بل إن حافظا برز على المسيحيين بين إخوانه الطلبة؛ لأنه منذ صغره شب على الدهاء والمكر، فكان يحتال على بعض الفرير المدرسين بأنه مغرم في الدين المسيحي، وأنه عازم على اعتناقه مظهرا رغبا كبيرا في التبحر فيه والتضلع منه، فكان أساتذته يحسنون معاملته ويهدونه من حين إلى آخر عدة هدايا نفيسة ترغيبا له في إنفاذ وعده، فكان حافظ يأخذ تلك الهدايا شاكرا لسانه ضاحكا في قلبه من صفاء سريرة المدرسين من أولئك الإخوة الطيبين.
ومما زاد الفرير تعلقا به ما رأوه من ذكائه ونباهته، وما كان يقول لهم من أنه ابن غني كبير يملك الألوف من الجنيهات، ولا وارث له سواه، فهو إذا ما اندمج في سلكهم آل كل ذلك الإرث العظيم إلى طغمتهم غنيمة باردة ولا مراء.
وقد استعان حافظ أيضا على تلقين الرهبان التعليم المسيحي بالكتب الفرنساوية الكثيرة التي وضعها الجزويت والفرير لإفادة الطالبين، فظن الرهبان أجمعون أن حافظا من كبار علماء اللاهوت وأنه في النصرانية من الأساتذة المبرزين.
ومن ذلك الحين غدا حافظ أو الراهب غبريال موضوع إجلال وإكرام الرهبان أجمعين، ولقد تمكن بعد ذلك من الاحتيال على ساكني ذلك الدير النائي، وأخذ مبلغ عظيم بحيلة نادرة لا محل لذكرها الآن؛ لأنها ستكون فاتحة الجزء القادم مع تلك الحيلة الغريبة التي أتاها على نيافة أسقف دير المحرق مما سيدعو إلى دهش جميع القارئين.
وقبل أن ينتقل الراهب غبريال إبراهيم من دير الأنبا بيشوي إلى الدير المحرق، حدثت بينه وبين أحد وعاظ الأقباط مناظرة أدبية نأتي على بعضها دليلا على اقتدار حافظ نجيب في عالم الأدب، وإظهارا لبراعته في صناعة التحبير.
ذلك أن حضرة الأديب حبيب أفندي شنودة واعظ أقباط أسيوط راعه أن يكون داخل الأديرة القبطية راهبا أديبا مثل الراهب غبريال ولا يعمل على خدمة طائفته، وظن أنه طامح إلى رتبة أسقف، فبدد له هذا الأمل لأسباب واضحة كلها في الرسالة الآتية التي كتبها ذلك الواعظ الأديب إلى بطل كتابنا حافظ أفندي نجيب في 24 فبراير سنة 1908 على صفحات الوطن، قال:
من الواعظ إلى الراهب
عزتلو الفاضل صاحب الوطن
اسمح لي أن أسطر على صفحات جريدتك الحرة هذه الكلمات التي أحرجت صدري وجعلتني في موضع الحائر المندهش، فقد قرأت القصيدتين الشعريتين اللتين جادت بهما قريحة راهب الدير في رثاء فقيد الوطن مصطفى باشا كامل، فأخذني العجب من كل جانب وقلت في نفسي إذا كان هذا الراهب الشاعر من سكان الأديرة حقيقة، فما الذي أثار فيه ثائر الوجد والحزن وهو في داخل «صومعته» بعيدا عن مشاغل هذا الكون، عاملا آناء الليل وأطراف النهار على التعبد والسجود، لا يلهيه عن ذلك لاه، ولا يشغله شاغل، وهو يعلم - حفظه الله وأبقاه - أن أهل العالم أحق من سواهم بأن يبكوا بعضهم بعضا ويرثوا بعضهم بعضا، وأما هو فقد زهد في العالم واحتقر الحياة الزائلة وفضل أن يكون قريبا من الملأ الأعلى بأصوامه وتهجداته وعبادته، ثم إذا كان هذا الراهب قادرا على النظم بمثل ما رأيت وكان رقيق العواطف لهذه الدرجة، فلماذا لا يصرف ذكاءه وشاعريته إلى رثاء أمته القبطية التي يرى حالها أمامه مما تنفطر له المرائر: يرى معابد مهجورة، ومدارس قاصرة، ومجالس نائمة، وجمعيات خاملة، وأفرادا مفككة عصبيتهم، منحلة رابطتهم، يرى قسوسا ورعاة جهلاء لا علم في رءوسهم ولا حرارة في قلوبهم لرعاية القطيع المسلم إليهم، ويرى رؤساء مشتغلين بهموم هذا العالم وأباطيله، شغوفين بأمواله وزخارفه، ويرى أمورا أكثر مما ذكرت تستحق البكاء ويخلق بها الندب والرثاء. فلماذا لا يوقف هذه الموهبة الشعرية على نظم المراثي المحزنة التي تؤثر على القلوب لعله يعيد إلينا عهد أرميا، ومراثي أورشليم، فيلين لنا هذه الأفئدة القاسية التي قدت من الصخور؟
على أني لا أتمالك نفسي من الشك في وجود راهب بالأديرة كهذا الشاعر، ولو أني قد صدقت الوطن وما نشره من جواب رئيس الدير؛ لأني أعتقد أن أديرتنا كانت في الزمان القديم مدارس حافلة بالعلم والعلماء، وأما الآن فأضحت مدارس لتعليم الطباخة والخبازة والزراعة والأعمال الشاقة الخشنة التي لا يستطيع راهب متعلم أن يحتملها، بل إذا وجد راهب ذكي وقصد أن ينتفع بالدرس والمطالعة في الكتب النفيسة المذخرة في مكاتب الدير، وهي الآن طعام للعث والجرذان، لم يلق غير الامتهان والاحتقار من إخوانه الرهبان، وربما من رئيس الدير فيعيرونه بأنه طامح للأسقفية ويقضون على مواهبه شر قضاء - اللهم إلا إذا كان راهبنا الشاعر قد تعلم في المدارس العالية قبل دخوله إلى الدير، وفي هذه الحالة فإني أوجه إليه أشد كلمات العذل والتأنيب على رضائه بالبقاء في وسط منحط ليس فيه أقل واسطة لتشجيع ذي المواهب والمعارف الدينية والدنيوية، فهو عبارة عن قبر تدفن فيه صفات الذكاء الفطري والجد والعزيمة، وتنبت على جوانبه حشائش الخمول والجمود وقساوة الطباع وفظاظة الأخلاق، مع أن كثيرين من الرهبان هجروا الأديرة لسوء حالتهم، وهم الآن يطوفون البلاد ويجوسون خلال الديار فارين من وجه ذلك العيش الخشن والمعاملة القاسية، وبعضهم ترك الدير ساعيا وراء جمع المال، حتى إذا قضى منه وطره طلق البتولية وعاد رجلا علمانيا.
ناپیژندل شوی مخ