قال القاضي أبو القاسم علي بن المحسن بن علي التنوخي مؤلف كتاب الفرج بعد الشدة في كتابه: حدثني علي بن هشام قال: سمعت أبا الحسن علي بن عيسى يتحدث قال: سمعت عيد الله بن سليمان بن وهب يقول حدثني أبي قال: كنت وأبو العباس أحمد بن الخصيب مع خلق من العمال والكتاب معتقلين في يدي محمد بن عبد الملك الزيات في آخر وزارته للواثق، واشتد مرض الواثق، وحجب ستة أيام عن الناس، فدخل عليه أبو عبد الله أحمد بن أبي داود قاضي القضاة رحمه الله تعالى فقال له الواثق: يا أبا عبد الله وكان يكنيه: ذهبت مني الدنيا والآخرة، أما الدنيا فما ترى من حضور الموت، وأما الآخرة فما أسلفت من العمل القبيح، فهل عندك من دواء؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قد عزل محمد بن عبد الملك جماعة من الكتاب وغرك فيهم، وملأ منهم الحبوس، ولم يحصل من جهتهم على كبير شيء، وهو خلق كثير وراءهم ألف يد ترفع إلى الله عليك، فتأمر بإطلاقهم لترفع أيدي بالدعاء لك، فلعل الله تعالى أن يهب لك العافية فأنت محتاج في هذا الحال إلى أن تقل خصومك. فقال: نعم ما أشرت به، وقع إليه عني بإطلاقهم قال: إن رأى خطي عاند ولج، ولكن يغتنم أمير المؤمنين الثواب ويحمل على نفسه ويتساند ويوقع لهم بخطه، ففعل الواثق ذلك ووقع بخط مضطرب إلى ابن الزيات بإطلاقهم، وإطلاق كل من كان في الحبوس من غير استئمار ولا مراجعة. قال: يا أمير المؤمنين تقدم إلى الحاجب ايتاخ أن يمضي بالتوقيع إليه، ولا يدعه يعمل شيئا أو يطلقهم، وأن يحول بينه وبين الوصول إليك أو يكتب رقعة أو يشتغل بشيء البتة إلا بعد إطلاقهم، وإن لقيه راكبا في الطريق فينزله عن دابته ويجلسه، حتى ينتهي إلى أمرك. فتقدم الواثق إلى ايتاخ بامتثال ذلك فتوجه، فلقي ابن الزيات راكبا يريد الخليفة، فقال له: تنزل عن دابتك وتجلس على غاشيتك فارتاع وظن أن الحادثة قد وقعت به، فنزل وجلس على غاشيته. فوقفه على التوقيع فامتنع، وقال: إذا أطلقت هؤلاء من أين أنفق الأموال وأقيم الأنزال. فقال: لا بد من ذلك. قال: اركب واستأذنه، فقال: لا سبيل إلى ما ذكرت، قال: فدعني أكاتب، قال: ولا هذا. ولم يدعه يبرح من موضعه حتى وقع بإطلاق القوم عن آخرهم. فصار الحاجب إلينا، ونحن في الحابس أيأس ما كنا من الفرج، وقد بلغنا اشتداد علة الواثق وأرجف لابنه بالخلافة، وكان صبيا، فخفنا أن يتم ذلك فيجعل ابن الزيات للصبي شيخا ويتولى التدبير فيتلفنا وقد امتنعنا من الطعام والشراب لفرط الغم.
فلما دخل ايتاخ الحبس لم نشك أنه إنما حضر لبلية. فقال: البشارة بالإطلاق، وعرفنا صورة الحال وأطلقنا، فحمدنا الله تعالى، ودعونا لأحمد بن أبي داود والخليفة، وانصرفنا إلى منزلنا. فأقمنا لحظة ثم خرجنا فوقفنا لأحمد ابن أبي داود على طريقه ننتظر عوده من دار الخليفة. فحين رأيناه ترجلنا ودعونا له وشكرناه، فأنكر ذلك وأكبره ومنعنا من الترجل فلم نمتنع، فوقف حتى ركبنا وسايرناه، فأخذ يخبرنا بالخبر ونحن نشكره، وهو يستصغر ما فعل ويقول: " هذا أقل حقوقكم " وستعلمون ما أفعله مستأنفا، ورجع إلى دار الخليفة عشيا فقال له الواثق: قد تبركت برأيك يا أبا عبد الله ووجدت خفا من العلة ونشطت وأكلت وزن خمسة دراهم خبزا بصدر دراج. فقال له يا أمير المؤمنين تلك الأيدي التي كانت تدعو عليك غدوة، قد صارت تدعو لك عشية ويدعو لك بسببهم خلق كثير من رعيتك، إلا أنهم قد صاروا إلى دور خراب، وأحوال قبيحة، بغير فرش ولا كسوة ولا دواب، موتى جوعا وهزالا. قال: فما ترى؟ قال: يا أمير المؤمنين تستكمل نعمة الله تعالى عليك، وتكمل نعمتك عند هؤلاء القوم بما تفعله معهم. قال: وما ذك؟ قال في الخزائن والاصطبلات بقايا ما أخذ منهم، فلو أمرت أن ينظر في ذلك، فكل من وجد له شيء باق رد عليه، ويفرج لهم عن ضياعهم ليعيشوا بها، ويخف الإثم، ويتضاعف الدعاء، وتقوى العافية. قال: وقع عني بذلك فوقع عنه، فما شعرنا إلا وقد رجعت علينا نعمنا. ومات الواثق بعد ثلاثة أيام أو أربعة، وفرج الله عنا بابن أبي داود، وبقيت له هذه المكرمة في أعناقنا.
حكاية
</span>
مخ ۳۹