وإذ إن المهن في السودان لم تدخل ضمن دوائر من الاختصاص حتى ذلك الحين فإن أعرابيا ذا أنف كبير وذا آثار من الجدري فيه صار عامل دعايته ورئيس حربيته، واسم هذا الأعرابي عبد الله (التعايشي)، وكان أكبر من المهدي سنا، وكان في سنة 1881 في الثالثة والثلاثين من عمره، وكان من البقارة التي هي أشد قبائل النوبة بأسا، وما حدث من فتن في السنين العشر الأخيرة فأدى إلى استئصاله هو وعشيرته، ويشق طريقه ويبدو مستعدا لكل شيء، ويهب نفسه لهذا الولي الجديد، ويقوم الحسام مقام الكلام، ويدوي طبل الدراويش الكبير في طول السودان وعرضه، ويكون آية انتقال طبيعي بين السيف والإعلان.
وهنالك يجب أن يعنى بالمظاهر والبزات التي هي أداة كل حركة شعبية لدى الهمج من البيض والسود على السواء، ويطلق اسم الدراويش على اسم الجيش الذي أوجده المهدي بسرعة، ويلبس الدراويش «الجبة»، وهي قميص أبيض مزين بقطع من نسج بقع، ويؤدي الدراويش يمين مبايعة المهدي بشبك الأيدي، ويرافق خليفة المهدي، عبد الله، زعيمه في كل مكان، ويتقدمه علم أسود ويصلي بصوت عال، ولا يبالي بغير أمر واحد، بغير محاربة «الترك» الذين أذلوا قبيلته، والذين نشأ عن دفعه ضرائب إليهم نزع قطاعه منه، ومع ذلك تدعو الطبول مختلف العشائر، خارج الأكواخ، فتتضخم الكتائب المقدسة بذلك، وتكاد تقطع حناجر الدراويش بفعل العدو والصراخ، ويصابون بضرب من الهذيان عند رفع أصواتهم بذكر أسماء الله.
وهذا الزعيم القومي، وهذا القائل بالعودة إلى العادات القديمة البسيطة، وهذا المهدي، كان يسجن جميع من لا يؤمنون به ويصادر أموال جميع من لا يمدونه بالمال، وكان ينصب المشانق على حين تشد مئات السياط المصنوعة من جلد وحيد القرن
4
إيمان الناس برسالته، وكان الولي مع ذلك، وكان المئات من الوعاظ يذيعون أنه الإمام الثاني عشر الذي أخبر به القرآن (!) والذي ينتظره الإسلام منذ اثني عشر قرنا لينقي الإيمان ويحمل الناس على مذهبه، ويعلن الجهاد، وتجد النساء على بيض دجاجهن رموزا، فيعلن الدراويش أنها الحروف العربية الأولى لاسم الزعيم الأكبر، وكان المهدي يعمل لإثارة زائريه بابتسامه ودموعه. ومما ذكره غوردون في يوميته أن المهدي كان يضع فلفلا تحت أظافره كما اكتشف ذلك أحد اليونان، فما كان عليه إلا أن يمر يده على عينيه حتى يبكي متى أراد.
وكان المهدي يجعل الأسطورة ملائمة له عند عدم انطباقها عليه. أجل، إنه كان غير مؤثر في الفرات فلم يجف عند ظهوره ولم يدل على الذهب في مجراه، غير أنه أبصر في إحدى الرؤى تحول جبل ماسه من سلسلة درن،
5
الذي كان يجب أن يخرج منه المهدي الجديد، إلى جبل قدير بالسودان، ويذهب محمد إلى الجبل غير الحقيقي محاطا بجمع عظيم؛ أي يرافقه جيش مع نساء وأولاد، ويعسكر هذا الجمع في السفوح ويوقد النساء والأولاد نار الحمية بأصواتهم بدلا من أن يكونوا سبب إزعاج، ويهب المهدي عباده أجمل بناتهم ليكن أزواجا له، وتنصب خيامهن حول خيمته في الجبل، ويداوم على تمثيل دور الولي مع ذلك!
وبعض مواعظ المهدي في الجبل شفهي، وبعضها خطي، ويذيع المهدي هذه المواعظ في بلاغات لاحقة تنقل بقنوات
6
ناپیژندل شوی مخ