ونفذ العقد بجميع شروطه من المتعاقدين معا. •••
ولهذا «البك» رحمة الله عليه، رقعة واسعة في أحد أطراف مدينة القاهرة، ولا أعينها لكيلا أعينه، ويقع في وسطها تل مرتفع يصعد إليه بدروب من جميع أقطاره، وقد بنى عليه مئات من البييتات، اتخذ سكناها رعيل من النساء اللائي جرى عليهن القدر باتخاذ أتعس المهن، وقد أطر هذه الرقعة الواسعة من جانبيها اللذين يقعان على شارعين حافلين بما لا يحصى من الدكاكين، وأرصد كل واحدة منها لصاحب مهنة خاصة.
فالدكاكين رقم كذا ورقم كذا لا يؤجرها إلا لمزينين، والدكان رقم كذا لكواء، ورقم كذا لقصاب (جزار)، ورقم كذا لخضري، وأخرى لبقال، وغيرها لبدال، وغيرها لحات، وسواها لطباخ، وغيرها لفوال، ولسمكري، ولحداد، ولخياط، وهكذا مما يستوفي مطالب الناس في أسباب معايشهم، ولو قد خلت دكان من هذه الدكاكين، فجاء صاحب حرفة أخرى ما أمكنه منها، ولو أضعف له كراءها ثلاثة أضعاف.
فإذا كان الصباح انطلق إلى دكان اللبان أو الفوال، ووقف بصاحبها وناداه: يا حج أحمد، أو يا عم مصطفى: هات الأجرة «وفي لسانه لثغة تخرج الراء بين الراء والطاء»، فيجيبه الرجل: «يا فتاح يا عليم، رايح أجيب لك الأجرة دلوقت منين؟ إحنا لسه استفتحنا يا سعادة البيه؟»، فيحتد «البك» ويصيح في وجهه: إذن تحول «يالله عزل»، فلا يزال الرجل يستعطفه ويترضاه، حتى يستدرجه إلى منضدة، ويقدم له اللبن الحليب وطبق القشطة، أو الفول المدمس معالجا بالزبد، وما يبرح يبالغ في إلطافه وإيناسه حتى ينطلق راضيا بتأجيل كراء الدكان أياما أخر، ثم يميل إلى صاحب المقهى فيصنع معه ما صنع بالأول، وتنتهي المسألة بتأجيل الأجرة بعد تقديم «كنكة» قهوة «بسكر شوية»، ونرجيلة، حتى إذا بلغ من ذلك حظه، قام فعدل إلى الحلاق فطالبه بالأجرة، وانتهى المشكل بحلق رأسه أو إحفاء لحيته، وتطييبه وتعطيره!
فإذا انحرفت الشمس عن كبد السماء، انخرط إلى «الحاتي» فطالبه بكراء الدكان، فيعتذر بضيق ذات اليد «ووقوف السوق» فيكرر عليه، في حدة وحزم، طلب الأجرة أو التحول (العزال) من غده، والرجل يطامنه ويستعتبه حتى يرضى بالاستواء إلى إحدى المناضد، فما هو إلا أن يجد بين يديه رطلا من الكباب وآخر من «النيفة»، وألوانا من الكوامخ والمشهيات، فإذا أصاب من ذلك كفايته، مضى إلى الحلواني، فانتهى الأمر بقطعتين من الفطير وثلاث من «الهريسة»، ثم قام إلى الفاكهاني، فأصاب ببركة تأجيل دفع الأجرة ما شاء من تفاح وموز وعنب.
فإذا كان المساء أعاد الكرة، ولكن على غير من اعتراهم في نهاره، وللكواء يوم في غسل الثياب وكيها، وإذا انصدعت أنابيب المياه في البيت أو فسدت صنابيرها، فهناك السباك، وهناك الزجاج لما يتكسر من زجاج الشبابيك، والنجار لإصلاح ما يتصدع من الأبواب، وهكذا! ...
فإذا أراد الشراب في إحدى لياليه طلب حانة أنستي أو بندلي، وهما من سكانه أيضا، وصنع مع الأروام ما يصنع بأبناء البلد.
ولعله إذا كانت ليالي الجمع صعد إلى أعلى التل فاقتضى سكانه المساكين الأجرة أو ... «العزال» ...!
رحمه الله رحمة واسعة؛ وعزى «الاقتصاد السياسي» فيه أحسن عزاء!
في البخل! ...
ناپیژندل شوی مخ