89

مصطفى النحاس

مصطفى النحاس

ژانرونه

هذه كلمات صادقة حزينة، كل لفظة منها تقطر بكاء، وهي في مجموعها تدل على قوة إيمان بالفكرة، وشدة يقين بثمرة الجهاد، مع تقدير صحيح للمسئوليات التي تقع على العاتق، والتبعات الجسام التي تقترن بالموضع الذي كان هو الرجل المطلوب له والحقيق به.

وقد وصف هذه التبعات ذاتها في أول خطبة له عقب القرار الذي اتخذه الوفد في السادس عشر من شهر سبتمبر سنة 1927 بإجماع الآراء؛ وهو تعيين الأستاذ مصطفى النحاس باشا رئيسا للوفد المصري خلفا للزعيم الخالد سعد زغلول، فقال وسط صمت رهيب ، وسكون غامر، وجلال سائد، وهو متأثر متهدج الصوت، يغالب فيض مشاعره:

إن فجيعتنا متعددة النواحي، متشعبة المرامي، ولكن عزاء نفوسنا الجريحة، وأكبادنا المقروحة أن سعدا العظيم خالد في نفوسنا ونفوس أبنائنا، خالد في نفوس أحفادنا وذرارينا، وإن أكرم ما تطيب به نفسه في فردوسها أن نقوم على الصرح الممجد الذي بناه، وأن نترسم خطاه، ثم نرخص نفوسنا، ونفني أشخاصنا، حتى يتخطفنا الموت واحدا بعد واحد، وراية الشرف خفاقة تتلقاها الأيدي وتفديها النفوس ...

لقد اختار وفد الأمة، وهو - كما قال رئيسنا المبرور - «تنزيل منها، ووكيل عنها، ولسانها الناطق، وترجمانها الصادق»، وشاء أن يندبني لحمل العلم السعدي، والقيام معكم على الميراث الوطني؛ فهالني الأمر، وأكبرت التبعات، وأحضرت نفسي على ما أعلمه عنها من عجز وقصور، وحادثتها ما لهذا العاجز أن يخلف سعدا الذي أفاء الله عليه مواهب مجمعة، وسجايا مؤلفة، ونعما لا تحصى؛ فكان خلاصة أجيال، وكان تاريخا للإنسانية السامية.

ولكن سعدا علمني احترام إرادتكم، والنزول على حكمكم؛ وقد تسمعت ساعتئذ من أعماق سريرتي نجوى سعد وصوت مصر، فأسلمت نفسي للوطن المفدى، وأنا عالم أنها تنوء بهذا العبء الهائل العظيم.

ليس من اختاره وفدكم لرياسته بخيره ولا خيركم، وليس بأقدره ولا أقدركم؛ وإنما أنا ضعيف في نفسي، قوي بكم، معتمد بعد الله عليكم. ولقد ظهرت أمتنا الكريمة جليلة في أحزانها، رهيبة في وطنيتها، وها هي اليوم تغمرني بفضلها، وتحوطني برعايتها، وتحملني أمانتها، وأرى شعوركم يبدو صريحا ساميا، وارتياحكم لقرار وفدكم يتجلى بينكم، ومناصرتكم لي ظاهرة في أقوال خطبائكم، وإقراركم لها، فأنطقوا مصطفاكم ببيانكم، وأوحوا إليه بأفكاركم، واملئوا قلبه بما أفاضته قلوبكم.

كذلك كان شعور مصطفى النحاس حين ألقي زمام الحركة الوطنية في يده، وعهد بقضية أمته إلى ضميره وذمته؛ وكذلك كانت خوالج نفسه في تلك الفترة الدقيقة التي مرت بالبلاد، ووسط تلك المحنة العظيمة التي أصابتها؛ إذ لم يكن مصطفى يومئذ مبتدئا عهدا جديدا منقطعا عن الماضي وما جرى فيه، قادما على أمر لم تسبق فيه سابقة، ولكنه كان مطالبا بحمل أمانة ، والاضطلاع بوديعة، وأمام مبادئ وتعاليم تقتضيه الحرص عليها، والتزام إملائها، والمسير على حدائها، وكان ذلك كله مما يجعل بدايته - كما قلت - شاقة تكتنفها أخطار، وتحيط بها مخاوف، ويترصدها الأعداء والخصوم من كل ناحية.

كان مصطفى النحاس مطالبا بأن يثبت استحقاقه لخلافة سعد أولا، وجدارته ثانيا بالزعامة في ذاته، ولكن الطبيعة التي اختارته لمكانه هذا ورسالته، لم تكن لتتخلى عنه، وما كانت لتخذله، ولو أنها أعانته على أن يدلل على جدارته بخلافة سعد وحدها - من ناحية سيره على تعاليمه، وحرصه على مبادئه، واحتفاظه بنظامه وبنيانه - لكان ذلك كافيا، وكان به الغناء. ولكن العناية الإلهية كانت تريد مصطفى للمعنى الأكبر، وتهيئه لما هو أسمى وأخطر؛ وهو أن تبرزه الأحداث القادمة زعيما طبيعيا، لا رئيس ضرورة، ولا قائد ظروف، وأن تجعله يلاقي في عهد زعامته من المكاره أكثر مما وقع لسعد ذاته، ويتحمل من الخطوب والكوارث وخصومة الأعداء وحقد الحاقدين ومكر المكرة، ما لم يترادف مثله ويصطلح على سعد نفسه؛ ليكون الزعيم الحق الحري بموضعه، الوفي لوديعة سعد إذا ما ذكر الوفاء، الباني المنشئ إذا ما ذكرت محامد الزعامة الصادقة بناية وتجديدا وإنشاء.

ولقد قطع مصطفى النحاس على نفسه عهدا، وربط على نفسه أمام الأمة بميثاق في ذلك اليوم التاريخي العظيم؛ يوم أقرت الأمة مبايعته بخلافة سعد ورياسة الوفد، وهو في ذلك يقول: ... وإني أعاهد أمامكم روح سعد في رفيع عالمها، كما عاهدتها أمام هيكلها، أن أكون للوطن خادما أمينا، وأعمل مع زملائي ومعكم، مستوحين الحكمة والحزم من روح سعد ما وجدنا إلى ذلك سبيلا، مستضيئين برشده كلما عميت الأمور، وأجلبت علينا الخطوب؛ وأن نحرص على الدستور بكل ما فينا من قوة، محافظين على ائتلاف الأحزاب بكل رغبة صادقة؛ وأن نسير في طريقنا المرسوم، حتى تنال البلاد غايتها من الاستقلال التام الصحيح والحرية الكاملة التي قرن اسم الفقيد العظيم بها وبمجد الوطن. ... لقد علمنا سعد أن الوطنية الصحيحة والحرية المقدسة لا تشوبها أحقاد ولا أضغان، فما كانت وطنيتنا عدوانا، ولا حريتنا بهتانا، فنحن نعرف ما لنا من الحقوق، وما علينا من الواجبات، ولا نحمل لأمة من الأمم بغضا، ولا نضمر لها غدرا، ولكنا نقدس عزتنا القومية، ونحمي كرامتنا المصرية، وننادي مواطنها في قلوب الأمم والشعوب.

هذا هو العهد الذي عاهد مصطفى الأمة عليه، يوم استوى في ذروة الزعامة، وهذا هو الموثق الذي ارتبط أمام الشعب به، حين أرادت العناية الإلهية له الظهور لتأدية رسالته، وآذنت بأن الحين قد حان لبداية مهمته، وإن الخاطر ليعود إليه بعد قرابة تسع سنين، مجتازا في كرته إلى الماضي آيات روائع على كفاية مصطفى لمكانته، وحشودا من الحوادث الجسام المثبتة لمبالغ شجاعته وجلده وثباته وأصالة رأيه ووفرة حكمته، فيحس أن ذلك العهد المقدس كان ميثاقا مع الله، وعهدا مع القدر، وارتباطا لم يخل في أية ناحية منه، ولم ينحرف به صاحبه عن قداسته، ولكنه صانه حتى وفاه، وحرص عليه حتى أداه، ووقف به اليوم على أعلى قمم الزعامة الوطنية، مثلا على البطولة من أندر الأمثال.

ناپیژندل شوی مخ