فلا عجب إذا هو صارح يومئذ الناس بما في نفسه من ذلك كله؛ لأنه لم يكن بالرجل المزدهي صاحب الخيلاء، ليس له من ذلك غير الفرح به والتهافت عليه، ولكنه كان من بداية حياته العملية رجلا متزنا أريبا قوي الفطنة، مواجها الحقائق، لا يمس عظمته مس غرور، ولا يخدعه شيء من الخارج عما في دخيلة ذاته، وإنما يأبى إلا الصراحة والقول الحق والرأي الجهير.
ولا عجب إذا هو في يوم مقدمه من سفره قد ذهب رأسا ليزور سعدا في قبره؛ لتكون التحية من وراء الصفائح والجنادل، وبينهما برزخ لا يلتقيان، ولكن روحيهما على بعد النوى وطول الشقة تتجاوبان. وفي وسط سكون رهيب، وموقف حزن عميق، والأعين بالدموع سحاحة، والنفوس من جلال المشهد في خشوع، وقد خيم جلال الموت فوق جلال العظمة، وتماثل صمت الحياة بصمتة الأبد - وقف مصطفى بين نوح يغالبه وبكاء يتغلب عليه، واصفا نكبة مصر وأساها، مشفقا من التبعة ووطأتها، قائلا بين إجهاش ونحيب:
كان سعد يحمل العبء عنا جميعا، وقد ألقاه الآن علينا جميعا، إن سعدا يريد منا العمل، إنه يريد من هذه الملايين أن يعملوا، فلنكن جميعا ملتفين حول روحه، إن روحك يا سعد أمامنا ... أنت الإمام دائما ...
آه يا سعد! ... لقد استرحت يا سعد وتركتنا نتعب، تركت الحمل لأبنائك كلهم، كنت زاهدا في الدنيا، وها أنت الآن في الزهد الأخير، لم تتم بعد مهمتك، ولكن روحك ستتمها معنا. إننا جميعا على عهدك حتى الممات، وإذا متنا فإن ذرارينا سيقتفون الأثر. سنعمل حتى نصل إلى ما كنت تصبو إليه لتستريح، وقد كنت تعمل ونحن مرتاحون، فإن نلنا المبتغى استرحنا واسترحت، وإن لم ننله واسترحنا، جاهد أبناؤنا من بعدنا ...
سنكون جميعا كتلة واحدة ويدا واحدة؛ لنعمل مجتمعين عمل سعد منفردا، وسنلتف حول روح سعد ليستريح في مرقده، وسنجتمع كلنا، لا يشذ منا أحد، نجتمع حول مبادئك يا سعد ونسير على طريقك القويم، أما سحر بيانك وقوة حجتك التي كانت تبهر السامعين، فعزاء لنا فيها جميعا، وصبرا جميلا على فقدها. إن قلوبنا قوية ومتجهة إلى مصر التي كنت تحبها وتهش لذكر استقلالها.
إن سعدا لم يكن رئيسي، بل كان أبي، ولقد عاشرته في المنفى فرأيت فيه حنو الآباء على الأبناء. وما كان سعد ليهتز لخطب أبدا، لقد كانوا يأخذونه من بيننا، وينقلونه من منفى إلى منفى، وكانت الكلمات التي يقولها وداعا لنا:
ستعودون أنتم إلى مصر لتتموا عملي، أما أنا فأحب أن أموت بعيدا عن بلادي، حتى تتأجج الوطنية في قلوب بنيها»، ثم كان يقول: «قد يجمع الله الشتيتين بعدما
يظنان كل الظن أن لا تلاقيا»
سنجتمع معك يا سعد إن شاء الله في دار الخلد بعد العمل للاستقلال، وسنبذل جهدنا لتحقيق غايتك، ونعاهدك أمام قبرك الكريم على المضي في الجهاد، ونرجو الله أن يثمر عملنا قريبا، حتى تستقر روحك وتهدأ في عالمها الأعلى، فإننا نشعر أنها ستظل مشرفة علينا، ترقب جهودنا، وتغذي نفوسنا، حتى ننال الاستقلال التام ...
وقفة مصطفى النحاس بقبر سعد.
ناپیژندل شوی مخ