319

فإذا اجتمعوا إليه مستشرفين لعشائهم، قال لهم: «اللي ياخد مليم ما يتعشاش؛ واللي يتعشى ما ياخدش مليم! مين اللي ياخد مليم؟»، ويدفع أحدهم فيقول: «أنا!» وعلى حكم غريزة التقليد في الغلمان، يسرعون فيتصايحون: «أنا! أنا! أنا!»، فيدفع إلى كل منهم مليمه، وكفاه الله مئونة العشاء! أعني عشاء الأطفال!

وبعد، فللفطور قصة أخرى: ذلك بأنه زعم للزيات القائم على رأس الشارع، أن لديه حملا يربيه ويحب أن يسمنه، ويجزل لحمه وشحمه، وليس يعقد له ذلك ويسرع فيه أفضل من خلاصة

1 (تصافي) قدر الفول يطعمها في الصباح، فيحتفظ له الرجل «بخلاصة» قدر العصر، ويعبث إليه بها في الصباح الباكر، والأولاد بعد نيام، فيفرغها في صحفة كبيرة، ويعالجها بقدر من الخل، ويصفف حولها كسر الخبز التي أفضلها الأولاد في غداء أمسهم، حتى إذا هبوا من النوم، وأحشاؤهم تتنزى من شدة الجوع، فتواثبوا إلى الطعام، صاح فيهم: «اللي عاوز يفطر يجيب المليم!»، فلا يسع كلا منهم إلا أن يطرحه إليه، مواتاة لإلحاح البطن، وإيثارا للعافية، فسرعان ما تعود تلك الملاليم إلى عشها، وتعتصم بوكرها! •••

أما هو نفسه، فإنه يخرج في الصباح من داره على الطوى، فيميل في طريقه إلى الديوان على دكان لبان، فيصيب فيه ما شاء الله أن يصيب من الحليب، أو اللبن الخاثر (الزبادي)، أو «القشطة»، وقد يميل إلى «حلواني»، فيصيب عنده ما شاء الله أن يصيب من لبن وشاي، وفطائر مدحوة، وأخرى بالفستق والزبيب محشوة، إلخ إلخ، فإذا فرغ من عمله في الديوان، عرج في مقفله إلى الدار، على الحاتي أو على غيره من المطاعم الفاخرة ، فأوصى وتخير، وتبسط على الطعام، حتى إذا سد شهوته، وكظ لهوته، انكفأ إلى البيت راضيا هانئا.

أما العشاء، فإنه يصيب في البيت قبل أن يتدلى إلى السهرة، وذلك أن يبعث الخادم، في سر من بنيه، فيأتيه بقدر كفايته من خفيف الطعام وفاخره، ولا ينسى أن يأتي معه بنصف أقة عنب، أو بزوعة (شقة) بطيخ، أو ثلاث كمثريات، أو غير ذلك من فاكهة الأوان، حتى إذا دسها له في غرفته الخاصة، قام إلى الباب فأحكم رتاجه، وجلس مطمئنا إلى العشاء!

ومن أظرف ما يذكر هنا أن الأولاد، وبخاصة صغارهم، كانوا يرتصدون لهذه الساعة، حتى إذا اجتمع أبوهم للعشاء، تواثبوا إلى الباب «ليتفرجوا عليه» من الثقب، فترى هذا يتوسل إلى أخيه أن يخلي بينه وبين الثقب، وهذا تراه يثب وثبا، ويدفع صاحب النوبة دفعا، وكانت تكون جلبة وصياح وعويل، والأب ممعن في طعامه، لا يعنى بأن يسأل عما وراء الباب! •••

وفي يوم موته رحمه الله، لم ينتظر هؤلاء الأولاد حتى يقسموا التركة، ويهتدوا إلى اسم المصرف الذي يكنز فيه «المرحوم» ماله، بل لقد كنت ترى أحدهم يهرول في الطريق وعلى رأسه «شباك»، والثاني وعلى كتفه مصراع باب ، وثالثا يحمل بين يديه طستا، ورابعا يحمل مقطفا ملئ بالصنابير (الحنفيات) وهكذا! ...

فهل هذا أيضا كان يجمع للولد ليعصمهم من الفقر، ويكف عنهم عادية الدهر؟!

أصحاب اللقط والتعويض!

تلقيت أمس الكتاب الآتي:

ناپیژندل شوی مخ