ولكن كان من المشقة على الرجل الذي هيأته الأقدار ليخلفه على الموضع ويشغل المكان من بعده أن زعيما كسعد تقدمه، وقائدا وطنيا عظيما كسعد ظهر قبله، وأن ذلك قد يفتح على أبواب من المقابلة، ووجهات من الموازنة، قبل أن يستقر به موضعه، وتظهر فعاله، وتتجلى مزاياه، وتتكشف مواهبه، ويبدي ما عنده من جديد.
لقد كانت مصر في فجيعة المصاب بذهاب سعد ومواجع الأسى لفقده، وقد كانت من قبل تحسبه حيا أبدا، ولا تتصور الموت يوما مدركه، تتمثل زعيمها الراحل في كل لحظة من لحظاتها ، وتتخيله في غدواتها وروحاتها، وتحد عليه أبلغ الحداد، وتتصور جميع فعال بطولته وأداتها، وسائر مزايا زعامته وصفاتها، ولكنها مع ذلك كله، إذ بويع بالزعامة بعده الرجل الأوحد الذي كان خليقا بها، والشخص الذي اختارته الأقدار قبل اختيار الناس له، وقفت تتنفس الصعداء مستريحة لهذا الاهتداء الموفق، مطمئنة إلى هذا الاختيار الحكيم، وكانت قد نسيت لحظة حملت رفات سعد إلى مثواه وهي في جنة الأسى وهزة الصدمة ووقع المصاب، أن أحدا خليق بمكانه حقيق بموضعه، وأن الأمر سينتقض من بعده، ومحل القيادة العامة سوف يظل شاغرا، وأن الحركة الوطنية ستروح معدمة من الرأس القائد، واليد القابضة، والقوة الدافعة، والمرشد الأمين.
ولكن لم تكد الصدمة تخف رويدا حتى بدأت اللهفة تخف شيئا فشيئا، ومضت الحيرة تذهب قليلا قليلا، وإذا اسم «مصطفى النحاس» يتحير على الشفاه، وتجري به الألسنة، ويدور في المجامع، ويطوف الندوات، فيلاقي الرضا، ويجد القبول، ويشهد الإجماع عليه والاتفاق، ويبتسم الناس بمرارة عاجبين لأنفسهم، كيف كانوا لهذه الشخصية الصالحة الموافقة غير ذاكرين.
وكان مصطفى النحاس عن الديار غائبا يوم وفاة سعد، فبوغت بالنبأ العظيم وهو في أوروبا أفجع المباغتة، ونزل منه الخبر الصاعق أرهب منزل؛ لأن المرض الذي أصاب سعدا لم يطل عليه، والعلة التي عاجلته لم تستبق لها بوادر وسمات غير كلام سعد نفسه في ختام الدورة البرلمانية التي سبقت مرضه، فقد كان من خلف ألفاظه أو في تضاعيف كلماته إيذان ببين، وإحساس سابق بوداع، وكلمة نوى بعيدة وفراق؛ حتى لقد عاد الناس حين وفاته يذكرونها، ويعجبون كيف لم يلتقطوا هذا المعنى الخفي فيها، وراحوا لتعزية أنفسهم يدعونها «خطبة الوداع»، وهي في الواقع خطبة النبوءة، وإلهام الروح، وسبق الشعور، واختلاج الغيب في الوجدان.
لقد ذهب سعد عقب انفضاض الدورة إلى «بساتين بركات» انتجاعا للراحة، والتماس أيام صفاء مع خواصه والمحببين إليه، وكان ذلك في 15 أغسطس من ذلك العام، فلم يكد ينفرط أسبوع حتى كان سعد في الذاهبين.
وكان مصطفى النحاس بحاجة يومئذ إلى الراحة؛ فسافر إلى أوروبا مطمئنا على صاحبه العزيز الذي ظل السنين الطوال قريبا منه، وموضع ثقته، ومحل رضاه واعتزازه، وما درى يومئذ أنه سوف يروع وهو غائب بمنعاه، ويفاجأ بأن سعدا قد فارق الحياة.
ولعل كلمة الأقدار في ترتيب الحوادث على هذا السياق الأليم أن يقر الناس مصطفى النحاس على خلافة سعد، وتجتمع نفوسهم على أنه بالزعامة من بعده الخليق الأوحد. وكما كان الأمر من شأن سعد ذاته، فقد نودي بزعامته وهو غائب في منفاه وغربته، وتوافت له شهادة الأمة ببطولته قبل أن يسألها، أو ينبعث إلى طلبها، أو يحتال بنفسه لها - كان أمر مصطفى كذلك بغير خلاف، فقد التفتت الأذهان إليه وهو في سفره، وتذكرته النفوس في منزحه، وأقرته القلوب في غيبته، فلم تكد قدمه تطأ أرض وطنه حتى تلقاه الناس مطمئنين إليه، معترفين بجدارته لذلك الموضع العظيم.
لقد كانت بيعة هذا القائد الوطني الجديد «طبيعية» لم يشبها أدنى تكلف، ولم تجر من حولها أقل محاولة، وإنما اختارت العناية الإلهية فأمن الناس على اختيارها، وتقدمت الأقدار فانتخبت من أعدته لهذا اليوم وهيأته، فأقرت مصر هذا «الانتخاب الطبيعي» مستريحة إليه مطمئنة، واعتمدته اعتماد الثقة واليقين.
ونحن لا ينبغي لنا أن ننسى أن مطالع زعامة سعد كانت على شرف من الثورة، وكانت الثورة قد نضجت، فجاء هو فأخرجها من الأتون مستعرة متلظية، ولكن مطالع زعامة مصطفى بدت في أخطر أدوار السياسة وأرهب حلقاتها، واشتداد تدافعها وتجاذبها، وحر تطاحنها وضراوة حزبيتها، وكانت مقدمة ظهور سعد حيال خصم واحد وهو الإنكليز، بينما هو وسط وحدة تامة، وأمة متراصة، وشعب مجتمع، وكتلة واحدة؛ بينما راحت مقدمة ظهور مصطفى على الزعامة وربوتها، وفي القيادة العامة وذروتها، حيال خصوم متكاثرين، وأعداء هم ألب واحد عليه، كما كان مطالبا من البداية في امتحان خطير من امتحانات الكفاية، وابتلاء من ابتلاءات المواهب؛ ليدلل على أنه الخليق بالرياسة التي جاءت تسعى إليه، الحري بالزعامة التي تقدمت نحوه طائعة.
لقد كان موقف مصطفى النحاس حين بويع بخلافة سعد خطيرا مرهوبا؛ أمامه مثال سعد لا يزال في الأذهان مرتسما، وحياله الخصم الطبيعي - وهو الإنكليز - لا تزال حقيقة سياستهم بالنسبة للمفاوضات الجارية في لندن غير ظاهرة ولا واضحة، وقبالته خصوم الدستور يتربصون الدوائر به، ومنفذو التجارب الاستعمارية يترقبون السوانح للغلبة عليه - فكان من ثم طبيعيا أن يلقي مصطفى النحاس بنظره أمامه وفيما حوله؛ ليتأمل ما هو مقدم على اقتحامه، ويستشرف الساحة المترامية على مدى ناظره، فيحس عظم التبعة التي ألقيت عليه، وجسامة المسئوليات التي وسدت فيه، ورهبة الموضع الذي تبوأه.
ناپیژندل شوی مخ