قيل لما حج الرشيد ورجع قافلا نزل الأنبار فدعا صالحا صاحب المصلى حين تنكر على البرامكة فقال له: أخرج إلى منصور بن زياد فقل له: قد صحت عليك عشرة آلاف ألف درهم فاحملها إلي من يومك هذا فإن هو دفعها إليك كاملة قبل مغيب الشمس من يومك هذا وإلا فاحمل إلي رأسه، وإياك ومراجعتي في شيء من أمره. قال صالح: فخرجت إلى منصور وهو في الدار فعرفته الخبر فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون ذهبت والله نفسي، ثم حلف أنه لا يعرف موضع ثلاثمائة ألف درهم فكيف عشرة آلاف الف درهم، فقال له صالح: خذ في عملك، فقال له: امض بنا إلى منزلي حتى أوصي وأتقدر في أمري، فمضينا، فما هو إلا أن دخل حتى ارتفع الصراخ من منازله وحجر نسائه، فأوصى وخرج وما فيه دم، فقال " صالح ": امض بنا إلى أن أتى يحيى بن خالد فلعل الله يأتينا بفرج من جهته. فمضى معه فدخل على يحيى وهو يبكي، فقال له يحيى: ما وراءك؟ فقص عليه القصة، فقلق يحيى لأمره وأطرق مفكرا، ثم دعا خازنه فقال له: كم عندك من المال؟ قال: خمسة آلاف ألف درهم، قال: أحضرني مفاتيحها فأحضره إياها، ثم وجه إلى الفضل ولده: " إنك كنت أعلمتني، فداك أبوك " أن عندك " ألفي ألف درهم وددت أنك تشتري بها ضيعة، وقد وجدت لك ضيعة يبقى ذكرها وشكرها، وتحمد ثمرتها، فوجه إلينا بالمال، فوجه به ثم قال للرسول: امض إلى جعفر فقل له: ابعث إلي، فداك أبوك، بألف ألف درهم لحق لزمني فوجهها إليه. وقال صالح: هذه ثمانية آلاف ألف درهم، ثم أطال في إطراقه لأنه لم يكن بقي عنده شيء، ثم رفع رأسه إلى خادم له فقال: امض إلى دنانير فقل لها وجهي " إلي " بالعقد الذي كان أمير المؤمنين وهبه لك فجاء به، فإذا عقد " عظيم " كعظم الذراع، فقال لصالح: اشتريت هذا للرشيد بمائة ألف وعشرين ألف دينار، فوهبه الخليفة لدنانير، وقد حسبناه " عليك " بألفي درهم، وهذا تمام المال فانصرف وخل عن صاحبنا لا سبيل لك عليه. قال صالح: فأخذت ذلك ورددت منصورا معي. فلما صرنا بالباب أنشأ يقول متمثلا:
فما بقي علي تركتماني ... ولكن خفتما صرد النبال
فقال صالح: ما على الأرض كلها رجل أكرم من رجل خرجنا من عنده، ولا سمعت بمثله فيمن مضى، ولا يكون " مثله " قيمن بقي، ولا على ظهر الأرض رجل أخبث سريرة ولا أردأ طبعا من هذا النبطي إذ لم يشكر من أحياه. قال: ثم صرت إلى الرشيد فقصصت عليه قصة المال، وطويت عنه. قال منصور لأني خفت إن سمعه أمر بقتله. فقال الرشيد: أما أنا قد علمت أنه إن نجا لم ينج إلا بأهل هذا البيت. وقال: اقبض المال واردد العقد على دنانير فإني لم أك أهب هبة فترجع إلي. قال صالح: فلم أطب نفسا بترك تعريف يحيى ما قال منصور، فقلت: لما رأيته بعد أن أطنبت في شكره ووصف ما كان منه: لقد أنعمت على غير شاكر قابل أكرم فعل بألأم قول قال: وكيف ذلك؟ فأخبرته بما قال " وما كان منه " فجعل والله يطلب له المعاذير ويقول: يا أبا علي إن المنخوب القلب ربما سبقه لسانه بما ليس في ضميره، وقد كان الرجل في حال عظيمة، فقلت: والله ما أدري من أي أمر بك أعجب أمن أوله أم من آخره لكنني أعلم أن الدهر لا يخلف مثلك أبدا.
حكاية
</span>
مخ ۳۸