وكان ذلك الزواج خصيبا، ولم يكن سعيدا تماما؛ وذلك لأن الإنكليز لا يحبون المصريين، والقيادة من دأب الإنكليز، ومن عادة الإنكليز أن يكونوا متسامحين تجاه الهمج تسامحهم تجاه الحيوانات الأهلية، ويدرك الهمجي ذلك، ويبدي شكره لذلك، وكما أن بعض مبغضي البشر يحبون كلابهم فوق كل شيء يكون المستبدون على وئام مع خدمهم أكثر من أن يكونوا على اتفاق مع مساعديهم ما لم ينزلوا هؤلاء المساعدين إلى مرتبة الخدم، غير أن الإنكليز في القاهرة يواجهون أناسا على جانب عظيم من الثقافة في الغالب فلا يستطيع أولئك السادة اللابسون بذلات بيضا وأرصوصات
4
أن يموهوا عليهم، ولا يزيدونهم إلا اغبرارا بتفوقهم الفني عليهم.
والمصري في الوقت نفسه يشعر بأنه مع قرنائه أشد تمسكا بالإسلام من تمسك أكثر الإنكليز تعصبا بالنصرانية، ويتحول ما لا أهمية كبيرة له في السودان من تناقض الأديان إلى تنافس روحي في مدينة الأزهر، وكل شيء هو من القدم هنا، والحضارة هي من الجلال هنا، والحوليات هي من الطول هنا، ما ينظر به ورثة جميع ذلك إلى هذا الشعب الغازي الآتي من جزيرة في الشمال مع عاداته وعقائده الغريبة بعين فلسفية نقادة يرصد بها آخر نجم مألوف من قبل حكيم محترم.
ويتطلب التطور بين أولئك الشيب وأبنائهم الراغبين في الاستقلال كثيرا من اللباقة؛ أي وجود شخص قادر على حفظ التوازن في وضع لا ترى له أساسا شرعيا ولا اسما صحيحا، فيتعذر فيه كل احتكام، ومن حسن حظ إنكلترة أن وجدت ذلك الرجل.
الفصل الخامس والعشرون
إذا ما خاطر البطل القومي المنسي الفقير - عرابي - بنفسه فذهب إلى شوارع الأحياء الجديدة الأنيقة بالقاهرة لقي عربة فخمة يجرها حصانان مطهمان راشحان عرقا ومزخرفان بالذهب ويركبها رجل من لداته
1
يعرفه الجميع ويخشونه، وكان هذا الرجل الذي لم يكلمه في سنوات حياته الست الأخيرة بالقاهرة عدوا خلفا له، وكان هذا الرجل يجمع منذ عشرين عاما - منذ حبوط عمل الثورة المصرية - كل سلطة قبض عليها عرابي في بضعة أشهر. وكان هذا الرجل ممثل الدولة الأجنبية التي جاهد عرابي في سبيل إقصائها عن وطنه مجازفا بحياته، وكان هذا الرجل المسيطر على مصر يسمى اللورد كرومر.
وما أكثر ما بين الرجلين من تباين! فالرجل الشائب المتمرد الحاد الخيالي المضطرب الثرثار يقف على الرصيف فيبصر مغتما مرور رجل جالس في عربته الجميلة وضاح الجبين أزرق العينين أشقر أشمط، وكان هذا الرجل ابنا لأناس من أغنياء التجار، هو فريزي
2
الأصل، هو إنكليزي منذ قرنين، هو سبط الجسم
3
عريض الكتفين، هو ثقة فطين رصين في أقواله وأفعاله، وينال اللورد كرومر بالتدريج ما ينم عليه وضعه الواسع وبصره الثاقب من قوة وسلطان، ولا ترى غير أمر واحد يتشابه الرجلان به، وهو أنهما بدآ عملهما في الجيش فصارا ملازمين في سن واحدة، وذلك مع بقائه ضابطا في حامية كورفو زمنا طويلا فلم تدل حاله على مستقبل زاهر ينتظره كما كان ينتظر محمي الخديو.
ومهما يكن من أمر فقد كانت الإمبراطورية البريطانية وتقاليدها وراء اللورد كرومر، ويمتاز اللورد كرومر في البرلمان وفي الإدارة الاستعمارية، ويغدو سكرتيرا خاصا لنائب الملك في الهند عن قرابة، فتدل مواهبه عليه في أثناء الثورة المصرية، ويوظف في لجنة الدين المصري لوقت قصير ويعين في وزارة الحربية وينتقل صاحب منصب من البرلمان إلى جمايكا فإلى الولايات المتحدة، ويقضي حياة موظف في الإمبراطورية البريطانية، ويدعى إلى مصر بعيد احتلال القاهرة ويعهد إليه في القيام بعمل صعب، يعهد إليه في تمدين بلد أجنبي من غير أن يسيطر عليه، وذلك بما فيه نفع وطنه ونفع ذلك البلد معا، ويقوم بشئون هذا المنصب في أربع وعشرين سنة ممارسا سلطة كانت تزداد يوما بعد يوم، فلما انقضت بضعة أعوام أصبح فرعون مصر السري فعلا.
وإذا نظرت إلى معاصريه لم تر غير كرزن وسيسيل رودس من نال مثل ذلك النجاح الذي تجده مدينا به لثلاث صفات صار بها فوق أمهر رجال الأعمال، وهي: الروح العملية والنزاهة والعطل من الزهو. ومن ذلك أنه لما بلغ الثالثة والخمسين من سنيه رفض أعظم مقام كريم في الإمبراطورية البريطانية، رفض منصب نائب الملك في الهند، مقدرا أن عمله في وادي النيل أعم نفعا، وأن مسائل الري «أمتع من رواية».
وما ينطوي عليه عمله من شعور رمزي - لا يكون الرجل بغيره عظيما - وجد فيه سندا تجاه جميع المخاطر. فبعد أن أجاب بالأرقام عن مئات الأسئلة وصف ما أوجبه عمله الإبداعي فيه من مسار في قصيدة طويلة جاء فيها:
أليس من الفوز أن ترد كرامة الإنسان إلى العبد الذي يئن محطما تحت نير الطغاة من المهد إلى اللحد؟ أليس من الفوز، أليس من العمل الصالح، أن يوضع حد لظلم الباشا، وأن يترك ما هو قبضته لامرأة الفلاح وابنها الهلوع؟
ويتجلى إخلاص اللورد كرومر، وعناده ورشده وثبات فؤاده وعزمه على تحقيق ما يقرره، في زواجه بامرأة كان عاشقا لها في الحادية والعشرين من عمره فنالها في الخامسة والثلاثين من سنيه، وتمضي عشرون سنة فينزعها القدر منه، ويغادر سرير موتها إلى مكتبه، ويدبج يراعه برقية مطولة إلى لندن حول مناور البحر الأحمر.
وما صنعه وأداره، وينطوي على أعظم تحول عانته مصر في ألف سنة، تم على عين فرنسة التي كانت تأكلها الغيرة، وعلى الرغم من اعتراض الدائنين والصيارفة الأوروبيين الدائم؛ وذلك لأن فلاح الدلتا - لا صاحب الأسهم الباريسي - هو الذي كان محل عنايته، ومن سياسته وجوب تقوية سلطان بريطانية العظمى على أن يلائم ذلك المصريين، لا أن يكون ضارا بهم، وقد وجب عليه - مع ذلك - أن يجادل ست - أو سبع - وزارات متعاقبة كانت ترسم له خططا متناقضة.
ولم يكن غير قنصل عام في سلسلة المراتب البريطانية، ولكن مع وجوب دعوته بالقنصل الأول. وكان موظفو القاهرة يسمونه «فرعون»، وكان الفلاحون يسمونه «اللورد»، ويضطر كقنصل في أواخر القرن التاسع عشر؛ أي في وضعه الغامض الذي لم يعين بغير المبادئ الأدبية، إلى احتمال مسئولية جيش مؤلف من خمسة وعشرين ألف رجل حين حملة السودان، وإليك أمرا يكفي لإثبات مقدار ما بلغه من النفوذ ، وذلك أن اللورد سالسبري كان مجازا فأخذ برقية رقمية من كرومر من غير أن يكون مفتاح الشفرة
4
عنده، فلم يسطع أن يفكها ويقرأها فأبرق إلى كرومر يقول له: «اصنع ما تريد.»
ويفوز باحترام خصومه السياسيين من المصريين؛ وذلك لأنه لم يطلب لنفسه شيئا، ولو من غير مباشرة، وذلك أيام كانت الرشوة شائعة بين جميع الناس في القاهرة، وما فتئت أسطورته تعظم بين الفلاحين، فلما انتشرت الهيضة
5
في البلاد حاول ضابط إنكليزي أن يحمل فلاحة على تقل بالوعة منزلها، فصرخت قائلة له: «سأذهب إلى القاهرة عند الراجل، عند كرومر، فهو يحميني منك.»
ومع ذلك لم يكن أريحيا خالصا، فلم يحقق كثير من مشاريعه، وقد حل كثير من المسائل وفق مصالح الأوروبيين وخلافا لمصالح الفلاح الذي كان يرغب في أن يرعاه؛ وسبب الصعوبة في رسالته هو ما ينطوي عليه الاستعمار من متناقضات؛ وذلك أن ما يتخذ من أمر فيه صلاح المجتمع لا يمكن تجريده تجريدا تاما من مصالح من يرسلونكم وإن جعلتم محبة الآخرين دليلا لكم، وكان كرومر يود تجديد الشعب المصري، وكان كرومر في سنة 1883 من القائلين بجلاء الكتائب البريطانية، ثم أخذ كرومر يعارض ذلك بعد سنة 1886. والواقع أنه لم يقع حادث ذو بال في تلك الفترة من الزمن، والواقع أنه شعر بذلك التناقض مع نزوعه إلى الحرية في جميع حياته، فكتب في سنة 1884 يقول لصديق له:
حقا إن القدر الذي يسوقني جائر، وإني على ما يساورني من مقت لكل توسع ولقبول مسئوليات جديدة، وإني على ما ليس عندي من غلو وطني، أراني مضطرا إلى اقتراح تدابير تدل على تطرف قومي أول وهلة على الأقل ... وأجد في هذه البيئة العاطلة من كل انسجام سياسي ما يحملني دوما على أن أفعل وأقول خلاف ما أود.
وإذا ما فكر في ذلك النضال الباطني وفي كل ما عليه أن يأتيه من كفاح خارجي رئي أن كرومر رجل يعرف أن يشق بساعديه القويين طريقا في الغابة البكر، وذلك مع حذر من أن يلدغه ثعبان في عقبه؛ وذلك لأن ما وجده اللورد كرومر كان في بدء الأمر أقوى من الذي أتى به.
ووجد نفسه أمام سلطات مصرية وتركية وأوروبية متطاحنة مع مقاومتها إياه، وكان من الترك وزراء قوموا فقارهم مذ أنزل البريطان جنودهم، فلما اشتد ساعدهم زاد حقدهم، وكان من الباشوات من يؤدون - كأمراء الروس - نفقات زينة خليلاتهم بباريس نتيجة لاستغلال فلاحيهم، ومن العلماء من كان عيشهم يقوم على اختلاس ريع الأوقاف الخيرية، وكان الجميع - ومنه الخديو - يخاف أن يستنزف القادم الجديد معين دخلهم، وما كان أولئك كلهم ليشعروا في بدء الأمر بالواجب الاجتماعي الذي يسيرهم، وإنما كانوا يبصرون - فقط - خروج الذهب من جيوب المصريين وتسربه في جيوب الإنكليز، وإنما بلغوا الغاية من الغيظ حينما وجد الفلاحون من يحميهم من مظالمهم.
ولم يكن سكان المدن مثقفين، ولكن مع عدم الجهل المطبق، ولم يجد اللورد كرومر همجا في الأرياف، بل وجد أبجديات، وكان عليه أن يدرك أمر ذلك العالم، من غير أن يري أنه يعلم حاله، وكان الأكثر ذكاء يقولون مروا بما يجب أن يعمل، ولكن لا تنظروا إلى الأسلوب الذي يعمل به، وفي الأساس كان المصريون يشابهون أصحاب الفنادق الذين لا يريدون سوى اجتناء المرابح من زبنهم، ثم أخذوا يرون بالتدريج أنهم ضيوف في بلدهم الخاص فيجب عليهم أن يدفعوا مقابل ما يأتيهم به الأجنبي من أمن وراحة.
وكان سلطان كرومر المطلق يظهر في الجزئيات أكثر مما في الكليات، وما كان يتصرف في غير بضع عشرات من الموظفين، وما كان أحد في هذه الحكومة العاطلة من التقاليد ليشغل ذهنه في اتخاذ قرار، لرد كل شيء إلى فرعون الجديد هذا، فإذا ما بحث في موكب كنسي حبشي، أو في تسريح حوذي
6
إنكليزي لدى الخديو، أو في نبش قبر ولي مصري، أو في ارتباك منزلي نشأ عن عدم استطاعة سيدة في البلاط أن تضرب رأس زوجها بخفها، وجب الرجوع إليه، كما وجب عليه أن يوضح لعالم أثري إنكليزي كون حيازة فرنسة لدرج
7
ملك لا يعد سببا لشهر الحراب عليها، وأن يوضح لعالم نباتي كون البحث عن نوع من الذرق
8
على ضفاف بحر الغزال لا يستلزم غزو بلاد النوبة، وهو من ناحية أخرى، وهو كإنكليزي، وهو كمحب للإنسانية، كان غير قادر على حل مشاكل النيل والتعليم والجيش، وذلك لما لا يجب من الإسراع في هذه الأمور مع وجود الفوضى التي تسوغ الاحتلال الإنكليزي.
وينظر اللورد كرومر في أمر الفلاح كثيرا، ويغير الباشا - الذي يعتصر الفلاح منذ زمن طويل - مظهره، ويعود المرابون من السوريين واليونان الذين تواروا بعد ثورة عرابي في سبيل تحرير أخيه الفلاح، وذلك لعدم قدرة الإنكليزي على إلغاء إقراض الفلاح قرضا قانونيا، ويسأل مثيرو الفتن عن السبب في دفعهم نفقات تجديد شوارع الإسكندرية التي خربها الإنكليز القادمون لاغتصاب الحرية.
وتيسر بدع ثلاث جوهرية عيش الفلاح، فيلغى السوط، ويزول كل وجل ينشأ عن وصول الجابي بغتة؛ أي يعرف مقدما متى يجب أن تدفع الضريبة وماذا يجب أن يدفع منها؛ أي يعرف ما كان يجهل على الدوام، وكان على الفلاح في الماضي أن يؤدي ضرائب عن حقل أتلفه الفيضان منذ زمن طويل، فصار يعفى من ذلك إذا ما أثبت أن قسما من حقله أصيب بالفيضان، وإذا ما حبس الماء مزارعو الباشا ووجهوه إلى أراضيه وحدها أمكن القرية أن ترفع شكواها إلى الإنكليزي، لما لا يحق للغني أن يحرم الفقير ماءه، وكان الفلاحون في شبابهم يسخرون بالسياط للعمل الشاق في القنوات فيقضون نهارهم في الوحل ويقصون لياليهم في الكيس، فصاروا اليوم يأخذون أجورا، وهم لا يحملون على مد يد العون إلا عند خراب الأسداد، والحق أن اللورد كرومر وفق لإلغاء جيش العبيد إلغاء تاما تقريبا.
ومن المحتمل أن كان اللورد كرومر يجهل عدم إطاعة أوامره بمصر العليا، وإعادة المديرين لسابق سلطانهم في بعض الأماكن هنا وهنالك، وكان الفلاح من ناحيته يجهل جهاد اللورد القدير في سبيل تنفس الفلاح في الدلتا. ولما أراد أن يستبدل المجارف بالسخرة رفضت لجنة الديون إجازة مبلغ ال 500000 جنيه الضروري لذلك، ولما ظهر ما ينطوي عليه هذا الرفض من فضيحة لم توافق الدول على إلغاء ذلك الرق إلا إذا أعفي الأجانب مجددا من الضرائب بمصر!
ولم يعلم الفلاح وجود سادة قليلين من الأجانب في القاهرة جالسين حول مائدة خضراء كبيرة كان يحق لهم وحدهم أن يحولوا دون إنشاء أسداد جديدة وأن يرفضوا حفر قناة واحدة، وأن هؤلاء السادة هم يمثلون قدماء الدائنين ويديرون شئون المالية، وهؤلاء مع عشرة آخرين في القاهرة هم الذين كانوا يدركون حقيقة هذا الأمر كما صرح ملنر. ولم يزل طيف الخديو المتلاف وخيال خيمته الحريرية أمام الأهرام ماثلين حتى القرن العشرين فيمكنان الأجنبي من ابتزاز أموال البلاد، وما فتئ السلطان يأخذ نحو مليون جنيه جزية لفتح أجداده مصر منذ أربعة قرون من دون أن يصنعوا شيئا في سبيلها، ولم يجد الإنكليز حلا غير حرمان الفلاح غليونه لوجوب فرض ضريبة على التبغ جمعا لمال تلك الجزية. وتحل سنة 1910، فتباع بالمزايدة العلنية - حتى في هذه السنة - أطيان وبيوت لأربعمائة ألف فلاح دفعا لديون لا تزيد قيمة الواحد منها على خمسين جنيها.
ويقع حادث عظيم في حياة الفلاح في سنة 1911، وذلك أن اللورد كتشنر - الذي حل محل اللورد كرومر وفق رغبة اللورد كرومر - نشر قانونا يحرم حجز بيت الفلاح وآلات عمله واثنتين من بقراته الحلوب وخمسة أفدنة من أراضيه كما هو الأمر في فرنسة وفي البنجاب، وإذ إن الفلاحين شاكرون بطبيعتهم فإنهم لم ينسوا من أحسن إليهم، فكانوا - بعد زمن - ينهضون ويضعون أيديهم على جباههم إذا ما ذكر اسم اللورد كتشنر.
ومن الإنصاف أن يعترف بأن كثيرا من الإصلاحات كان متعذرا، وكان اللورد كرومر مضطرا إلى احترام النطق الموجودة، فإذا وضع نظام جديد للري ترك النظام القديم يسير على محوره، وإذا جدد جدول صنع ذلك قبل سد الجدول القديم، وإن شئت فقل كان من الواجب أن يعمل وفق القلب الذي لا يزال يدق.
وكانت التقاليد تناصبه العداوة أيضا، ومن ذلك أن كان الفلاح يرى استثناء الأغنياء من الخدمة العسكرية في مقابل أربعين جنيها قبل رمي القرعة وفي مقابل مائة جنيه بعد رميها، مع أنه كان يجب على الفلاح أن يصير أعور بنترات الفضة حتى يعلن عدم صلاحه لها.
وكان يبصر ما عليه ضباط الإنكليز في أثناء الهيضة من الشجاعة وروح التضحية، ويعد ما أبداه الأطباء ورجال الصحة البريطانيون بمصر في أثناء ذلك الوباء من أعظم الأعمال الإنسانية، فلولا هؤلاء الذين خففوا بذلك وطأة اثنتين من الخطايا لدينت إنكلترة أدبيا.
وأولى تينك الخطيئتين هي المحافظة على الامتيازات الأجنبية، وكانت هذه الامتيازات تجرح شعور مصر القومي أكثر مما يجرحه وجود الكتائب الأجنبية. ومما يزيد الحقد على الأجنبي بحكم الضرورة عدم حق الشرطي في القبض على لص أجنبي أو قواد أجنبي أو تاجر أفيون أجنبي؛ لأنه ليس مصريا.
والخطيئة الثانية هي التي اقترفها اللورد كرومر في أمر المدارس، فمما يسأل: لماذا لم يهدد هذا الرجل البالغ القوة باعتزال الخدمة عندما أبت عليه لجنة الديون فتح اعتماد مالي ضروري لإنشاء مدارس جديدة؟ هو ليس من طغاة هذا الزمن الجهلاء المعاصرين الذين يرون الأسلحة أهم من الكتب، وذلك لمعرفتهم الأولى وجهلهم الثانية. ومسألة المدارس هذه هي أصل كل صدام بين الإنكليز والمصريين في الوقت الحاضر، ويرى المصريون أنهم أصيبوا بضرر عظيم من النظام التعليمي الذي طبق عليهم أربعين عاما، ولا يفسر ذلك الخطأ إلا برغبة السياسة الإنكليزية السرية في العناية بصحة الشعب المصري والسيطرة عليه بالعدل مع إبقائه جاهلا، ولا تجد لمعارضة المصريين سببا آخر غير حرصهم على تعليم أولادهم وغير تعذر ذلك على الألوف منهم لقلة المدارس والمعلمين. أجل، يزعم أن اللورد كرومر كان خصما للثقافة العالية، وأنه كان نصيرا للتعليم الابتدائي. أجل، يزعم الإنكليز أن الأزهر هو مصدر المعارضة، غير أن البحث في الوثائق يسفر عن نتيجة أخرى، ولا يكفي عدم المال لإيضاح كل شيء.
وإليك الأرقام: كان محمد علي وإسماعيل يجعلان التعليم مجانا ويطعمان الطلاب بلا عوض، فكانت الأجور لا تؤخذ في سنة 1879 من غير خمسة في المائة من الطلاب، وتحل سنة 1898، ويكون العهد إنكليزيا فيظهر أن من لم يعرف القراءة والكتابة في مصر 91 في المائة من الرجال و99 في المائة من النساء. ويذهب اثنان في المائة من أبناء المصريين إلى المدارس في عهد إسماعيل، وتمضي ثلاثون سنة فلا يذهب إلى المدارس في سنة 1908 غير 1,5 في المئة من أبناء المصريين، ويأتي زماننا، يأتي دور التعليم في العالم بأجمعه، فلا ينقص عدد الأميين بمصر ولا يزيد عددهم نسبيا فيها، ولا يتعلم الفلاح ما يجب أن يتعلم، فقد جاء في الإحصاء الإنكليزي الذي تم سنة 1906 أن 90000 طالب لا يعرفون الكتابة و90000 طالب لا يعرفون الحساب و70000 طالب لا يعرفون القراءة، وذلك من 250000 طالب، وهنا تتجلى مسئولية سلطان البيض.
ويخصص الإنكليز في سنوات الاحتلال العشرين الأولى واحدا في المائة من نفقاتهم للتعليم (بدلا من عشرين في المائة)، والإنكليز هم الذين جعلوا لهم مستشارين أقوياء في كل مكان مع ترك وزارة المعارف لأناس من الأرمن ولأناس آخرين من الأجانب، وكانت السياسة الحزبية تزيد هذه الدار إظلاما فيتناوبها تسعة وعشرون وزيرا في تسع وعشرين سنة، وآخر من اختاره اللورد كرومر منهم كان رجلا، كان زغلولا.
ويستحق العمل الذي أتمه اللورد كرومر في مصر بلا حرب إعجابنا مع ذلك، ومع وجود دين عظيم، ومع معارضة الجمعية الأهلية العليا، فهذا اللورد هو أول من جعل الفلاح يشعر بأنه مساو للباشا أمام الله والقانون. ومن الواضح أن يصوب هذا الشعور، بعد أن ينتبه، إلى السلطة الحامية نفسها، ويقع حادث أليم فيفسد آخر سنة من إقامة كرومر بمصر، فقد أطلق ضباط من الإنكليز نارا على حمام فلاح فأدى ذلك إلى قتل إنكليزي وإلى إعدام ستة فلاحين، فختم بهذا الحكم الاستعماري عمل صديق الشعب الحر ذلك.
الفصل السادس والعشرون
يعين النضال في سبيل الذهب وفي سبيل الحرية مصير مصر منذ صارت قبضة بريطانية العظمى. وكلا الأمرين يرد إلى مبادئ الإنسان، وإن لم يكونا قديمين قدم النيل، ولم يجاهد قدماء المصريين في سبيل الحرية قط، ولم يعرفوا الثورات. والانقلابات الكبيرة في المراتب الاجتماعية - لا الطبقات العليا - هي التي تدفع الشعب إلى نيل الحرية. ومما يزيد المسألة المصرية تعقيدا هو أن الكفاح في سبيل الحرية مرتبط ارتباطا وثيقا في الكفاح دفاعا عن القطن؛ فالمصريون من كل طبقة، وإن كانوا يريدون الخلاص من الإنكليز (لما ليس لغير الأقلين فائدة من وجودهم) ترى من يقومون بخدمة القطن منهم يبالون بالسوق العالمية أكثر من مبالاتهم بمصير الفلاح.
ويتوقف أمر زارع القطن في الدلتا والتاجر في الإسكندرية والمحامي والمتمول والمصدر والمستورد - ويبلغ عددهم مليونين - على القطن، فيشغل القطن بالهم صباح مساء، ولا تجد لمشاريع هؤلاء وبصرهم بالأمور أية صلة بصحة الفلاح ورفاهيته، وإن كان الفلاح ضروريا للقطن كالنيل، وترى هؤلاء الناس - حتى في منامهم - يشغلون أذهانهم - دوما - بالبرصة
1
وبتحول الأثمان في السوق العالمية لعلاقة ذلك بسعادتهم، وكل ما يرجوه الألوف من أهل ضفاف النيل هو أن يصيب الله، بفضل من لدنه، نبات قطن الكافرين في فلوريدة بالدودة، وأن تقضي حرب في آسية الوسطى على منافس، وأن يذعن الحاكة المضربون في لنكشير من غير أن ترفع أجورهم رفعا موجبا لنزول الأسعار، وأن يكون فيضان النيل معتدلا فلا يعرض السد القديم للخطر، ولو فرض أن حياتهم تقوم على السكر أو التبغ أو البسط أو البناء لعين دخلهم بثمن قطن السكلاريدس في البرصة التجارية، وتعد العناصر والأزمات التي من شأنها الخفض أشباحا ترهب الراصدين في الظلام، وتستطيع أن تهز شعبا كما يؤدي إليه خسران معركة على شاطئ بعيد.
تلك هي قوة النيل عند نهايته، ويتوقف محصول القطن على أهواء المطر في الحبشة، وعلى جهود المهندسين من الإنكليز الذين لولاهم لم يمكن الانتفاع بأزمات الهند الحادة كثيرا، بيد أن سكان المدن الكبرى لا يبالون بذلك، كما أن الرجال المنهمكين في أعمالهم لا يعبئون بعلائم المرض الكامن لهم والذي قد يقضي عليهم. والفلاح وحده هو الذي يعيش مع النيل ويقدس فيه المعبود القديم هابي الذي يرفعه أو يهلكه، والفلاح مع نسائه وأولاده هو الذي يسقي الشجيرة الثمينة ويتعهدها ويشذبها ويجني ثمرها ويسلمه، ولا يكاد الفلاح يسمع حديثا عن تلك الآلهة الأجنبية ، عن «السوق العالمية»، غير أن على الفلاح أن يخشى عبوسها لتأثير انعكاسها في أجرته.
إذن، يتبع الأغنياء والفقراء غايات مختلفة في النضال من أجل الحرية، ويريد الفلاح - الذي لم يغير القطن حياته ولم يحسنها - حرية بلده فقط، ويبدو الفلاح - بذلك - مستقلا في آماله مع أنه أمعن في استعباده، ويحول حماته وروح العصر دون سقوطه مرة أخرى تحت سوط الباشا الذي ألغاه الإنكليز، ولا يحرمه ذهاب الإنكليز شيئا ما ضمن النيل عيشه حتى عندما يؤدي ارتباك في السوق العالمية - أو تغبر بين الدول العظمى - إلى تهديد ثمن القطن الذي يتوقف عليه رخاء الأغنياء الظاهر، ويبقى الفلاح فقيرا منذ بدأ محمد علي جهوده - قبل قرن - في تحويل بلد الحبوب هذا إلى بلد قطن، فزادت الثروة العامة بذلك، وما جاءت به المصالح الإنكليزية مصر وما أخذته منها فلم يغير شيئا من البيت المصنوع من طين مجفف والمطلي بملاط كلسي، ولا من حساء البصل والجلباب الأزرق؛ أي من الأمور الثلاثة التي كانت تحدد رغائب آباء الفلاح في عهد الفراعنة.
والفائدة الوحيدة التي نالها الفلاح هي الأبجدية، وما وزعه منها آخر خديو وأول ملك أكثر مما وزع الإنكليز، وهي تعد مفتاحا خطرا لفتح أبواب المعرفة، وهي تعد رمزا حقيقيا كزعيمي الاستقلال الأولين عرابي وزغلول اللذين ولدا فلاحين في قريتين من الدلتا وربيا في مدارس جديدة تعلما فيها حل الخط الأجنبي وسبب استعبادهما.
ولما كانت دعوة الجمعية التشريعية الأولى في سنة 1913 أول نتيجة لتعليم الشعب المصري ساد الارتباك هذه الجمعية لنقص الحرية، وكان يمكن فض هذه الجمعية بضغط من الأجنبي وعدم دعوتها في سنوات أو حملها على أعمال خارجة عن دائرة اختصاصها، وما تم من انتخابات قد أسفر عن أكثريات قومية ساحقة مطالبة بجلاء الإنكليز، ويبلغ الحقد على الأجنبي منذ خمسين عاما - ومنذ عشرين سنة على الخصوص - درجة من القوة لا يجرؤ أحد على مقاومته معها، وتقترح الحكومة تمديد إجارة قناة السويس إلى سنة 2008 فيرفض مشروعها بالإجماع خلا صوت واحد، فيهز ذلك التصويت مصر بأسرها، ويثير كتشنر - الذي دارى الفلاح بقوانينه - استياء فريق الشعب المنور بما اتخذه من وضع مقيم إنكليزي لدى بلاط أمير هندوسي تابع، ولا يطيق هذا الفريق المصري حلمه الأبوي لتذكيره بحلم أبناء جنسه تجاه القبائل الوحشية.
ويزيد ذلك النفور - الذي يحدث مثله في كل نظام للحماية - بسوء ما بدأ به الإنكليز في مصر وبما يتصف به الإنكليز من طبع، فما يجدد دوما من وعد بالجلاء عن وادي النيل يوجب مع الزمن ضربا من سرعة الغضب مشابها لما يشعر به رجل العمل من انزعاج بنظر سيدة زائرة لابسة معطفها وقبعتها إلى سوار ساعتها بلا انقطاع قائلة إنها مستعجلة وإنها لن تمكث أكثر من دقيقة واحدة فتبقى عدة ساعات من غير أن يستطيع مخاطبها أن يحملها على الذهاب، ولا تجد مصريا في الوقت الحاضر يعتقد رحيل الإنكليز طوعا.
ولا تقاس روح التنافي لدى الإنكليز في القاهرة بروح التآلف لدى الفرنسيين الذين يدعون إلى مائدتهم رفيقا من لون آخر؛ أي من أبناء المستعمرات، أو يجعلون منه وزيرا بباريس. وماذا تكون مشاعر موظف أهلي إذا ما انقطع الأجنبي عنه زاهيا بعد مغادرة المكتب الذي يعملان فيه معا كل يوم؟
ويعفى الشاب الإنكليزي من كل ضريبة في القاهرة، ولا يمكن أن يعزل، ولا يستطيع الشرطي المصري أن يقبض عليه، ويقع هذا على مسمع ومرأى من المصريين الذين هم أكثر منه تجربة ومعرفة بأمور البلد، ويلعب الإنكليزي لعبة التنس ولعبة الكرة والصولجان مع أبناء جلدته وحدهم تقريبا، فيحظر على السيد الوارث لحضارة العرب العظيمة دخول نادي الجزيرة كما لو كان سائسا عند إنكليزي.
ولا يجوز عد نظام الحريم مسئولا عن ذلك الوضع لحصر النادي الإنكليزي في الرجال فقط، وتستقبل - مع ذلك - فتيات من الطبقة الراقية المصرية في بلاطات أوروبة، لا في دار المندوب السامي البريطاني بالقاهرة، ويمكن آباءهن أن يشتركوا في سباق خيل من أصابلهم، فإذا ما خرج حصانهم فائزا في السباق تعذر إعطاؤه قطعة سكر لعدم دخولهم نطاق الموازين. وهكذا تفسد النتائج الطيبة التي تصل إليها الإدارة البريطانية بذلك الوضع الذي ينطوي على ازدراء المصريين، وذلك إلى أنه يسهل على المجتمع الراقي أن يلائم العكس.
ويظل النيل أعظم عامل لسوء الظن مع ذلك، وإذا ما حسب النيل نهرا مصريا يقع منبعه في أسوان رجعت المشاريع الخاصة به إلى إسماعيل، غير أن هذه المشاريع حققت على أوسع مقياس في العهد الإنكليزي. وقد طبعت ستة أسداد طابع المجد البريطاني على أكبر أنهار العالم وأكثرها غرابة، وينم بضع مئات من الكوات تفتح تبعا للفصول على نشاط البريطان وعنادهم. وإذا كانت هذه الكوات مدينة بوجودها للفكر الذي يسيطر على الأنهار الأخرى في الوقت الحاضر فإن نتائج عملها لا تبدو عظيمة مؤثرة في غير النيل وواديه.
وإذا كان العلم البريطاني والعلم المصري يخفقان معا في البقاع البعيدة التي يأتي النيل منها فإن العلم الإنكليزي حاضر غائب في النيل الأدنى على الدوام، ويسفر الحكم الثنائي، يسفر طراز الحكومة الغريب هذا، عن سيادة كلتا الدولتين الشرعية على السودان فيشعر المصريون - وهم الفريق الأضعف - بإضرار الفريق الأقوى - بريطانية العظمى - إياهم في كلا البلدين، ويسكنهم القدر مجرى النيل الأدنى، وتتوقف حياة أربعة عشر مليونا من السكان على فيضان واف فيحذر المصريون - بحكم الضرورة - ذلك الحامي المرهق المهيمن على النيل الأعلى والمتصرف فيه كما يشاء، فالأجنبي - وإن لم يلق سما في ذلك الماء - يمكنه أن يحبسه بأسداد جديدة.
وقد بينا استحالة هذا الافتراض فنيا في جزء آخر من هذا الكتاب، ولكن خطر الإضرار لم يبعد، فهنالك ألف وجه لمنع جريان المياه طليقة من غير أن تحبس بسد حبسا تاما، فيمكن إنكلترة - والحالة هذه - أن تلاعب مصر كامرأة تتمنع وتوافق قاصدة أن تروق وتسيطر معا، وإليك ما قاله اللورد ملنر قبل سنة 1900:
من المؤلم أن تكون كل مصلحة للمياه منتظمة ضرورية لحياة مصر معرضة دوما لبعض الأخطار ما دام مجرى النهر الأعلى غير تابع لذلك البلد، غير خاضع لرقابته، ومن يدري أن إحدى الدول العظيمة - أو إحدى الحكومات التي تساعدها أمة متمدنة - لا تقوم ذات يوم بأعمال كبيرة على النيل فتحول - لسقي أراضيها - هذا الماء الضروري لمصر عن مصر. أجل، إن هذا أمر بعيد جدا أو أمر غير محتمل، ولكننا - قبل أن نهزأ به - يجب علينا أن نتمثل مشاعر بلد آخر - كبلدنا مثلا - فنبصر وجود احتمال بعيد حول قدرة دولة أخرى على حبس المطر السنوي عنا.
ويدل هذا التصريح الرسمي - الذي صدر كثير من البيانات مثله في إنكلترة - على اتزان كبير، ويكشف هذا التصريح عن حال المصريين النفسية وعن مخاوفهم، ويضيف الإنكليز إلى احتجاجهم باسم الأخلاق كونهم محتاجين إلى قطن الدلتا الممتاز الذي تفتقده مصانع الغزل في لنكشير إذا ما أوجبت أسدادهم في مجرى النهر الفوقاني قبل الخرطوم نقص الفيضان أو تأخره في الدلتا. ومع ذلك يمكن العمل الذي عضزاه اللورد ملنر إلى دولة أخرى أن يصبح أداة تهديد نافعة في يد الإنكليز عند الاختلاف، ومن ذلك ما وقع بعيد قتل السردار بالقاهرة في سنة 1924 حين طالب الإنكليز كغرامة عدم تحديد مساحة الأرض التي تسقى في الجزيرة الواقعة بين النيل الأزرق والنيل الأبيض بدلا من الأرض المحددة في معاهدة سابقة. وتمضي أيام قليلة فيقلع الإنكليز عن هذا الطلب المضاد للأخلاق، بيد أن هذا يكفي لإثبات نوع الوسائل التي يمكن العدو الساخط أن يتمسك بها.
وزعيم المصريين المعاصر الذي فتح باب مكافحة الخصم على مصراعيه - كعرابي - هو أصغر سنا من عرابي بعشر سنين فقط، والفرق بينهما هو كون عرابي بدأ كفاحه في الأربعين من عمره وكون زغلول بدأ كفاحه في السبعين من سنيه (؟) ومن هنا كان نصف القرن الذي يفصل بين نفي بطلي الحرية المنتسبين إلى جيل واحد من الآدميين.
وزغلول من فلاحي الدلتا كعرابي، وهو يرى بجانب هذا كما يرى القفقاسي بجانب العربي، ويتصف زغلول بطول قامته وبنحوله وببروز وجنتيه كالمغولي ووجهه الطليق وعينيه الزرقاوين واستقامة بصره وبأنسه، فتكفي هذه الأوصاف لهدم نظرية العروق التي تكاد تصبح ألعوبة المجتمع في قسم من أوروبة، وعلى ما بين الرجلين من اختلاف بين في المثال كانا مصريين حقيقيين مولدين من امتزاجات يجهلها ذلك البلد الذي هو ملتقى كثير من الأمم، وإن شئت فقل إنهما كانا وليدي الأرض لا الدم؛ أي كانا ابنين للنيل، لهذا النهر الذي أوحى إلى زغلول بأكثر خطبه تأثيرا.
وينشأ زغلول في الأزهر، ويوفق لزواج ذي غنى، ويتعلم من أصله بؤس الفلاحين، ويطلع بمهنة المحاماة التي مارسها طويلا على خبث الباشوات وخداعهم، ولم يكن في بدء أمره مع ذلك، ولم يكن حتى بلوغه الخمسين من سنيه مع ذلك، غير مصري معتدل عاطل من النفوذ، ويعينه اللورد كرومر وزيرا للمعارف العامة في سنة 1905 حتى يجرب في شخصه وطنيا رصينا. ويقول اللورد كرومر: «يتصف زغلول بجميع الصفات اللازمة لخدمة بلاده، فهو صادق مستقيم كفي مقتدر شجاع، وهذه صفات يجب أن يتقدم صاحبها كثيرا.»
ولو بقي كرومر حيا في القاهرة لرآه قد تقدم أكثر مما كان يريد.
وتنحاز تركية إلى ألمانية والنمسة منذ أوائل الحرب العظمى، ويظهر الخديو عطفه لهذه الدول، وتبدو درجة احتياج مصر الشديد إلى الغلال الأجنبية، ويمكن وصف هذا الوضع بالفاجع نتيجة للطمع في الذهب وما أوجبه هذا من استبدال القطن بالحب.
ويحيق خطر المجاعة عند الحصار بفريق السكان الذي يمقت الإنكليز أكثر من مقته الترك ما دام النصارى يقبضون على زمام الحكم أكثر من المسلمين المسيطرين نظريا، ولا يعلم ماذا تصنع إنكلترة بخزان أسوان، وكانت بريطانية العظمى منذ سبعين سنة مضت قد منعت مصر محمد علي من الانفصال عن تركية. والآن تتخذ هذا العاهل شاهدا للوصول إلى هذا الانفصال، والآن تدفع المصريين إلى محاربة أبناء دينهم مع أن السلطان أعلن الجهاد المقدس.
ولم تجد إنكلترة وسيلة صالحة لإظهار قوتها بعد. وفي سنة 1914 كان يمكنها أن تضم مصر إليها أو أن تجعلها من الممتلكات أو أن تعلن استقلالها مطالبة إياها بأن تكون حليفة لها، غير أن إنكلترة لم تنتحل سيادة تركية لنفسها، ولم تمنح الاستقلال الذي وعدت به منذ زمن طويل، غير أن إنكلترة صنعت العكس فخلعت الخديو ونصبت في مكانه رجلا آخر مع لقب سلطان، وأجلت الجمعية التشريعية إلى وقت غير معين، وأنبأت الشعب بأنها لا تحمله على الحرب.
وما قام به الترك من هجوم على قناة السويس فقد حمل الإنكليز - مع ذلك - على جمع الفلاحين باسم «العمال المتطوعين» متخذين أساليب المماليك في القهر آخذين آخر جمل لديهم بثمن تاركين إياهم بلا حيوان حلوب سائقين إياهم من خلال الصحراء لإنشاء خطوط حديدية، وكان ذلك آخر سخرة في تاريخ مصر. وأشد من ذلك ما كان بعد ذلك من سوق مائة ألف حر مصري إلى سورية وثمانية آلاف حر مصري إلى العراق وعشرة آلاف حر مصري إلى فرنسة ومن جمع إعانات من المسلمين للصليب الأحمر.
ولا شيء بعد النصر أشد إيذاء لسمعة بريطانية العظمى من إنكار أية مساعدة قامت بها مصر. ويطالب زغلول في شهر نوفمبر سنة 1918 باستقلال بلده مكافأة على ذلك، فيمنع من السفر إلى لندن، ويكون ذلك نذير الفتنة، ويصرخ مديرو الفتنة قائلين: ألا تدركون الآن أن إنكلترة خدعتكم؟ أذلك ما تكافئون به على إنشائكم خمسة كيلومترات من الخطوط الحديدة يوميا من خلال الصحراء المشتعلة مقاتلين إخوانكم في سبيل كلاب النصارى؟ ولم لم نثر ولم ننضم إلى الترك الآتين من سورية لطرد الإنكليز؟ نحن ساعدنا على نيل النصر! لقد أقام كل من جارينا الحسين وفيصل دولة جديدة وفق برنامج الرئيس الأمريكي! وأما نحن فقد بقينا عبيدا وحدنا، هم لا يلبثون أن يحرمونا الماء بأسدادهم الجديدة في الخرطوم فيميتونا جوعا.
ويتميز زغلول من الغيظ أيضا، ويظهر ما هو خلاف العادة فيتحول هذا السياسي المعتدل في شبابه إلى متطرف في مشيبه ويلقي خطبا نارية، ويقبض الإنكليز عليه ويبعدونه إلى مالطة ثم إلى سيشل كما صنعوا بعرابي منذ خمسين سنة. وتشتد الفتنة ويقتل ضباط من الإنكليز وتخرب أسداد وتشتعل نيران، ويؤلف حزب قومي عظيم، يؤلف الوفد، ويتحد المسلمون والأقباط لمكافحة إنكلترة معا، ويبدو انعكاس ضباط الإنكليز مرا على وزارة الخارجية بلندن عندما يحرسون البريد على ظهور البغال من خلال الصحراء حيث خرب الخط الحديدي.
ورئي من الواجب أن يوافق على استقلال مصر بعد ثلاثة أعوام طيش وقتل ثم عقوبة، وبعد جعل شهيد من زعيم الحزب القومي، غير أن الدولة الحامية احتفظت بكثير من الامتيازات مؤخرة بذلك زمن التفاهم.
ويعود زغلول إلى بلده، ويصبح بطلا قوميا، ويزيد مع العمر تشددا، فلما سأله مكدونلد عن المكان الذي يود أن ترد إليه كتائب الإنكليز أجابه عن ذلك قائلا: «إلى إنكلترة، يا سيدي الوزير.» ويخيب مكدونلد أمله، ويبصر زغلول أن إنكلترة لن تتأخر خطوة، ويقتل سردار السودان في القاهرة، ويأتي اللورد ألنبي مع حرس عسكري مهيب ويسلم إنذارا إلى رئيس الوزراء زغلول، وينظر زغلول من النافذة ويسأل قائد الحرس الإنكليزي بقوله: «ما الأمر؟ أتريد إنكلترة شهر الحرب على مصر؟» وما هذا الكلام الذي وجه في تلك الدقيقة إلى ذلك الشخص إلا دليل على اعتدال دم وإباء نادرين في التاريخ الحديث.
ويتوفى زغلول بعد زمن قليل (1927) ولم يحدث أن شيع مصري إلى مقره الأخير بمثل ما شيع به زغلول، فكانت جنازته جنازة فرعون وصديق للشعب معا، وتسير أمة بأسرها مع تابوته المشتمل على فلاح مولود في كوخ مظلم مصنوع من طين مجفف بين الدجاج والحمام والحمار والجمل ومجهز بطلسم ساحرة يعدل مالا، وما أكثر ما تعلو أبراج صاحب حياة كتلك كيوبس (خوفو) وهرمه العظيم!
وكذلك الملك - الذي عاد إلى القاهرة من رحلة رسمية بعيد موت زغلول - ينال حظوة لدى الشعب، وتزيد هذه الحظوة في عشر سنين نتيجة لما بدا له من آراء جميلة كتقسيم أراضي الدولة بين الفلاحين على أن يدفع الثمن بأقساط سنوية، وكإنشاء مدارس ومشاف وكتوجيه نظر أوروبة إلى ما أقامه من مشاريع علمية.
ولكنه لم يسطع أن ينزل العلم البريطاني من فوق القلعة، وإذا مر مصري أمام الثكنة الإنكليزية الكبرى بالقرب من جسر الجزيرة الكبير وقف وشاهد بمرارة المغلوب تدريب الجنود، ويتفق في شهر يوليو سنة 1936 على نقل الجنود إلى القناة، والقناة أرض مصرية.
ويوصل الآن - في صيف 1936 - إلى اتفاق لا تحقق به جميع آمال المصريين؛ وذلك لأن الإنكليز سيقضون سنين طويلة لإنشاء بضع ثكن، ولأن الجلاء عن القاهرة لا يؤدي إلى الجلاء عن قناة السويس، ومع ذلك تسير مصر لتستقل هي والسودان، ويتوقف كل شيء في السنوات الآتية القليلة على أحد البلدين الذي يظهر فيه القطب السياسي الأعظم اقتدارا، فسيعرف هذا السياسي كيف ينتفع بالحرب القادمة لحل تلك المسألة.
الفصل السابع والعشرون
لا يكاد النيل في شهر يونيو يسمع من فوق جسر الجزيرة الذي هو جسر القاهرة الضخم، والذي لا يعدل غير ثلث جسر الخرطوم طولا، ويتم النيل في العاصمة آخر جولان له فيظهر جليلا وقورا وتقطعه جزيرتان، ولا ينعم على عاصمته الألفية - القاهرة - بمظهر قدرته، وتبدو الجسور الثمانية التي تربط ضفافه بالجزيرتين قصيرة، وما تقضي به الضرورة من رفعها مناوبة لتتمكن السفن من المرور وما يصير عبور النيل به متعذرا يذكرنا بعظمته.
وفي شهر أغسطس - وعلى العكس - يسمع هدير هائل من الجسر، لبلوغ فيض الماء غايته. وفي شهر مايو يستطيع سابح ماهر أن يعارض الجريان، وفي شهر يونيو يصعب عليه ذلك، ثم لا يجرؤ أحد على ذلك، ويتبع أهل القاهرة زيادة النهر مع هياج قوم محصورين، وما هي قوة العدو؟ وما هو الحصن الذين يهاجمه غدا؟ ومتى يفك الحصار عنا؟ وينظر كل عابر من فوق الجسر، في شهر أغسطس، ليعلم هل هذه هي الزيادة أو أن ذلك ليس غير مظهر.
وإذا ما انقضت بضعة أيام فأبدى العنصر جميع قوته تساءل أولئك الناس عن غم: هل يزيد الفيضان على الغاية؟ وهم لا يهدأ لهم روع نهائيا إلا في أوائل أكتوبر وبعد عدة أيام نقص منتظم في الفيضان، ويجاهد الناس حول النيل جهادهم حول امرأة مشتهاة، ولن يطمئن قاهره إلى أنه قد يصبح ضحيته في نهاية الأمر، ويتحرك كل شيء في أثناء الفيضان، ويقوم حارس في كل خمسين مترا من القناة، ويحشد مائة رجل في الأماكن الخطرة - أحيانا - لحماية الأسداد ولعرض بيان عن الوضع.
وإذا ما طاف هؤلاء في السهل الواسع حاملين مصابيحهم بدت قطارب
1
لامعة في الليلة المحرقة، وترى في كل مكان انتظار الزوارق الآلية والسيارات رؤساء المفتشين الذين يكون لهم في شهر سبتمبر من الأحوال النفسية ما يكون للقائد في أثناء المعركة، والذين يأتون أو يزيحون قوارب مشحونة بحجارة وأكياس رمل، والذين يكدسون موص
2
الذرة وسوق القطن لسد أقل ثغرة، ويتوقف كل شيء على ذكاء نحو عشرة رجال لا ينبغي لهم أن يناموا ويجب عليهم أن يكونوا مستعدين للتدخل في أي مكان كان، ولا يزال الناس في النيل الأوسط - في مديرية جرجا التي يثير ريها العجب - يروون أن مفتشا إنكليزيا وقف الفيضان المخرب ذات يوم من سنة 1886 بأن أنشأ سدا مستعينا بجميع القرية، ويبعد الخطر، ويدعى هذا النصراني إلى المسجد لحضور دعاء شكر يقام فيه، ولنا في هذا الأمر الذي لم تسمع بمثله أذن ما نبصر المشاعر الدينية به لدى شعب سلم أمره إلى أحد العناصر.
سفن شراعية على النيل.
ويثلم الفيضان في سنة 1887 سدا حافظا لقرية واقعة في شمال المنصورة. وفيما كان الرجال والنساء والأولاد يأتون بأبوابهم ونوافذهم وأثاثهم لسد الثغرة إذ يبصر الإنكليزي الذي يدير الأشغال بياض شعر الرجل الأكثر نشاطا فيناقض مشيبه بهمته العظيمة، ويسأل فيعلم أن هذا الرجل - الذي كان رقيبا في الدلتا سنة 1878 - لم يسطع أن يحول دون وقع تصدع في السد فأثار هذا الأمر غيظ الخديو إسماعيل، فأمر إسماعيل بإلقائه في النيل فابيض شعر هذا التعس في ليلة انتظاره الموت، ثم عرفت براءته فعفي عنه، ويكافح تصدعا جديدا في السد، ويشرف رأسه الأبيض على الآخرين.
ويتوقف جميع إنتاج الدلتا - أي معظم القطن المصري - على السد الواقع في الكيلومتر الخامس والعشرين من مجرى النهر التحتاني من القاهرة؛ أي في المكان الذي يقسم فيه النهر إلى شعبتين، وهذا هو آخر برج قاهر للعنصر، وهو يبلغ من التأثير ما يحوله معه نائب السلطان - سعيد - إلى قلعة صالحة لإغراق جميع الدلتا إذا ما غزا العدو البلاد، وما كان من أمر هذا التذكار، ومن معرفة ما في أحد الأسداد من ممكنات تخريب، قد حفز المصريين إلى الحذر من مشاريع الإنكليز المائية الكبرى، وللقلعة مع أبراجها وأروقتها وجسورها المتنقلة وملاجئها أثر في النفس كما في النقوش القديمة.
وترانا في المكان الذي ينقسم النيل فيه، وكان أفلاطون أول من رأى تشبيهه بشجرة ذات فروع، وتبلغ الدلتا من الطول 250 كيلومترا ومن العرض 220 كيلومترا، وهي ليست متساوية الأضلاع، كدلالة اسمها عليها، وقد كانت - إلى ما قبل قرن - تسقى وفق نظام الأحواض كجميع مصر في ذلك الزمن. وقد أراد محمد علي أن يبني فيها أول سد ليضمن سقيها في جميع السنة. أجل، إن هذا عمل صعب، ولكنه مجد؛ وذلك لأن الأراضي الصالحة للزراعة في وادي النيل ممتدة كامتداد المارشن في هولندة.
وإذا ما حبط المشروع لم يكن ذلك من خطايا الفرنسيين، وإذا كانت الجدر القائمة على أرض متنقلة لا تمسك سوى نصف متر من الماء بدلا من أربعة أمتار ونصف متر كما ينتظر فإن ذلك يعد دليلا على عجز الأوروبي الذي لا يصدر في الشرق غير النصائح، ولا يحسن المهندسون المصريون تنفيذ تصاميم المهندسين الفرنسيين عند إنشاء السد، ويمضي أربعون عاما فينفذ المهندسون البريطانيون مشاريعهم في بناء السد كما يودون. واليوم - فيما يرد الإنكليز بالسد خمسة عشر مترا و50 سنتيمترا إلى الوراء - يصرح خبراؤهم بأنهم إذا ما غادروا مصر عجز المصريون عن الانتفاع بذلك.
ويختلف كل من السدين الحاضرين طولا، ولكل من السدين إحدى وستون قنطرة وكوتان، ويزينهما نقش بارز وجد في طيبة وصور به رمسيس الثاني جامعا لقسمي مصر في الماضي وممثلا لشعبتي النيل في الوقت الحاضر تمثيلا عجيبا.
ويعد لسان الأرض الواقع بين السدين أخصب جنة بمصر لسقيه أحسن من سواه لا ريب، وتعد الدلتا أرض مصر المفضلة، شأن أولاد الخبير الصحي الذين يعطون أكثر الأغذية ملاءمة للصحة.
ويوجد سد آخر دائم واقع على المجرى التحتاني من زفتى وعلى شعبة النيل الشرقية، وينشأ في كل سنة حاجز من تراب على كل شعبة من النيل قبل مصبها، وذلك لوقف الماء الراشح من السد، ويصنع ذلك - عادة - في اليوم التاسع عشر من مارس؛ وذلك أن الموج الوارد على الخرطوم في اليوم العاشر من فبرابر وعلى أسوان في اليوم الأول من مارس يتطلب ثلاثة أسابيع حتى يصل إلى زفتى، فما كان لطاغية أو لصاحب مليارات أن يتفق له من العناية الطبية ما يتفق للنيل من تعهد شئونه والانتباه لأموره.
ويتعقد ذلك النظام - كجسم الإنسان - بالمضخات والدواليب والممصات ورافعات الماء إلى أعلى الأطيان، إلى ما يبلغ ارتفاعه مترا واحدا. وبما أن القطن يتطلب عناية فائقة فقد أنشئت شبكة قنوات لتصريف المياه وحسب توزيع المياه حسابا دقيقا، فيعطى الماء في خمسة أيام من الصيف، ثم يعطى أقل من ذلك أولا يعطى في الأيام العشرة التالية. وإذا كان مقدار الماء كافيا كان دور القطن من الماء خمسة عشر يوما ودور الأرز منه ثمانية أيام أو عشرة أيام.
ويظهر النهر المقهورة قوته حتى قبيل نهايته فيذكر الإنسان بقوة العنصر، ويعد الغرين - الذي لا حياه لمصر بغيره - خطرا في الدلتا، فيقضى أربعون يوما من كل سنة في نزعه من جميع القنوات، ويكون ذلك في شهر يناير على الخصوص، وذلك حين تغلق وتنظف وتصلح، ويتطلب الري الدائم غرينا أقل مما في الماضي، فيكفي مصر ثمانية وعشرون مليون طن منه في الوقت الحاضر، وأما ما يزيد على ذلك - وهو ما بين ال 40 مليونا وال 120 مليونا وفق هوى أمطار الحبشة - فقد ترك للفلاح على العموم، ما لم يكن هنالك احتياج إلى تعلية الأسداد.
وإذا كان الفلاح راغبا عن ذلك وجب على الإدارة أن تدفع نفقات رفع ذلك، ويوضع السؤال الآتي في بعض الأحيان وهو: هل ينتفع الفلاح بهبة النيل تلك في إخضاب حقله أو يكسب أكثر من ذلك بنزعها؟ هذه هي مسألة عويصة تشغل بال الألوف من الناس فيقرر حلها وفق هذا المعنى أو ذاك مصير ثورة بعينها.
والملح هو العنصر الثاني الذي تجب مكافحته هنا؛ وذلك لأن ماء البحر يتسرب في النهر؛ وذلك لأن ماء البحر مملح بعشرة أمثال ما تأباه الزراعة وبأمثال عشرين مما تأباه شفة الشارب، وينتفع بالسدين الترابيين اللذين يجددان كل عام في دفع الملح أيضا، ويوصل إلى ذلك بمراق خشبية موصولة بقوارب وأكياس يتألف منها إطار دائم، فإذا ما تقدم العمل تقدما كافيا ولم يبق غير ثغرة عشرين مترا دحر الماء المملح بماء النيل القادم بغتة، ويكون على الضفة كيماوي فيحقق نسبة الملح ويطلب هاتفيا من الخزان ما هو ضروري من الماء الفرات لذلك الغرض، وهذه هي آخر مرة يسيطر الإنسان فيها على النيل.
ولا يدفع هنا - ولا في أي قسم آخر من وادي النيل - ثمن لجميع ذلك الماء الذي تكلف مصالحه الإدارية وحدها نصف مليون جنيه سنويا، والأراضي التي تسقى هي التي تؤدي الضرائب، ولكن ما أتفه تلك المبالغ عند قياسها بما تكلفه أعمال الإنسان المخربة! فقد بلغت نفقات الأسداد الستة التي أنشئت بمصر في غضون القرن العشرين اثني عشر مليون جنيه؛ أي أقل من نفقات أسبوع واحد في أثناء الحرب العظمى، ولا تنفع تلك الأسداد لإنتاج القوة والنور كما في البلدان الأخرى، وما عليه النهر من تقلب فلم يصلح لغير قيام قليل من المصانع الكهربية في جهات قليلة، ويظل النيل - من هذه الناحية - جموحا تقريبا، ومن ناحية أخرى لا يكون النيل صالحا للملاحة في الدلتا إلا في أشهر الفيضان الثلاثة، والأقسام المنخفضة من شعبة رشيد وحدها هي التي تبقى صالحة لسير السفن في جميع الفصول.
ولم يسن لذلك قانون قبل وصول الإنكليز، وكان الناس ينتفعون بالنيل منذ ألوف السنين عندما وضعت مواد مرسوم النيل الثلاث والأربعون، ويقل سوء استعمال ذوي السلطان بما يثير العجب بعد أن وضعت للماء سلسلة المراتب تلك، وفي أهواء النيل ما يساعد على اعتدائهم؛ وذلك لأن النيل يبلغ من تحويل أرض مصر في الغالب ما يقابل بالذي يطرأ على الأراضي الواقعة على سفح بركان . واليوم يعلم الفلاح أن النهر إذا ما ابتعد عن ساقيته وأحدث جزيرة جديدة حق له أن يحفر قناة فيجلب الماء إلى دولابه بلا بدل. واليوم يعلم الفلاح أن الباشا يعاقب إذا ما حبس الماء عن جاره الفقير بوضع حجارة ، أو إذا سد كوة من فوره، أو إذا حفر خرقا في الضفة، أو إذا أزال حاجزا، واليوم يعلم الفلاح - أيضا - أن المفتش في شهر أبريل يمنحه ماء إضافيا إذا كان أرز الصيف يتطلب ماء أكثر من الذي قدر له.
وما ألقاه النيل على الإنسان من أقدم الدروس؛ أي العمل المشترك؛ أي هذه التجربة البالغة من القدم ستة آلاف سنة، قد تحول إلى علم مصلح لكل ما علمه الإنسان من التقاليد، إلى علم أكثر اقتصادا في مجموعه وأعظم إنصافا في جزئياته؛ وذلك لأن فرعون أو نائب الملك عاد لا يكون صاحب الأرض كما في زمن يوسف ومحمد علي، وما تراه من دقة توزيع في الأسداد ومن تحويل أرض حبوب إلى أرض قطن ومن إلغاء سخرة بلا أجر ومن نقص في عدد التجار من الأجانب ومن إنشاء مدارس ومن تحريم الحجز على قطعة الأرض الضرورية للعيش، وما تراه من هذه الاشتراكية الحكومية، أمور عدت عامل اتحاد جديد، وعلى ما تبصره من حمل الفلاح على ما يجب أن يبذر وعلى الزمان والمكان اللذين يجب أن يبذر فيهما تجد انتباها في شعوره بالكرامة بعد أن ظل حتى الآن عبدا للماء والإنسان معا.
الفصل الثامن والعشرون
الدلتا خضراء كوادي النيل، ولكن بما أنها ليست أرضا ضيقة، ولا واحة، ولكن بما أنها سهل يمتد على مدى البصر، فإن لون الصحراء الأصفر لا يبدو في غير أطرافها البعيدة. وإذا كانت مصر العليا تنم على انسجام بين الأخضر والأصفر والأزرق فإن الدلتا الواقعة تحت سماء شاحبة تنم بما فيها من منازل وأشرعة سفن وثياب نساء على انسجام بين الأخضر والأبيض والأسود، ولو رئيت هنالك أشجار بقاعنا بدلا من النخل لظهر لنا منظر هولندي، فالماء موجود في كل مكان وصغار الجداول تقطع كبارها.
بيد أن المظهر العام يذكر ببلد الكثبان، وكل شيء هنالك مصري، وكل متحرك هنالك مصري، بلين المنظر وكثافته. وكتب أحدهم يقول في زمن لويس الرابع عشر، حين كان القناصل شعراء أيضا: «تكون مصر فضية في سبتمبر ، وزمردية في نوفمبر، وذهبية في أبريل.» ونحن الآن في شهر أكتوبر.
ويسير بعير سيرا وئيدا، ويباين السماء، ويحمل جبلا مهتزا من عيدان القطن الجافة لإحراقها، ويمر رجل راكب حمارا على طول السد، ويظهر وراءه دولاب ناعورة جديد ابتاعه من المدينة، وتسرع سيارة يجلس فيها - وينشب في أطرافها - أربعة عشر مسافرا، فيسمع صوت لحديدها وتتطاير في الهواء ثياب راكبيها، وترى سفينتان ذواتا شراعين مضاعفين منتفخين بريح الشمال الغربي فتجوبان السهل رويدا رويدا وتجلبان ما هو أبيض مثلهما، تجلبان جبالا زغبا من القطن، وترى امرأتين سوداوين وخمسة أولاد يغررزون موص الذرة الأصفر في الأرض على فواصل متساوية استعدادا لزرع فول في الغد.
وترى رجلين عاريين واقفين في القناة فيخرجان كتل غرين ويصفحونها ويأخذونها على عجلة إلى منازلهم البيض، وترى في وسط الغرين التماع مها
1
حبشية كأنها تذكار لماض بعيد منسي تقريبا، ويحاول تل أن يتكون، ويبلغ من الارتفاع مترا ونصف متر، وترسم الريح على ذروته دوائر غريبة ما دام أرفع ما في الجوار، وتنتصب على مثل ذلك الارتفاع رحى هواء تدور بريح الشمال فتبدو وحيدة كجال
2
وتبدو أجنحتها مرخاة، فيلوح أنها تدير مضخة.
وتبصر على ما هو أبعد من ذلك ثلاث جرافات سود صدئة تقذف الغرين في الحقول، وتبصر على الضفة ألوف القلل الصفر اللامعة مكدسة كالقنابل القديمة، وتجر ثلاثة جمال ذات أذناب طويلة متموجة كالطواويس خوص نخل مربوطا بعضه ببعض أكواما، وتمر البلاشين وتطير طيرانا قريبا عارفة أنها في مأمن لما بينهما وبين البقر من صداقة، ويطفر حمار فوق القناة بجرأة، ولا ريب في أن راكبه خفير لحمله بندقية، ويطير نحو مائة طير من كدس حب موضوع أمام البيت الصغير الأبيض العاري، ويؤدي طريق سنط إلى بيت غني وتلمع خلفه قبة مسجد صفراء زرقاء، ويفرجن
3
رجل حصانا زائعا يكدف
4
أمام أربعة أبنية من آجر بارزة بين الخضرة، أمام أربعة أصابل معدة لخيل السباق.
ويسكن الفلاحون أكواخا بيضا مصنوعة من طين مجفف وقائمة بجانب تلك، ويمر خمسون رجلا لابسا جلبابا أبيض وحاملا قفة مشتملة على حجرين معدين لتجديد مدخل القناة، وتجلب قوارب طويلة تلك الحجارة إلى القاهرة لما لا يوجد منها في الدلتا، ويرى حماران مربوطان بوتد واحد ذلك المنظر بأطراف عيونهما ويدلك كل منهما رأسه برأس الآخر، وتتوجه نحو القناة، من خلال حقل نفل،
5
امرأة لابسة أسود وحاملة جرة فارغة مضجعة على رأسها، فإذا ملأتها بتؤدة رجعت من طريقها بعد أن تنصبها موزونة على رأسها مع الانسجام، وتمر سفن شراعية أخرى، وتنقل زوارق سود سلعة خفيفة، تنقل القطن الأبيض الكثير الذي يعد بضاعة ثمينة ملكية في ذلك البلد، وتجد على طرف القناة صبيا يدير لولبا خشبيا فيوصل الساقية به إلى الناحية الأخرى، ويصر كل من اللولب والساقية، ويداوم على تلك الحركة عشر ساعات متتابعات فيصعد الماء بلا انقطاع.
اقتطاف القطن.
الفصل التاسع والعشرون
هذه هي المدن، وهذه هي حركتها، وهنالك معامل، ولكن مع قليل مغازل في بلد القطن ذلك، ولا تصنع تلك المعامل غير واحد في المائة من الإنتاج، وفي البلد قليل من مصانع التبغ مع أنه ينتج أحسن تبغ في العالم، وفي بلد السكر ذلك قليل من معامل السكر، فلا يقوم ما ينتجه منه باحتياجات الأهالي، وترى بجانب تلك المصانع جاموس الفلاح يدير دولابا محركا رهاصا لقصب السكر فيؤدي ذلك إلى منح الفلاح ضربا من القند
1
يفضله على السكر الخالص.
ويبدأ العمل الفاوستي
2
مرة أخرى في أقصى الدلتا من جنوب الإسكندرية الغربي فتكتسب من السهب رياض وأرضون صالحة للفلاحة، وترى بالقرب من البحر عند حدود ليبية أعرابا يرعون أنعامهم في سهب يرويه المطر في الشتاء أحيانا، ويزرعون حبوبا قليلة قبل أن يحرق الصيف كل شيء، وذلك كما في نوبية الوسطى على بعد ثلاثة آلاف كيلومتر من مجرى النهر الفوقاني، غير أن ما هنالك من الخرائب الرومانية والأطلال المصرية يثبت كون ذلك البلد خصيبا فيما مضى، ويظهر من بقايا إحدى المناور أنها ترجع إلى زمن كليوباترة، وتدل بعض النصوص على أنها أرض غلال، وليست كسر بعض الفخار من غير أصل نصراني لما ترى بينها ما يشتمل على صورة قديس بين جملين.
وأحيا يوناني سابق عهد تلك البقعة التي كان البطالمة يغرسون فيها الكرمة، فقد أنشأ فيها مدينة صغيرة وطريقا فسميتا باسمه: جناكليس، وهكذا يخلف زارع التبغ ملكا كما يخلف تاجر القهوة المقدوني فيوقظ ذلك البلد الناعس، ويعمر كفرعون، وقد أنبت تحت ذلك الجو البخيت، أنبت بفعل نسيمه ومطره وقناة مجاورة له، أشجار برتقال وزيتون على كثبان مركبة من رمل وغرين، ويخرج ما له من كروم خمرا مصرية جديدة.
وهكذا يمكن توسيع الدلتا بمقدار الخمس، وإدخال زراعة التبغ لمكافحة أزمة القطن المتزايدة، فيعاد إلى الفلاح ما نزع من سروره بما يجبى من المكوس عن التبغ الوارد، ويرى أن معدل التدخين في مصر أربع سغاير في كل يوم لكل ساكن من رجال ونساء وولدان، وتستورد مصر في كل عام من التبغ ما قيمته عشرون مليون جنيه؛ أي ما يزيد على معدل ما يستورده أي بلد آخر مع أن زرعه هنالك ينتج من التبغ ما هو أنفس مما في جميع بلاد العالم بفضل ماء النيل وبفضل هوائه على ما يحتمل.
ويطرد القطن - وإن شئت فقل ملك مصر هذا - كل شيء، ويجلب الدقيق من أوسترالية في الوقت الحاضر هذا البلد الذي كان يمير
3
نصف الإمبراطورية الرومانية بالحبوب. وإذا كانت الأسداد تمد هذا البلد بأراض جديدة صالحة للفلاحة فإنه لا يبذر في هذه الأراضي حب، وكان 1200000 فدان يزرع حبوبا و800000 فدان يزرع قطنا في سنة 1900، فلما حلت سنة 1926 لم يزد ما يزرع من أفدنة الحبوب مع أنه خصص مليونا فدان لزراعة القطن.
وقد تضاعف عدد سكان مصر تقريبا، وذلك من غير أن يتحول مقدار الخبز الذي تنتجه؛ وذلك لأن ثراء البلد يزاد على حساب استقلاله؛ وذلك لأن القطن - لا الحرية - هو الذي يسيطر، ويصدر في سنة 1925 من القطن وبذرة القطن ما قيمته 62 مليون جنيه، ولكن مع إدخال ما قيمته اثنا عشر مليون جنيه من الحب والدقيق، وكان ما يصدر من القطن المصري - حتى في سنة 1930، حتى بعد تدهور القطن - يعدل 87 في المائة من مجموع ما تصدره مصر، ويعود العقل في ذلك الحين إلى الرءوس فيزرع 1800000 فدان من القطن ويزرع 1400000 فدان من القمح.
ومع ذلك لا تكون تلك المضاربات مجدية في غير سني الخير، ويعطي فدان القطن في الدلتا في كل سنة ثلاثين جنيها، ويعطي فدان البرسيم في الدلتا في كل سنة عشرة جنيهات فقط، ولكنه يقص من البرسيم خمس مرات في السنة الواحدة، وذلك إلى أن الأرض تنهك بالإكثار من زراعتها، ومن ذلك أن القطن كان يزرع - قبل الحرب - مرة في كل عامين بدلا من أربعة أعوام، فنقص إنتاجه وزالت خواصه، فالأرض تضنى كالمرأة التي تضع ولدا في كل سنة.
وهكذا يدور كل شيء حول الملك الأبيض، حول القطن، ويرسل هذا الملك إلى الخارج؛ لأن الأجنبي يجزل الثمن بأحسن مما في الداخل، ولا يغزل القطن ويحاك حيث ينبت، بل يصدر على سفن كبيرة إلى جزر بعيدة حتى لا تجلبه لنكشير من الولايات المتحدة، حتى تبيعه لنكشير من المصريين منسوجا، وبهذا تدفع الملايين أجرة نقل على غير جدوى، ويفرض على الطبيعة المعادية نبات يحتاج إلى ماء السماء في بلد عاطل من المطر، ثم تجتنى ثمرات هذا النبات ليؤتى بها إلى جزيرة ذات ضباب فتعيدها إلى العالم على شكل جديد، مع أن زوس
4
كان يقوم بتقمصاته في مكانه بما هو أسرع وأروع.
ويقال مع التوكيد إن القطن الذي ينتج هنا كثير النعومة على الأهالي، ولكن من الممكن أن تعقد معاهدات تجارية لمبادلته، ولكن ألا يوجد مكان للمصانع في الدلتا؟ إذا ما أنشئ مصنع في قرية انتفع بألوف الأفدنة فكان كالكتاب الصغير الموضوع على منضدتنا والمشتمل على عالم من الأفكار والأحلام. وإذا لم يرد صنع شيء، أو كان هنالك من الوسائل ما يحال به دون فعله، وجد من الأسباب الفنية ما يفسر به الامتناع عنه.
وهل أدى القطن إلى جعل الفلاح أكثر سعادة على الأقل؟
لقد أثرى الباشوات في أثناء حرب الانفصال حينما افتقد قطن تكساس، غير أن وطأة ذلك ألقيت على عاتق الفلاح فنشأ عن تحرير العبيد في الولايات المتحدة ظهور عبيد جدد في مصر. ولما وضعت الحرب العظمى أوزارها وتعدل كيان مصر الاجتماعي اغتنى بعض الفلاحين لبلوغ ثمن قنطار القطن أربعين جنيها وبلوغ ثمن الأرض الجيدة ألف جنيه، ويظهر أنه يوجد بين فلاحي الدلتا من يستطيع أن يبتاع ألف نخلة فيزيد دخله السنوي على ألف جنيه، وليس بمجهول اسم أغناهم الذي اشترى أرض شركة مفلسة بأربعين ألف جنيه فوصل يوم إمضاء عقد البيع مع جماعة من الحمير حاملة أكياسا من الذهب، ويسخر سماسرة الإنكليز من غباوة هذا الفلاح الذي ترك ذهبه ينام في بيته المصنوع من الطين من غير أن «يوظفه»، وذلك من غير أن يعلم هؤلاء الإنكليز أنهم كانوا يخسرون هذا الذهب - لا ريب - بعد بضع سنين في شركة فخمة ذات مكاتب فاخرة وأوراق مالية باهرة.
والفلاح زاهد مقتصد، والفلاح يبتاع بيتا أكثر جمالا، وحمارا أعظم عضلا، كما يبتاع لامرأته قلادة ذهبية، ولكن الفلاح يؤمن بالأرض التي يرويها النيل فيشريها لنفسه ولأولاده، ولا يذهب الفلاح المغتني ليبذر ماله في القاهرة أو باريس حيث يقضي المضاربون حياة الفراعنة بضعة أشهر. ومن النادر أن يمثل الفلاح المغتني دور السيد الإقطاعي أمام أمثاله الذين ظلوا فقراء، ولا أحد من الفلاحين يجهل القصة العربية القائلة: إن فلاحا غنيا أتى بفلاح فقير أمام قبر أبيه الرائع فقال الفلاح الفقير صائحا: «سيكون أبي في الجنة قبل أن يقدر أبوك - بزمن طويل - على رفع هذا الحجر الرخامي الثقيل.»
ويأتي الفلاحون - وفلاحو الدلتا على الخصوص - منكرا مناقضا لمزاجهم المرح لأسباب خفية لا يمكن تفسيرها، وذلك أن المخدرات غير منتشرة في مكان على شواطئ البحر المتوسط انتشارها بين الفقراء من أهل مصر. والمخدرات مما يستعمله الأغنياء في العالم بأجمعه، فترى معامل في أوروبة الشرقية، وفي بلدان تدعو إلى مكارم الأخلاق فتضرب نقودا عن حب للإنسانية وعن ديموقراطية، تسم أولئك الأهلين سما منتظما، وترى الألوف من التجار والمهربين والوكلاء يعيشون من هذه التجارة المحرمة، ومع ذلك يسأل : هل صنع الهروين - الذي يمن على الإنسان بأحلام مسكرة وبحس سعادة - أنفى للأخلاق من الغازات السامة التي تقتله؟ ألا إن بعض الحكومات تصنع هذه الغازات لتحقيق مطامعها وتحرم الهروين خشية نقص حرارة القتال لدى أبنائها.
وإذا ما ابتاع فلاح الدلتا أقراصا ممنوعة أو أعشابا محظورة مخفية في التبغ والشكلاتة والفلفل راجيا أن يقوي بها باهه وجد ما يخيب به ظنه على الدوام، وإذا ما اغتم فلاح وأبلس
5
وضع قليلا من الحشيش في نرجيلته ودخن حتى يسقط الأنبوب من يده ويسبح في الرؤى، ويؤدي تتبع المخدرات في السنوات الأخيرة إلى تضييق نطاق استعمالها، وتتفلت مقادير كبيرة من كل بحث عنها مع ذلك، ويبتدع التجار ما هو عجيب طريف من أنواع التهريب بعد أن اكتشف إدخالها إلى البلاد داخل خفاف، فانتهوا إلى دسها تحت ما يبضع ويخاط من جلود الجمال حتى تخرج في مكان أمين.
وتظهر العدالة عرجاء مرة أخرى، فبينما يحكم على متعاطي المخدرات بالسجن سنوات لا يقضى بحبس تاجر المخدرات التركي غير بضعة أشهر، وذلك إلى أنه لا ينبغي لدولة تدع ألوف الآدميين يغوصون في بحر من الفقر والجهل أن تجازي أولئك إذا ما اشتروا ببضعة قروش نصبا لذيذا، إذا ما شروا حلما وسلوانا.
ويجدر بأمراء القطن المدينين للفلاح بسلطانهم وثرائهم أن يحموه من الأمراض التي تأتي بها أسدادهم إلى البلد؛ وذلك لأن الإنسان يؤدي دوما ما ناله من الطبيعة عن براعة، ومع ذلك ليس المنتفع هو الذي يدفع على الدوام، وكان المصريون يعتقدون أنهم من السعداء، وكانوا سعداء فعلا؛ وذلك لأنهم كانوا في مأمن من البرداء
6
مع ما في بلدهم من مئات المستنقعات النتنة، ومع ما روى هيرودوتس وقيصر وجوده عندهم من كلل
7
البعوض.
ومما يعلم أن الطبيعة انتقمت لنفسها في بابل عندما حاول الإسكندر الأكبر أن يحيي بالعزق
8
أرض المناقع المحيطة بهذه المدينة فذهب ضحية البرداء على ما يحتمل، والبرسيم هو الذي كان يعوزه، والبرسيم هو الذي يحفظ وادي النيل والدلتا من البرداء على الرغم من البرك ذوات المياه الراكدة، والخطر في الماء الطاهر، والغرين هو الذي يحرس مصر، فلما عدل في البنغال عن الري بماء الغرين إلى ماء المطر ظهرت البرداء، ولما قصد مصر ألوف المصابين المهاجرين من فلسطين في أثناء الحرب العظمى لم يجلبوا ذلك المرض إليها.
والواقع أن مرضا أدخل إلى مصر منذ إقامة الأسداد، ولم يصدر هذا المرض عن النيل، بل عن الإنسان الذي قهر النيل. ومما حدث أن ضمن المستشارون الكثيرون الذين بحث اللورد كرومر معهم عدم وجود خطر من إنشاء الأسداد. ومما حدث أن خصص أحد المهندسين الكبيرين - ولكوكس ومردخ مكدنلد اللذين أقاما الأسداد وحققا حلم فاوست - دور شيبته لتلافي الضرر الذي نجم عن عمله، وولكوكس هذا كان محبا للإنسانية فأزعج بإنذاراته ملوك القطن والوزراء من الإنكليز والمصريين الذين كانوا يفضلون كتم الخطر على إبعاده، ويبين ولكوكس أن قدماء المصريين جلبوا البرسيم من النيل الأوسط فكانوا يجزونه في الغالب ليزهر ثانية وليطرد الذباب والبعوض بإزهاره، وذلك مع العلم بأن الفراعنة كانوا يمنعون الفلاح الموظف في المصالح العامة وفي السجون من أكل الخضر بلا طبخ.
بيد أن الأسداد ونظام المياه الجديد رفعا مستوى سماط الماء في كل مكان، وتصبح البلاليع مقرا للديدان المعروفة بمقسومة البطن،
9
والتي لا تقتل الإنسان، بل تصيبه بالحمى وببثور، وتورثه من الآلام ما لا يحتمل أحيانا، وتضعف قوته وتعده لأمراض أخرى، وتظهر مقسومة البطن - في الوقت الحاضر - في كل مكان يسوده نظام الري الدائم، تظهر في مصر العليا حيث لا تجفف القنوات لاشتمالها على ماء الشرب، وتظهر في شمال الدلتا وشرقها حيث تكثر المناقع والقنوات ذوات المياه الوحلة القذرة.
ومن العبث أن يحاول إنكار ما يشهد به جميع الأطباء المستقلون الذين يقولون إن 65 في المائة من الفلاحين مصابون بذلك المرض في حقول قصب السكر بكوم أمبو حيث الري دائم، فإذا ما ابتعدت عن ذلك بضعة كيلومترات وغدوت في الأراضي ذوات الأحواض بأدفو لم تجد غير قليل من المصابين بذلك المرض. وإذا ما كنت في مديرية جرجا - التي انفردت بحسن الري بأحواضها - لم تجد مصابا بذلك، وترى مرضا آخر من ذلك النوع في الدلتا حيث يصعب تفريغ المياه، ترى معقوفة الفم
10
التي تكثر في الأمعاء الرقيقة فيصاب بها 95 في المائة في الفلاحين كما يصاب 65 في المائة منهم بمقسومة البطن.
وكلما زادت الأسداد ارتفع ما تحت الأرض من سماط، ويكاد هذا السماط يغمر البيوت في الدلتا، ومع ذلك ترى هنالك ما يعالج به هذا الذي يعد من جوائح مصر؛ وذلك بأن تستعمل هذه الأدوية وبأن يدفع ثمنها، وذلك بأن تنشأ مراحيض عامة وأن تسوى التلاع
11
وأن تجمم
12
المغايض
13
البلدية بالتراب وأن تعمق القنوات، وأن يجعل ذلك السماط نافذا إلى النيل نفعا للأرض والقنوات، وأن تغلق القنوات في الشتاء بدلا من استعمالها واسطة اتصال، وأن يخفض مستوى ذلك السماط على هذا الوجه، وأن يسبق التجفيف السقي دوما، بيد أن هذه وسائل طويلة تقتضي وقتا كبيرا.
وهنالك وسيلة أخرى إذا ما اتخذت بسرعة - وعلى مقياس واسع - أنقذت أولئك الآدميين، وهي أن الديدان تهاجم هؤلاء الناس عند عملهم واقفين في الماء، فبما أن اثنين من كل ثلاثة يعمل في مصر واقفا في الماء وجب حفظ سيقان الجميع كما تحفظ سيقان الشرطة بجراميق من المطاط دقيقة عالية، ولا سيما في الأماكن التي ينبت فيها البردي.
وإذا كانت الشرطة والمهندسون اللابسون جراميق من المطاط لا تنفذها الموائع يسلمون من كل عدوى أمكن إحدى شركات القطن أن تأخذ من ميزانيتها ما تبتاع به 125000 جرموق من المطاط ب 250000 جنيه على أن يستعمل هذه الجراميق إعارة نصف مليون من الأشخاص، ولا يكلفها هذا العمل الموافق لتعاليم المسيح ثمنا أغلى مما يكلفه من ترسلهم من مبشري القطن إلى الغابة البكر، وإذا كانت تلك الشركة لا تود أن تقلع عن ذلك الصراع المثيب ضد الخطيئة فما عليها إلا أن تضيف ذلك المبلغ إلى الربح والخسارة فينقص الكسب في سنة اثنين في المائة، فبذلك يكون مليون إنسان في مأمن من الأمراض الثقيلة، وذلك المبلغ الذي هو اثنان في المائة من الربح هو ثمن جراميق من المطاط تنقذ مليون فلاح من المرض الذي ينهك قواهم الحيوية فيعد فدية الملك القطن.
الفصل الثلاثون
يجلس القرفصاء على أرض الدلتا نساء وأولاد في الخريف، وعلى مدى البصر، فيقتطفون القطن، وثياب هؤلاء الخدم سود، والملك أبيض، ويعوم عليه غمام خفيف، ويلوح كل شيء فيه خفيفا وغير حقيقي، ويفكر في لعب طائر وحلم صبي.
ولذلك النبات طبع تابع لهواه، ويقاوم ذلك النبات في شبابه، ويظهر أنه يريد متاع الحياة، ويظهر في دور خفته أنه معد لعيش ناعم، وهو يجهل ما ينتظره من محن، وهو ذو مصير أقسى من مصير النباتات الأخرى، وليست عصارته هي التي تحول، وإنما أليافه هي أكثر ما فيه إحساسا.
وفي شهر مارس يحفظ النساء هنالك أول الفروخ من الرياح وراء الأخاديد الصغيرة، ثم يطهرن الأرض من العشب ويحللنها ويرفعن السوق إلى طرف الأخدود حتى تنمو طليقة بعد مجاوزته، وفي مئات الساعات، وفي الصيف بأسره، تعنى أيدي أولئك النساء السمر بتلك الأوراق فيزلن الديدان الصغيرة، فكأن ذلك مدرسة قائمة على الصبر والمحبة كالتي يربى فيها الأولاد، ويتساءل الرجال في جميع ذلك الصيف عن سقي ذلك النبات القصف ذي الأزهار الصفر بأحسن الوسائل.
وأخيرا تنتفخ البذور في جوزة القطن، ولا تغفل العيون عن تلك الحقول الواسعة؛ وذلك لأنه لا بد من جني الثمر في الوقت المناسب إذا ما أريد بلوغ القطن غاية النعومة، ويقع ذلك في كل مكان معا. وبما أن محصول الصناعة العظيمة هذا لذلك البلد بأجمعه يباع في زمن واحد فإن روح البت لدى رؤساء المشروع تمثل دورا مهما لما يتطلبه ذلك من صبر وتجربة أكثر مما يتطلبه أمر الشاي والقهوة. وإذا كان لون القطن الخام قشديا سر الفلاح؛ لأن هذا هو أحسن الألوان ، ولو كان الفلاح قادرا على رؤية ذلك بالمجهر لاطلع على متانته من برمته الدقيقة، كما يطلع - بعد الفحص الكيماوي - على نوع السيلولوز
1
من الانتفاخات البرميلية الشكل.
ويعرف الفلاح أن الليف الطويل هو الذي يعيش منه، وينطلق الفلاح بكلمة «سكلاريدس» مع الاحترام كما كان أجداده يدعون إيزيس ثم ديميتر
2
بعد زمن، ويجهل في البرصة كون أحسن القطن المصري يحمل اسم هذا الزارع اليوناني الذي أنتجه في سنة 1906، ولما لاقاه سماسرة من الأمريكيين في الإسكندرية ارتجفوا كما لو كان إلها هابطا إلى الأرض؛ وذلك لأنهم وجدوا أنفسهم أمام الإله الذي قرن باسمه أثمن قطن في العالم.
أجل، إنه لا شيء يفوق الليف الطويل غير ما ينتج في جنوب فلوريدة وفي أريزونة، بيد أن ذلك لا ينال هنالك إلا قليلا، ولا تستطيع مصر أن تنافس البلدان الكبرى التي تنتج القطن إلا بفضل ذلك الليف ما دامت مصر لا تنتج سوى سبعة في المائة من المحصول العالمي، وما يبديه القطن المصري من مقاومة بين الهند والولايات المتحدة فلأن كيريوس سكلاريدس حلم بليف الأربعين مليمترا وبقمصان النساء الحريرية قبل أن يكتشفهما.
وإذا عدوت الوافدات المخربة كالتي وقعت سنة 1922 وجدت المضاربة على القطن (وهذا هو التعبير الذي يجب استعماله من أجل ذلك البلد الصغير الذي يعيش من القطن) هي التي تعين مصير المصريين، وتجعلهم يزجون بأنفسهم في الأزمات العالمية التي لا تجد لهم أقل تأثير فيها ما داموا منعزلين في واحتهم الأفريقية عزلا من السلاح مهددين بمزاحمة النيل الأعلى تابعين لدولة كبيرة.
ومن الواضح أن الاستنفاد يزيد في العالم، وأن طمع صانعي النسائج يوحي إلى الناس باحتياجات جديدة؛ فبلغ ما استهلكه العالم خمسة عشر مليون رزمة في سنة 1904 بعد أن كان سبعة ملايين رزمة سنة 1884، والآن يأمل أصحاب الملايين أولئك أن يقضوا باسم الآداب العامة على عري الزنوج الصارخ؛ لأنه لا يلبس من القمصان سوى اثنين في المائة منهم.
ويجهل الفلاح الشائب تلك الحوادث، غير أن ابنه يقرأ في الصحف كون القوم قد طمروا بالمحاريث البخارية محاصيل القطن في ملايين الأفدنة من تكساس، وكونه افتتح أكبر سد في العالم على نهر السند ليزيد محصول القطن 23 في المائة على حين يصدر مرسوم في الولايات المتحددة قائل بتقليل محصول القطن 25 في المائة. وإذا كان الفلاح لا يدرك سبب هذا التناقض فإنه ليس أكثر غباوة من المسئولين عنه، ولكن الفلاح يشعر بأنه ضحية، وإذا ما أدت آلهة بعيدة إلى خفض ثمن القطن في عامين من ثمانية عشر بنطا إلى سبعة بنطات في كل رطل منه.
وإذا حدث أن زرعت سلطات آسية الحمر التي حذرته جريدته منها أنواعا جديدة من القطن تعطي من جوز القطن مائتين بدلا من ثلاثين فإن الفلاح يدرك أن ذلك يقضي على أمله في أن يعوض من حماره، وفي دفع الأجرة المدرسية عن ابنه، وفي تأدية ثمن غرامات حشيشه القليلة.
ويغدو الفلاح دربا في فن البيع حفظا لنفسه، ويفصل النساء بأصابعهن الدقيقة وبصبرهن الذي لا ينفذ القطن الأبيض عن الأجزاء السمر الرديئة، ويبعد النساء الأوراق الجافة من القطن الأبيض وينظفنه قبضة بعد قبضة، ويجعلن منه كدسا بعد كدس، وذلك على حين يجمع الأولاد نفايته في سلال، ثم يأتي الرجال بالمحصول على ظهور الحمير إلى ساحتهم حيث ينظف مرة أخرى بما هو أتم من ذلك، وحيث يكون في مأمن من الريح التي تثير الأوراق الجافة فتعيدها إلى الخلف، وتبدو الدلتا معمورة بزمر من النساء اللابسات ثيابا سودا والمرضعات أطفالا أحيانا والمنحنيات تحت الشمس وبين التلال البيض، فكأنهن إلهات هيئن لينفضن أغطية سعداء هذا العالم، وتبصر هياكل غريبة سودا منتصبة بين تلك النسوة، تبصر مناخل يدق عليها القطن ثم تغطى لكيلا تسقط الأوراق اليابسة عليها بقوة الريح، ثم يغدو كل شيء نظيفا، وتبدو الملكة بيضاء في نهاية الأمر.
واليوم يوم الفلاح، فقد وصل تاجر الإسكندرية بسيارته ليدقق في البضاعة ويبتاعها. والفلاح كان يغبن دوما، والآن تنشر أسعار القطن في القرية يوميا، ومع ذلك يختلف الثمن تبعا للنوع. وإذ إن القطفة الأولى هي خير القطفات فإنها تكون في الكدس الأخير، ويشق التاجر طريقا له بين الأكداس بصعوبة على حين يغمس البائع يديه السمراوين فيها فيرفع سبائخ
3
بيضا تطير في الهواء وتهبط، ويمتدح نوعها على أنها أروع ما في العالم، أو في الدلتا على الأقل، ويجعل الله شاهدا وتصب القهوة غير مرة في الفناجين؛
4
وذلك لأن كل صفقة تنطوي على خطر؛ وذلك لأنه يتعذر تحقيق حال المحصول بأسره، ويعرف المشتري أن البائع يخفي السبائخ التي هي من النوع الرديء فلا يفتأ يظهر احترازه، ويحيط بهما نحو أربعين من الجيران.
وكلما طال الجدال طاب البيع، ويلبس جميع هؤلاء جلابيب زرقا وطرابيش حمرا، فيبدو التاجر بقبعته المصنوعة من الموص وزيه الأوروبي مثل وحش يحف ممسكوه من حوله، ويعرض ثلاثين مرة أو أربعين مرة فيضرب بذلك عرض الحائط مع السخرية، ويقبل ذلك بغتة ويهتف الحضور كما في دار التمثيل.
وتحل ساعة الكاتب، ولا يزال الكاتب يشابه تمثال القاهرة القديم المسمى «شيخ البلد»؛ وذلك لأن الفلاحين الذين أخرجوه من الأرض قالوا بصوت عال إنه يشابه عمدتهم، ويكتب العقد على ورق مستو فوق يده اليسرى وبقلم من قصب في الغالب، ويبين الثمن مقابلا لعدد معين من القناطير فيكون ثلث المبلغ بدلا من القطن الخالص وثلثاه بدلا من زيت القطن وعليق البذر، ويقبض الثمن أوراقا نقدية في الحال، وعلى المشتري أن يضع توقيعه على الكبير من هذه الأوراق ما دام الفلاح لا يثق بإمضاء محافظ البنك الأهلي.
وتملأ الأكياس منذ زمن، ويصل المقبن مع مساعديه، ويأتي هؤلاء الثلاثة راكبين حمارا، ويجيء رابع حاملا منصبا،
5
ويرد خامس حاملا القب، ويقبل سادس حاملا التوابع والعيارات، ويطوف المنصب في الدلتا كالعنكبوت الكبير بحثا عن أكياس لوزنها.
وأخيرا يكون الوزن قد تم بعد تناول مقدار من السغاير والقهوة، وتحمل الحمير والجمال أكياس القطن وتؤخذ إلى حيث تحلج، وتبتعد الحيوانات على السد، وينظر الفلاح وزوجه وأولاده صامتين، عن غم على ما يحتمل، إلى الملك الأبيض الذي يتوارى بعد أن قضوا ساعات طويلة عاملين في سبيله تحت الشمس، ويشد الفلاح بيده السمراء على الأوراق النقدية، ولكن على أن ينتقل معظمها إلى دائنيه، ولكن على ألا يبقى له غير أقصى ما يحتاج إليه منها، ولا تجد سوى القليل منهم من يعد نفسه سعيدا.
ويجلس أمام آلات الحلج بنات وصبيان في الثانية عشرة من العمر صفر سعلة تغشاهم طبقة من الزغب فتملأ أيديهم الرشيقة تلك الآلات بالقطن مع اجتناب الدواليب والمناخل، ولا تصلح إلا ببطء معامل الدلتا القديمة التي تضمحل فيها الرئات لعدم التهوية
6
وبسبب غبار القطن، ومع ذلك تجد مهنة العبيد هذه أقل قسوة من مهنة الكبس في الإسكندرية، ويجب - قبل أن يرسل القطن المنقى إلى تلك الجزيرة الشمالية ليحول إلى نسائج فيها - أن تقلل أجرة النقل بحرا فتشد الرزم وينقص وزن الرزمة من سبعة قناطير إلى خمسة قناطير، ولا تقوم الآلة البخارية بذلك وحدها، فلا بد من الاستعانة بذرعان الإنسان وسيقانه.
وذلك منظر باخوسي،
7
فبين ضجيج الآلات في مخازن مصنوعة من حديد مضلع، وذات أبواب زلاقة ومشتملة على أسلاك ومصفحات وألواح معدنية، يصرخ مئات من الرجال والنساء ويغنون ويحركون أيديهم وأرجلهم في الهواء، ويموجون ويشتدون ويتحركون كمن يريد أن يباري الآلة مع اغتطاء شعورهم وقمصانهم وذرعانهم وسيقانهم بغمام من زغب أبيض، ويطرح النساء آخر أثر للأوراق بحركة سريعة، ويقف رجال أمام المنخل فتجر السبائخ بسير
8
نحو فتحة عظيمة مربعة وتدحرج فيها قبل أن تضغطها الآلة، وتبدو عصائب على جباه الرجال اللابسين قمصا زرقا، ويخبطون نعالهم منشدين بيتين من الشعر دون سواهما على نغم عريفهم محافظين بذلك على انسجامهم حتى وقت استراحتهم. وقد أريد توزيع أقنعة مجهزة بقطن طبي رطيب فرفضوا ذلك مفضلين عليه الغناء.
تنقية القطن.
وهم إذا ما وثبوا في الكتلة الزغبية من ذلك الصندوق المصفح بالحديد، وإن شئت فقل في زوبعة من ثلج، شعروا بالسبائخ تحت أخمص قدمهم القاسية، ويدوسون السبائخ لاهثين منشدين، ويغوصون راقصين في الزغب الحوام الدوام الذي ينفذ في كل مكان، ويسعلون ويتخازرون
9
ويمسحون أعينهم منشدين على الدوام، وهم يبدون - بالعصائب الكهنوتية التي على جباههم - كقرابين نازلين إلى القبر ضحي بهم في سبيل إله خفي جبار مجهول لدى الفلاح مالك لما وراء البحار.
والآن ينتهي التكريم فيخرج الرجال الثمانية من الخابية الحديدية ويثبون على أطرافها ويداومون على خبط نعالهم وعلى الغناء ثم يعودون إلى سابق سيرتهم، كأنهم من أنصاف العبيد وأنصاف الكهان، وينزلون عشر مرات في الساعة ومائة مرة في اليوم إلى ذلك القبر المحاط بزبد أبيض.
وينتظر المشترون في قاعة كبيرة مجاورة لمحال الكبس تلك لابسين معاطف بيضا حفظا لبذلاتهم الأنيقة، ويدققون في نماذج القطن المضغوطة ويجسونها ويمطون خيطانها ويطرحونها، وهم يعرفون جميع أنواعها لما هم عليه من خبرة، ولكنهم يجهلون كيف بذر القطن وعني به وجني، ولكنهم لا يعرفون - أو قد نسوا - أن كل رزمة تنطوي على عمل أسرة مشدود، والآن عاد النبات لا يكون موجودا، والآن تبدو الأنواع وحدها للأعين.
ويلوح أن أسماء آلهة تدوي من خلال القاعة كأسماء أبطال الأساطير التي تعوم على مجرى الزمن فتذكرنا بأعمالهم، فيقال: «ساكل (سكلاريدس!) أصولي! أشموني! كازولي! بليون! زاجوره!»
وتسمع أحكام في وسط الضوضاء يخيل إلى الإنسان أنها صادرة عن قضاة جهنم أكثر من صدورها عن تجار، فيقال: «لون جميل، لون خضيب، عرق حسن، عرق قوي، عرق حريري!»
وهنا يختم الدور الأول من تاريخ الملك الأبيض، وهنا - في البرصة - تمحى حياة هذا النبات وأهمية أنواعه من ذاكرة الناس.
وتبصر تحت القبة جمعا مؤلفا من مائة شخص أو مائتي شخص صارخ على مكان مستدير تحيط به قضبان من حديد مشتملة على مصطبة يقف عليها رجلان صامتان يلاحظان سيل الناس مع اعتدال دم واستخفاف، والرجلان من السماسرة المحلفين، وهما يشاهدان هذا المنظر كل يوم، وهما يسمعان هذه العاصفة الهائجة منذ عشرات السنين فيلوح أنهما صارا أصمين بسببها، والحق أنهما الوحيدان اللذان يدركان شيئا من أمرها، والحق أنهما يكتبان بالطباشير - ومع اتزان - أرقاما وكسور أرقام على لوح أسود كبير، والحق أن سوق الإسكندرية التي يعنى فيها بعلامات القطن من دون أثمانه قد دحرت لصوص نهار الله هنا.
ويمسك بعضهم ببعض من أزرار الثياب ويتجاذبون من الشعر في بعض الأحيان، وتنفرد أسارير وجوههم من تصاعد الأرقام، ويحاولون إمساك ذراع أحد الرجلين الواقفين على المصطبة على حين تصدر عن هذا حركة يد نحو الخارج معناها «لكم»؛ أي «اشتريتم»، أو يعيد يده إليه فيعني هذا «منكم» أي «بعتم»، ومن ثم ترى في مصب النيل تمثيل مسكين لدور رمسيس من الساعة الحادية عشرة إلى الساعة الواحدة.
ولا تجد من هؤلاء الأشخاص من أبصر الزهر الأصفر لنبات القطن ولا المنخل المغطى بنسيج أسود، ولا الساحة المشتملة على أكداس القطن الأبيض، ولا القبان على منصبه، ولا الجمال ذوات الأحمال الرادمة، ولا يبالي هؤلاء الأشخاص بمن يغرقون في كبس القطن، ولا بالأنواع التي لها من الأسماء ما تدعى به الآلهة، فهؤلاء من المقامرين الذين يرجون وقت الإغلاق ارتفاع الأسعار إذا ما أرادوا البيع وهبوطها إذا ما أرادوا الشراء. ولما تنبت البضاعة التي يضاربون عليها، ولما يلق في الأرض بذرها، وهذه المصافق - مع ذلك - هي التي تؤثر في حياة طبقات بأسرها وشعوب بأجمعها.
وتتوارى النباتات والقنوات خلف مساوف بعيدة، ولا ترى أسدادا ولا كوى لزراعة القطن، وتنار مصر بالكهربا، والعالم شبكة أسلاك بين ليفربول وبمبي تنقل في كل صباح - من خلال البحار - سير الأسعار في البرصة، وعاد النيل لا يكون غير أسطورة، فلا عروق، ولا أمم، ولا طبقات، ولا قطنيات، ولا منسوجات، ولا لغات.
الفصل الحادي والثلاثون
تمر جماعة من النحام
1
فوق قبة البرصة آتية من رشيد، وتتجه طائرة مع ازورار نحو الجنوب الغربي؛ وذلك لأنها تجد على شواطئ بحيرة مريوط وفي مناقع مصب النيل ألوفا من إخوانها، هي وردية كالشفق، هي تخفي عنقها الرائع تحت أجنحتها، هي تقف على أرجلها السود، هي تنظر من الشاطئ إلى الكراكي التي تعود من الحقول المحصودة إلى الماء وتدنو مع انحناء رائع، ويبصر دجاج الماء الأسود، عن غير رضا، إلى القاق،
2
إلى هذه الآفاق، فيلوح أنه يفضل عليه خطاف البحر وزمار الرمل اللذين يظلان ضمن نظامهما الوثيق دوما، وتقوم زماميج
3
الماء البيض فوقه بطيران عجيب مع تحليق، وتجد فوق الجميع عقاب البحر راصدا ساكنا، ثم ينقض بغتة كدبوس ويرتفع ثانية إلى ما لا نهاية له مع سمكة مهتزة بين براثنه.
وترى تحت شجر الجميز بلاشين رمادية كبيرة وحيدة مغتمة، وترى على أغصان السنط العارية تقريبا بلاشين بيضا لطيفة واضعة رءوسها تحت أجنحتها فتبدو كأنها أزهار كبيرة بيض. وإن الأمر لكذلك إذ تسمع أجمل صوت من خلال الصمت وفوق حجارة ثمينة؛ إذ تسمع تغريد الخضيري؛ إذ ترى الخضيري الجميل الجناح والطويل المنقار يطير فوق الماء رويدا رويدا.
وهنالك الخطاطيف ذوات الانعكاس الفولاذي، وهي قد أتت من الشمال بعد أن جاوزت البحر فارة من البرد وبعد أن قضت فصل الصيف على شواطئ إنكلترة على ما يحتمل، وهي تحوم بين مكان ومكان هلوعا، وهي لن تبقى هنا، فالجنوب يجتذبها. واليوم تحاول أن تقوم بالقسم الثاني من رحلتها الكبرى، وتغرد على مهل، وتذهب متبعة الطرف الأخضر من الوادي حتى يعود تكوين النهر ويهديها إلى الطريق بعرضه المهيب.
وتخاف الخطاطيف مغر
4
البادية لأنها نذير الجوع، وتسير نحو مجرى النيل الفوقاني فتطير فوق العاصمة وجسورها وقصورها وقلعتها وتبصر رءوس السكر على حدود الصحراء، كما تبصر أبا الهول رابضا حارسا أمام أعلاها، وتنتصب الأعمدة والتماثيل والمسلات في الوادي الأخضر، وتمر سفن مع أشرعتها البيض حاملة قللا صفرا مكدسة، وتمشي الجمال على الضفاف قطرا قطرا، وتسير حمير سمر أمامها عدوا، ويضحك الأولاد العراة قهقهة، وتبكي السواقي في جميع الوادي؛ وتدير الدواليب ألوف الأزواج من الثيران، ويرافقها الرجال منشدين، وتهتك صرصرة الصقر حجاب السماء وتخيف خطاطيف الشمال.
والنيل يهدر تحت تلك الجماعات الفارة إلى الجنوب، والشلالات الأولى تغطى بالزبد، فقد فتحت جميع الكوى واستردت الطبيعة حقها، وتداوم الخطاطيف على اتجاهها نحو الجنوب من خلال السهل الخالي حيث تطمر نخل وقرى، وتبلغ الخطاطيف صخورا سودا راشحة كما تبلغ ألوف جزيرات الشلال الثاني، وهي تتبع مساقط الماء المتعاقبة في العطفة الكبرى، ثم تتبع العطفة الصحراوية الصفراء العظيمة التي هي على شكل
S ؛ وذلك لأنها تجد على طول النيل فقط ما تحتاج إليه في طيرانها إلى مدى بعيد من الجنوب، وتجد الخطاطيف المهاجرة في الخرطوم، حيث يأتي أكثر الأخوين نفرة ورجولة بأمواجه الصاخبة من الجنوب الشرقي، جنة الطيور الثانية التي تعقب جنة الدلتا.
ويظل معظم الخطاطيف هنا حيث جميع ما حلم به في الشمال، ويستأنف بعض الجوالة منها طريقه يوما بعد يوم إلى ما وراء السهب الأصفر. وهنالك تبصر على الصخر السمر تماسيح ساكنة تحت شمس الجنوب، ويبصر خروج الأسد مساء من الأجمة متوجها إلى النهر، وهنالك تبدأ المناقع ويغيض الماء وتكثر القنوات ويبدو منظر منقطع النظير لتلك المهاجرة من الشمال، يبدو الفيل مع أنثاه وصغاره ذات صباح ذاهبا بطالا نحو النيل، وتذعر جماعة السياح تلك فتطير إلى الجنوب.
المؤلف في أبي سنبل.
وتلوح بحيرات كبيرة في هذه المرة، ويبرز بلد غني رطيب دائم الخضرة، ويتحول السهل العريض إلى جنة واسعة كما في الدلتا، وينمي السماء الماطر ويزهر ما لا حد له من النبات فتجد الخطاطيف مرعى أمينا دائما وتحوم ذات صباح مغردة فوق مساقط ماء كبيرة. ويظهر فم وردي عظيم مفتوح ويخرج ماء صعدا من منخر بقر ماء متثائب مكسال مع رأس مرفوع فوق الماء ذي خوار وصفار، ويدب الفزع في الخطاطيف فتلجأ إلى غيضة، وهي تسمع وترقب مرتجفة، فعند أرجلها يولد النيل.
والنهر يظهر نفسه بهدير.
ناپیژندل شوی مخ