وصدق إنني حاسبت نفسي قبل إرسال هذه الأبيات، فرأيت لها قصدا يحمد، فأقدمت غير هياب ولم يدر في خلدي أن هذه الدمعة تبقى ولا تضيع بين مثيلاتها. فعذري أن الفادح عظيم جزعت له الأمة المصرية عن بكرة أبيها، اللهم إلا من كان مجردا عن الشعور والإحساس وكان قاصرا عن إدراك فضل الرجل على أمته. وقد سرني ما رأيته من مشاركة الطائفة إخوانهم في الحزن على زعيم الحركة الوطنية، ومحيي الشعور والوجدان في هذه النشأة الجديدة المباركة. وتراني وطنيا أرفع صوتي مع أبناء طائفتي ندبا على هذا البطل، وأذرف لفقده الدمع السخين الدامي، فمن شأن أن يكون له هذه المنزلة في القلوب والمحبة في كل الأفئدة والتبجيل والإكرام عند مواطنيه، فليحذ حذوه وليتبع طريقه وخطته الشريفة. وكان غرضي من النشر أن أظهر عواطفنا لإخواننا في الوطن والمصالح، وتأثرنا لهذا الخطاب، وأبرهن لهم على اشتراكنا معهم في السراء والضراء، وهذا مما يقوي بيننا عرى الألفة التآخي.
وقد لاحظت علي يا سيدي أنني ابتعدت عن العالم ولم تعد لي علاقة به، فلم بكيت مع الباكين ولم رثيت مع الراثين، والجواب على ذلك سهل تراه إذا قلبت طرفك في أنحاء وادي النيل، ولم تجد أخا للفقيد في قوة الإرادة أو مثيلا في مضاء العزيمة والتفاني في خدمة بلاده منزها عن كل غرض. ولو وقع بصرك على من يحلف الثاوي ويحمل حمله الثقيل أكتب لي فأمسح دمعتي وأقصف قلمي وأخفت صوتي وأعود إلى سكوني الأول، ناعم البال وأختفي إلى الأبد. وأملي عظيم في رحمة الرب فهو لا يعاقبني ويسامحني في هذه اللحظات التي قضيتها في رثاء الصحافي الكريم.
وقد رأيتك تعجب وتسائل نفسك لم لا أصرف فكري إلى ندب ورثاء الأمة القبطية وهي في حال يشمت ولا يسر وأنها، إلخ، فاعلم يا رعاك الله أن الطائفة حية بمشيئة الرب خالدة إلى اليوم الأخير، ولا أظن أن الرب يسمح بموت من أتى لخلاصهم ووهبهم الحياة الأبدية.
وفي الناس من يقول إن هذه الحياة ظاهرة، وأن الطائفة وضعت قدمها على أول درج الحياة الراقية وابتدأت تسير على أثر الأمم الحية، وقد أصبح بعون الله بين أبنائها كثيرون ممن تعلموا ونبغوا وظهروا في مصاف الفحول والمقتدرين، لا تنقصهم إلا إرادة كإرادة مصطفى كامل، ويعوزهم عزمه وثباته وتفانيه في خدمة أمته، فترى الطائفة منهم خيرة رجال لعمل رقيها ولم شعثها وتقوية رابطتها.
وفينا من يقول إن الحياة كامنة غير ظاهرة، تحتاج لمن يبعثها وينشط بها من مكمنها، فقد طال عليها القدم، ولو عرف هؤلاء أن من أبناء الطائفة حضرة الواعظ البليغ وأمثاله لغيروا معتقدهم وعرفوا بخطاهم واتفقوا مع أصحاب الرأي الأول، على أن الطائفة حية تنمو وترقى بقدر ما تسمح به سنة الطبيعة والظروف السياسية الحالية، ولا تفتقر إلى الثبات والمحبة والإخلاص والتعاضد والتكاتف في هذا المعترك الحيوي. لا يعوزها إلا أمثال حضرة الفاضل ويراع كيراعه فيؤثر على القلوب الصخرية التي قال عنها. يؤثر على الحائدين فيردهم إلى أحضان الكنيسة أمهم الشفيقة الحنونة، يؤثر على الزائغين والمتكبرين فيهديهم سواء السبيل، يؤثر على كل أفراد الطائفة وعلى الأخص من سمت مراكزهم في الهيئة الاجتماعية فنسوا واجبهم نحو الله، يؤثر على الجميع فتمتلي بهم المعابد ويراها آهلة معمورة فلا يعود يذكرها آسفا حزينا.
ومتى سادت المحبة وأخلصت القلوب تزول كل أسباب الشقاق الذي يجزئ القوى فتضعف وتتلاشى. تزول كل أسباب التنافس وتتفاهم الرؤساء والأعضاء فترى الأمة كما تحب وتشاء. وجولة من قلمك أيها الواعظ المجيد وعظة من عظاتك البليغة، بل صيحة من صيحاتك تبعث في هذه الجمعيات روح الحياة العاملة وتوقظها من سباتها وتنشط بها من خمولها.
لا تيأس يا سيدي ولا تكتئب ولا تضعف نشاط نفسك بهذه التصورات، ولا تنظر للطائفة بمنظرك المصغر ولا من جهتها المعلولة، وابعث الأمل إلى الأفئدة والقلوب لتنتعش وتبتهج فتتقوى وتشتد، فبغير الأمل لا عيش ولا حياة.
سيدي الواعظ، لست أدري كيف طاوعتك نفسك ولم يعصك اليراع عند ذكر ما ذكرت بخصوص القسس والرعاة، هل فاتك وأنت المتعلم المهذب أن مقام الكهنوت جليل لا يرمى بمثل هذه المطاعن، ولو صحت وهو أرفع من أن يكون قلمي الضعيف محاميا عنه فاسمح لي أن أقتصر هنا على هذه الكلمة وأن أذكرك فقط بأن الرعاة ترعى الخراف الوديعة لا الذئاب الجارحة. وأما الرؤساء الذين نعتهم بما شئت فإنهم أقدر مني على تبرير أنفسهم، ولا أخالك إلا تضرب على وتر دق عليه كثيرون قبلك فباتت النغمة غير مقبولة، والعاقل الحكيم من لا يندفع لذم من ذمه غيره إلا إذا خبر الحال بنفسه.
وأما الدير ومشقة البقاء به والعيش فيه، فأراك غير عادل في التشنيع في أخلاق سكانه متحامل على من به، وربما خبرت نفرا منهم فشمت الجميع مثله. وإنك تتوهم أن قضاء الحوائج الضرورية للإنسان من خبز وإصلاح طعام وما أشبه مما يحط من شأن الرهبنة أو يجعلها شاقة خشنة لا تحتمل، أو يتعاظم عليها المتعلم المهذب وإن كان متنغما مترفها. فهل غاب عنك أن المرء في حاجة للطعام في كل بقعة من بقاع الأرض، فإن لم يجد من يقوم بتهيئته قضاء لنفسه. والراهب لم يقم بالدير ليتنعم ويخدم بل ليتواضع وينقشف ويترك كل أباطيل المجد الباطل والعظمة والكبرياء، فأتوسل إليك أن لا تصور الوسط الذي أعيش فيه بمثل ما صورته وأملته عليك مخيلتك وجسمه الخيال، فإن ما تراه قبرا تدفن فيه المواهب العقلية يراه مثلي ملجأ يفر إليه من شرور العالم، ويهرب إليه من ذلك الوسط المملوء بالمفاسد والمنكرات.
هذا المكان الذي تخاله يقضي على الذكاء الفطري والجد والعزيمة هو المكان الذي يتجرد فيه العقل من كل فكرة شيطانية خبيثة، ويتفرغ لإدراك الحقائق الغامضة وأسرار الكون الغريبة، هذا المكان الذي تظن أن حظ من يدخله الخمول والجمود هو المكان الذي يرد إليه الظمآن ويستقي ماء حياء من شربه لا يعطش إلى الأبد. والمرء إن كان ذا عزيمة ثابتة وإرادة قوية لا يحتاج للتشجيع الذي تفوه عنه، فهو ثابت بطبعه قوي بإرادته، ومحبة الرب والخوف منه تزيد الثبات ثباتا والقوة قوى.
ناپیژندل شوی مخ