البدار البدار! النجدة النجدة! يا مفكري الأمة، يا جماعة العاملين فيها، يا معشر المتحدثين عليها: هيا هيا أنقذوا البلاد، وأريحوا العباد؛، فقد بلغ السيل الزبى، وجاوز الحزام الطبيين!
اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، لقد كتب على سكان المدن في هذه البلاد الحرمان الأبدي السرمدي من الراحة والدعة، والأمن على الأموال والأعصاب.
أنى جلست فأذى، وأنى سعيت فكيد، وأنى اضطربت فعناء، وأنى توجهت فبلاء فوقه بلاء وتحته بلاء!
تهافت مستمر، وإلحاح لا ينقطع، وشخوص متواردة متتابعة متتالية، لا يكاد ينفذ بينها الهواء، وأصوات منكرة عالية لا تسكن ولا تفتر، ولا ترق ولا تهدأ، وكذب لا تعتريه مذقة من الصدق أبدا، وأيمان كلها غموس، لولا حلم الله وإمهاله لأعميت العيون، وصمت الآذان، وبترت السوق، وقصمت الظهور، وجدعت الأنوف، وعجلت مواقع الحتوف.
ولنتكلم عن الباعة أولا، ولنبدأ من حديثهم بخراب الذمة، والغش وقلة الحياة - أستغفر الله - بل انعدام الحياء، أما الغش والكذب والحلف بالباطل، فهذه خلة مشتركة بينهم جميعا لم أر في حياتي من سلم منها إلى الآن، يعرض الواحد منهم عليك السلعة، فتسأله عن ثمنها، فيجيبك بأنه ريال مثلا، فتعمد إلى مقابلة الكيد بالكيد، فتعرض عليه فيها أربعة قروش، فيظهر لك الغيظ والسخط على هذا الوكس، فتصر فيحلف بالطلاق والعتاق، وبالعين والعافية، والولد (ولا يعدمه) وينذر الحج إلى بيت الله ماشيا، أنها «واقفة عليه» في الجملة بثمانية عشر قرشا صاغا، فهو يبيعها لك برأس المال، لأنك «مش غريب»، وهو «لسه ما استفتحش» فتصمم، فيعرض ستة عشر، ثم يتدلى إلى أربعة عشر، ثم إلى عشرة، ثم ينذرك الإنذار الأخير بأنه لن يبيعها بما دون الثمانية، فتشيع عنه بوجهك، فيولي مسرعا حتى يغيب عن نظرك، ما لم تبادر فتتبعه بندائك، ثم ما يلبث أن يعود فيقول لك: «وبستة ما تخدش؟» فتسكت! فيقول لك: «طيب عاوز كام واحدة؟» وهكذا يأبى كل واحد منهم إلا أن يحقق في كل لحظة قول الشاعر:
وأكذب ما يكون أبو المثنى
إذا آلى يمينا بالطلاق
ثم إنه يغش غشا مفضوحا قذرا وقد يغش «زبونا من زبائنه» الثابتين الذين يعاملونه فيجدون عليه كل يوم، وقد يكون هذا الغش في نوع البضاعة، كأن يبدل سلعة بأخرى في أثناء غدوه بالمساومة ورواحه، أو أن يصيب الغرة من المشتري فيدس له الفاسد العطب، أو أن يؤكد له أن صديقه فلانا اشترى بسعر كذا كذبا وبهتانا، وهو يعلم أنه ملاقيه في غده إن لم يلقه في يومه، وقد لا يزيد الخطب كله على دراهم قليلة، ثم يكون من أثر هذا الانتفاع الحقير المحرم أن يخسرك ويخسر معك كل جلسائك بالاختفاء عن مجلسك الشهور الطوال، بل السنين ذات العدد.
وأنا مسمعكم نموذجا مما جرى لي من هذا القبيل، وأقول نموذجا لأن هذه أشياء لا يدركها عد، ولا يحيط بها حصر (وهنا أورد المحاضر طائفة من النوادر العجيبة التي وقعت له مع هؤلاء الباعة.)
أما قلة الذوق فحدث عنها ولا حرج: يراك أحدهم وأنت تتناول طعامك في أفخر مطعم، وبين يديك أشهى الأطعمة، فيمد يديه من الشباك، بالبنيكة التي يحمل عليها بياعته، حتى يحك بها ذقنك، ويصيح في وجهك: «البيض والجبنة والكحك الشامي»؛ آمنت بالله! وقد تكون في جماعة من أصدقائك في مكان محجوز من محل عام، وقد تكونون منهمكين في أدق الحديث، وقد حمي بينكم الجدل واشتد، وقد يكون معكم من يغنيكم بالصوت الكريم الحنان وقد أرهفتم آذانكم وعلقتم أنفاسكم، وجمعتم كل إحساسكم للسمع، فلا يروعكم إلا عتل يقتحم عليكم المجلس، ويظل يصيح: «الفستق الحموي، الفستق الطازة!» فلا يسع المتحدث إلا أن يسكت، والشادي إلا أن يقطع الغناء، ولكنه هو لا ينقطع عن الصياح والنداء، ويرى هذا كله فلا يمسك، ولا تخجله تلك النظرات الشزراء، ولكن ما الحيلة، والعين بصيرة، والرجل قصيرة!
ناپیژندل شوی مخ