86

مصطفى النحاس

مصطفى النحاس

ژانرونه

وحسبنا أن نذكر الناس بحديث امرأة سقراط، فقد كانت اللعنة التي لازمت حياته، وكان عيشه بها أسوأ العيش، وكانت مصيبته ونكبته وبلواه.

وكان سعد من صفوف العظماء الذين منحتهم القوة الإلهية الزوج الصالحة، فقد تزوج يوم كان قاضيا في الاستئناف بسليلة بيت كريم، وسيدة من ربات الذكاء الراجح والعقل الخصيب والخلق الرفيع، ربيت في نشأتها على خير ما يربى البنات، وأدبت أحسن التأديب، وتعلمت الفرنسية والعربية والتركية من الحداثة، فلا غرو إذا هي ظلت شريكة زوجها في عاطفته، وقرينته في مشاعره وإخلاصه لأمته، ومشاطرته آماله وعلالاته، وملازمته في تعاليمه ومبادئه.

وقد كان أهل الغرب يرمون المرأة الشرقية بالجهل ويتهمونها بالجمود، ويتخذون من معنى «الحريم» معنى الموت في البيت، والقبر في الخدر، ويتفاخرون على نسائنا - نحن المشارقة - بأن المرأة عندهم تشارك الرجل في عواطفه، وتساهم في مطالب الحرية، وتشترك في مقتضيات العمران والاجتماع.

ولكن المرأة المصرية في الثورة لم تلبث أن راحت لا تقل عن نساء الغرب في مدى عاطفتها، ونبالة تعاليمها، وسمو أغراضها، وجلال غاياتها، وقد نهضت تشارك الرجل في أسمى حركات العالم ، وأرفع مشاغل الحياة.

وقد نهضت شريكة سعد، السيدة الجليلة أم المصريين، في رأس النهضة النسوية في هذا البلد، روحا عالية تجري وروح زوجها العظيم في منحى واحد، وتماشيها في سنن عال شريف، بل لقد اعتقل زوجها، فظلت على ثبات عظيم ووفاء جليل، وظلت دارها معبدا تخشع عنده النفوس، ومحجا للقاصدين، وبقيت هي منارة عالية ترسل خطوطها وأضواءها فتغمر الجهاد والمجاهدين.

وثم عامل آخر أتاح لسعد رائد التوفيق، وهو قيام صحب مخلصين من حوله، لم يتركوه يوما مع التاركين، وإنما لازموه في السراء والضراء، وكانوا له أشد الأوفياء وأخلص الخلصاء، وكانوا موضع ثقته ومحل طمأنينته على الفكرة وسيرها، والحركة وتقدمها، والنظام الداخلي في الوفد واستتبابه، وكان أولئك الصحب والأولياء قد تغلغلوا في نفس سعد ونفذوا إلى قرارتها، واستمدوا من قواها وحرارتها، واكتسبوا من جوارها ورفقتها، وملازمتها وألفتها، فاجتمعت قواه مع قواهم في تنظيم الوفد على أعجب ترتيب، وتنسيق الجهاد أروع تنسيق، والإشراف على الحركة الوطنية لإحاطتها بنظام فريد في نوعه، بديع في سائر نواحيه، حتى كانت منه «أداة» مرتبة منسقة صالحة، تعمل في غيابه كما تعمل في حضوره، جارية على «أوتوماتيكية» دقيقة للغاية، كسير أجزاء الساعة ودقائقها. كما كان له أكبر الأثر في النجاح الذي صحب سعدا وزملاءه في الانتخابات العامة، والمعارك السياسية العديدة، والمناورات المحكمة المضادة، وتنظيم الحياة الدستورية، والكفايات التي برزت وتجلت في البرلمان، كأن الحياة المصرية قديمة العهد به، وكأن المصريين عريقون في مجالس التشريع، وإن كانوا يومئذ فيه بادئين.

مصطفى النحاس.

وكان من بين أصحابه رجل أراد الله أن يصحبه من البداية، ويلازمه في أكتف غبار المعركة، ويسايره في أشق مراحل الجهاد ليتدرب عليه، ويمزج حياته بحياته، ويأخذ عنه ما أرادت الأقدار أن يأخذه ليجمع إلى الدربة مواهبه، وينمي المواهب برياضتها في جواره، فكان ذلك من توفيق الله الذي اقترن بزعامة سعد ورعاها، وصحب قيادته وماشاها؛ لكي يترك التراث الفخم مطمئنا عليه، ويغادر المكان واثقا من مآله، ويدع الزمام مستريحا إلى الكف التي ستتولاه في حزم ومقدرة وقوة وإيمان.

وكان ذلك الرجل الذي أعدته الطبيعة لمثل ما أعدت سعدا من نشأته وتكوينه هو «مصطفى النحاس»؛ فإن من توفيق الله الذي لازم سعدا طيلة زعامته أنه وجد الشخصية الصالحة التي تتسلم تركته الروحية، وتتلقى تراثه الوطني العظيم، وأنه اهتدى إلى الرجل الخليق بالموضع قبل أن يفرغ له بوقت طويل، قدرته العناية الإلهية كافيا للمرانة على مطالبه، والرياضة على واجباته ومشاهدة تجاريبه، ومعاينة وسائل تصرفه، ولكي يقاسم صاحبه الشدائد التي تقع في طريقه، والمتابع التي يقاسيها في مراحل جهاده، حتى ينضج قبل أن يتلقى مقاليد القيادة، ويكتمل من جميع الجهات قبل أن يستوي في الموضع المقدور له في خطة الكون ومهيآت الظروف وتدبير السماء.

وقد كان من حسن الحظ بالنسبة لسعد أنه جاء ليأخذ في يده زمام النهضة، ويتولى في الأمة أمر الزعامة، ولم يكن أحد قبله عليها، ولا وقعت لإنسان من قبله، ولم يسبقه نموذج من نماذجها، ولا ظهر لون من ألوانها، ولا قالب من قوالبها حتى يمكن أن يكون ثم محل لموازنة بينه وبين الآخر الذي تقدمه، ولا مجال للمقارنة بينه وبين الذي استبقه. ولم تكن الأذهان متأثرة بشخصية ماضية، أو عظمة ذاهبة، أو زعامة سالفة؛ فهي لا تزال تحت تأثيرها، مليئة الذاكرات بصورها، مزدحمة الخاطر بما ارتسم عليها من أفاعيل نفوذها وسلطانها، وإنما أتى سعد في الزعامة منقطع النظير أوحد، قائما بمفرده على جلاله، يبده العصر، وينفرد بإعجاب الجيل، ويستأثر بمحبة الملايين.

ناپیژندل شوی مخ