قرأت كتاب «البخلاء» للإمام الجاحظ أكثر من مرة، ومما وقع لي فيه أنه ما من رجل مبخل، إلا يحتج للشح والتوفر على الجمع، بالضن بالولد على الفقر، وترك ما يدفع عنهم الحاجة والابتذال في طلب القوت.
ولقد دمغ الجاحظ احتجاجهم هذا بحجة رائعة، وتلك أن الخصيان (الأغوات) جميعا يشيع فيهم الشح، وتغلب عليهم شهوة الجمع والادخار، والضن على النفس بالدانق والسحتوت، وليس لأحد منهم ولد، ولا يمكن أن يكون له ولد! فلمن يكنز الأموال؟ ولمن يضيق على نفسه في حياته، ليوسع عليهم ويرفه عنهم بعد مماته؟
الواقع أن شهوة الحرص وجمع المال، هي في نفسها عند البخيل لذة لا يكاد يعدلها شيء من لذائذ الدنيا، هي في نفسها لذة غير موصولة بعلة، ولا ممدودة بسبب؛، لأن الإنسان إنما يحب ولده لأنه يحب نفسه، وولده بعض نفسه، ولا يعقل أن يؤثر الفرع على الأصل، أو يرجح البعض على الكل !
والبخيل يقتر على نفسه وعلى ولده معا، وقد يكون عنده من جليل الأموال ما إن وسع منها على نفسه وعلى عياله معا، لبقي منها بعد موته، ما يتضمن لهم العيش في السعة، والتقلب في النعمة، ومع ذلك فإنه لا يفعل، بل تراه يتعمد الحرمان لنفسه ولأولاده، ويثبت لحقدهم عليه، وتعجلهم لأجله، ليستمتعوا بالنعمة إذا هو اندس في التراب، وأضحى أكيل الدواب!
على أنني وقعت على لون من البخل، لعلك كنت تراه غريبا، وأحسبك الآن تراه غير غريب: فلقد جرت سنة البخلاء على أن يقتروا على أنفسهم وعلى عيالهم معا، فإذا كان لولد أحدهم شيء من السطوة عليه استخرج منه الأموال، فأخرجها له مرغما مغلوبا، لا إيثارا للولد، وبقي هو في شحه على نفسه، ارتكابا لأخف الضررين «التوسيع على النفس وعلى الولد معا»!
أما النوع الذي وقعت عليه من البخل، وتحسبه غير مألوف، فلقد كان لي صاحب علت به السن، ورزق الضدين (الغنى والعيلة)، فقد اجتمع له من زوجاته الثلاث، ما لا يقل عن اثني عشر ولدا، ولا بد له رضي أو كره، من أن يحملهم، وكان رحمه الله رجلا شديد الحرص عظيم الطمع، يجمع الدانق على الدانق، ويرص المليم على المليم، ولا يكاد كيسه يتفصد إلا في بناء دار أو شراء ضيعة، ولكنه كان يخالف سنة البخلاء في خلة واحدة: ذلك بأنهم، كما تعرف، يقترون على أولادهم وعلى أنفسهم معا، ولكن هذا إنما كان تقتيره موجها على عياله وحدهم، أما نفسه فكان لا يحقن فيها شهوة، وبخاصة شهوة الطعام، بل لقد كان يبلغها من هذا غاية مناها!
وكان رحمه الله إذا سافر ركب من القطار في الدرجة الأولى، أما أولاده فيشحنهم في «الترسو» أو ما دون «الترسو» لو كان له دون! وإذا لبس فمن «تفصيل» ديليا أو فستا، أما بنوه فعليه أرخص القماش، وعلى أمهاتهم «التفصيل»! وإذا نام افترش الحرير، وتوسد ريش النعام، أما البنون، ففي «الكليم» متسع للجميع!
أما الطعام، وما أدراك ما الطعام! فالخبز أولا يصنع في البيت كل أسبوع، على ألا ينفى من الطحين إلا النخالة، وسائره للعجين! وأما الإدام فهيهات للحم أن يزور داره «العامرة»، فلقد أخذ بنيه في هذا الموضع بالورع وجلا عليهم الحكمة في الحديث الشريف: «نعم الإدام الخل»، فللغداء الكوامخ (السلطات) أشكالا وألوانا، و«لأم الفلافل» وأخواتها من الخوان المقام الكريم!
وأما العشاء، فله فيه صنع بديع!
يدخل وقت العشاء، فإذا صاحبنا قد سلف وأعد بعدد الأولاد ملاليم.
ناپیژندل شوی مخ