109

معاویه بن ابی سفیان

معاوية بن أبي سفيان

ژانرونه

في الميزان

حق الأمانة على المؤرخ في هذه المرحلة من التاريخ الإسلامي أن يراجع بينه وبين ضميره طائفة من الحقائق البديهية، قبل أن يستقيم له الميزان الصادق لتقدير الرجال بأقدارهم، وتقويم المناقب والمآثر بقيمتها.

ومن هذه الحقائق البديهية أن الأموال التي بذلها معاوية للمأجورين من حوله لم تبذل لتعريف الناس بحسناته وسيئاته، كما يعرفها من لم يأجر بمال ولم يتصل معه بسبب.

ومن هذه الحقائق البديهية أن سلطان معاوية يدخل في الحساب حيث يؤوب الباحث إلى ذلك الزمن؛ ليفرق بين ما يقال عن صاحب السلطان، وما يقال عن رجل يحاربه السلطان في سمعته وذكراه.

ومن الحقائق البديهية تواطؤ الزمن على إقرار ما قيل وتكرر وطال وقوعه في الأسماع؛ حتى لتكاد تنفر من تغييره لو عرض لها فيه شيء من التغيير، وحتى لتكاد تعجز عن النفاذ إلى الحقيقة لو رغبت في ذلك التغيير لسبب من الأسباب، وقلما تعرض هذه الأسباب لمن لا يعنيهم تمحيص ما يقال في الساعة الراهنة، فضلا عما يقال ويعاد منه مئات السنين.

ومن الحقائق البديهية أن المحاباة تأتي بتوافق الطبائع، كما تأتي بالغرض والرشوة، فلا يسهل على الإنسان نقد صفة يعلم أنه متصف بمثلها، واستنكار وسيلة يعلم أنه لا يستنكرها، ولا يأبى النجاح إذا توسل بها إليه.

ومن الحقائق البديهية أن المحاباة تأتي من جهات لم تخطر للمنتفع بمحاباتها على بال، فالدولة الأموية في الأندلس أنشأت للشرق الإسلامي تاريخا لم يكتبه مؤرخوه، ولا يكتبونه على هذا النحو لو أنهم كتبوه، وجاءت تلك الدولة الأندلسية بمؤرخين من الأعلام ينصبون الميزان راجحا لكل سيرة أموية لا يقصدونها بالمحاباة، ولكنهم لا يستطيعون أن يقصدوها بالنقد والملامة؛ لأنهم مصروفون بهواهم عن هذا الطريق.

من هؤلاء أناس في طبقة ابن خلدون، يضع معاوية في ميزانه فيكاد يحسبه بقية الخلفاء الراشدين، ويتمحل المعاذير له في إسناد ولاية العهد إلى ابنه مع فسوقه وخلل سياسته، وكراهة الناس لحكمه حتى من أبناء قومه.

ولا يهولن قارئ التاريخ اسم ابن خلدون فيذكره، وينسى الحقائق البديهية التي لا تكلفه أكثر من نظرة مستقيمة إلى الواقع الميسر لكل ناظر في تواريخ الخلفاء الراشدين وتاريخ معاوية.

فما في وسع ابن خلدون أن يخرج من هذه التواريخ بمشابهة بعيدة تجمع بين معاوية والصديق والفاروق وعثمان وعلي في مسلك من مسالك الدين أو الدنيا، وفي حالة من أحوال الحكم أو المعيشة، وإنه لفي وسع كل قارئ أن يجد المشابهات الكثيرة، التي تجمع بين معاوية ومروان وعبد الملك وسليمان وهشام، فلا يفترقون فيها إلا بالدرجة والمقدار، أو بالتقديم والتأخير، وإذا كان هذا شأن ابن خلدون، فقل ما شئت في سائر المؤرخين وسائر المستمعين للتواريخ، من مشارقة شهدوا زمان الدولة ومشارقة لم يشهدوه، ومن مغاربة عاشوا في ظل تلك الدولة، وتعلقت أقدارهم بأقدارها، وأيقنوا أنهم لا ينقصون منها شيئا ثم يستطيعون تعويضه من الأندلس بما يغنيهم عنه، وما زال العهد بالمنبت عن أرومته أن يلصق بها أشد من لصوق القائمين عليها.

ناپیژندل شوی مخ