وفيه مطالب الأول في نقل الخلاف في مسائل هذا الباب اعلم أن هذا أصل عظيم تبتني عليه القواعد الإسلامية بل الأحكام الدينية مطلقا وبدونه لا يتم شي ء من الأديان ولا يمكن أن يعلم صدق نبي من الأنبياء على الإطلاق على ما نقرره فيما بعد إن شاء الله وبئس ما اختار الإنسان لنفسه مذهبا خرج به عن جميع الأديان ولم يمنه أن يعبد الله تعالى بشرع من الشرائع السابقة واللاحقة ولا يجزم به على نجاة نبي مرسل أو ملك مقرب أو مطيع في جميع أفعاله من أولياء الله تعالى وخلصائه ولا على عذاب أحد من الكفار والمشركين وأنواع الفساق والعاصين فلينظر العاقل المقلد هل يجوز له أن يلقى الله تعالى بمثل هذه العقائد الفاسدة والآراء الباطلة المستندة إلى اتباع الشهوة والانقياد إلى المطامع. قالت الإمامية ومتابعوهم من المعتزلة إن الحسن والقبح عقليان مستندان إلى صفات قائمة بالأفعال أو وجوه واعتبارات يقع عليها وقالت الأشاعرة إن العقل لا يحكم بحسن شي ء البتة ولا بقبحه بل كل ما يقع في الوجود من أنواع الشرور كالظلم والعدوان والقتل والشرك والإلحاد وسب الله تعالى وسب ملائكته وأنبيائه وأوليائه فإنه حسن. وقالت الإمامية ومتابعوهم من المعتزلة إن جميع أفعال الله تعالى حكمة صواب ليس فيها ظلم ولا جور ولا كذب ولا عبث ولا فاحشة والفواحش والقبائح والكذب والجهل من أفعال العباد والله تعالى منزه عنها وبري ء منها. وقالت الأشاعرة ليس جميع أفعال الله تعالى حكمة وصواب ]وصوابا[ لأن الفواحش والقبائح كلها صادرة عنه تعالى لأن لا مؤثر غيره. وقالت الإمامية نحن نرضى بقضاء الله تعالى حلوه ومره لأنه لا يقضي إلا بالحق. وقالت الأشاعرة لا نرضى بقضاء الله كله لأنه قضى الكفر والفواحش والمعاصي والظلم وجميع أنواع الفساد. وقالت الإمامية والمعتزلة لا يجوز أن يعاقب الله الناس على فعله ولا يلومهم على صنعه ولا تزر وازرة وزر أخرى. وقالت الأشاعرة لا يعاقب الله الناس إلا على ما لم يفعلوه ولا يلومهم إلا على ما لم يصنعوه وإنما يعاقبهم على فعله فيهم وسبه وشتمه ثم يلومهم عليه ويعاقبهم لأجله ويخلق فيهم الإعرا ثم يقول فما لهم عن التذكرة معرضين ويمنعهم من الفعل ويقول ما منع الناس أن يؤمنوا. وقالت الإمامية إن الله تعالى لم يفعل شيئا عبثا بل إنما يفعل لغرض ومصلحة وإنه إنما يمرض لمصالح العباد ويعوض المؤلم بالثواب بحيث ينتفي العبث والظلم. وقالت الأشاعرة لا يجوز أن يفعل الله شيئا لغرض من الأغراض ولا لمصلحة ويؤلم العبد بغير مصلحة ولا غرض بل يجوز أن يخلق خلقا في النار مخلدين فيها من غير أن يكونوا قد عصوا أو لا. وقالت الإمامية لا يحسن في حكمة الله تعالى أن يظهر المعجزات على يد الكذابين ولا يصدق المبطلين. ولا يرسل السفهاء والفساق والعصاة. نهج الحق ص : 75و قالت الأشاعرة يحسن كل ذلك. وقالت الإمامية إن الله سبحانه لم يكلف أحدا فوق طاقته. وقالت الأشاعرة لم يكلف الله أحدا إلا فوق طاقته وما لا يتمكن من تركه وفعله ولامهم على ترك ا لم يعطهم القدرة على فعله وجوزوا أن يكلف الله مقطوع اليد الكتابة ومن لا مال له الزكاة ومن لا يقدر على المشي للزمانة الطيران إلى السماء وأن يكلف العاطل الزمن المفلوج خلق الأجسام وأن يجعل القديم محدثا والمحدث قديما وجوزوا أن يرسل رسولا إلى عباده بالمعجزات ليأمرهم بأن يجعلوا الجسم الأسود أبيض دفعة واحدة ويأمرهم بالكتابة الحسنة ولا يخلق لهم الأيدي والآلات وأن يكتبوا في الهواء بغير دواة ولا مداد ولا قلم ولا يد ما يقرؤه كل أحد وقالت الإمامية ربنا أعدل وأحكم من ذلك. وقالت الإمامية ما أضل الله تعالى أحدا من عباده عن الدين ولم يرسل رسولا إلا بالحكمة والموعظة الحسنة. وقالت الأشاعرة قد أضل الله كثيرا من عباده عن الدين ولبس عليهم وأغواهم وأنه يجوز أن يرسل رسولا إلى قوم لا يأمرهم إلا بسبه ومدح إبليس فيكون من سب الله تعالى ومدح الشيطان واعتقد التثليث نهج الحق ص : 76و الإلحاد وأنواع الشرك مستحقا للثواب والتعظيم ويكون من مدح الله تعالى طول عمره وعبده بمقتضى أوامره وذم إبليس دائما في العقاب المخلد واللعن المؤبد. وجوزوا أن يكون فيمن سلف من الأنبياء ممن لم يبلغنا خبره من لم يكن شريعته إلا هذا.وقالت الإمامية قد أراد الله تعالى الطاعات وأحبها ورضيها واختارها ولم يكرهها ولم يسخطها وأنه كره المعاصي والفواحش ولم يحبها ولا رضيها ولا اختارها. وقالت الأشاعرة قد أراد الله من الكافر أن يسبه ويعصيه واختار ذلك وكره أن يمدحه قال بعضهم أحب وجود الفساد ورضي بوجود الكفر. وقالت الإمامية قد أراد النبي ص من الطاعات ما أراد الله عز وجل وكره من المعاصي ما كرهه الله عز وجل. وقالت الأشاعرة بل أراد النبي ص كثيرا مما كرهه الله عز وجل وكره كثيرا مما أراد الله. قالت الإمامية قد أراد الله تعالى من الطاعات ما أراده أنبياؤه وكره ما كرهوه وأراد ما كره الشياطين من الططعات ولم يرد ما أرادوه من الفواحش. وقالت الأشاعرة بل قد أراد الله سبحانه ما أرادته الشياطين من الفواحش وكره ما كرهوه من كثير من الطعات ولم يرد ما أرادته الأنبياء من كثير من الطاعات بل كره ما أرادته منها. وقالت الإمامية قد أمر الله عز وجد بما أراده ونهى عما كرهه. وقالت الأشاعرة قد أمر الله عز وجل بكثير مما كرهه ونهى عما أراد. فهذه خلاصة أقاويل الفريقين في عدل الله تعالى. وقول الإمامية في التوحيد يضاهي قولهم في العدل فإنهم يقولون إن الله عز وجل واحد لا قديم سواه ولا إله غيره ولا يشبه الأشياء ولا يجوز عليه ما يصح عليها من التحرك والسكون وإنه لم يزل ولا يزال حيا قادرا عالما مدركا لا يحتاج إلى أشياء يعلم بها ويقدر ويحيي وإنه خلق الخلق أمرهم و نهاهم ولم يكن آمرا وناهيا قبل خلقه لهم. نهج الحق ص : 78و قالت المشبهة إنه يشبه خلقه ووصفوه بالأعضاء والجوارح وإنه لم يزل آمرا وناهيا ولا يزال قبل خلق خلقه ولا يستفيد بذلك شيئا ولا يفيد غيره ولا يزال آمرا وناهيا ما بعد خراب لعالم وبعد الحشر والنشر دائما بدوام ذاته تعالى. وهذه المقالة في الأمر والنهي ودوامها مقالة الأشعرية أيضا وقالت الأشاعرة أيضا إنه تعالى قادر عالم حي إلى غير ذلك من الصفات بذوات قديمة ليست هي الله تعالى ولا غيره ولا بعضه ولولاها لم يكن قادرا عالما حيا تعالى عن ذلك علوا كبيرا. وقالت الإمامية إن أنبياء الله وأئمته منزهون عن المعاصي وعما يستخف وينفر ودانوا بتعظيم أهل البيت الذين أمر الله تعالى بمودتهم وجعلها أجر الرسالة فقال قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى. وقال أهل السنة إنه يجوز عليهم الصغائر وجوزت الأشاعرة عليهم الكبائر. ترجيح أحد المذهبين فلينظر العاقل في المقالتين ويلمح المذهبين وينصف في الترجيح ويعتمد على الدليل الواضح الصحيح ويترك تقليد الآباء والمشايخ الآخذين بالأهواء وغرتهم الحياة الدنيا بل ينصح نفسه ولا يعول على غيره ولا يقبل عذره غدا في القيامة أني قلدت شيخي الفلاني أو وجدت آبائي وأجدادي على هذه المقالة فإنه لا ينفعه ذلك يوم القيامة يوم يتبرأ المتبعون من أتباعهم ويفرون من أشياعهم وقد نص الله تعالى على ذلك في كتابه العزيز ولكن أين الآذان السامعة نهج الحق ص : 80و القلوب الواعية وهل يشك العاقل في الصحيح من المقالتين وأن مقلة الإمامية هي أحسن الأقاويل وأنها أشبه بالدين وأن القائلين بها هم الذين قال الله فيهم فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب فالإمامية هم الذين قبلوا هداية الله تعالى واهتدوا بها وهم أولو الألباب. ولينصف العاقل من نفسه إنه لو جاء مشرك يطلب ]وطلب[ شرح أصول دين المسلمين في العدل والتوحيد رجاء أن يستحسنه ويدخل فيه معهم هل كان الأولى أن يقال له حتى يرغب في الإسلام ويتزين في قلبه أنه من ديننا أن جميع أفعال الله تعالى حكمة وصواب وأنا نرضى بقضائه وأنه منزه عن فعل القبائح والفواحش لا تقع منه ولا يعاقب الناس على فعل يفعله فيهم ولا يقدرون على دفعه عنهم ولا يتمكنون من امتثال أمره أو يقال ليس في أفعاله حكمة وصواب وأنه يفعل السفه والفاحشة وأنه أمر بالسفه والفاحشة ولا نرضى بقضاء الله وأنه يعاقب الناس على ما فعله فيهم بل خلق فيهم الكفر والشرك ويعاقبهم عليهما ويخلق فيهم اللون والطول والقصر ويعذبهم عليها. وهل الأولى أن نقول من ديننا أن الله لا يكلف الناس ما لا يقدرون عليه ولا يطيقون أو نقول أنه يكلف الناس ما لا يطيقون ويعاقبهم على ترك ما لا يقدرون على فعله. وهل الأولى أن نقول أنه تعالى يكره الفواحش ولا يريدها ولا يحبها ولا يرضاها أو نول أنه يحب أن يشتم ويسب ويعصى بأنواع المعاصي ويكره أن يمدح ويطاع ويعذب الناس لما كانوا كما أراد ولم يكونوا كما كره. وهل الأولى أن نقول إنه تعالى لا يشبه الأشياء ولا يجوز عليه ما يجوز عليها أو نقول إنه يشبهها. وهل الأولى أن نقول إن الله تعالى يعلم ويقدر ويحيي ويدرك لذاته أو نقول إنه لا يدرك ولا يحيي ولا يقدر ولا يعلم إلا بذوات قديمة لولاها لم يكن قادرا ولا عالما ولا غير ذلك من الصفات. وهل الأولى أن نقول إنه تعالى لما خلق الخلق أمرهم ونهاهم أو نقول إنه لم يزل في القدم ولا يزال بعد فنائهم طول الأبد يقول أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة لا يخل بذلك أصلا. وهل الأولى أن نقول إنه تعالى تستحيل رؤيته والإحاطة بكنه ذاته أو نقول إنه يرى بالعين إما في جهة من الجهات له أعضاء وصورة أو يرى لا في الجهة. وهل الأولى أن نقول إن أنبياءه وأئمته منزهون عن كل قبيح وسخيف أو نقول إنهم اقترفوا المعاصي المنفرة عنهم وأنه يقع منهم ما يدل على الخسة والذلة كسرقة درهم وكذب وفاحشة ويدومون على ذلك مع أنهم محل وحيه وحفظة شرعه وأن النجاة تحصل بامتثال أوامرهم القولية والفعلية وفإذا عرفت أنه لا ينبغي أن يذكر لهذا السائل عن دين الإسلام إلا مذهب الإمامية دون قول غيرهم عرفت عظم موقعهم في الإسلام وتعلم أيضا بزيادة بصيرتهم لأنه ليس في التوحيد دليل ولا جواب عن شبهة إلا من أمير المؤمنين ع وأولاده ع أخذ وكان جميع العماء يستندون إليه على ما يأتي فكيف لا يجب تعظيم الإمامية والاعتراف بعلو منزلتهم فإذا سمعوا شبهة في توحيد الله تعالى أو في عبث بعض أفعاله انقطعوا بالفكر فيها عن كل أشغالهم فلا تسكن نفوسهم ولا تطمئن قلوبهم حتى يتحققوا جوابا عنها ومخالفهم إذا سمع دلالة قاطعة على أن الله عز وجل لا يفعل الفواحش والقبائح ظل ليله ونهاره مهموما مغموما طالبا لإقامة شبهة يجيب بها حذرا أن يصح عنده أن الله تعالى لا يفعل القبيح فإذا ظفر بأدنى شبهة قنعت نفسه وعظم سروره بما دلت الشبهة عليه بأنه لا يفعل القبيح وأنواع الفواحش غير الله تعالى فشتان بين الفريقين وبعد ما بين المذهبين ولنشرع الآن في تفصيل المسائل وكشف الحق فيها بعون الله ولطفه
المطلب الثاني إثبات الحسن والقبح العقليين
ذهبت الإمامية ومن تابعهم من المعتزلة إلى أن من الأفعال ما هو معلوم الحسن والقبح بضرورة العقل كعلمنا بحسن الصدق النافع وقبح الكذب الضار فكل عاقل لا يشك في ذلك. وليس جزمه بهذا الحكم بأدون من الجزم بافتقار الممكن إلى السبب وأن الأشياء المساوية لشي ء واح متساوية ومنها ما هو معلوم بالاكتساب أنه حسن أو قبيح كحسن الصدق الضار وقبح الكذب النافع. ومنها ما يعجز العقل عن العلم بحسنه أو قبحه فيكشف الشرع عنه كالعبادات. نهج الحق ص : 83و قالت الأشاعرة إن الحسن والقبح شرعيان ولا يقضي العقل بحسن شي ء منها ولا بحه بل القاضي بذلك هو الشرع فما حسنه فهو حسن وما قبحه فهو قبيح
وهو باطل من وجوه الأول
أنهم أنكروا ما علمه كل عاقل من حسن الصدق النافع وقبح الكذب الضار سواء كان هناك شرع أم لا ومنكر الحكم الضروري سوفسطائي.
الثاني
لو خير العاقل الذي لم يسمع الشرائع ولا علم شيئا من الأحكام بل نشأ في بادية خاليا من العقائد كلها بين أن يصدق ويعطى دينارا أو بين أن يكذب ويعطى دينارا ولا ضرر عليه فيهما فإنه يتخير الصدق على الكذب ولو لا حكم العقل بقبح الكذب وحسن الصدق لما فرق بينهما ولا اختار الصدق دائما.
الثالث
لو كان الحسن والقبح شرعيين لما حكم بهما من ينكر الشرع والتالي باطل فإن البراهمة بأسرهم ينكرون الشرائع والأديان كلها ويحكمون بالحسن والقبح مستندين إلى ضرورة العقل في ذلك.
مخ ۳۸