ثم قالوا ما المعنى بقولكم الافتراق والاشتراك قضية عقلية إن عنيتم به أن الشيء الواحد يعلم من وجه ويجهل من وجه فالوجوه العقلية اعتبارات ذهنية وتقديرية ولا يقتضي ذلك صفات ثابتة لذوات وذلك كالنسب والإضافات مثل القرب والبعد في الجوهرين فإن عنيتم بذلك أن الشيء الواحد تتحقق له صفة يشارك فيها غيره وصفة يمايز بها غيره فهو نفس المتنازع فيه فإن الشيء الواحد المعين لا شركة فيه بوجه والشيء المشترك العام لا وجود له البتة.
وقولهم إن نفي الحال يؤدي إلى حسم باب الحد والحقيقة والنظر والاستدلال بالعكس أولي فإن إثبات الحال التي لا توصف بالوجود والعدم وتوصف بالثبوت دون الوجود حسم باب الحد والاستدلال فإن غاية الناظر أن يأتي في نظره بتقسيم دائر بين النفي والإثبات فينفي أحدهما حتى يتعين الثاني ومثبت الحال قد أتى بواسطة بين الوجود والعدم فلم يفد التقسيم والإبطال علما ولا يتضمن النظر حصول معرفة أصلا ثم الحد والحقيقة على أصل نفاة الأحوال عبارتان عن معبر واحد فحد الشيء حقيقته وحقيقته ما اختص في ذاته عن سائر الأشياء ولكل شيء خاصية بها يتميز عن غيره وخاصيته تلزم ذاته ولا تفارقه ولا يشترك فيها بوجه وإلا بطل الاختصاص وأما العموم والخصوص في الاستدلال فقد بينا أنه راجع إلى الأقوال الموضوعة لها ليربط شكلا بشكل ونظيرا بنظير والذات لا تشتمل على عموم وخصوص البتة بل وجود الشيء وأخص وصفه واحد.
قال المثبتون نحن لم نثبت واسطة بين النفي والإثبات فإن الحال ثابته عندنا ولولا ذلك لما تكلمنا فيها بالنفي والإثبات ولم نقل على الإطلاق أنه شيء ثابت على حياله موجود فإن الموجود المحدث إما جوهر وإما عرض وهو ليس أحدهما بل هو صفة معقولة لهما فإن الجوهر قد يعلم بجوهريته ولا يعلم بحيزه وكونه قابلا للعرض والعرض يعلم بعرضيته ولا يخطر بالبال كونه لونا أو كونا ثم يعرف كونه لونا بعد ذلك ولا يعرف كونه سوادا أو بياضا إلا أن يعرف والمعلومان إذا تمايزا في الشيء الواحد رجع التمايز إلى الحال وقد يعلم ضرورة من وجه ويعلم نظرا من وجه كمن يعلم كون المتحرك متحركا ضرورة ثم يعلم بالنظر بعد ذلك كونه متحركا بحركة ولو كان المعنيان واحدا لما علم أحدهما بالضرورة والثاني بالنظر ولما سبق أحدهما إلى العقل وتأخر الآخر ومن أنكر هذا فقد جحد الضرورة ونفاة الأعراض أنكروا أن الحركة عرضا زائدا على المتحرك وما أنكروا كونه متحركا وأنتم معاشر النفاة وافقتمونا على أن الحركة علة لكون الجوهر متحركا وكذلك القدرة والعلم وجميع الأعراض والمعاني والعلة توجب المعلول لا محالة فلا يخلو إما أن توجب ذاتها وإما شيئا آخر وراء ذاتها ويستحيل أن يقال توجب ذاتها فإن الشيء الواحد من وجه واحد يستحيل أن يكون موجبا وموجبا لنفسه وإن أوجب أمرا آخرا فذلك الأمر إما ذات على حيالها أو صفة لذات ويستحيل أن تكون ذاتا على حيالها فإنه يؤدي إلى أن تكون العلة بإيجابها موجدة للذوات وتلك الذوات أيضا علل وهو محال فإنه يؤدي إلى التسلسل فيتعين أنه صفة لذات وذلك هو الحال التي أثبتناها فالقسمة العقلية ألجأتنا إلى إثباتها والضرورة حملتنا على أن لا نسميها موجودة على حيالها ومعلومة على حيالها وقد يعلم الشيء مع غيره ولا يعلم على حياله كالتأليف بين الجوهرين والمماسة والقرب والبعد فإن الجوهر الواحد لا يعلم فيه تأليف ولا مماسة ما لم ينضم إليه جوهر آخر وهذا في الصفات التي هي ذوات وأعراض متصور فكيف في الصفات التي ليست بذوات بل هي أحكام الذوات.
وأما قولكم أنه راجع إلى وجوه واعتبارات عقلية فنقول هذه الوجوه والاعتبارات ليست مطلقة مرسلة بل هي مختصة بذوات فالوجوه العقلية لذات واحدة هي بعينها الأحوال فإن تلك الوجوه ليست ألفاظا مجردة قائمة بالمتكلم بل هي حقائق معلومة معقولة لا أنها موجودة على حيالها ولا معلومة بانفرادها بل هي صفات توصف بها الذوات فما عبرتم عنه بالوجوه عبرنا عنه بالأحوال فإن المعلومين قد تمايزا وإن كانت الذات متحدة وتمايز المعلومين يدل على تعدد الوجهين والحالين وذلك معلومان محققان تعلق بهما علمان متمايزان أحدهما ضروري والثاني مكتسب وليس ذلك كالنسب والإضافات فإنها ترجع إلى ألفاظ مجردة ليس فيها علم محقق متعلق بمعلوم محقق.
مخ ۴۶