16
الجديد مترقبا سفينة الخلاص من الشمال، ومن المحتمل أن كان غير منتظر شيئا، ومن المحتمل أن كانت تواثبه نبوة الشهداء الذين لا يكادون يرغبون في الإنقاذ، ويقطع خط البرق ويمنع من كل اتصال بالعالم وينقاد لتردده النفسي وينشئ يوميته، ويرسم فيها صورا هزلية للورد كرومر وللوزراء، ويعجب بمهارة خصمه مع خلو من الغرض أفلاطوني كثير على قائد ومع محافظة على نشاطه مفكرا في حال جميع من وثقوا به.
حتى النيل يخيس
17
بالعهد في نهاية الأمر، فقد هبط مستواه أكثر مما في فصول الشتاء الماضية، وينهار ما بناه غوردون من متاريس
18
وأسوار، ويكون منقع واسع بينها وبين النهر، فلا يكون للمحصورين وقاية به إلا عند عدم جفافه، وتزيد المجاعة وتكتظ الشوارع بجثث الناس والجمال، وتحوم العقبان فوق الخرطوم ولا يصل إليها صفير باخرة. ويريد غوردون أن يرى المحصورين أن قائدهم لا يخاف قنابل المهدي فينير نوافذ قصره، وتبيض جميع خصل غوردون الشقر في الأسابيع الأخيرة من حياته ويكتب قبل خاتمته بأسبوعين إلى أخته قوله: «قد يكون هذا آخر كتبي إليك، فقد عوق المدد كثيرا، والله هو المسير، وليكن ما يريد، أجدني سعيدا تماما ... وأحمد الله على أنني لم أدخر وسعا في القيام بالواجب.»
ويغدو الجيش الصغير الآتي من الشمال سيئ الحظ على النهر، ويتردد عدة أيام ، ويطلق الدراويش - العارفون بدوافع النهر والمتوارون في الأيكة - نارا على البواخر فيكرهون ملاحيها على الوقوف في كل ساعة، ويتخذ هؤلاء الملاحون خشب النواعير وقودا لقدور بواخرهم، ثم يسير ذلك الجيش إلى الخرطوم من عقدة النهر في الجنوب قاطعا الصحراء، ويبصر الخليفة سير ذلك الجيش بضعة أيام فيأمر بالهجوم على المصر المحصور منذ ثلاثمائة يوم، ويرى غوردون في الصباح - ومن سطح قصره - زحف جيش الدراويش نحو الخرطوم.
وكان غوردون قد قرر قتل نفسه في مثل تلك الحال، وتحول وساوسه الدينية دون ذلك، ويود أن يموت شهيدا، ويبدو هادئا هدوءا تاما، ويذكر سمو مقامه ويلبس بذلته الرسمية البيضاء ويتقلد سيفه ومسدسه وينزل من الدرج حين اقتحام العدو باب قصره، ويتردد جميع الدراويش بضع ثوان عن خوف، ثم يصرخ أحدهم قائلا: «اقتلوا عدو الله!» ويرمى برمح، وينظر إلى ذلك شزرا، ويذكر شهود دعوا إلى مجلس القضاء فيما بعد أن شق لنفسه طريقا قابضا على سيفه متوجها إلى الباب حيث خر صريعا بطعنات سيوف وخناجر، ويؤتى برأسه إلى المهدي ثم يوضع على رأس مزراق أمام منزله ويرجم، وكان هذا فاتحة مذبحة عظيمة في الخرطوم.
زوبعة رمل فوق الخرطوم.
ناپیژندل شوی مخ