فاسمع يا أيها الراهب الكريم نصيحتي، واعلم بأنك إذا كنت بدخولك إلى الدير تطمح إلى رتبة أسقفية، لا تنال مرادك؛ لأن رؤساءنا يشق عليهم أن يروا في هذه الوظائف رجلا مهذبا متنورا مثلك لئلا يكون سلاحا ضدهم، ولذلك هم لا يرقون إليها إلا البارعين في التمليق والمداهنة ولو كانوا من الجهلاء - وإذا كنت تريد أن توسع مداركك وتهذب نفسك، فالدير لا يبلغك أمنيتك ولا يقضي حاجتك ولا يشفي أوامك ولا يبرد ظمأك - وإذا كنت تريد الشهرة وجميل الذكر فلا تبك على الذين استراحوا من عناء الحياة؛ لأنك من القائلين بالبقاء، بل تعال وابك حال أمتك وانظم أبياتك الشعرية في معنى تأخرها وانحطاطها لعلك تستطيع أن تنهض عزائمها وتبث فيها روح الحماسة والغيرة والشوق إلى الإصلاح العملي، فتقوم طالبة إياه وأنت أمامها تنشد الأشعار وتشدد القوى.
وأما إذا كنت أيها الراهب خيالا أو أرواحا جئت من عالم الأرواح لتسأل عن سلامة إخوتك في هذه الأديرة التي ينعق فيها بوم الجهل والعماية، فاذهب من حيث جئت وبلغ الذين أرسلوك بأننا في حال تستحق النوح والرثاء، وسلام عليك من.
حبيب شنودة
واعظ أقباط أسيوط
وما اطلع حافظ على هذه الرسالة حتى هزته عوامل الطرب؛ لأنها غدت من أكبر الأسباب التي تمهد له الظهور وهو كل ما يشتهيه من هذه الحياة الدنيا، وما كانت أعماله كلها إلا عن رغبة منه في الاشتهار بين العالمين بالاقتدار الغريب والذكاء النادر.
ولذلك عمد إلى قلمه وهو أطوع إليه من ظله، ورد على ذلك الواعظ ردا جميلا نثبته هنا بنصه قال:
من الراهب إلى الواعظ
تعسا لي أنا الضعيف الشقي، فررت من الحياة العالمية وأوصابها، وابتعدت عن ضوضاء الكون ومشاغله، وانزويت في هذه البرية النائية لكيلا تشوش علي جلبة القوم، ولا تلهيني ملاهي العالم وزخارفه. تركت كل شيء واحتقرت كل ما يظنه الغير لذة، وعفت كل ما يزعمونه مجدا وترفا، واقتنعت بهذا السكون المخيم على كل ما حوالي وهذا القفر الخالي إلا مما يدل على مجد الرب وقدرته العظيمة. فهل هدأ خاطري وسكن اضطراب قلبي وارتاح ضميري، وانقطعت عن الافتكار في العالم ومشاغله؟ هل صرت جديرا بهذا الاسم أحمله وبهذا الطقس يكون شعاري؟ هل أنا راهب بكل معاني الكلمة لا يبكتني ضميري على ذلة وتتعفف نفسي عن الخطية؟
الإنسان إنسان ما دام على الأرض ضعيف بطبيعته خاضع لأحكام البشر وإن اعتزلهم، معرض للسقوط في كل لحظة من حياته غير معصوم من الزلل، وله في كل يوم تجارب ودروس جديدة لا تنتهي إلا في ساعته الأخيرة.
هذا ما ناجيت به نفسي بعد أن اطلعت على رسالتك أيها الأخ الواعظ، ولست أدري كم كان أسفي لتلك الهفوة التي عرضتني لتقولات العالم وأحوجتني للخوض مع البعض في أخذ ورد. فانعم بك يا سيدي من واعظ كريم، فقد ألفت نظري إلى مركزي ورددتني عن سبيل لا يليق بمثلي، وسددت في وجهي بابا لو ولجت منه خرجت عن سواء السبيل. فتأكد أن العظة من هذه الوجهة كانت بالغة وحلت من نفسي مكانا ساميا وفي عزمي أن لا أعود فأطيع شعوري مرة ثانية، ولا أضعف لهذه العواطف التي تدفعني لمثل ما عيرت به.
ناپیژندل شوی مخ